الفصل الخامس

هربارت

١٧٧٦–١٨٤١

(١) حياته ومصنفاته

هو أقدم من شوپنهور، وقد أخرناه لأنه اتخذ وجهة مغايرة لوجهة الأربعة المذكورين آنفًا، فارتأى أن الأشياء موجودة حقًّا وليست مجرد تصورات، وأن مهمة الفيلسوف قبولها كما هي ومحاولة تفسيرها، لا تركيب العالم تركيبًا مبدئيًّا يقلب الفلسفة قصة شعرية، وله محاولة في تطبيق الرياضيات على الظواهر النفسية حتى يجعل من علم النفس علمًا مضبوطًا كسائر العلوم الطبيعية، فكان من هذه الناحية زعيمًا لمدرسة سنصادف فيما يلي بعض أتباعها البارزين.

كان أستاذًا بجامعة جوتنجن (١٨٠٥) ثم بجامعة كونجسبرج، أهم مؤلفاته: «ما بعد الطبيعة» و«علم النفس مؤسسًا للمرة الأولى على التجربة والميتافيزيقا والرياضة» و«موجز علم النفس».

(٢) الميتافيزيقا

الفلسفة توضيح المعاني التي يقوم عليها العلم، ولما كانت هذه المعاني لا تخلو من تناقض، كانت مهمة الفيلسوف العمل على رفعه، هذا التناقض أدركه زينون وظن أنه لا مخرج منه، ورأى فيه الشكاك سببًا للعدول عن الميتافيزيقا وقبله هجل على أنه ماهية الفكر والوجود، ولكن مبدأ عدم التناقض قانون العقل، ويجب رعايته ما دام العقل، والوقوف عند الشك عجز، وإن قليلًا من التفكير يقنعنا بفساد هذا الموقف؛ فإنه إذا كان وجود الأشياء موضع شك، فما من شك في أنها تبدو موجودة، وإذا لم يكن هناك شيء لم يبد شيء، على أن من الممكن الشك في كون الأشياء مطابقة لتصورنا، وهذا الشك نقطة بداية الفلسفة، وهو ينشأ من النظر في المتناقضات.

المعاني المتناقضة هي بنوع خاص: معاني المادة والزمان والحركة والجوهر والعرض والعلة، فالمادة والزمان يشتركان في كونهما «وحدة متكثرة» من حيث إنهما قابلان للقسمة، وهذا أصل المتناقضات الواردة عند زينون وكنط، والحركة جمع بين الوجود واللا وجود، والجوهر عبارة عن شيء واحد بعينه هو في الوقت نفسه كثير بما يضاف إليه من أعراض أو قوى، والعلة إذا كانت خارجية كان معناها أن الشيء المتغير بها هو كما كان من قبل (ما دام هو هو) وليس كما كان من قبل (ما دام معتبرًا قد تغير)، وإذا كانت داخلية كالفعل الإرادي، كان معناها أن موجودًا واحدًا بعينه فاعل ومنفعل في آنٍ واحد، أي إنه مزدوج وليس واحدًا.

لأجل رفع التناقض يجب القول بأن ما يوجد في الخارج ليست الأشياء المحدودة البادية في الحس، وهي متكثرة كما سبق القول، بل كيفيات مقابلة للكيفيات المدركة بالحواس، كل منها بسيط مطلق في نوعه، وأن الأشياء البادية في الحس تأليفات من صنعنا؛ ومن ثمة ذاتية نسبية، ولا تناقض في كون الكيفيات جميعًا مطلقة، من حيث إن الموجودات الجسمية هي التي تتنافى ويحد بعضها بعضًا، وموجوداتنا غير ممتدة، مثلها مثل مونادات ليبنتز، مع هذا الفارق وهو أنها ليست مركبة من أحوال وإنما هي بسيطة كل البساطة، وليست متغيرة وإنما هي ثابتة لا تتغير، وما التغير إلا تغير العلاقات المتبادلة بين الكيفيات، لا تغير الكيفيات أنفسها، وهكذا اعتقد هربارت أنه أنقذ مبدأ عدم التناقض.

(٣) علم النفس

الأنا أحد تلك الموجودات البسيطة، وفعله الجوهري صيانة ذاته ومدافعة الآخرين، وتعدد ظواهرنا الشعورية نتيجة هذه المدافعة، فما الظاهرة الشعورية إلا مجهود النفس في سبيل البقاء، وما الفكر إلا جملة علاقات الأنا بسائر الموجودات، والظواهر الشعورية تروح وتجيء، وتشتد وتضعف، فلها إذن وجه كم، ويمكن دراستها بتطبيق الرياضيات، لم يلج علماء النفس هذا الطريق للآن بسبب شدة تغير هذه الظواهر حتى لتبدو متأبية على القياس، ولكن حساب النهايات الصغرى يطبق العدد على عين الحركة أو التغير دون حاجة إلى تعيين الكميات المتغيرة؛ فمنذ استكشاف هذا الحساب أصبح من الممكن دراسة تغير الشعور دراسة رياضية دون حاجة إلى وحدة ثابتة تقاس بها الظواهر قياسًا مباشرًا، يكفي أن نعتبر هذه الظواهر بمثابة قوى متعارضة، فإذا تعارضت ظاهرتان بنفس القوة، وقفت كل منهما الأخرى وانتقلتا من مجال الشعور إلى مجال اللا شعور؛ وإذا ما اشتدت إحداهما عادت إلى مجال الشعور وإلى الحركة، فحساب هذا الوقت أو التعادل وهذه الحركة موضوع الدراسة الرياضية للنفس، فهربارت يتصور الظواهر الشعورية قوى متقابلة على مثال الكيفيات الخارجية، أو يتصور العالم الخارجي على مثال عالم النفس، ولكن معادلاته فقدت كل قيمة لأنه أقامها على عدد كبير من الفروض جاءت في الغالب متنافية مع الواقع، وسنرى في الباب التالي محاولات أخرى لإدخال الكم على علم النفس.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤