الفصل الرابع

ديفيد هيوم

١٧١١–١٧٧٦

(١) حياته ومصنفاته

شغف بالفلسفة منذ صباه حتى ضحى في سبيلها بدراسة القانون التي أرادته أسرته عليها، ثم ضحى بالتجارة، كان يطمح إلى أن يقيم مذهبًا يضارع العلوم الطبيعية دقة وإحكامًا بفضل تطبيق «منهج الاستدلال التجريبي» فسافر إلى فرنسا وهو في الثالثة والعشرين ومكث بها ثلاث سنين يفكر ويحرر وعاد إلى إنجلترا، وبعد سنتين (١٧٣٩) نشر مجلدين من «كتاب في الطبيعة الإنسانية» الأول في المعرفة، والثاني في الانفعالات، وفي السنة التالية نشر المجلد الثالث والأخير في الأخلاق، فأشبه باركلي في التبكير العقلي، وكتابه هذا يطرق الموضوعات التي طرقها لوك، ولكنه جاء معقد الأسلوب عسير الفهم، فلقي اعراضًا عامًّا تأثر له هيوم تأثرًا عميقًا، فتحول إلى تحرير المقالات القصيرة الواضحة ونشرها في ثلاثة مجلدات بعنوان «محاولات أخلاقية وسياسية» (١٧٤١، ١٧٤٢، ١٧٤٨) فأصابت نجاحًا، وكان قد عاد إلى «كتاب الطبيعة الإنسانية» فخففه ويسره، فأخرج كتاب «محاولات فلسفية في الفهم الإنساني» (١٧٤٨)، وضحت فيه آراؤه عن ذي قبل، ثم عدل عنوانه هكذا: «فحص عن الفهم الإنساني»، واستأنف الكتابة في الأخلاق السياسية فنشر (١٧٥١) كتابًا بعنوان «فحص عن مبادئ الأخلاق» هو موجز القسم الثالث من «الطبيعة الإنسانية» ونشر (١٧٥٢) كتابًا أخر بعنوان «مقالات سياسية»، ثم توفر على تدوين «تاريخ بريطانيا العظمى» فأظهره في ثلاثة مجلدات (١٧٥٤، ١٧٥٦، ١٧٥٩) نالت إعجابًا كبيرًا، وكان في تلك الأثناء يعالج مسألة الدين، فصنف حوالي ١٧٤٩ «محاورات في الدين الطبيعي» لم يشأ أن تنشر في حياته، فنشرت بعد وفاته بثلاث سنين، ولكنه نشر (١٧٥٧) كتابًا أسماه «التاريخ الطبيعي للدين».

وبعد ذلك شغل منصب كاتب السفارة البريطانية بباريس (١٧٦٣–١٧٦٥) فكان موضع حفاوة الأوساط الفلسفية والأدبية، وعاد إلى وطنه (١٧٦٦) وبصحبته روسو الذي كان يطلب ملجأ في إنجلترا، وأنزله ضيفًا في بيت له، ثم عُين وزيرًا لأسكتلندا (١٧٦٨) ولكنه اعتزل الوزارة في السنة التالية، وأقام بمدينة أدنبره مسقط رأسه، وتوفي بها.

(٢) تحليل المعرفة

يدور تفكير هيوم على تحليل المعرفة كما تبدو للوجدان خالصة من كل إضافة عقلية، وفقًا للمبدأ الحسي، وعلى تقدير قيمة المعرفة تبعًا لهذا التحليل ومن جهة صلاحيتها لإدراك الوجود مع العلم «بأن شيئًا لا يحضر في الذهن إلا أن يكون صورة أو إدراكًا» على ما يقضي به المبدأ التصوري، فمذهبه يرجع إلى نقطتين: حسية وتصورية، كمذهب لوك ومذهب باركلي، إلإ أنه أدق تطبيقًا للمبدأين وأكثر جرأة في مواجهة نتائجهما الشكية، حتى أعلن الشك صراحة.

المعرفة في جملتها مجموع إدراكات perceptions أي أفكار بلغة ديكارت أو معانٍ بلغة لوك وباركلي، والإدراكات منها انفعالات impressions ومنها أفكار أو معانٍ thoughts or ideas ومنها علاقات relations بين المعاني بعضها والبعض، وبينها وبين الانفعالات، فالانعفالات هي الظواهر الوجدانية الأولية، أو هي إدراكاتنا القوية البارزة، مثل انفعالات الحواس الظاهرة، واللذة والألم و«انفعالات التفكير» التي تحدث تبعًا للذة والألم، كالمحبة والكراهية، والرجاء والخوف، والمعاني صور الانفعالات؛ لذا كانت أضعف منها، والقاعدة فيما يخصها هي أن ليس من قيمة إلا أن يكون صورة انفعال أو جملة انفعالات، فإذا لم يكن كذلك كان مركبًا صناعيًّا يجب الفحص عن أصله ويجب تبديده، ومن هذا القبيل المعاني المجردة، وهيوم يرفضها رفضًا باتًّا ويصطنع الاسمية مثل باركلي، فيتحدث نفس حديثه ويسوق نفس الأمثلة، يقول: «إن معانينا الكلية جميعًا هي في الحقيقة معانٍ جزئية مرتبطة باسم كلي يذكر اتفاقًا بمعانٍ أخرى جزئية تشبه في بعض النقط المعنى الماثل في الذهن»، فاسم فرس مثلًا «يطلق عادة على أفراد مختلفة اللون والشكل والمقدار، فبمناسبته تتذكر هذه المعاني (أو الأفراد) بسهولة».

والعلاقات تنشأ بفعل قوانين تداعي المعاني، أي قوانين التشابه، والتقارن في المكان والزمان والعلية، هذه القوانين هي القوانين الأولية للذهن، تعمل فيه دون تدخل منه، وهي بالإضافة إليه كقانون الجاذبية بالإضافة إلى الطبيعة، فهيوم يزيد على لوك أن ليس للذهن فعل خاص في المضاهاة والتركيب والتجريد التي هي وسائل تكوين المعاني، ويقصر وظيفة الذهن على مجرد قبول الانفعالات فتحصل منها المعاني حصولًا آليًّا بموجب قوانين التداعي، والعلاقات التي تؤلف العلوم نوعان: علاقات بين انفعالات قائمة في أن بعض الانفعالات علل والبعض الآخر معلولات، كما هو الحال في العلوم الطبيعية، وعلاقات بين معانٍ، وهي التي تتألف منها الرياضيات، فيتعين النظر في كل من هذين النوعين.

أما العلوم الطبيعية فقيمتها تابعة لقيمة علاقة العلية، وهذه العلاقة هي التي تسمح لنا بالاستدلال بالمعلول الحاضر على العلة الماضية، وبالعلة الحاضرة على المعلول المستقبل، ولكنها عديمة القيمة؛ فإنها ليست غريزية وليست مكتسبة بالحس الظاهر، أو الحس الباطن، أو بالاستدلال، لقد بيَّن لوك أن ليس في الذهن شيء غريزي، والحواس تظهرنا على تعاقب الظواهر الخارجية، ولا تظهرنا على قوة الشيء الذي يسمى عله يحدث بها الشيء الذي يسمى معلولًا، فأنا أرى كرة البلياردو تتحرك، فتصادف كرة أخرى، فتتحرك هذه، وليس في حركة الأولى ما يظهرني على ضرورة تحرك الثانية، والحس الباطن يدلني على أن حركة الأعضاء في تعقب أمر الإرادة، ولكني لا أدرك به إدراكًا مباشرًا علاقة ضرورية بين الحركة والأمر، ولا أدري كيف يمكن لفعل ذهني أن يحرك عضوًا ماديًّا، وأخيرًا ليس يمكن القول بأن رابطة العلية مكتسبة بالاستدلال، إن الفلاسفة الذين يدعون أن للشيء الذي يظهر للوجود علة بالضرورة وإلا كان علة نفسه أو كان معلولًا للعدم، يفترضون المطلوب، أعني استحالة استبعاد البحث عن العلة، يجب البرهنة على ضرورة العلة قبل الاحتجاج ببطلان وضع هذه العلة في الشيء الذي يظهر للوجود أو في العدم، وعلى هذا فمبدأ العلية لا يلزم من مبدأ عدم التناقض، ولا تناقض في تصور بداية شيء دون رده إلى علة، إن معنى العلة معنى البداية، وليس متضمنًا فيه، ومن الممكن للمخيلة أن تفصل بين معنى العلة ومعنى ابتداء الوجود، ثم إن معنى العلة ومعنى المعلول متغايران، ويستحيل علينا أن نعلم مبدئيًّا معنى المعلول من معنى العلة: «إن آدم، قبل الخطيئة، مهما افترضنا لعقله من كمال، ما كان يستطيع أبدًا ان يستننتج مبدئيًّا من ليونه الماء وشفافته أنه يخنقه، يستحيل على العقل مهما دقت ملاحظته أن يجد المعلول في العلة المفترضة، لأن المعلول مختلف بالكلية عن العلة، فلا يمكن استكشافه فيها»، بل إن الاستدلال لا يخولنا في توقع نفس المعلولات بعد نفس العلل، إذ ليس في وسع العقل أن يبرهن على «أن الحالات غير الواقعة في تجربتنا يجب أن تشابه الحالات التي جربناها» كما أنه ليس في وسع التجربة أن تبرهن على وجوب التشابه بين المستقبل والماضي، من حيث إن التجربة نفسها قائمة على هذا الافتراض، وكل ما هنالك «أن العلة شيء كثر بعده تكرار شيء آخر حتى إن حضور الأول يجعلنا دائمًا نفكر في الثاني»، وعلى ذلك تعود علاقة العلية إلى علاقتي التشابه والتقارن، فهاتان العلاقتان هما الأصليتان، وعلاقة العلية مجرد عادة فكرية من نوعهما، وما يزعم لها من ضرورة، ناشئ من أن العادة تجعل الفكر غير قادر على عدم تصور اللاحق وتوقعه إذا ما تصور السابق، والنتيجة أن ليس يوجد حقائق ضرورية ومبادئ بمعنى الكلمة! وأن العلوم الطبيعية نسبية ترجع إلى تصديقات ذاتية يولدها تكرار التجربة.

وأما العلاقات التي بين المعاني فتتجلى في الرياضيات، ويميز هيوم بين الحساب والجبر من ناحية والهندسة من ناحية أخرى، فيقول إن الحساب والجبر علمان مضبوطان يقينيان؛ لأنهما قائمان على معنى الوحدة وهو معنى ثابت يسمح بتأليف مقادير والمعادلة بينها بما يطابق الواقع، في حين أن الوحدات المكانية في الهندسة (كالخط والسطح) ليس لها في الواقع مثل ذلك الثبات، وإنما هي مقاربة له، وليس يستنبط منها من نتائج سوى الاحتمال القوي.

هذا ما وصل إليه هيوم في تحليل المعرفة ونقد العلوم، وأول ما يسترعي النظر قصره وظيفة الذهن على القبول، وتفسير محتوياته تفسيرًا آليًّا بقوة الانفعالات وضعفها وفعل قوانين التداعي، على أنه يعترف بأنه إذا كان التمييز بين الانفعالات والمعاني ميسورًا عادة، فقد يحدث أن تكون المعاني قوية والانفعالات ضعيفة، كما يشاهد في حالة التخييل وبعض الأمراض النفسية وحينئذٍ فإما ألا يبقى لنا سبيل للتمييز بين الحقيقة والخيال، أو أن يقوم الذهن بهذا التمييز بناء على علامات مكتسبة من التجربة، فيبين عن فاعليته، وهيوم يعترف أيضًا بأنه قد يحدث أن نحصل على معنى دون انفعال مقابل، كما إذا افترضنا عدة ألوان متضائلة بالتدريج، وافتقدنا لونًا من بينها، فإننا نحس هذه الثغرة ونحصل على معنى هذا اللون ولو لم نره قط، ثم إن طائفتي الانفعالات والمعاني تختلف ليس فقط بالقوة بل بالطبيعة أيضًا؛ ذلك بأن معنى لذة ماضية أو ألم ماضٍ لا يشبه تلك اللذة أو ذلك الألم كما تشبه الصورة الأصل، أو ليس المعنى من نوع اللذة أو من نوع الألم في الوجدان، ولكنه تذكر أو تصور اللذة أو الألم، أي إن اللذة أو الألم موضوع المعنى، فالمعنى فعل مخصوص يقتضي قوة مخصوصة، ولا بد من الاعتراف أيضًا بقوة مخصوصة تدرك التشابه والتقارن اللذين يجعل هيوم منهما قانوني الفكر، إذ ليس هناك انفعالان يقابلانهما ويعتبران أصلًا لهما، كذلك لا بد من القول بقوة مخصوصة لتفسير الاسم الكلي، إذ كيف يطلق على كثيرين إذا لم يكن فينا قوة تنتقل من جزئي إلى آخر؟ ولم يطلق على كثيرين إلا إذا كانوا يتفقون في النوع أو في «بعض النقط» كما يقول هيوم؟ إذا كان هناك نوع ولو مؤقت على رأي لوك كانت له خصائص متضامنة تؤلف ماهية معقولة، وأخيرًا ليست الاعتراضات التي يوجهها هيوم إلى مبدأ العلية حاسمة، فإذا سلمنا له أن الإدراك الظاهري لا يظهرنا على القوة التي تفعل، وإذا سلمنا جدلًا أن الإدراك الباطني لا يظهرنا على علاقة ضرورية تربط حركات الأعضاء بأمر الإرادة، فإننا ندعي أن العقل يدرك هذه العلاقة وضرورتها، أجل إن معنى العلة ومعنى المعلول متغايران، ولكن المعلول موجود يظهر للوجود، وبهذا الاعتبار هو لا يظهر بنفسه ولا بفعل العدم، وإنما يظهر بفعل موجود آخر هو علته، وإذا كان مبدأ العلية لا يلزم من مبدأ عدم التناقض، بمعنى أنه لا يستنبط منه استنباطًا مستقيمًا، فإنه يستند إليه من جهة أن منكره يقع في التناقض إذ أنه يزعم أن ما يوجد ليس له ما به يوجد، وهذا خلف، والواقع أن مبدأ العلية أولى في العقل، وأن الاعتقاد به واحد عند جميع الناس وفي جميع الأعمار، مع أن المذهب الحسي يقضي بأن تكون قوة العادة معادلة لعدد التجارب وأن يتفاوت الاعتقاد بتفاوت التجربة، فالفلسفة الحسية تنتهي إلى إلغاء العقل وإلغاء العلم الطبيعي لأنها لا تعتقد بضرورة القانون وترد الشعور بالضرورة إلى أثر العادة، وإذا كان هيوم اعتقد بقيمة مطلقة للحساب بحجة أنه قائم على علاقات بين معانٍ لا بين انفعالات، قد نسي أن المعاني عنده ترجع إلى انفعالات، وأن العلاقات تابعة كلها للتكرار والتداعي ولقد كان الواجب عليه، حين بدا له يقين القضايا الرياضية، أن يعود إلى مبدئه الحسي ويكمله بالعقل، ولكنه لم يفعل.

(٣) الفكر والوجود

الناحية الأخرى من مذهب هيوم الفحص عمَّا للمعرفة من قيمة موضوعية، وماذا عسى أن يكون لها من هذه القيمة وإدراكنا مقصور على الظواهر؟ «لا يمكن أن يحضر في الذهن سوى إدراكات، فيلزم أنه من الممتنع علينا أن نتصور أو أن نكون معنى شيء يختلف بالنوع عن المعاني والانفعالات، فلنوجه انتباهنا إلى الخارج ما استطعنا، ولتثب مخيلتنا إلى السموات أو إلى أقاصي الكون، فلن نخطو أبدًا خطوة إلى ما بعد أنفسنا»،١ وفكرة الوجود لا يقابلها أي انفعال، ولا فارق بين التفكير في شيء والتفكير في نفس الشيء موجود، ونحن حين نتصوره موجودًا لا نمنحه صفة جديدة، وتبعًا لهذا الموقف لا يبقى محل للحديث عن وجود الماديات والنفس والله، إذ أن كل ما عدا الفكر مغيب عنَّا، ولكن هيوم ينظر في هذه الأمور ليبين تهافت الأدلة التي تقدم على وجودها، ولتفسير اعتقادنا بهذا الوجود.
«بأي حجة ندلل على أن إدراكات الذهن يجب أن تكون حادثة عن أشياء خارجية … وأنه لا يمكن أن تحدث عن قوة الذهن نفسه؟ إن الذهن لا يجد في نفسه سوى إدراكات، فلا يستطيع أن يتحقق من ارتباط هذه الادراكات بأشياء لا يبلغ إليها … وهل هناك شيء أكثر استعصاء على التفسير من النحو الذي قد يؤثر به جسم في روح بحيث يحدث صورة في جوهر مفروض فيه أنه من طبيعة جد مغايرة بل معارضة؟»،٢ ولما كان مبدأ العلية نسبيًّا فلا نستطيع الاعتماد عليه للتدليل على وجود علل لانفعالاتنا، وإذا كنا نعتقد أن في الخارج أشياء مستقلة عن إدراكنا، وأننا في كل صباح نرى الشمس عينها التي سبق لنا رؤيتها، فهذا وهم سببه افتراضنا أن الإدراكات المتشابهة هي هي بعينها، واعتقادنا بوجود الأشياء شعور يصاحب الانفعال ولا يصاحب الخيال، هذا الشعور تصور للشيء أقوى وأدوم من تصور الخيال! وهو لا يتعلق بإراداتنا، ولكن طبيعتنا تثيره فينا، ونحن نجهل القوى التي يتعلق بها التعاقب المطرد للظواهر، ونجهل السبب الذي يجعلنا نتوقع نفس اللاحق بعد نفس السابق.٣
كذلك ليس لدينا انفعال مقابل للنفس أو للجوهر بالإجمال، إن الاعتقاد بالجوهر تابع للاعتقاد بالعلية؛ فإننا نرى جملة من الكيفيات مؤتلفة ونتعلم من التجربة أن هذا المجموع يتكرر، فتتوهم كعلة ائتلاف الكيفيات، وعلة بقاء هذا الائتلاف أو تكراره في ذهننا، فما النفس إلا جملة الظواهر الباطنة وعلاقاتها، ولا يمكن إثبات الأنا بالشعور، فإني «حين أنفذ إلى صميم ما أسميه أنا أقع دائمًا على إدراك جزئي» أي على ظاهرة، بيد أن هيوم يعود فيقر٤ بأنه لا يدري كيف تتحد في الذهن الإدراكات المتعاقبة، أي كيف تفسر الذاكرة وانفعالاتنا ظواهر منفصلة، وينتهي بالتصريح بأن هذه المسألة عسيرة جدًّا على عقله!

وينقد هيوم الأدلة على وجود الله، فيقول إن دليل الغائية المشهور قائم على تمثيل الكون بآلة صناعية وتمثيل الله بالصانع الإنساني، ولكن الصانع الإنساني علة محدودة تعمل في جزء محدود، فبأي حق نمد التشبيه إلى هذا الكل العظيم الذي هو الكون، ونحن لا ندري إن كان متجانسًا في جميع أنحائه؟ ولو سلمنا بهذه المماثلة لما انتهينا حتمًا إلى الإله الذي يقصده أصحاب الدليل، إذ يمكن أن نستدل بما في الكون من نقص على أن الإله متناهٍ كالصانع الإنساني، وأنه ناقص يصادف مقاومة، أو أنه جسمي وأنه يعمل بيديه، أو يمكن أن نفترض أن الكون نتيجة تعاون جماعة من الآلهة، وإذا شبهنا الكون بالجسم الحي، أمكن تصور الله نفسًا كلية، أو قوة نامية كالقوة التي تحدث النظام في النبات دون قصد ولا شعور، أما دليل المحرك الأول، فليس هناك ما يحتم تسليمه ونبذ المذهب المادي، إذ قد يمكن أن تبدأ الحركة بالثقل أو بالكهرباء مثلًا دون فاعل مريد، وأما دليل الموجود الضروري فلا يستند إلى أصل في تجربتنا من حيث إن التجربة لا تعرض علينا انفعالًا ضروريًّا، وأن المخيلة تستطيع دائمًا أن تسلب الوجود عن أي موجود كان، إن معنى الموجود الضروري ثمرة وهم المخيلة التي تمد موضوع تجاربنا إلى غير نهاية، فلم لا نمد المادة نفسها إلى غير نهاية فنعتبرها الله؟ وبأي حق نفترض الكون كلًّا محدودًا حتى نبحث له عن علة مفارقة؟ وأخيرًا إن وجود الشر يعارض القول بالعناية الإلهية، وليس وجود الشر محتومًا كما يقولون، إذ من الميسور جدًّا تصور عالم بريء من أسباب الشر التي نشاهدها في عالمنا.

بمثل هذه السفسطة يتذرع هيوم لإقصاء الحقائق والجواهر من الفلسفة، بعد أن سلَّم بالمبدأ الحسي وذهب إلى نتيجته المنطقية فبلغ إلى «الظاهرية» المطلقة التي ترد المعرفة إلى ظواهر لا يربط بينها سوى علاقات تجريبية، وهذه الظاهرية هي الصورة التي يتخذها الشك في العصر الحديث، وقد كان هيوم معجبًا بقدماء الشكاك، وكان ينعت نفسه بالشاك ويرى أن الفلسفة هي هذا الشك، وأن الحياة العملية يكفي فيها وحي الغريزة، فلا صلة بين الحياة والفلسفة، حتى لقد قال: «ما من طريقة استدلالية أكثر شيوعًا، ومع ذلك ما من طريقة أجدر باللوم، ومن إدحاض فرض ما بعواقبه الخطرة على الدين والأخلاق، إن الرأي الذي يؤدي إلى خلف هو رأي كاذب من غير شكٍّ، ولكن ليس من المحقق أن الرأي كاذب لكونه يستتبع عاقبة خطرة».

فإذا بحث في الأخلاق نقد المذهب العقلي وأسلم نفسه لوحي القلب والعاطفة كما يقول، فعنده أن الحكم الخلفي ينشأ حين نتصور فعلًا ما بجميع علاقاته فتقوم فينا عاطفة إقرار أو إنكار، فنقول عن الفعل إنه خير أو شر لا لكونه كذلك في ذاته بل لنوع تأثرنا به، وليس يصدر الإقرار أو الإنكار عن الأنانية، بدليل أننا نقر أفعالًا لا تفيدنا شخصيًّا، أو ننكر أفعالًا مفيدة لشخصنا، الواقع أن الذي يصدر أحكامًا أخلاقية ينزل عن وجهته الخاصة ويتخذ وجهة مشتركة بينه وبين الآخرين، فتجيء أحكامه كلية، فأساس الأخلاق التعاطف، أو عاطفة الزمالة، أو «الإنسانية» التي تحملنا على محبة الخير للناس جميعًا، وإذا كانت الميول الغيرية أرفع من الميول الأنانية، وكانت هذه مذمومة وتلك ممدوحة، فليس يرجع ذلك إلى طبيعتها، بل إلى عموم منفعتها. ولما كانت الأخلاق صادرة عن الغريزة، كانت أصولها واحدة عند الجميع، ورجعت الاختلافات الي اختلاف الظروف؛ فالمحبة الأبوية مثلًا غريزة عامة، وقتل الأطفال مظهر من مظاهرها في بلد جد فقير.

١  كتاب الطبيعة الإنسانية: القسم الثاني ف٦.
٢  كتاب «فحص عن الفهم الإنساني» القسم الثاني عشر ف١.
٣  الكتاب المذكور، القسم الخامس.
٤  في ملحق كتاب الطبيعة الإنسانية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤