الفصل السابع

الفلسفة الطبيعية

(١) ڤولتير (١٦٩٤–١٧٧٨)

هو الكاتب الشهير الذي سما بالنثر الفرنسي إلى أوجه، وكأن هذا السمو أنهك سائر قواه فتركه في الشعر نظامًا، وفي الفلسفة، وقد عرض لها، تلميذًا متواضعًا للوك ونيوتن، درس كتبهما في إنجلترا حيث أقام ثلاث سنين (١٧٢٦–١٧٢٩) وكتب فيهما «رسائل فلسفية» أذاعها أحد الناشرين من غير إذنه (١٧٣٤) فأنكرتها السلطة وصدر الامر بإحراقها، وكتبه التي تعد فلسفية: ما بعد الطبيعة، ومبادئ فلسفة نيوتن، والفيلسوف الجاهل، وكتاب النفس، ومحاورات أڤيمير، والقاموس الفلسفي وهو أشهرها.

اقتنع بالمذهب التجريبي الذي اتفق عليه بيكون ولوك ونيوتن، فكان معارضًا لديكارت: عارض فلسفته بفلسفة لوك، وعارض علمه بعلم نيوتن، كان بيكون أبا المنهج التجريبي، ونقل لوك هذا المنهج إلى الميتافيزيقا ففسَّر العقل الإنساني كما يفسر الفسيولوجي أعضاء الجسم، ودوَّن «تاريخ» النفس، بينما كتب ديكارت ومالبرانش «قصتها»، وكان نيوتن العالم الذي لا يثبت قولًا إلا بالتجربة والحساب، ولئن كان ديكارت سبقه إلى بعض المسائل فقد تفوَّق هو عليه وقوَّض أركان مذهبه، هكذا يناصر ڤولتير مذهب التجربة على الميتافيزيقا.

وهو يعارض بسكال الداعي إلى المسيحية، وقد خصص له الرسالة الأخيرة من «الرسائل الفلسفية» وكان يرغب «منذ زمن طويل في منازلة هذا العملاق»، يقول: حتى لو سلمنا بوجود المتناقضات التي يدل عليها پسكال في الإنسان، لم يكف هذا التدليل على حقيقة المسيحية، إذ أننا نجد في الديانات الوثنية أيضا أساطير تكون طبيعتنا من عناصر متعارضة، ثم إن حجة پسكال ترجع إلى اعتبار المسيحية مذهبًا ميتافيزيقيًّا متفوقًا على سائر المذاهب، ولا تبرهن على أن المسيحية الدين الحق، وما المتناقضات في الإنسان إلا العناصر الضرورية المركبة له، من خير وشر، ولذة وألم، وهوى وعقل، وهذا يعني أن ڤولتير يريد أن يمحو من نفس الإنسان آثار القلق الذي يدفع به صوب الدين، وهو يتبع في جدله منهجه المألوف فيبسط المسائل ويهوِّن من شأنها حتى يفوت جوهرها ولبها، وماذا يعنيه من اللب والجوهر وقد آمن مع لوك بأن العقل محدود فكفى نفسه مئونة البحث في الميتافيزيقا بل راح يتهكم عليها بكل قول ظريف؟

بيد أنه كان يؤمن بالله: والدليل الأقوى عنده (على الأقل في وقتٍ ما) هو هذا: «إذا وجد شيء منذ الأزل، وأنا موجود، وليست موجودًا بذاتي، فهناك موجود بالذات هو الله»، وكثيرًا ما كان يرد دليل العلل الغائية الذي «كان يعتبره نيوتن أقوى الأدلة»: «حين أرى ساعة يدل عقربها عن الزمن أستنتج أن موجودًا عاقلًا رتَّب لوالبها لهذه الغاية، وكذلك حين أرى لوالب الجسم الإنساني أستنتنج أن موجودًا عاقلًا رتب هذه الأعضاء، وأن العينين أعطيتا للرؤية، واليدين للقبض … إلخ» ويقول في موضع آخر شعرا: «إن الكون يحيرني، ولا يسعني أن أعتقد أن توجد هذه الساعة ولا يكون لها صانع».

وهو يبين أن العلامة على العلة الغائية الحقة المميزة لها من العلة الغائية المظنونة هي «أن يكون للشيء دائمًا نفس الأثر، وألا يكون له إلا هذا الأثر، وأن لا يكون مركبًا من أعضاء متعاونة على إحداث نفس المعلول»، غير أنه كان يظن أن هذا الدليل لا يؤدي إلى إثبات إله لا متناهٍ خالق، بل فقط إلى إثبات موجود أكبر عقلًا وأقوى من الإنسان، ثم كان إيمانه بقوة الدليل يزداد باعتبار أن القول بضرورة العالم ينطوي على صعوبات ومتناقضات لا ينطوي على مثلها القول بوجود الله؛ لذا كان يعارض الماديين في تفسيرهم للكون بقوانين المادة، وتفسيرهم للأنواع الحية بالتولد الذاتي وبالتطور على ما تشاء الصدفة، وقد كان يعتبر الكون أثرًا معقولًا، ويذهب في رفض التطور إلى حد التشكك في أن تكون الأجناس البشرية أنفسها وليدة تطور أصل واحد.

والقول بالغائية يستتبع القول بالعناية، ولكنها عند ڤوليتر عناية كلية لا تتناول الجزئيات، أي إن تدبير الكون لا يرجع إلا للقوانين العامة التي وضعها الله أو «أن الله صانع الساعة لا مخلص الإنسان» على حد تعبير أحد المؤلفين، وهذا هو المذهب الطبيعي يتخذ له سندًا من فيزيقا نيوتن؛ لذا نرى ڤولتير يذهب إلى التفاؤل أول الأمر: نقول للملحد: «إن ما هو شر بالإضافة إليك هو خير في النظام العام»، ثم حدث زلزال بلشبونة أودى بكثيرين، فثارت ثائرة ڤولتير في قصيدة معروفة، ورأى أن وجود الشر اعتراض هائل في أيدي الملحدين.

كذلك هو يتردد في مسألة الخلود، مع أنه كان يقول بضرورة إله يثيب ويعاقب، وبضرورة الدين للشعب الذي لا يأتي الفضيلة عن عقل ونزاهة كالفلاسفة (!) ولكنه مفتقر إلى حافز ورادع؛ فهو لا يرى رابطة ضرورية بين روحانية النفس وخلودها، فقد تكون النفس روحية ثم لا تكون خالدة، وهو يبين أن القول بنفس متمايزة من الجسم (على طريقة ديكارت) يثير إشكالات عاتية، ويعارض ما نحسه من علاقة مطردة بين قوانا الفكرية وتركيبنا الجسمي، على أنه لا يعتقد أن الفكر صادر عن المادة، إلا أن يكون الله قد منح المادة قدرة على التفكير كما قال لوك، وهو يتردد في مسألة الحرية، فقد أعلن «أن خير المجتمع يقتضي أن يعتقد الإنسان بحريته»، ثم مال إلى الجبرية بحجة أننا لا نريد دون سبب، وتابع لوك في أن الحرية ليست حرية الإرادة بل حرية تنفيذ الفعل المراد، فقال: «إن حريتي تقوم في أن أمشي حين أريد أن أمشي ولا أكون مصابًا بالنقرس»، أما المصاب بالنقرس فلا حرية له.

وهكذا نرى ڤولتير يعالج مسائل معروفة بأساليب معروفة، ولا يفلح في إقامة مذهب متسق، وهو يمثل روح عصره خير تمثيل، ذلك الروح الخفيف الهازل الذي يقنع بالآراء الجزئية، ويتعمد الانتقادات ويتخذ من النكتة حجة ومن السخرية دليلًا، وقد كان ڤوليتر أكبر عامل على نشر هذا الروح واستطالة أثره إلى أيامنا.

(٢) ديدرو (١٧١٣–١٧٨٤)

بدأ حياته القلمية بالترجمة عن الإنجليزية، وكان مما ترجمه كتاب شفتسبري «محاولة في الاستحقاق والفضيلة» (١٧٤٥)، ونشر «خواطر فلسفية» أعرب فيها عن آراء مخالفة للدين، فحبس بسببها ستة أشهر (١٧٤٩) ونشر كتبًا أخرى تدرج فيها من المذهب الطبيعي القائل بوجود الله والمنكر للعناية الإلهية، إلى الأحادية المادية الزاعمة أن المادة حية بذاتها، وأن الأحياء تتطور ابتداء من خلية تحدثها المادة الحية بحيث «تحدث الأعضاء الحاجات، وتحدث الحاجات الأعضاء»، وهو ينقل هذه النظرية القديمة نقلًا، ولا يدعمها بحجج علمية جديدة.

وفي ١٧٤٦ طلب إليه مدير إحدى المكتبات أن يترجم «موسوعة في الفنون والعلوم» كانت ظهرت بإنجلترا سنة ١٧٢٨، ولقيت إقبالًا شديدًا، فرأى هو أن يصدر موسوعة على غرارها، وأشرك معه صديقه العالم الرياضي دالاميير (١٧١٧–١٧٨٣) عضوا أكاديمية العلوم، فألَّفا حولهما طائفة من المعاونين، أدباء وعلماء وفلاسفة، من بينهم ڤولتير ورسو، وأخرجوا المجلد الأول سنة ١٧٥١ مفتتحًا بمقدمة من قلم دالاميير في أصل العلوم وتصنيفها، وعدم فائدة المذاهب الميتافيزيقية والدينية، فكان هذا المجلد الأول مثارًا لحملات عنيفة من جانب المتدينين، فآثر دالاميير الراحة والسلامة وترك شريكه، فثبت ديدرو على رأس المشروع يخرج مجلداته فيتجدد حول كل مجلد النقاش الشديد، حتى اكتمل عددها سبعة عشر (١٧٧٢)، فكانت هذه الموسوعة بؤرة الزندقة والإلحاد، نشر فيها ديدرو مقالات عديدة حملت إلى القراء أفكارًا كثيرة في جميع العلوم، ولكنها أفكار فطيرة خلع عليها بأسلوبه شيئًا من القوة الظاهرة.

(٣) دي لامتري (١٧٠٩–١٧٥١)

مادي مذكور، نشر أصول مذهبه في كتاب أسماه «التاريخ الطبيعي للنفس» (١٧٤٥) وتوسع في شرح هذه الأصول في كتاب عنوانه «الإنسان آلة» (١٧٤٨) فكان للكتابين دوي كبير، وعنوان الثاني يدل على أن صاحبه يستعين بديكارت الفيزيقي على ديكارت الميتافيزيقي؛ فقد زعم ديكارت في كتاب الانفعالات أن جميع الأعضاء يمكن أن تتحرك بموضوعات الحواس وبالأرواح الحيوانية بدون معونة النفس، وأن الذاكرة تعتمد على آثار في المخ، وأن الحيوان آلة يمكن بل يجب أن نفسر ما نشاهده فيه من ظواهر تبدو فكرية تفسيرًا آليًّا، فقال دي لامتري: إذا كان الحيوان يحس ويدرك ويذكر ويضاهي ويحكم ويزيد بفضل تركيبه المادي فحسب، فما الداعي لوضع نفس روحية في الإنسان وهو يأتي عين تلك الأفعال، ولا تختلف أفعاله عن أفعال الحيوان إلا بالدرجة؟ وهكذا يبدو لنا بوضوح أن فلسفة ديكارت الثنائية ثوب ملفق من رقعتين، يختار منهما دي لامتري الرقعة المادية، ويستغني عن نفس متمايزة من الجسم متحيزة في نقطة منه أو فيه كله فيرد الحياة النفسية إلى الحياة الجسمية بحيث يكفي تركيب الأعضاء للإدراك، وتؤثر البيئة والغذاء والتربية في المزاج، ويؤثر المزاج في الخلق.

(٤) هلفسيوس (١٧١٥–١٧٧١)

داعٍ آخر من دعاة المادية، معروف بمحاولة للانتقال من الأنانية إلى الغيرية في الأخلاق، إنه يسلم بأن الأصل طلب المنفعة الخاصة، ولكنه يقول إن الإنسان الحقيقي بهذا الاسم يجد لذته أي منفعته في سعادة الآخرين، فلا يطيق رؤية الشقاء، فيعمل جهده على تخفيفه أو محوه تفاديًا من مشهده المؤلم، بيد أن هذا الصنف من الناس قليل، فواجب المصلحين أن يحملوا كل شخص على أن يرى منفعته الذاتية في منفعة الغير، وذلك بترتيب مكافآت وعقوبات قانونية تجعل المنفعة في رعاية الغيرية أعظم منها في رعاية الأنانية.

(٥) دولباك (١٧٣٣–١٧٨٩)

ألماني عاش في باريس، اصطنع المادية المطلقة وكان له تأثير كبير، ذهب إلى أن المادة متحركة بذاتها، وأن كل شيء يفسر بالمادة والحركة، وأنهما أزليتان أبديتان، خاضعتان لقوانين ضرورية هي خصائصهما، فليس العالم متروكًا للصدفة، ولا مدبرًا بإله، وكل الأدلة على وجود الله منقوضة، ولا غائية في الطبيعة، ليست العين مصنوعة للرؤية، ولا القدم للمشي، ولكن المشي والرؤية نتيجتان لاجتماع أجزاء المادة، ولا نفس في الإنسان، ولكن الفكر وظيفة الدماغ، والفرق بين العقول نتيجة الفرق بين الأدمغة، ولا حرية، فإن القول بها إنكار للنظام الكوني.

(٦) كابانيس (١٧٥٧–١٨٠٨)

طبيب مادي أرجع جميع الظواهر النفسية إلى العوامل المادية، عوامل البيئة والغذاء ومزاج الجسم، وجمع شواهد كثيرة لتأييد رأيه، وله عبارة مأثورة، هي قوله إن الدماغ يفكر كما تهضم المعدة وكما تفرز الكبد الصفراء، ويرى القارئ كم كانت الفلفسة الفرنسية في هذا القرن هزيلة، وقد كانت مع ذلك صاخية أشد الصخب، ولعله يجد شيئًا من الجدة في الفلسفة الاجتماعية التي يمثلها مونتسكيو وروسو.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤