الفصل الحادي عشر

فلسفة النسبية

(١) وليم هملتون (١٧٨٨–١٨٥٦)

ولد بجلاسكو وتخرج في جامعتها وفي جامعة أكسفورد، عين أستاذًا للقانون الأسكتلندي والقانون المدني بجامعة أدنبرى، فأستاذًا للفلسفة بها (١٨٣٦) وشغل هذا المنصب إلى وفاته، كان قد نشر في «مجلة أدنبرى» ثلاث مقالات فلسفية تشتمل على لب مذهبه: الأولى «فلسفة اللا مشروط» (١٨٢٩) والثانية «فلسفة الإدراك الظاهري» (١٨٣٠) والثالثة «المنطق» (١٨٣٣) وقد جمعت فيما بعد في كتاب عنوانه «مناقشات في الفلسفة»، ونشرت دروسه الفلسفية بجامعة أدنبرى في مؤلفين: «دروس فيما بعد الطبيعة» في مجلدين، و«دروس في المنطق» في مجلدين، ونحن نقتصر هنا على عرض رأيه في اللامشروط ورأيه في الإدراك، أما المنطق فأهم أثر له فيه نظريته في تكميم المحمول وهي معروفة مبسوطة في جميع الكتب المنطقية المعاصرة، ونحن لا نوافقه عليها، ويطول بنا القول إذ أردنا مناقشتها.

يرجع مذهبه إلى منبعين: المدرسة الأسكتلندية وكنط، وهو أقرب إلى الأولى منه إلى الثاني، والمحور الذي يدور عليه هو أن «التفكير شرط» أي إن المعرفة نسبية، وذلك من ثلاثة وجوه: فإنها تقوم في نسبة بين حدين يجمع بينهما في الحكم، ونسبة بين ذات عارفة وموضوع معروف يحد أحدهما الآخر، ونسبة بين جوهر وعرض فيدرك الجوهر بالعرض ويدرك العرض بالنسبة إلى الجوهر سواء أكان العرض ذاتيًّا للجوهر أو خارجيًّا كالزمان والمكان، هذه النسب قوام التفكير إذا حاولنا رفعها محونا كل معرفة ووقعنا في الوحدة المطلقة، فكل ما هو مدرك مشروط أي نسبي، واللا مشروط أو المطلق لا مدرك سواء أكان كلًّا أو جزءًا، فإن أي كل فهو دائمًا بالنسبة إلينا جزء لكل أكبر، وإن أي جزء فيمكن أن يتصور قابلًا للقسمة فيكون من ثمة كلًّا، فلا أساس لزعم شلنج وكوزان أننا ندرك المطلق، وإلى الرد عليهما قصد هملتون بنوع خاص.

أما المشروط أو النسبي فمدرك إدراكًا موضوعيًّا، إذ «لا يمكن أن تكون طبيعتنا كاذبة في أصلها» وإني «في أبسط إدراك أشعر بنفسي كذات مدركة وأشعر بشيء خارجي كموضوع مدرك»، فنقد كنط لعلم النفس النظري غير مقبول، صحيح أن الشعور شرط الظواهر الباطنة، ولكنه هو ظاهرة، فيجب أن يكون وراءه شيء ويجب أن يكون هذا الشيء مختلفًا عمَّا وراء الظواهر المادية، غير أن هذا يذهب فقط إلى أن الأشياء موجودة في الخارج بكيفياتها الأولية، أما الكيفيات الثانوية فتحدثها الأشياء فينا بقوى لها، فنحن لا ندرك الأشياء في أنفسها من حيث إننا بعيدون عنها، وإنما ندركها في تأثيرها الواقع على حواسنا، ندرك الشمس مثلًا بوساطة الأشعة الواصلة إلى العين، وندرك وجود العالم الخارجي على العموم بفضل مقاومته لفعلنا العضلي، وعلى هذا يكون الإدراك مباشرًا ولكنه إدراك آثار الأشياء في الحس، وهذا موقف يختلف عن موقف ريد وعن موقف كنط وأتباعه.

متى كانت معرفتنا نسبية لزم أننا لا ندري شيئًا عن المطلق، بل لعلنا لا ندري إن كان موجودًا أو غير موجود، بيد أن هملتون يجد بابًا للولوج إليه فيقول: إن أي موضوع معروف فهو جزء من حيث إنه مشروط، ومن ثمة هو مردود إلى لا مشروط، وهذه النسبة تخرجنا من حدود معرفتنا وتجعلنا نثبت وجود المطلق، فإذا سألنا أنفسنا: هل هو متناهٍ أو غير متناهٍ؟ وجدنا أنفسنا بين حدين متقابلين، ومبدأ الثالث المرفوع يقضي بأن أحد الحدين المتقابلين صادق بالضرورة، خلافًا لرأي كنط في المتقابلات: فما سبيلنا إلى تعيين جانب الصدق ههنا؟ لا سبيل سوى الاختيار لأن هذه المسألة تجاوز حدود الفكر، وليس يتم مثل هذا الاختيار إلا بناء على أسباب خلقية، فنقول إننا بحاجة إلى موجود غير متناهٍ يستطيع أن يحفظ روحنا، ثم بوسعنا أن نخطو خطوة أخرى فنتصور المطلق بالمماثلة بنا، ونتصور العلاقة بينه وبين العالم على مثال العلاقة بين أنفسنا وجسمنا، وهكذا ننتقل من الفلسفة إلى اللاهوت، فإن نهاية الفلسفة بداية اللاهوت.

وهكذا يخالف هملتون مبدأ فلسفته، فما كان أحراه أن يحتاط في المبدأ للنتيجة! فبعد أن عرف المعرفة بالنسبية ظن أن بإمكانه القول بالمطلق ووضع علاقة بينه وبين النسبي دون أن يفطن إلى أن المطلق يصير بهذه العلاقة مشروعًا نسبيًّا بموجب تعريفه! إن الرد على شلنج وأضرابه لا يحتاج إلى جعل المعرفة الإنسانية نسبية إطلاقًا، بل إلى بيان أن ليس لدينا في الواقع مثل الحدس الذي يزعمون، وإن إثبات اللا نهاية للمطلق لا يحتاج إلى ذلك الاختيار الخلقي الذي سبق به هملتون أصحاب البراجماتزم بل يتوسل إليه بالاستدلال العقلي، فلو أن هملتون ميز منذ البداية بين «التصور بنسبة» وبين «الحكم على موضوع بأنه نسبي أو مطلق» إذن لرأى أن بإمكاننا إثبات وجود المطلق وصفاته بالاستدلال دون أن يكون للمنهج الاستدلالي أي أثر في قيمة أحكامنا؛ فإننا إن قلنا إن العالم يقتضي علة أولى، وإن العلة الأولى مطلقة، وإن المطلق غير متناهٍ، كانت هذه الأحكام صادقة ولم تصر العلة الأولى المطلقة شيئًا نسبيًّا بسبب دخولها في نسبة الحكم، وهذا غلط وقع فيه غير واحد من الفلاسفة المحدثين لأنهم اتخذوا من علم النفس أساسًا للفلسفة فتصوروا الأشياء في أنفسها على مثال شعورنا بها أو منهجنا في إدراكها.

(٢) منسل (١٨٢٠–١٨٧٩)

تلميذ هملتون، وأستاذ بأكسفورد، وكبير قساوسة كنيسة سنت بول، كتابه «حدود الفكر الديني» (١٨٥٨) يستند إلى قول هملتون إن معرفتنا لا تبلغ إلى المطلق ويرتب عليه امتناع إقامة لاهوت عقلي، ويذهب في الوقت نفسه إلى أن العلم ما دام نسبيًّا فهو لا يملك الاعتراض على الوحي، وإن الصعوبات والمتناقضات ليست ناشئة من الوحي بل من حدود العقل الذي يزعم مع ذلك الخوض في المطلق، على حين أن حدوده تدل على أن شيئًا قد يوجد ويكون فوق متناوله، فما لا نستطيع فهمه يجب علينا الإيمان به، يجب الإيمان بشخصية الله ولو بدا لنا تناقض بين الحدين من حيث إن الشخصية تفترض التعيين والحد وأن الله مطلق من كل حد وتعيين، ويجب علينا الإيمان بعقيدة النعمة الإلهية وبعقيدة القصاص الأبدي ولو بدا لنا أنهما متنافران وأن المحبة والعدالة فينا تأبيان القصاص إلى الأبد، إننا نرى الجزء ولا نرى الكل، فلا يسوغ لنا أن نتصور الله بوساطة صفاتنا وأخلاقنا فإن هذه لازمة من طبيعتنا المحدودة ولا تنقل إلى الله بأي حال، وعلى هذا يكون منسل أشد استمساكًا بمبدأ النسبية من أستاذه، وهو يدلنا على أن النتيجة المنطقية لهذا المبدأ إنكار المطلق أو على الأقل تجاهله، إلا أن نكون متدينين من جهة أخرى فنعول على الإيمان الأعمى، ويرجع الاختيار بين هذين الموقفين إلى المزاج الشخصي، وما أعظم أثر المزاج الشخصي عند الفلاسفة المحدثين!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤