الفصل الثالث

هجل

١٧٧٠–١٨٣١

(١) حياته ومصنفاته

زميل شلنج في دراسة اللاهوت بجامعة توبنجن، وأكبر منه بخمس سنين ولكنه تأخر عنه في النشر لأنه أرجأ الكتابة إلى ما بعد الفراغ من تكوين مذهبه بجميع تفاصيله، مستخدمًا في ذلك ثقافة واسعة دقيقة في الفلسفة والعلوم الطبيعية والرياضيات واليونانية واللاتينية والتاريخ والفنون والاجتماع، فجاءت كتبه عرضًا منظمًا واضحًا نهائيًّا لفلسفته، عين أستاذًا بجامعة إيينا سنة ١٨٠١، فالتقى هناك بفختي وشلنج، وعمل مع شلنج زمنًا ما، ثم افترقا لتباين العقلية واختلاف الرأي، وبعد معركة إيينا رحل إلى جنوب ألمانيا، ومكث في نورمبرج ثماني سنين، ثم عين أستاذًا بجامعة هيدلبرج (١٨١٦) فأستاذًا بجامعة برلين (١٨١٨) حيث بلغ ذروة الشهرة والمجد والتفَّ حوله التلاميذ النابهون، شغل منصبه هذا إلى وفاته، وكانت وفاته بالكوليرا.

كتبه الحاوية لمختلف وجهات مذهبه سبعة: أولها «فينومنولوجيا الذهن» (١٨٠٧) أي وصف الظواهر الذهنية وآثارها في حياة الإنسان، يصف فيه تطور الفرد وتطوع النوع، أي علم النفس وتاريخ المدنية متداخلين حتى ليصعب أحيانًا كثيرة التمييز بينهما، والكتاب بمثابة مدخل إلى المذهب، ثم يجيء كتاب «المنطق» في ثلاثة مجلدات (١٨١٢–١٨١٦) وهو عرض للمعاني الأساسية الميتافيزيقية والمنطقية، فهو حجر الزاوية في بناء المذهب، والكتب الباقية تعالج أقسام المذهب: «موسوعة العلوم الفلسفية» (١٨١٧) و«مبادئ فلسفة الفقه» (١٨٢١) و«دروس في فلسفة الدين» و«تاريخ الفلسفة» و«فلسفة الجمال» نشرت بعد وفاته، أما أسلوبه فغايه في التجريد والتعقيد حافل بالمصطلحات.

(٢) المنطق

يأخذ هجل على فختي أن المنطق عنده هو الأنا يحدث اللا أنا لكي يتغلب عليه مجهود حر؛ فالمطلق أحد طرفي التضاد، فهو ليس مطلقًا، ويأخذ على شلنج أن المطلق عنده هو الأصل المشترك المتجانس للأنا وللا أنا تتحد فيه الأضداد جميعًا، ولكن المطلق بهذا الوصف هو أصل مجرد، هو أشبه شيء بالليل تبدو فيه جميع البقر سودًا، لا يكشف لنا عن السبب الذي من أجله يصدر عنه العالم ولا كيف يصدر، أما هجل فيتفق معهما في وحدة الوجود، ويرى أن المطلق هو الوجود الواقعي بما فيه من روح لا متناهٍ أو مثال أو عقل كلي أو مبدأ خالق منظم، وأن الطبيعة والفكر حالا له، يظهر الفكر في وقت ما من أوقات تطور الطبيعة، لا أنهما وجهان له متوازيان.

ويرى أنه لأجل فهم الوجود في مبدئه وتسلسل مظاهره، يجب اتباع منهج منطقي بين هذا التسلسل ابتداء من أصل واحد (هو القضية) ينقلب إلى نقيضه ثم يأتلف مع هذا النقيض، ويتكرر هذا التطور الثلاثي ما شاءت مظاهر الوجود، أي إنه يجب ترك العقل يجري على سليقته هذه ابتداء من أول وأبسط المعاني، وهو معنى الوجود، هذا المنهج هو المنطق أو الجدل الذي شأنه أن يتأدَّى من معنى إلى معنى ضرورة، بحيث يبدو الفكر وجوديًّا، ويبدو الوجود الواقعي منطقيًّا أي ضروريًّا ومعقولًا ضرورة، هذا دون أن يعني الجدل صدورًا حقيقيًّا يخرج به الأكثر من الأقل والمشخص من المجرد، وتوازيًا محكمًا بين مراحله ودرجات الوجود، لكنه تركيب عقلي تستمد معانيه ومبادئه من الوجود، ويؤدي آخر الأمر إلى ظواهر الوجود.

المعنى الأول معنى الوجود، وهو أكثر المعاني تجريدًا وخواء، وأوسعها ما صدقًا وأشدها واقعية، فإن جميع معانينا تعبر عن حال وجود، وما هي إلا معنى الوجود باديًا في صور مختلفة، الوجود مجرد الإيجاب، أو هو ما به كل موجود هو موجود، فليس هو في نفسه شيئًا من حيث إنه في الموجودات المتباينة المتنافرة على السواء، الدائرة وجود المربع وجود، والأبيض والأسود والنبات والحجر.

ليس الوجود شيئًا لأنه قابل لأن يكون كل شيء، فتعقله عبارة عن تعقل اللا وجود في الوقت نفسه، وهذا هو التناقض بعينه، أما الموجود حقًّا فهو الماكب من النقيضين.

الوجود واللا وجود، أي الموجود الذي لا يوجد على التمام، وهذه هي الصيرورة، فهي صميم الوجود، وهي سر التطور، إذ أن الوجود من حيث هو كذلك ثابت عقيم، واللا وجود عقيم أيضًا، على حين أن الصيرورة وجود لا وجود (ما سيصار إليه): فهي التي تحل هذا التناقض الأول، وبذلك يضع هجل التناقض مبدأ أول في العقل وفي الوجود، ويزعم أنه بذلك يخرج من الشك ولا يسقط فيه، إذ يلاحظ أن متناقضات العقل (كما صادفناها عند كنط) تبرز حتمًا وتقوم سببًا للشك في المذاهب التي تؤمن بمبدأ عدم التناقض، أي تعتبر الأشياء ماهيات ثابتة على مثال تعريفاتها في عقلنا، بينما اعتبار الموجود صائرًا ناميًا، واعتبار التناقض ماهية تتجلى في متناقضات العقل، يجعل الوجود معقولًا وما ذلك إلا لأنه ظن أن الوجود إطلاقًا هو الوجود المحسوس الصائر المتحرك، فشك في العقل الذي يعلل الحركة بالثبات والقوة بالفعل، ومنذ الآن نستطيع أن نصف فلسفته بأنها حسية واقعية تريد أن ترفع المحسوس إلى مقام المطلق، والواقع إلى مقام الحق.

الوجود يصير إذن، أي يثبت ويتعين، وها هي ذي مقولة الكيف. والموجود المعين يعارض ما يغايره وينافيه، فيبدو هكذا مضافًا وها هي ذي مقولة الإضافة، والموجود المعين هو المحدود المتناهي، ولكنه يصير إلى ما لا نهاية ويقبل كل تعيين فالمتناهي لا متناهٍ، وينحل هذا التناقض في معنى «الشيء» أي الجزئي أو الفرد الذي هو اللا متناهي موجودًا على حال ما، وبعبارة أخرى إن الموجود لا يوجد إلا بشروط معينة وعلى حال معينة وفي حدود معينة، فاللا متناهي إذ يتحقق يتعين ويتحدد ويتميز ويتوحد، هذا الموجود الواحد يعارضه الوجود المنتشر في الكثرة، وها هي ذي مقولة الكم، والكثرة في جملتها «واحدة»: هي مركب يثبت الوحدة وينفيها في آنٍ واحد؛ ويبدو هذا المركب بنوع خاص في الكم المتصل الذي هو واحد بالفعل كثير بالقوة لقبوله القسمة باستمرار، والقسمة تولد ضده وهو الكم المنفصل أو العدد، والعدد في ذاته لا يتقضي حدًّا معينًا، فهو في ذاته متناهٍ وغير متناهٍ، ولما كانت كل كمية قابلة للزيادة والنقصان، وجدنا اللا متناهي في ناحيتين متقابلتين: اللا متناهي في الكبر، واللا متناهي في الصغر، والعدد هو الكم المبدد، يقابله الشدة وهي الكم المجموع المركز، ويتفقان في المقياس والنسبة، إذ أن كل موجود فهو نسبة معينة من العناصر المكونة له؛ فالنسبة هي الموجود وقد صار ماهية.

الماهية هي الموجود منشورًا بحيث يكون له وجهات عدة يعكس بعضها بعضًا، والانعكاس هو الظاهرة، والماهية والظاهرة متلازمان، أو الماهية هي القوة أو الفاعل، والظاهرة فعل القوة أو وظيفتها، أو الظاهرة ماهية الماهية، من حيث إنه من الجوهري للماهية أن تظهر وللظاهرة أن تتم عن الماهية، كما أنه من الجوهري للمبدأ أن يخرج نتائجه، والماهية إذا اعتبرت مبدأ فاعلًا صارت جوهرًا، والجوهر يقابله العرض، ويصير العرض جوهرًا بدوره بمعنى أن الجوهر مفتقر إليه كي يظهر، والجوهر هو خصائصه فحسب؛ وبذا نستبعد فكرة إله مفارق للعالم، وفكرة نفس مستقبلة عن الظواهر المكونة للأنا، وفكرة مادة مستقلة عن الكم وسائر الأعراض، على أن الجوهر إذا كان مجموع أعراض، فهو ليس مجرد مجموع آلي، ولكنه مجموع حي مرتبط بأعراضه ارتباطًا جوهريًّا أي أنه علتها، والعلة والمعلول متلازمان، وهما يؤلفان شيئًا واحدًا: المعلول هو العلة محققة، كما أن الأعراض هي الجوهر منشورًا، وليس في المعلول شيء إلا وهو في العلة، وليس في العلة شيء إلا ويتحقق، وكل معلول فهو بدوره علة، وكل علة فهي معلول لعلة سابقة، على أن سلسلة العلل والمعلولات ليست غير متناهية في خط مستقيم، ولكنها متناهية دائرية، مثل أن المطر علة الرطوبة والرطوبة علة المطر، وأن خلق الشعب تابع لشكل الحكومة وشكل الحكومة تابع لخلق الشعب، فليس هناك علة مفارقة لسلسلة العلل مطلقة دونها، ولكن المطلق جملة العلل الجزئية النسبية.

هذا هو القسم الأول من أقسام الفلسفة الهجلية، وهو استنباط المعاني الأولية بالإثبات والنفي والجمع بينهما، أما المعاني الأولية فمشهورة منذ زمن طويل، هي المعروفة في فلسفة أرسطو بالوجود ولواحقه وبالمقولات، وقد أفاض المدرسيون في شرحها، وأما منهج الاستنباط فقائم على غلط مؤداه أن الشيء القابل لأن يتعين بأشياء أخرى هو ملتقى هذه الأشياء ومجمعها، فهو نافٍ لنفسه متناقض في ذاته، والواقع أن لهذا الشيء مفهومًا في عقلنا لا يتضمن الأشياء التي قد يتعين بها، فلا تناقض فيه، ولا تناقض في العقل الذي يتصوره بالإضافة إلى التعيينات الممكنة، بل بالعكس يعلم العقل أن هذه التعيينات لا تجتمع فيها من جهة واحدة فيدرك مبدأ عدم التناقض، فيقول هجل: «ليس الوجود شيئًا لأنه قابل لأن يكون كل شيء»، يجب تصحيحه هكذا: إن الوجود قابل لأن يكون كل شيء لا معًا بل كلًّا على حدة، فالوجود شيء في كل موجود وبحسب هذا الموجود، فغير صحيح أننا نعقله وجودًا ولا وجودًا في الوقت نفسه، وإنما الصحيح أننا نعقله وجود كذا أو كذا من الماهيات، فإن ما ليس وجودًا هو وجود من وجه آخر، ويقال مثل هذا تمامًا عن العدد في قبوله التعيين بالتناهي أو اللا تناهي، وعن الكم في قبوله التعيين بالمتصل أو المنفصل، وعن سائر المعاني العامة، إن لكل منها مفهومًا فهو ليس متناقضًا في ذاته، وهو بريء من التعيينات جميعًا، ولكنه متى وجد كان هذا أو ذاك منها، والشيء المتغير القابل لأعراض مختلفة، هو ما هو بالفعل في كل آنٍ، وقابل لأعراض أخرى بالقوة تحل فيه متى زالت أضدادها، فليست الصيرورة اجتماع الأضداد أو النقائض، بل الانتقال من ضد إلى ضد بحيث لا يجتمع ضدان، وهذا عين مبدأ عام التناقض، فالمنهج الذي اصطنعه هجل عاجز عن تفسير الإيجاد بقوة باطنة كما يريد؛ لأن اللامعين لا يقتضي بذاته تعيينًا دون آخر.١

(٣) الطبيعة

الروح المطلق يباين نفسه فتظهر الطبيعة؛ فهي إذن مظهره الخارجي الذي يعارضه وينافيه، وهي تتطور وفقًا للمنهج الثلاثي، فهناك أولًا لطبيعية في ذاتها الممثلة في الميكانيكا أي جملة القوانين الآلية التي تعبر عن مطلق الجسمية أو الوجهة الكمية في الأجسام، وثانيًا الطبيعة لذاتها أي جملة القوى الفيزيقية والكيميائية التي تعبر عن الوجهة الكيفية؛ وثالثًا الطبيعية في ذاتها أي الجسم الحي.

العقل الخالق، كالعقل المتصور في الإنسان، يبدأ بما هو أكثر تجردًا وأقل إدراكًا، أي بالمكان والمادة، المكان موجود وغير موجود، والمادة شيء وليست شيئًا، مثلهما مثل الوجود الذي في رأس المنطق، هذا التناقض هو مبدأ التطور الطبيعي والقوة الدافقة، وهو ينحل في «الحركة» التي تقسم المادة إلى وحدات، متمايزة وتكون منها السماء، إن تكوين الأجرام السماوية بمثابة الخطوة الأولى التي تخطوها الطبيعة في طريق التشخص، توزع المادة وانتظامها في السماء يمثلان مقولات الكم، والنزوع المنبث في الطبيعة يبدو في الجاذبية التي تحقق فكرة التناسب وتجعل من العالم جسمًا حيًّا، السماء مجتمع ابتدائي يشبه من بعيد المجتمع الإنساني.

وتتنوع المادة تنوعًا كيفيًّا، فيظهر النور، تعارضه الحرارة، فينحل هذا التعارض في الكهربا، فيظهر من الكهربا الكيمياء بعناصرها المتقابلة، فتتفاعل هذه العناصر ثم تأتلف في المركبات، فعلما الطبيعية والكيمياء يدرسان الاستحالة الباطنة والتغير الجوهري.

ثم تظهر من القوى الفيزيقية والكيميائية والكائنات الحية التي هي مجاميع مركزة، لا معنى أنها وليدة المادة والآلية فحسب، ولكنها وليدة تطور المثال أو الروح بواسطة المادة، ويلقى الكائن الحي معارضة من الطبيعة الخارجية، فيثبت فرديته أو يحقق مثاله بالتمثيل المتصل والتنفس والحركة الحرة، وأدنى صور الحياة النبات وهو بدن ناقص، هو عبارة عن أعضاء كل منها فرد، فهو ضرب من تبديد الحياة في هذه الحيوات الابتدائية المنفصلة المتجانسة إلى حد كبير الحاصل كل منها على قوة الحياة على حدة، ثم تتحقق الفردية في الحيوان، فإن أجزاءه أعضاء بمعنى الكلمة أي خدام الوحدة المركزية، وهي عبارة عن أنظمة منوعة، كالنظام العصبي والدموي وما إليها، وهنا أيضًا درجات؛ فإن الحيوانية تترقى بالتدريج على رسم واحد إلى أن يصل الروح الخالق إلى جسم الإنسان، فيقف عنده من حيث المادة، ويغدق عليه الكنوز الروحية، وفي كل هذا الوصف يستخدم هجل المعارف العلمية من وقت أرسطو إلى وقته، ولا يصنع أكثر أن يرتبها الترتيب الثلاثي كما يقتضي منهجه، ويسلسل بعضها من بعض كما يقتضي مذهبه الأحادي.

(٤) الإنسان والمجتمع

بعد أن يعارض الروح المطلق نفسه بالطبيعة، يميل ضرورة إلى التغلب على هذا التعارض بأن يستعيد نفسه بمعرفة نفسه، وهنا أيضًا يبدو تطوره ثلاثيًّا: فأولًا نجد الروح في ذاته أو الروح الذاتي، أعني الفرد مقر الظواهر الشعورية التي يدرسها النفس، وثانيًا الروح لذاته أو الروح الموضوعي، أعني المجتمع، وثالثًا الروح في ذاته ولذاته، أعني الاتحاد الأعلى للروح الذاتي والروح الموضوعي، أو جملة الروحية للوجود متجلية في الفن والدين والفلسفة.

ماهية الإنسان روح، أي شعور وحرية، ولكن الشعور والحرية على درجات ثلاث؛ ففي الدرجة السفلى مقارن للجسم، ينمو وينضج ويشيخ معه، إحساساته غامضة يقابلها انفعالات غامضة، وهذه «جسمية الروح» (التي يسميها علم النفس الآن باللا شعور)، ثم يظهر الشعور الواضح فيدرك الإنسان ذاته ويدرك الأشياء وهذان إدراكان متعارضان، يوفق بينهما «الفهم» الذي وظيفته إدراج الإحساس تحت قوانينه الأولية، وجعل مدركات الشعور موضوعية، ووضع الحقيقة، على ما بين كنط، وفوق جسمية الروح والشعور الواضح المعين بالفهم نجد العقل الذي يؤلف بينهما إذ يجعل من قوانين الشعور قوانين الحياة، أعني أن النظر ينقلب عمليًّا حين يتخذ الروح ذاته موضوعًا لإرادته، كما قال كنط فيتفق النظر والعمل، فالروح الذاتي — حين يقر بالحقيقة والقانون — يقر بسمو الروح الموضوعي، ويقدمه على نفسه.

للروح الموضوعي مظهر ثلاثة تقوم بإزاء المظهر الذاتية الثلاثة، هي الحق والواجب والمؤسسات الاجتماعية التي هي الأسرة والمجتمع المدني والدولة.

ففي حالة الطبيعة يسيطر على الفرد الأنانية الحيوانية، وفي حال الاجتماع تنتظم هذه الأنانية بالحق والقانون؛ لأن الفرد يدرك بعقله أن الآخرين نظراؤه، وأن العقل والحرية والروحية (وهي مترادفات) خيرهم المشترك، فيتخذ حرية أخيه الإنسان قانونًا لحريته هو أي حدًّا لها، وهذا أصل التعاقد، ويبدو الحق في التملك حيث يتناول الفرد شيئًا خارجيًّا عاطلًا من الإرادة فيجعله شيئه الخاص وينفذ فيه إرادته، ولكن الحرية المضمونة بالحق بالنسبة إلى الأشياء الخارجية هي حرية ناقصة إذ أنها لا تعنى بالباعث الباطن، فتدع مجالًا للصراع بين الروح الذاتي والروح الموضوعي، ويزول هذا الصراع بأن يصير احترام الحق إراديًّا، فتصير المطابقة للقانون «خلقية» تنظم الحياة الباطنة، على حين أن الحق لا ينظم سوى المنافع المادية، على أن الفرد ميال للأنانية وللشر، فهو عاجز بمفرده عن تحقيق المثل الأعلى الأخلاقي، فيجد المعونة في المجتمع الذي يحرره من نفسه ويوفِّر له وسائل العمل الصالح.

المؤسسة الاجتماعية الأساسية هي الأسرة تنظيم غزيرة التناسل بالزواج. والزواج بواحدة يكفل حسن تربية البنين، وعلى الأسرة يقوم المجتمع المدني وتقوم الدولة، فلا تعتبر الزواج أمرًا عاطفيًّا فحسب، ولكنه واجب مقدس، ويجب أن يصدر عن الشعور بالواجب، أي أن يعقد لأجل المجتمع والدولة، وحينئذ يعد عملًا خلقيًّا؛ لذا كان الطلاق منكرًا مبدئيًّا، ولا ينبغي أن يسمح به إلا في حالات استثنائية يعينها القانون، والمجتمع المدني يتكون من الأسر، ولكنه ليس صنعها أو صنع الأفراد بحيث تكون الحكومة مسئولة أمامهم، إنه مرحلة في تطور الروح المطلق فهو طبيعي لا عرفي، والغرض منه صيانة الحقوق وحماية المصالح الفردية، وبهذا الاعتبار يمكن أن يتكون من قوميات مختلفة، مثلما يشاهد في سويسرا، فهو ينظم غريزة الانتقام إذ يضع القصاص المدني أو القانون الجنائي، وينظم الأنانية في الحياة الاقتصادية، وليس القصاص المدني انتقامًا أو إصلاحًا خلقيًّا، ولكنه جزاء عدل يمكن أن يذهب إلى حد الإعدام، أما غرض الدولة فيزيد على ما تقدم تحقيق الروح المطلق، والتضحية بالمصالح الخاصة في سبيله، فهي قومية، لها لغتها ودينها وأخلاقها وأفكارها، هي إذن تامة الوحدة، لا يقف منها الفرد موقف الخصم باسم النقد الشخصي، وهي غاية، والأسرة والمجتمع المدني وسيلتان إليها، تستوعبهما في وحدة عليا هي الروح المطلق محققًا بتمامه، وجودها دليل «سير الله على الأرض» ويجب احترامها كما يحترم إله أرضي، نظامها لازم من طبيعتها التاريخية ولا يفرض عليها من خارج نظام منقطع الصلة بها ولو كان صادرًا عن العقل.

ليست الجمهورية أكمل أنظمة الحكم سواء أكانت شعبية أم أرستقراطية، الجمهورية تسرف في تقدير الفرد وتضحي بالمثل الأعلى في سبيله أو في سبيل الأسرة أو الطبقة؛ لذا اضمحلت الجمهوريات القديمة، النظام الطبيعي هو الملكية لأنها تشخص الدولة والفكرة القومية في زعيم واحد محل سلطانها ورمز تقاليدها، هو العقل اللا شخصي وقد صار عقلًا واعيًا، هو الإرادة الكلية وقد صارت إرادة شخصية، يستنير برأي مجلس تشريعي مكوَّن من خير ممثلي القوى القومية، وبخاصة القوى العقلية، ولكن هذا الرأي استشاري بحت، وسلطة الزعيم مطلقة، وحكمة الروح المطلق تؤيده فتجنبه الانحراف إلى الأنانية والطغيان!

كيف تكون العلاقات بين الدول؟ كان كنط قد ارتأى كل دولة فهي شخصية أدبية مستقلة في الداخل خاضعة لقواعد الحق، وأن الحالة الراهنة التي تعتبر فيها الحرب الوسيلة لفض المنازعات وتنظيم العلاقات الدولية، هي حالة وحشية يجب العمل على الخروج منها بإيجاد «جمعية أمم» تنضم إليها كل أمة بملء حريتها، وتشترك جميعًا في تسوية الخلافات طبقًا لمبادئ العدالة الدولية.

وبناء على ذلك كان كنط قد وضع في ١٧٩٥ «مشروعًا لسلم دائم» حيث يتعين بالعقل الصرف في عشر مواد الشروط الضرورية لتحقيق هذه الغاية، ولكن هجل يرى أن ليس من شأن الفلسفة أن تفرض قوانينها على الوجود، وإنما شأنها أن تدرك القانون الذي يجعل الوجود معقولًا، من حيث إن كل وجود فهو معقول، وكل معقول فهو وجود، وليس يوجد في الواقع التاريخي جمعية أمم، وإنما تبدو الدولة دائمًا كأنها المرحلة القصوى لتطور الروح المطلق تطورًا موضوعيًّا، فيجب أن يستمد حل الإشكال من هذا التطور نفسه، إن التاريخ يظهرنا على أنه يوجد في كل عصر من عصوره دولة مهيأة لأن تتزعم سائر الدول وتفرض عليها ما بلغت إليه من تقدم في الحضارة، هذه الدولة واجبها الفتح، وانتصارها يبرر حروبها.

الدولة الغالبة خير من الدولة المغلوبة بدليل غلبتها نفسها التي يجب أن تعتبر حكم الله، و«جدل التاريخ» يعرض علينا ثلاث مراحل كبرى: الأولى استبداد الدول الآسيوية الضخمة، والثانية سيادة أثينا القائمة على الحرية والديمقراطية، والثالثة التي تتفق فيها هاتان النزعتان المتعارضتان هي الحضارة المسيحية التي تعد الجرمانية خير ممثل لها، وبواسطتها سيتحقق الانتصار النهائي في التاريخ! وهكذا يعارض هجل الفردية الحديثة التي ترى الفرد موجودًا قائمًا برأسه، وفي الدول نتيجة تعاقد بين أنانيات مختلفة، فيرتب الفرد للأسرة والمجتمع، ويقول إن الأسرة والمجتمع المدني والدولة وشروطها، إذا روعيت برزت أمام الفرد واجبات ضرورية، وهذا صحيح كل الصحة، وهذا أساس النظام والرقي الخلقي في حين أن الفردية مصدر فوضى وانحطاط، ولكن هجل لا يرجع بنظام إلى مبدأ أعلى يتجلى في العقل، بل يقدس الواقع فيخضع الفرد للدولة إخضاعًا تامًّا، وينكر عليه حق الانتقاد والإصلاح، ويعود من حيث لا يريد إلى أدهى ضروب الاستبداد، وهو الاستبداد الذي يزعم لنفسه حقًّا إلهيًّا.

(٥) الفن والدين والفلسفة

مهما تبلغ الدولة من كمال، فهي ليست الغاية القصوى التي يتجه إليها تطور الروح، وليست الحياة السياسية المظهر الأخير لنشاطه، إن ماهية الروح الحرية، وأكمل دولة فهي لا تخرج عن كونها قوة خارجية؛ لذا يصعد الروح إلى أعلى من الدولة، ويعمل على تحقيق ما يجده في نفسه من مثل أعلى للجمال والله والحقيقة، فيولد الفن والدين، ويصير الروح المطلق بالفعل إذ يتحقق على هذا النحو في نفس الإنسان.

بالفن أحرز الإنسان أول انتصار على المادة قبل أن ينتصر عليها انتصارًا كليًّا بالعلم، فإن الفن إنزال فكرة في مادة وتشكيلها على مثالها، ولكن مطاوعة المادة متفاوتة، وهذا أصل تعدد الفنون الجميلة تتدرج من المادية إلى الروحية، وهي تتوزع طائفتين: طائفة الفن الموضوعي تشمل العمارة والنحت والتصوير، وطائفة الفن الذاتي تشمل الموسيقى والشعر، في العمارة نجد الفكرة وصورتها متمايزتين جد التمايز لعصيان المادة وتمردها، فإن المادة ههنا أغلظ مواد الطبيعية؛ لذا كانت العمارة فنًّا رمزيًّا بحتًا يدل على الفكر ولا يعبر عنها تعبيرًا مباشرًا.

إن الهرم والمعبد الهندي والمعبد اليوناني والكاتدرائية المسيحية رموز جميلة، ولكن المسافة بينها وبين ما نرمز إليه بعيدة بعد السماء عن الأرض، تشبه العمارة السماء ذات الأبعاد الهائلة والعظمة الساحقة، فإنها تترجم عن القوة الرابضة واللا نهاية الدائمة، ولكنها عاجزة عن تأدية حركة الحياة، في النحت تتقارب الصورة والفكرة إلى حد ما، فإن هذا الفن ينفخ روحًا في المادة الغليظة، كالحجر والرخام والنحاس، ويبقى عاجزًا دون التعبير عن النفس ذاتها كما تبدو للناظر، التصوير يحقق هذا التقدم، فإنه يستخدم مواد أكثر لطافة، ويقتصر على رسم سطح الجسم، ويوحي بالعمق بوساطة السطح، لكنه لا يعبر إلا عن وقت من أوقات الحياة يتنبه في المادة، وهذه خاصية مشتركة بينه وبين النحت والعمارة؛ لذا كانت هذه الفنون متلائمة تأتلف على أنحاء كثيرة، بالموسيقى نبلغ إلى الفن الذاتي، فإنها ترجمة عن انفعالات النفس وألوانها المختلفة إلى غير نهاية، تستخدم الصوت وهو شيء لطيف، ولكن الصوت فيها رمز كالبناء في العمارة، فهو مبهم غامض كالانفعالات التي يترجم عنها؛ ولهذا السبب تحتمل القطعة الموسيقية تأويلات عدة، في الشعر يصل الصوت إلى درجة الكمال؛ فإن الصوت فيه قول معقول ونطق يعرب عن كل شيء، عن الطبيعة والإنسان وأحداث التاريخ، يطاوع الفكر في جميع ثناياه فيبني وينحت ويصور ويغني ويروي، فهو مجمع الفنون، وهو من ثمة الفن الكامل، الملحمة تمثل الفنون الموضوعية الخلاقة، تصور مثلها الطبيعة وآياتها والتاريخ وأمجاده، ولكنها طفولة الشعر، هي ثرثارة طويلة كالسنين الأولى من سني الحياة، وفيرة الصور، زاخرة بالعجائب والغرائب كمخيلة الأطفال، والشعر الغنائي يقابل الموسيقى، يأوي إلى العالم غير المنظور المدعو بالنفس الإنسانية ولا يتعداه، فهو محدود ناقص، والشعر الدرامي أكمل أنواع الشعر، هو شعر الشعر، يجمع بين العالمين الظاهر والباطن، فيمثل التاريخ والطبيعة والنفس، ولا يزدهر إلا في أرقى الشعوب حضارة.

وللفن على العموم، ولكل فن على الخصوص تاريخ في ثلاثة عصور: فالفن الشرقي رمزي يستخدم الأمثلة ويستلزم التأويل ويحتمل منها وجودًا عدة، لا يقوى بعد على إخضاع المادة، فيزدري الصورة الخارجية ولا يعنى بإجادتها، يحب الكبر والعظم واللا نهاية، ويغلو فيها، أما الفن اليوناني فيصطنع التعبير المباشر بدل الرمز، فتجيء مصنوعاته مفسرة أنفسها بأنفسها؛ لأنه ينزل الفكرة كلها في الصورة، غير أن هذا الكمال يورثه نقصًا، فإن تمام حلول الفكرة في المادة يفنيها فيها ويضحي بها في سبيل الصورة الظاهرة والجمال المحسوس.

المسيحية تتلافى هذا النقص؛ فإنها ترفع الفن من العالم المنظور حيث ضل وضاع إلى العالم المعقول موطنه الحق، وتستبدل بالجمال الحسي الجمال المعنوي، وتعبد العذراء مثال الطهارة والقداسة بدل الزهرة، ولكن أنى للصورة المادية أن تطابق المثل الأعلى؛ لذا كان الفنان المسيحي عديم الرضا عن آياته الفنية مهما تبلغ من إتقان، إن العذراء التي يتخيلها، والمنازل الأبدية التي يرنو إليها، والألحان السماوية التي يرهف لها سمع نفسه، والحياة الإلهية التي يحاول الإعراب عنها، كل أولئك أرفع وأجمل من أن يوضع في المادة، فييأس من قدرته، ويعود إلى ازدراء الصورة والغلو في الروحانية.

هذا الشعور بالعجز عن تصوير المثل في المادة هو أصل الدين، وموضوع الدين المثل الأعلى اللا متناهي مدركًا في الباطن، وموضوع الفن التعبير عنه في الظاهر، فالدين بما هو كذلك منحدر عن الفن، وإن يكن الفن محاولة دينية أولى، الوثنية أداة الوصل بين الفن والدين، ولها مراحل ثلاث: المرحلة الأولى السحر الذي يقدس القوى الطبيعية العاطلة من الشعور، والمرحلة الثانية البوذية التي تعبد إلهًا روحيًّا ولكنها تتصوره عاطلًا من الشعور كذلك، والمرحلة الثالثة الزرادشتية التي تقول بإله مجرد تسميه النور يحاول إثبات ذاته بإزاء الظلمة التي هي نفي وسلب، هذه الأديان الشرقية تعتبر الله موجودًا كليًّا غير ذي شخصية فتعارضها أديان «الشخصية الروحية» وهي: الموسوية التي تمثل الإثبات، والديانة اليونانية التي تمثل النفي، والديانة الرومانية التي تمثل المركب من النفي والإثبات.

الموسوية أدركت استحالة التعبير عن اللا متناهي فحظرت تصويره بأي شكل كان ونبذت الأوثان، ولكنها لم تحظر تصوره فتصورته موجودًا شخصيًّا مفارقًا للعالم كلي القدرة، ففيها وفي سائر الديانات الشرقية اللا نهاية هي الغالبة، إله الشرق شبيه بملوك الشرق، هو المتصرف الأوحد، يحيي ويميت، يرفع ويضع، يريد ويفعل، وما على الإنسان إلا التسليم، وبقدر ما كان الشرق متدينًا كان اليونان مشغوفين بالطبيعة وبالأرضيات، فتصوروا الله على مثال الإنسان، أي إنهم في الواقع عبدوا الإنسان بعقله وجماله وقوته، ولكنهم لم يتحرروا من العقلية القديمة تمام التحرر، فقد نصبوا القدر فوق البشر وفوق الآلهة أنفسهم، وهذا القدر هو اللا متناهي، يهدد البشر في كل آنٍ وينغص حياتهم ويشعرهم بأنهم عدم، أما الرومان فكانوا أهل جد وصرامة، فوضعوا الأخلاق الصارمة قانونًا للحياة، وعادوا إلى روحانية الألوهية معتبرين الآلهة معينيين على تحقيق الأوامر الضمير الإنساني، هاتان الصورتان المتعارضتان، اللا شخصية والشخصية، تأتلفان في المسيحية القائمة على أن المسيح إله وإنسان معًا، فتتصور اللا متناهي ينزل من عرشه، ويدخل في منطقة المتناهي، فيحيا حياتنا ويتألم ويموت، ثم يبعث فيعود إلى مجده، ففيها إثبات ونفي وتركيب، وهي تختصر الأديان وتصفيها وتكملها، كما يختصر الشعر الفنون الجميلة، فهي الدين المطلق.

بيد أن المسيحية نفسها ليست القمة التي ينتهي عندها تطور الروح، فإن الفن والدين يؤديان إلى الفلسفة ويأتلفان فيها، الثلاثة تقول إن كل شيء صادر عن روح لا متناهٍ، ولكن الفن والدين وليدَا العاطفة والمخيلة، أما الفلسفة فتحقيق ما يرمزان له، هي انتصار العقل الخالص يفهم الوجود فيتحرر منه.

كانت الطبيعة وقواها، والدولة ومؤسساتها، تبدو كأنها أشياء خارجية مفروضة على الإنسان، والآن ترى الفلسفة في أفعال الطبيعة أفعال العقل أي أفعال الإنسان، وفي المؤسسات الاجتماعية صورة السلطة الأخلاقية التي يحملها في نفسه، فليست ترمي الفلسفة إلى محو المعاني الدينية، بل إلى إحالتها معاني عقلية، وفي الفلسفة فقط يتحقق الروح المطلق أو الله تمام التحقق، لأنها فيها تصل الثقافة الإنسانية إلى أقصاها، وما المذاهب الفلسفية التي يسجلها التاريخ إلا حلقات في سلسلة التقدم نحو هذا النصر النهائي، أي إنها درجات متفاوتة لفلسفة واحدة، وجود بارمنيدس وصيرورة هرقليطس ائتلفا في مذهب أرسطو، والأمثلة كثيرة على مثل هذا الائتلاف، ومن جهة عامة كانت الفلسفة اليونانية عبارة عن دراسة المادة، فجاءت فلسفة العصر الوسيط عبارة عن فلسفة الروح، فألفت الفلسفة الحديثة بينهما في وحدة عليا كانت الفلسفة الهجلية آخر وأكمل صورها (طبعًا!) حيث ينتهي الروح المطلق إلى تمام الشعور بذاته، ويجمع في تركيب أعلى وأخير بين الأضداد التي صادفها في تطوره مذ كان وجودًا ولا وجودًا في آنٍ واحد، إن الفلسفة الأخيرة زمانها ثمرة جميع الفلسفات السابقة، ويجب أن تضم مبادئ هذه الفلسفات جميعًا، فهي «الكل» حيث تبقى الأجزاء متمايزة من الله باعتبارها أوقاتًا في تيار التطور، وحيث تتلاشى باعتبارها مظاهر الله كما تقتضي وحدة الوجود.

ماذا نقول وسذاجة الفلاسفة لا حدَّ لها؟ نقول مع ذلك إن هجل قد أفلح في إقامة فلسفة فسيحة الأرجاء رفيعة العماد قائمة على فكرة رئيسية واحدة مطبقة بمنهج واحد وإن تأثيره كان عميقًا في جميع النواحي، في الفلسفة الخالصة وفي الفقه والسياسة والأخلاق والدين والفن والتاريخ، غير أن منهجه صناعي وثلاثياته مفتعلة، إن نفي ما لا يعطينا معنى جديدًا، واستنباط المعاني الأساسية ظاهري، والحقيقة أن الفيلسوف يطالعها في الواقع ويحاول الربط بينها بشيء كثير من التعسف، والانتقال من المنطق إلى الفلسفة الطبيعية، لا يتم بموجب ضرورة جدلية، بل لأن الفيلسوف يمحو المعنى المجرد الذي بني عليه المنطق، ويعود صراحة إلى التجربة التي استمد منها المعاني المجردة؛ لذا دعيت فلسفته الطبيعية بالجزء الخجلان في مذهبه، والانتقال من الفلسفة الطبيعية إلى الفلسفة الروحية يتم بمحو جديد هو محو صورة الخارجية التي اتخذها الروح في الطبيعة، فيحل الشعور محل المادة ونحن نطالعه في أنفسنا، والدرجات الثلاث في الطبيعة لا يجدها الفيلسوف في الروح إلا لأنه وجدها في الواقع؛ فلسنا هنا بإزاء استنباط حقيقي.

ويقال مثل ذلك في كل انتقال من حدٍّ إلى آخر في مختلف الثلاثيات، فنخرج بأن هجل قد أخفق في بيان إمكان معرفة الوجود معرفة أولية كما يحتم مذهب وحدة الوجود، وكان لا بد أن يخفق؛ إذ أن الطبيعة إحدى الصور الممكنة للوجود، فرفعها هو إلى مقام الصورة الضرورية، وأني لمنهج كائنًا ما كان أن يقلب المكان ضروريًّا؟

١  انظر في كتابنا «تاريخ الفلسفة اليونانية» رد أرسطو على بارمنيدس (٦٠، ب) وعلى مليسوس (١٨، د) ودفاعه عن مبدأ عدم التناقض (٧١، ج د هـ).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤