الفصل التاسع

جان جاك رسو

١٧١٢–١٧٧٨

(١) حياته ومصنفاته

ولد بجنيف من أسرة فرنسية الأصل بروتستانتية المذهب، وعهد به والده إلى أحد الحفارين كي يعلمه صناعته، وكان هذا الرجل فظًّا قاسيًا، فغادر روسو المدينة هربًا منه وهو في السادسة عشرة، وهام على وجهه يحترف شتى الحرف في سويسرا وإيطاليا، وبعد ثماني سنوات لقي في سافوي سيدة يسَّرَتْ له شيئًا من الاستقرار، فاستطاع أن يكوِّنَ نفسه إذ تعلم الموسيقى واللاتينية وقرأ الفلاسفة، بعد خمس سنين قصد إلى باريس، ثم غادرها إلى البندقية، فكان كاتبًا لسفير فرنسا فيها، وعاد إلى باريس وهو في الثالثة والثلاثين، وأخذ يتردد على الفلاسفة، وبخاصة ديدرو، وفي صيف ١٧٤٩ قرأ في إحدى الصحف أن أكاديمية ديجون للمسابقة هذه المسألة: «هل عاونت الفنون والعلوم على تصفية الأخلاق؟» فاهتزَّت نفسه وجاشت فيها الأفكار، وخطر له الجواب بالسلب، وشرع يكتب وقدَّم للأكاديمية ما كتب وأحرز الجائزة، وهذا أصل كتابه الأول «مقال في العلوم والفنون» (١٧٥٠) الذي طيَّر صيته في أرجاء أوربا، حتى لقد كتب إليه ملك بولندا، ثم أعلنت تلك الأكاديمية أنها تضع للمسابقة هذا الموضوع: «ما منبع تفاوت المراتب بين الناس؟ وهل يقره القانون الطبيعي؟» فعقد العزم على الكتابة وأخرج كتابه الثاني «مقال في أصل التفاوت بين الناس» ولكن الأكاديمية لم تمنحه الجائزة، فنشر الكتاب (١٧٥٤)، ومضى يعمل على استكمال مذهبه، وبعد ثماني سنين (١٧٦٢) نشر كتابين: أحدهما «العقد الاجتماعي» والآخر «إميل أو في التربية».١ فأنكرت السلطة الباريسية الكتاب الأخير وهمَّت باعتقال المؤلف، ففرَّ إلى سويسرا، ولكن السلطة بها كانت أنكرت الكتاب أيضًا فطردته، فلجأ إلى إنجلترا بصحبة هيوم ونزل ضيفًاعليه، ولكنه لم يلبث أن خاصمه وعاد إلى باريس، فسمح له بالإقامة في فرنسا، فقضى بقية أيامه في حالة مضطربة.

(٢) الاجتماع مفسدة

كتبه التي ذكرناها (ولم نذكر كتبه الأدبية) تفصل مذهبه تفصيلًا منطقيًّا بحسب ترتيب صدورها، ففي مقاله الأول يزعم أن العلوم والآداب والفنون تكمل ظاهر الإنسان فقط ولا تكمل باطنه، بل إنها كلَّما تقدمت أمعنت في إفساده، ويستشهد على ذلك بما توفره للرذيلة من فرص، وبما كان من مصر وأثينا وبيزنطة والصين، إذ مالت إلى الانحطاط أو غاصت في الرذيلة حالما ساد فيها حب العلوم والفنون، بينما الشعوب التي ظلت بعيدة عن عدوى المعارف الباطلة كانت فاضلة وسعدت بفضائلها، مثل الفرس الأقدمين والإسبرطيين والجرمان والسويسريين، هذا فضلًا عن أن الحكماء الحقيقين بهذا الاسم أبانوا سوء أثر الآداب والفنون، إنها تولد الرذيلة لأنها تطيل الفراغ، وتدفع إلى الترف وتنميه، ولا يتسنى الترف بغير الثراء المفرط عند بعضٍ يقابله الفقر المدقع عند بعض، إن لدينا علماء وفنانين من كل نوع، ولم يبقَ لدينا مواطنون، وإذا كان لا يزال منهم بقية فهم في الريف فقراء محتقرون، الفضيلة ممتهنة، والمواهب الفنية معتبرة، فكان من جراء ذلك تفاوت مشئوم بين الناس، «أيها الفضيلة! أنت العلم السامي للنفوس الساذجة، أهنالك حاجة لكل هذا العناء وهذه الأدوات لكي نعرفك؟ أليست مبادئك مطبوعة في جميع القلوب؟ أوَليس يكفي لتعلم قوانينك أن نخلو إلى أنفسنا ونستمع إلى صوت الضمير في صمت الأهواء؟ تلك هي الفلسفة الحقة، فلنتعلم أن نقنع بها».

هذا المقال ينطوي في الواقع على مذهب تام في الإنسان والاجتماع، وما إن شرع روسو يكتب مقاله الثاني «في أصل التفاوت بين الناس» حتى وضع شرطًا لحل المسألة «التمييز بين الأصيل والصناعي في الطبيعة الراهنة للإنسان، وتعرف حالة تلاشت، حالة قد لا تكون وجدت، وقد لا توجد أبدًا، مثلها مثل النظريات التي يفترضها العلماء كل يوم لتفسير تكوين العالم»، ولئن كان روسو يعرض نظريته بمثابة فرض، فكثيرًا ما يعتبرها واقعة تاريخية، وهو على كل حال يبني عليها جميع آرائه، هذه النظرية هي أن الأصيل في الإنسان، أو حال الطبيعة كما يقول، أن الإنسان كان متوحدًا في الغاب، لا يعرف أهله، ولعله لم يكن يعرف أولاده، لا لغة له ولا صناعة، ولا فضيلة ولا رذيلة، من حيث إنه لم يكن له مع أفراد أنواعه أية علاقة يمكن أن تصير علاقة خلقية، كان حاصلًا بسهولة على وسائل إرضائه حاجاته الطبيعية، ولئن لم يكن له غرائز معينة كغرائز العجماوات، فقد كانت له القدرة على محاكاة الغرائز والتفوق على العجماوات في تحصيل مثل ما توفره لها غرائزها المعينة، كان يعتاد الآفات الجوية وتشتد بنيته بمقاومتها، ولم يكن يصاب إلا بالقليل من الأمراض، فقلَّما كان يحتاج إلى الأدوية، وكانت حاجته إلى الأطباء أقل، وإنما تعتل الصحة بالإسراف في المعيشة، وبالميول المصطنعة وما ينتج عنها من إجهاد جسمي وعقلي، «إذا كانت الطبيعة أعدتنا لنكون أصحاء، فإني أكاد أجرؤ على التأكيد بأن حالة التفكير مضادة للطبيعة، وأن الإنسان الذي يتأمل هو حيوان فاسد»، الحرية هي التي تميز الإنسان أكثر من الفهم (الموجود في الحيوان إلى حد ما)، إن الحيوان ينقاد لدافع الطبيعة، ولكن الإنسان يرى نفسه حرًّا في الانقياد له أو مقاومته، وإنما تبين روحانية نفسه من شعور بهذه الحرية، وكان الإنسان المتوحد طيبًا تأخذه الشفقة من رؤية الموجود الحاس يهلك أو يتألم، وبالأخص إخوانه في الإنسانية، ولقد أخطأ هوبس في قوله إن حالة الطبيعة تتميز بالطمع والكبرياء، فإن هاتين العاطفتين لا تنشآن إلا في حال الاجتماع، فالإنسان المتوحد كان كاملًا سعيدًا؛ لأن حاجاته قليلة، وإرضاءها سريع، ولأنه كان حرًّا مستقلًّا، فكان كل إنسان مساويًا لكل إنسان.

كيف خرج الإنسان من هذه الحالة الأولى؟ خرج منها اتفاقًا بأن عرضت له أولًا أسباب طبيعية، كالجدب والبرد القارس والقيظ المحرق، اضطرته إلى التعاون مع غيره من أبناء نوعه تعاونًا مؤقتًا كان الغرض منه الصيد برًّا وبحرًا وتربية الحيوان لتوفير القوت، ثم اضطرتهم الفيضانات والزلازل إلى الاجتماع بصفة مستديمة، فاخترعت اللغة، وتغير السلوك، وبرز الحسد، ونشبت الخصومة، هذا الاجتماع بنوعيه، المؤقت منه والمستديم، يمثل حالة التوحش، وهي ليست بعد الحالة المدنية؛ لأنها خلو من القوانين، وليس فيها من ردع سوى خوف الانتقام، وحدث اتفاقًا أيضًا أن استكشف الإنسان استعمال الحديد، وهو شرط الزراعة، والصناعتان شرط الحالة المدنية بما تقتضيان من تقسيم العمل والتعاون، إذ يستمد المزارعون الآلات الحديدية من صناعها ويعطونهم قوتهم، وتستتبع الزراعة تقسيم الأراضي، فيزداد التفاوت ويتفاقم الخصام، ويتفق الأقوياء الأغنياء على تدعيم مكانتهم فيضعون أنظمة عامة تصون لكلٍّ ملكه وتوطد السلام، ويذعن الفقراء الضعفاء لهذه القوانين كي يدفعوا الشر عن أنفسهم، هنا تبدأ الحالة المدنية المنظمة بالقوانين، وتثبت الملكية، ويوطد التفاوت، وهكذا صار الإنسان الطيب بالطبع شريرًا بالاجتماع وبما أتاحه له الاجتماع من تقدم عقلي وصناعي، وإن قيام دولة يستتبع قيام دول أخرى، فتنشب بينهما الحروب.

(٣) إصلاح مفاسد الاجتماع

على أن الاجتماع قد أضحى ضروريًّا، ومن العبث محاولة فضِّه والعودة إلى حال الطبيعة، وكل ما نستطيع صنعه هو أن نصلح مفاسده بأن نقيم الحكومة الصالحة ونهيئ لها بالتربية المواطنين الصالحين، فمن الوجهة الأولى تعود المسألة إلى «إيجاد ضرب من الاتحاد يحمي بقوة المجتمع شخص كل عضو وحقوقه، ويسمح لكلٍّ وهو متحد مع الكل بألَّا يخضع إلا لنفسه وبأن تبقى له الحرية التي كان يتمتع بها من قبل»، هذه المسألة هي التي يعالجها كتاب «العقد الاجتماعي» فيذهب إلى أن هذا الفرض ممكن التحقيق بأن تجمع الكثرة المفككة على أن تؤلف شعبًا واحدًا، وأن تحل القانون محل الإرادة الفردية وما تولده من أهواء وتجره من خصومات، أي أن يعدل كل فرد عن أنانيته، وينزل عن نفسه وعن حقوقه للمجتمع بأكمله، وهذا هو البند الوحيد للعقد الاجتماعي، ولا إجحاف فيه، إذ بمقتضاه يصبح الكل متساوين في ظل القانون، والقانون إرادة الكل تقر الكلي أي المنفعة العامة، إذ أن الشعب لا يريد إلا المنفعة العامة، فالإرادة الكية مستقيمة دائمًا، ومن يأبَ الخضوع لها يرغمه المجتمع بأكمله، إذ أنه «حين يغلب الرأي المعارض لرأيي فهذا دليل على أني كنت مخطئًا وأن ما كنت أعتبره الإرادة الكلية لم يكن إياها»، والمجتمع القائم على العقد يؤلف هيئة معنوية أو «شخصًا عامًّا» تبدأ فيه الخليقة ويقوم الحق، بعد أن كان كل فرد يتبع إرادته الخاصة، ولهذا المجتمع «دين مدني» (م٤ ف٨) لا يدع للفرد ناحية من الحياة مستقلة عن الحياة المدنية، ويتعين على الدولة أن تنكر دينًا كالمسيحية يفصل بين الروحي والسياسي، وألا تطيق إلى جانبها سلطة كنسية إذ «لا قيمة لما يفصم الوحدة الاجتماعية»، وإنما لزم الدين لأنَّه ما من دولة قامت إلا وكان الدين أساسها، على أن يكون هذا الدين مقصورًا على العقائد الضرورية للحياة، تفرض كقوانين حتى لينفي أو يعدم كل من لا يؤمن بها «لا باعتباره كافرًا بل باعتباره غير صالح للحياة الاجتماعية»، هذه العقائد هي عقائد القانون الطبيعي: وجود الله، والعناية الإلهية، والثواب والعقاب في حياة آجلة، وقداسة العقد الاجتماعي والقوانين، ولكلٍّ أن يضيف إليها ما يشاء من الآراء في ضميره.

كذلك الرجوع إلى الطبيعة في التربية، فيترك الطفل يربي نفسه بنفسه، وبذلك ينشأ حرًّا جديرًا بأن يكون عضوًا في دولة حرة، إذ ما من وسيلة لتربية الطفل لأجل الحرية إلا تربيته بالحرية، وهذا يعني أن التربية يجب أن تكون سلبية ما أمكن، فتقتصر على معاونة الطفل في تربيته نفسه بنفسه، وتجتنب كل ما يضيق عليه ويقيده، وإن قيل لنا إننا بهذا نعرضه لان يجرح نفسه ويتألم، كان الجواب: فليكن، «إن الألم أول ما ينبغي أن يتعلمه، وهو بأكبر حاجة لأن يتعلمه»، على أن المربي لا يقف متفرجًا إذا رآه يعرض حياته للخطر بقلة تجربته، بل ينبهه وينهاه بقوة، ولكن هذه الحالة نادرة، فبرنامج التربية يشتمل على أربع مراحل هي: حياة الطبيعة، الحياة العقلية، الحياة الخلقية، الحياة الدينية، في المرحلة الأولى، وهي التي تمتد من الطفولة الأولى إلى الثانية عشرة، يوجه المربي جهده إلى تكوين الجسم، ولا يعرض للنفس بحال احترامًا لحقوق الطبيعة الطيبة أصلًا، فيحذر أن يريد إصلاحها أو تكميلها بالعادات، فإن العادة الوحيدة التي ينبغي أن يتخذها الطفل هي ألا يتخذ عادة ما، ويجتهد المربي في أن يقصي عن الطفل جميع المؤثرات المصطنعة، مؤثرات الأسرة والمجتمع والدين، ريثما يكون نفسه ويختار له دينًا حين يبلغ سن الاختيار، وإلا لم تكن تربيته طبيعية، ولم يكن عمله الخاص، ومن الثانية عشرة إلى الخامسة عشرة يتثقف الفتى بالمعارف الطبيعية، وذلك بأنه يتصل بالأشياء مباشرة، وأن يصل بالملاحظة الشخصية إلى استكشاف الضروري له في العلم والفن فيعلم أشياء من الفلك والجغرافيا والطبيعة والكيمياء، فلا يلقن دروسًا شفوية، ولا يسمح له بمطالعة الكتب، فإنها جميعًا لا تعلمه إلا ألفاظًا، اللهم إلا كتابًا واحدًا هو قصة روبنسون كروزي حيث يتعلم كيف يمكن الاستغناء عن الكتب! ثم يعلم حرفة يدوية، وابتداء من الخامسة عشرة يعلم الأخلاق، فتنمى فيه الشفقة وعرفان الجميل ومحبة الإنسانية وضبط أهواء النفس، ويعلم أن له نفسًا وأن الله موجود، وفي الثانية والعشرين يمهد للزواج بالخطوبة، ثم بأسفار يفيد منها معرفة المجتمع وعاداته ورذائله ومخاطره والحرف النافعة، وفي المرحلة الأخيرة يتخذ إميل دينًا يعرضه عليه قسيس يلقاه في سفره ويستشيره هو في الأمر وعقائد هذا الدين هي التي ذكرناها، وهي عقائد طبيعية بحت، لا تستند إلى وحي من حيث إن في الوحي افتئاتًا على حقوق الشخصية.

هكذا يزعم روسو، وكأن مذهبه بأكمله عبارة عن «تمدين المسيحية» أي نقل لعقائدها إلى مستوى مدني، المسيحية تقول بحالة برارة أولى، وبسقوط بالخطيئة، وبنجاة من السقوط، ويقول روسو بحالة برارة أولى أفسدها الاجتماع ويمكن إصلاحها بالعقد الاجتماعي والتربية الملائمة، وقد ظن أن الحالة الأولى يجب أن تكون من البساطة والسذاجة بحيث تعتبر «لوحًا مصقولًا» غفلًا من العلم والفن والأخلاق، بل معارضة لها، وقدم هذه الحالة أولًا على أنها مجرد فرض، ثم رآها فرضًا لازمًا لتفسير الإنسان، ثم اعتبرها واقعة تاريخية كما لاحظنا، وهذا تدرج في الإبهام أو التوهم تعوزه الدقة المنطقية، وقديمًا نقد أفلاطون الفن، ونعته بأنه معلم وهم، ولكنه عرف له قيمة إصلاحية متى كان مطابقًا للأخلاق القويمة: فالمسألة تنحصر في حسن استعمال الفن أو سوء استعماله، أي إنها تعود إلى الإدارة والأخلاق، لا إلى الفن نفسه، كذلك يقال في العلوم، فلا شك أنها مطلب العقل الذي هو من طبيعة الإنسان، وأنها في أنفسها أدوات تحت تصرف الإرادة، فكان يكفي أن يتصور حال الطبيعة حال إرادة مستقيمة مستعدة لأن تحسن استعمال العلوم والفنون، أو أن تهن فتسيء استعمالها، ولكن وراء نظريته مغزى مستورًا هو أن العقل أناني بالطبع لأنه يحسب ويرجع كل شيء للأنا، فهو أصل الشقاء، وأن العاطفة هي المرشد الأمين الكافي لتحقيق السعادة، فيقول روسو: «كل ما أحسه شرًّا فهو شر، الضمير خير الفقهاء»، ويصيح قائلًا في صفحة مشهورة: «أيها الضمير! أيها الضمير! الغريزة الإلهية، الصوت الخالد السماوي، الدليل المحقق المحقق لموجود جاهل محدود …»، فكل ما يسمى الآن حقوقًا وأخلاقًا ويستمد له سندًا من العقل، هو صناعي ناشئ من الحياة الاجتماعية التي هي صناعية كذلك، وليس في حال الطبيعة أخلاق وحقوق ما دام الإنسان في تلك الحال مستغنيًا عن الإنسان مقطوع الصلة به، وإنما وقف روسو عند هذا الرأي لأنه تصور العقل آلة في خدمة الأنانية، على حين أن العقل يستكشف لنفسه قيمة خاصة، ويدرك في نفسه قانونًا خاصًّا هو القانون الخلقي الذي هو في الواقع غيري لا أناني.

وأي علاج وصف روسو لأمراض الاجتماع؟ إنه علق النجاة على الديمقراطية ذات الإرادة الكلية المستقيمة دائمًا، الحاكمة بأمرها في كل شيء حتى في المعتقد الديني، أي إنه رأى علاج الاجتماع بضرب من الاجتماع فقدس العقد الاجتماعي، على حين أن النتيجة المنطقية لمبدئه هي الانتفاض على الاجتماع والعمل على العودة إلى حال الحرية والبرارة والسذاجة، أي المذهب الفوضوي، والواقع أن تحقيق الإجماع محال، وأن الأمر يعود دائمًا إلى الأغلبية، وأن ليس هناك ما يضمن أن تلتزم الأغلبية النفع العام والعدالة بين الجميع، وكم رأينا الأغلبية تخطئ وتستبد أشنع استبداد، حتى في أقدس الأمور وهي العقيدة الدينية، فتنكر تلك العقائد المتواضعة التي اعتبرها روسو أساسية، فهو إذ يستبعد من حال الطبيعة الخير والشر والحق والجواب، ويقدس إرادة الأغلبية ويطالبنا بالإذعان لها كأنها الإرادة الإلهية، يقيم ضربًا من الاستبداد هو شر ألف مرة من استبداد الفرد الذي لا يعتمد على حق، ومن المضحك، بل من المؤسف أشد الأسف، أن نرى هذا الرجل يتحدث عن التربية وعن الشفقة، وهو الذي عهد بأولاده إلى أحد الملاجئ، فلم يحبهم ولم يعن بهم، وأن نرى هذا العصامي يفلسف ببضعة أفكار التقطها في مطالعاته، فيذيع كثيرًا من الأفكار الفطيرة في حلة من البلاغة خلابة، وان لم تخلُ من كثير من التعمل، تصرف السواد عمَّا يعوز مقاله من دقة ويعتوره من بطلان، وما على الثورة الفرنسية إلا أن تشب وقد أُعلِن إنجيلها ورسمت مبادئها وصيغت عبارات خطبائها!

١  إميل اسم الطفل الذي يرسم روسو برنامج تربيته.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤