الفصل الثالث

جورج باركلي

١٦٨٥–١٧٥٣

(١) حياته ومصنفاته

هو في الفلسفة الإنجليزية بمثابة مالبرانش في الفلسفة الفرنسية، كلاهما رجل دين، وكلاهما يجد في المبدأ التصوري وسيلة لإنكار المادة والرد على الماديين، وكلاهما يجعل من الله محور مذهبه في مذهبه في الوجود والمعرفة واليقين، يصدر باركلي عن لوك، ولكنه يعارضه ويزعم أنه يصحح موقفه في غير ما موضع، أنكر لوك موضوعية الكيفيات الثانوية، وآمن بالكيفيات الأولية المترجمة عن الامتداد أو المادة، فقال باركلي: وما الذي يخولنا الحق في الإيمان بوجودها، وما الفائدة في استبقاء المادة مع الإقرار بأننا نجهل ماهيتها؟ ليس يوجد سوى الأرواح، فاللا مادية هي الحق وأنكر لوك موضوعية الأنواع والأجناس، وآمن بالمعاني المجردة في الذهن فحسب، فقال باركلي: بل ليس يوجد في الذهن معانٍ مجردة، وجميع معارفنا جزئية، وكل ما هنالك أن اسمًا بعينه ينطبق على جزئيات عدة، فالمذهب كله يرجع إلى هاتين النقطتين: الاسمية واللا مادية.

ولد جورج باركلي في إرلندا من أسرة إنجليزية الأصل بروتستانتية المذهب، ولما بلغ السادسة عشرة دخل جامعة دبلين حيث كان لمؤلفات ديكارت ولوك ونيوتن الحظ الأكبر في برنامج الدراسة، وبعد سبع سنين حصل على الأستاذية في الفنون، ونشر رسالتين صغيرتين، إحداهما في الحساب، والأخرى في «بحوث رياضية متفرقة»، وعين مدرسًا بالجامعة (١٧٠٧) لليونانية والعبرية ثم للَّاهوت، وبعد سنتين صار قسيسًا، ونشر «محاولة في نظرية جديدة للرؤية» (١٧٠٩) تعتبر تمهيدًا لكتاب آخر أخرجه في السنة التالية عنوانه «مبادئ المعرفة الإنسانية، حيث يفحص عن أهم أسباب الخطأ والصعوبة في العلوم، وأسس الشك والكفر بالله والإلحاد»، وهو الكتاب المشتمل على مذهبه اللا مادي، وكان باركلي قد اكتشف هذا المذهب وهو في العشرين، فهو يعد من أكثر الفلاسفة تبكيرًا في بناء مذهبهم، وقد سجل مراحل تفكيره في «مذكرات» دونها بين سنتي ١٧٠٢ و١٧١٠، وذكر فيها مشروع المقدمة والمقالة الأولى (وهما ما نشر)، ومشروع مقالة ثانية في تطبيق المذهب على علمي الهندسة والطبيعة، ومشروع مقالة ثالثة في الأخلاق، فأثار كتاب «المبادئ» دهشة شديدة لإنكاره وجود الأجسام، حتى ظن بعضهم بالمؤلف مسًّا في عقله، وفي سنة ١٧١٣ قصد المؤلف إلى لندن داعيًا إلى مذهبه، وتعرف إلى مشاهير الكتاب، ونشر «ثلاث محاورات بين هيلاس وفيلونوس» هي عرض أدبي للَّامادية، أما هيلاس فهو الفيلسوف المادي كما يدل عليه اسمه المشتق من هيلي أي هيولي، وأما فيلونوس فهو «صديق العقل» الناطق بلسان المؤلف، وينتهي الحوار بإقناع هيلاس باللا مادية طبعًا!

وعرض له ما دفعه إلى السفر، فقضى عشرة أشهر في فرنسا وإيطاليا (١٧١٣–١٧١٤) ثم عاد إلى إنجلترا، وبعد سنتين رحل إلى إيطاليا وأقام فيها خمس سنين كان أكثر اهتمامه أثناءها بالجيولوجيا والجغرافيا والآثار، وفي عودته (١٧٢١) توقف بمدينة ليون ليكتب في «علة الحركة» وهو موضوع اقترحته أكاديمية العلوم بباريس، فوضع رسالة «في الحركة» هاجم فيها طبيعيات نيوتن، ونشرها بلندن حال عودته إليها (١٧٢١) وهي بمثابة المقالة الثانية من كتاب المبادئ، ولكن سفرًا طويلًا كان ينتظر باركلي؛ ذلك أن إرثًا آل إليه سنة ١٧٢٣ فخطر له على الفور أن ينفقه في نشر المسيحية في الممتلكات الإنجليزية بأمريكا، واعتزم أن يؤسس لهذا الغرض في جزر برمودا معهدا لتخريج مبشرين يضطلعون بهذه المهمة، بل يصلحون العالم أجمع! ووعده رئيس الوزارة بمعونة مالية، فتزوج وأبحر سنة ١٧٢٨ حاملًا معه عشرين ألف مجلد، ونزل في «رود أيلاند» ومكث بها سنتين ينتظر المال، وفترت حماسته للمشروع، وأبلغ أن رئيس الوزارة يرى أن يعود إلى وطنه، ففعل سنة ١٧٣٢، على أنه لم يضيع وقته هناك، فقد درس أفلاطون وأفلوطين وأبروقلوس وبعض رجال الفيثاغورية الجديدة دراسة دقيقة لأول مرة، وهناك أيضًا حرر كتاب «ألسيفرون أو الفيلسوف الصغير» يتابع فيه حملته على «أحرار الفكرة» ونشره حال رجوعه إلى إنجلترا، والكتاب بمثابة المقالة الثالثة من كتاب المبادئ، وأعاد طبع كتبه السابقة، وبهذه المناسبة رد على الانتقادات في «دفاع عن نظرية الرؤية وشرح لها» (١٧٣٣) وفي «التحليل» (١٧٣٤) وهو خطاب موجَّه إلى رياضي ملحد وفيه نقد لمبادئ الرياضيات من الوجهة الاسمية.

وفي ١٧٣٤ عين أسقفًا على كلوين بإرلندا الجنوبية حيث كانت الغالبية من الكاثوليك، فأبدى نحوهم كثيرًا من التسامح، بل أبدى كثيرًا من العطف على ما كانوا فيه من بؤس، فأنشأ جمعيات خيرية ومدارس، وفكر في «مصرف وطني إرلندي» ونشر رسالة في هذا الموضوع (١٧٣٧) وعني بالإصلاح الأخلاقي ودون فيه رسائل، ومنيت إرلندا بمجاعة عقبها وباء سنة ١٧٤٠، فجرب في علاجه دواء كان عرفه من هنود رود أيلاند، هو ماء القطران، فحصل على نتائج باهرة، فظن أنه وفق إلى الدواء الكلي، وشرع في وضع كتابه الأخير «سيريس» أي «سلسلة» باليونانية، وهو يفسر هذا العنوان بقوله «سيريس أي سلسلة الاعتبارات والبحوث الفلسفية في مفاعيل ماء القطران، وفي موضوعات أخرى متنوعة مترابطة متولد بعضها من بعض» (١٧٤٤) وهذا الكتاب مرآة لدراسته للأفلاطونية والفيثاغورية في رود أيلاند، وفي ١٧٥١ فقد ابنًا له وجزع جزعًا شديدًا، وكانت صحته آخذه في الاعتلال، فعوَّل على الاعتزال بمدينة أكسفورد، وبعد بضعة أشهر من حلوله بها أصيب بشلل كلي أودى به.

(٢) الاسمية

مبدأ المذهب الحسي أن المعرفة الحقة هي المقصورة على ما يبدو للشعور بأعراض محسوسة، وأن ما لا يبدو محسوسًا وهمٌ محض، ولكن الفلاسفة الحسيين تفاوتوا في تطبيق هذا المبدأ، وكان باركلي أكثر دقة من لوك في هذا التطبيق، سلم لوك بأن الاسم يثير في النفس معنًى مؤلفًا من الخصائص المشتركة بين أفراد النوع أو الجنس الواحد، فقال باركلي: «لست أدري إن كان لغيري تلك القوة العجيبة، قوة تجريد المعاني، أما أنا فأجد أن لي قوة تخيل معاني الجزئيات التي أدركتها، وتركيبها وتفصيلها على أنحاء مختلفة … ولكن يجب على كل حال أن يكون لها شكل ولون، وكذلك معنى الإنسان عندي يجب أن يكون معنى إنسان أبيض أو أسود أو أسمر، مقوم أو معوج، طويل أو قصير أو متوسط، ومهما أحاول فلست أستطيع تصور المعنى المجرد، ومن الممتنع عليَّ أيضًا أن أتصور المعنى المجرد لحركة متمايزة من الجسم المتحرك، لا هي بالسريعة ولا بالبطيئة، ولا بالمنحنية ولا بالمستقيمة، وقس على ذلك سائر المعاني الكلية المجردة»،١ والوجدان يشهد بأن «اللامعين ممتنع التصور»، وهنا خطأ باركلي والحسيين جميعًا، إن هذا الخطأ قائم في الظن بأن «عدم التعيين» من جهة الأعراض المحسوسة المتخيلة لا يدع مجالًا لتعيين من جهة العناصر المعقولة المقومة للماهية، أجل لا يمكن أن تكون الصورة الخيالية غير معينة من جهة الأعراض؛ لأن الأعراض موضوعات الحس والخيال! أما المعنى المجرد فغير معين من جهة الأعراض، ومعين من جهة الخصائص الذاتية، وهذه الخصائص هي المدركة به وفيه، إن العقل يدرك أن الشكل واللون يختلفان في أفراد الإنسان، وأن السرعة والاتجاه يختلفان في الحركات، فيحكم بأن هذه الأعراض غير لازمة بالتعيين، وأنه يجب صرف النظر عنها وتصور الإنسان حيوانًا ناطقًا، وتصور الحركة مجرد نقله من مكان إلى آخر.
غير أن باركلي يضطر إلى التلطيف من تطرف موقفه في ثلاث نقط حيث يعترف بالكلية، وبالفرق بين الحد أو التعريف وبين المعنى ممَّا يتصوره هو، وبأن لنا دراية ما بالنفس وبالروحيات التي هي غير محسوسة ولا متخيلة، أما الكلية فيفسرها بأن معنى جزئيًّا يؤخذ ليمثل سائر المعاني الجزئية التي من جنسه أو من نوعه، ولكن الجنس أو النوع لا ينشأ من إدراك شيء هو هو، بل من الإحساس بالتشابه، مثال ذلك أن المعنى المجرد للمثلث الذي لا يمثل نوعًا من أنواع المثلثات هو معنى متناقض، ولا يستطيع أحد أن يكونه، وليس في ذهن الرياضي سوى معنى جزئي، بيد أن هذا المعنى يمكن أن يكون «كليًّا من حيث دلالته» أي يمكن أن يمثل «أي مثلث كان»،٢ ولولا تشبع باركلي بالاسمية لرأى غريبًا أن يكون المعنى الجزئي «كليًّا من حيث دلالته» ولساءل نفسه: أليست هذه الدلالة عين المعنى المجرد الكلي؟ وإذا كانت هناك أنواع يضم كل منها أفرادًا فكيف لا تقابلها معانٍ مطابقة لها؟ إن تفسيره يرجع إلى القول بأننا لا نعقل النوع، ولكننا مع ذلك نضع اسمًا يدل على النوع، أما الحد المستعمل في العلوم فإن باركلي يقبله، ثم ينكر أن يكون له معنى مقابل في الذهن، ويقول أن أصحاب المعاني المجردة يخلطون بين المعنى الذي يتصور (وهو جزئي) وبين الحد الذي لا يمكن أن يتصور، والحال هنا كالحال في النقطة السابقة، فلو أن باركلي ساءل نفسه: كيف يمكن أن يوجد الحد دون إدراك مقابل؟ لرأى نقص المذهب الحسي، وأخيرًا اضطر باركلي ابتداء من سنة ١٧٣٤ إلى أن يدل لفظ notion على معرفة الروح والروحيات والعلاقات بين المعاني، وهي أمور لا تتخيل كالمحسوسات، وهذا إقرار منه بأن لدينا معارف مغايرة للمعارف المتخيلة والتي يدل عليها بلفظ ided،٣ يضاف إلى ذلك أنه في الطبعة الثالثة لكتاب ألسيفرون المنشورة قبل وفاته بسنة، حذف الفقرات الثلاث التي كان لخص فيها نقده لمذهب المعاني المجردة.
ولكنه كان قد ناقش أصول الرياضيات والعلم الطبيعي بناء على الاسمية فوصل إلى أقوال نجد مثلها شائعًا الآن على أقلام كثير من الفلاسفة والعلماء،٤ أهم هذه الأقوال أن الحساب والجبر علمان اسميان، فإننا لا نعتبر فيهما الأشياء بل العلامات، ولا نعتبر هذه لذاتها بل لأنها توجهنا في استخدامنا للأشياء، إن معنيي العدد والمقدار إذ أخذ بغض النظر عن المحسوسات كانا معنيين مجردين ومن ثمة كاذبين، ومعنى اللا متناهي باطل، فمن المحال أن يوجد معنى مكان لا متناهٍ من حيث إن كل معنى فهو متناهٍ، ومن المحال أن يوجد خط لا متناهي الصغر من حيث إن كان خط فهو قابل للقسمة، ومن المحال قسمة المقدار إلى ما لا نهاية من حيث إن المكان المدرك بالحس متناهٍ دائمًا، وأن هناك حدًّا أدنى ملموسًا أو مبصرًا لا يدرك وراءه شيء، ومن ثمة لا يوجد دونه شيء، وما معنى الزمان إلا معنى تعاقب المعاني في الذهن، وأما المكان فإن اللا مادية تبين بطلانه (على ما سنرى)، فمتي لم تكن المبادئ الرياضية معقولة لم تكن الرياضيات علومًا، وإنما هي فنون أو صناعات مفيدة في العمل، وأما العلم الطبيعي فموضوعه قوانين الحركة وتفاعل الأجسام، ولكن اللا مادية تبين أن الطبيعة جملة معانٍ، فليس لنا أن نضيف للأجسام قوة وفاعلية، وليس يوجد رباط ذاتي بين ما يسمى علة وما يسمى معلولًا، وما نظام العالم إلا نتيجة الإرادة الإلهية، وإنما يريد الله النظام محبة بنا لكي نستمد من التجربة توقعًا مفيدًا في أفعالنا المستقبلة، وإذا كان هذا هكذا كانت المعجزات معقولة، وفهمنا كونها استثنائية.

هذا الشك في قيمة العلم من الوجهة النظرية مبنيٌّ على الشك في قيمة المعاني المجردة، أي على الخلط بين تخيُّلنا للشيء وتعقلنا له أو حكمنا عليه بكذا وكذا، وكان هذا الشك عزيزًا على باركلي، فقد أفاد منه سلاحًا يطعن به الملحدين ويؤيد الدين، إذا كان العلماء يقبلون المبادئ النظرية وهي غير معقولة فبأي حق يهاجمون العقائد الدينية؟ وإذا كانوا يقبلون المبادئ النظرية لمرماها العملي، فلم لا يقبلون العقائد الدينية التي تولد في النفس الإيمان والمحبة؟ فالاعتقاد بالمعاني المجردة سبب قوي للإلحاد، وهو سبب قوي للاعتقاد بالمادة الذي هو سبب آخر للإلحاد، هكذا يرى باركلي في الأسمية تأييدًا للإيمان، وتجيء الاسمية على يده ضربًا من الفلسفة المسيحية، ولكنه يمحو اللاهوت النظري بأكمله، فيتفق مع النزعة البروتستانتية التي ترمي إلى مجرد الإيمان في حين أن الاتجاه العام في المسيحية كان لي التعقل بقدر المستطاع، على ما حاوله آباء الكنيسة والمدرسيون من بعدهم.

(٣) اللا مادية

إنكار المادة لازم من المبدأ التصوري القائل إن الموضوعات المباشرة للفكر هي المعاني دون الأشياء، وباركلي يأخذ على ديكارت ولوك اعتقادهما بوجود المادة بعد قولهما إن المعاني أحوال للنفس، ويقرر أن «وجود الموجود هو أن يدرك أو أن يدرك»، وهذه عبارة مأثورة عنه، والمدرك معنى، وغير المدرك لا وجود له، إن الفلاسفة القائلين بالمادة يعترفون بأنهم لا يدركونها في ذاتها، فما الفائدة من وضعها؟ وماذا عسى أن تكون؟ إنها معنى مجرد يمتنع تصوُّره بمعزل عن الكيفيات، فهي معنى باطل، وعلى هذا المعنى الباطل تقوم وحدة الوجود عند سبينوزا وأضرابه، فإنهم يجمعون فيه جملة الأشياء، وعليه تقوم المادية، فإنها ترد إليه جملة الوجود، وما الأجسام في الحقيقة إلا تصورات الروح، فالاعتقاد بالمادة عديم الجدوى وفيه خطر كبير.

وإلى التدليل على أننا لا ندرك المادة قصد باركلي في رسالته «نظرية جديدة للرؤية»: فيبين أن البصر لا يدرك بذاته مقادير الأشياء وأوضاعها ومسافاتها، إذ أن المسافة أية كانت ما هي إلا خط أفقي يقع على نقطة واحدة من الشبكية، وكل ما يدركه البصر إن هو إلا علامات أو دلائل على المسافات والأوضاع والمقادير، ذلك بأن إدراك الكيفيات الأولية يرجع في الأصل إلى اللمس وحده، وبتكرار التجربة ينشا تقارن بين مدركات اللمس وبين بعض الإحساسات البصرية، وهي اختلافات الأضواء والألوان، أو بعض الإحساسات العضلية الناجمة من حركات العينين، فتصير هذه كافية لتقدير مسافات الأشياء واوضاعها ومقاديرها ولا تدعنا العادة نشعر بذلك، بل نعتقد أننا نبصر الكيفيات الملموسة ونحن نستنتجها استنتاجًا من الكيفيات المبصرة التي هي علامات عليها، وإذا افترضنا أنفسنا خلوًا منه هذه التجربة أشبهنا الأكمة الذي يستعيد البصر فلا يستطيع التمييز بين مكعب وكرة بالبصر وحده وقبل لمسهما؛ إذ لا «تبدو له المبصرات إلا كسلسلة جديدة من المعاني أو الإحساسات كلها قريب إليه قرب إحساسات الألم أو اللذة» أي كلها ذاتي داخلي.

تظن العامة أن هناك نسبة بين الامتداد المبصر والامتداد الملموس لشيء بعينه، والحقيقة أن «معاني اللمس والبصر نوعان متمايزان متغايران» وليس بينهما ارتباط ضروري، بل كل ما بينهما تقارن تجريبي: «إن معاني البصر، حين نعرف بها المسافة والأشياء القائمة على مسافة، لا تدلنا على أشياء موجودة على تلك المسافة، وإنما هي تنبهنا فقط إلى ما سوف ينطبع في ذهننا من معاني اللمس (أي الإحساسات اللمسية) تبعًا لأفعال معينة»، أما المعاني اللمسية فهي وسائر المعاني سواء في كونها ذاتية، وقد سلم لوك بأن الكيفيات الثانوية لا توجد إلا بما هي مدركة فيجب أن ينسحب هذا على الكيفيات الأولية أيضًا.

على أن إنكار المادة لا يعني إنكار الأشياء: إننا ندرك المحسوسات ولا نستطيع الشك في وجودها، وندركها في الأماكن التي تبدو فيها، «إن من عبث الأطفال أن يعتبر الفيلسوف وجود المحسوسات موضع شك ريثما يبرهن عليه بالصدق الإلهي … لو قبلت هذه المقدمة لشككت للحال في وجودي الخاص كما أشك في وجود الأشياء التي أبصرها وألمسها الآن»، إننا نرى الفرس نفسه، ونرى الكنيسة نفسها ونرى الحائط أبيض، ونحس النار حارة، ونعلم أن الأشجار هي في الحديقة، وأن الكتب هي على المنضدة، وهكذا «لا تقولن إن اللا مادية تحيل الأشياء معاني، وإنما هي تحيل المعاني أشياء»، والواقع أننا نميز الإحساس من الصورة، والموجود من المتخيل، وهناك علامتان تسمحان بهذا التمييز: الأولى قوة الإحساس وتميزه بالنسبة إلى الصورة، فإن هذه تبدو أثرًا ضعيفًا لذاك، والعلامة الثانية أن الإحساسات أشد تماسكًا وأكثر انتظامًا من الصور، تتسلسل بنظام فنشعر أنها ليست من صنعنا، ونعتقد بالخارجية، فإن الشيء الخارجي مجموع من الإحساسات تعرضها علينا التجربة مؤتلفة دائمًا، كما تعرض علينا علاقات بين مختلف المجموعات أو الأشياء، وبتكرار إحساسنا بالعلاقات تنشأ فينا عادة توقع إحساسات معينة بعد إحساسات معينة، وينشأ لدينا الاعتقاد بدوام الأشياء ولو لم ندركها دائمًا، وهذا يكفي لقيام العلم الطبيعي، فإنه عبارة عن تفسير ظواهر تسمى معلولات بظواهر أخرى تسمى عللًا.

كيف نفسر ائتلاف الإحساسات في مجاميع، واطراد العلاقات بين هذه المجاميع؟ لا نلتمس التفسير في المحسوسات أنفسها باعتبارها أشياء قائمة خارج الذهن، ونحن لا ندرك شيئًا خارج الذهن، ولا نستطيع أن نتصور تفاعلًا بين جوهر مادي هو الشيء وآخر روحي هو النفس؛ إذن يجب أن تكون العلة المطلوبة روحية، ولكنها ليست روحنا، فإن ذهننا لا يحتوي على جميع المعاني، ثم إنه منفعل بالإضافة إليها وقابل لها، وإن جميع الأذهان تدركها في نفس الوقت ونفس الظروف فيبقى أن العلة المطلوبة روح خارجية وماذا عساها أن تكون إلا الله؟ «لا أقول إني أري الأشياء بإدراك ما يمثلها في الذات الإلهية المعقول، كما يقول مالبرانش، بل إن الأشياء المدركة مني هي معلومة من عقل لا متناهٍ ومحدثة بإرادته»، العقل الإلهي هو الذي يعرض علينا المعاني ونظامها، ودوام الله هو الذي يؤيد اعتقادنا بدوام الأشياء، والإرادة الإلهية هي التي وضعت العلاقات بينها: «فكون الغذاء يغذي والنوم يريح، ووجوب أن نزرع لكي نحصد، وبالإجمال وجوب استخدام وسائل معينة للوصول إلى غاية معينة، هذه أمور نعرفها، لا باستكشاف ترابط ضروري بين معانينا، بل فقط بملاحظة القوانين الموضوعية في الطبيعة»؛ وعلى ذلك ليست الطبيعة ما يعتقد الفلاسفة الوثنيون من أنها علة مغايرة لله، إنها اللغة التي يخاطبنا بها الله.

ذلك مذهب باركلي يدور كله على المبدأ الذي وضعه ديكارت حين قال إن الذهن لا يعرف الأشياء مباشرة، بل يعرفها بوساطة ما لديه عنها من معانٍ، فيصل إلى مثل آراء الديكارتيين، وهو مذهب مسيحي أو لون من ألوان الأفلاطونية المسيحية التي صادفناها في فلسفة العصر الوسيط، والتي تريد أن ترى في الله التفاعل الأوحد، وفي العالم تجليًا ورمزًا ولغة، نقول «تريد» لأن المبدأ الديكارتي يحتمل بل يحتم نتيجة أخرى هي عزل الفكر في نفسه واعتباره الكل في الكل، وباركلي لا يتفادي هذه النتيجة إلا بمناقضة بعض آرائه، فإنه يعتمد على مبدأ العلية للقول بوجود الله وليست تسمح التصورية الأسمية بقبول هذ المبدأ، وهو يقبل الجوهر الروحي مع اعترافه بأن هذا الجوهر ليس معنى ولا مدركًا بمعنى، ومع أن التصورية لا تسمح بقبول الجوهر أيًّا كان، وسنرى هيوم يلح في إبطال مبدأ العلية، ويستبعد الجوهر الروحي بنفس الدليل الذي اعتمد عليه باركلي لاستبعاد الجوهر المادي.

ولا غرابة أن نرى باركلي، قد فرغ من بيان مذهبه وتأييده على النحو المتقدم، يجد في الأفلاطونية والفيثاغورية مزيدًا من البيان والتأييد، فينتقل عنهما نصوصًا مطولة يحشو بها كتابة العجيب «سيريس» وينسج فيه على منوالهما، فقد كان يرمي إلى معرفة الله وتفسير صدور الموجودات (أو المعاني) عن الله، والمعرفة الحسية لا تنبئنا بشيء عن ماهية الله الروحية، فلما قرأ الكتب الأفلاطونية والفيثاغورية أدرك أن المعرفة الحسية ناقصة سطحية، ورأي أن «التطهير الأفلاطوني» يرتفع بنا إلى إدراك المثل التي هي الله نفسه والتي هي قوانين الوجود، دون أن يتصورها «معاني مجردة»، ودون أن يعدل عن رفضه للمعاني المجردة، وإنما تصورها موجودات عقلية غير مخلوقة، مع علمه بأن «أدق عقل إنساني إذ بذل أقصى جهد لم يدرك من هذه المثل الإلهية إلا وميضًا خاطفًا، لعلوها فوق جميع الجسميات محسوسة أو متخيلة»، هذه المثل يحقق الله أشباهًا لها تعلنها إلينا بأن يجعل من العالم موجودًا حيًّا تعمل فيه نار لطيفة للغاية هي نفسه، وهي الأداة المباشرة التي يستخدمها الله في تنظيم الحركات الكونية، فإنها مشبعة بالحكمة الإلهية تنفذ إلى جميع الأشياء وتكون الكيفيات المختلفة أو المعاني المحسوسة، وتؤلف بينها في كل منظم متماسك، ولوفرة هذه النار في ماء القطران كان هذا الماء دواءً عجيبًا وآلة العناية الإلهية لنشر الخير بين الناس، وينتهي باركلي بنظرية الأفلاطونية الجديدة في الأقاليم الثلاثة باعتبارها وسيلة إلى تصور عقيدة الثالوث، فاتجاهه لم يتغير وآراؤه الرئيسية لم تختلف.

١  مقدمة كتاب «مبادئ المعرفة الإنسانية».
٢  مقدمة كتاب «مبادئ المعرفة الإنسانية» (١٢ و١٥).
٣  الطبعة الثالثة من الكتاب السابق (١٤٢).
٤  هذه المناقشة موضوع كتاب «علة الحركة» وكتاب «التحليل» أي الرياضي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤