الفصل الثامن

المذهب الواقعي

(١) سان سيمون (١٧٦٠–١٨٢٥)

أوجست كونت صاحب «الفلسفة الواقعية»، ولكن فكره تكون بجانب الكونت دي سان سيمون، وتأثر من غير شك بشارل فوريي، وهما مصلحان اجتماعيان، فنقدم الكلام عليهما، وثلاثتهم يصدرون عن نفس الدواعي التي صدر عنها السلفيون، هي أن المجتمع يتدهور فيجب إعادة تنظيمه، وهو لا ينظم إلا بسلطة روحية توحد بين العقول، إلا أن هذه السلطة عند الواقعيين ليست الكنيسة بل العلم الذي يضح حدًّا لفوضى الأفكار، ويوفر أسباب التنظيم والتعمير، وينتهي إلى دين جديد.

كان سان سيمون مغامرًا في الحياة وفي الفكر، تطوع لنصرة الولايات المتحدة في حربها الاستقلالية، وقام بمشروعات صناعية، وفي أثناء الثورة نزل عن لقب الكونتية، وسجن ثم أخلي سبيله، خرج من الثورة بأن العصر الوسيط كان عصر تنظيم عقب انحلال الإمبراطورية الرومانية وحروب البرابرة، فكانت أوربا خلاله مرتبطة بعقيدة مشتركة، ولم يكن القساوسة دجالين كما يزعم ڤولتير، بل كانوا أكثر أفراد الشعب استنارة، ولكن النقد ثم الثورة حطما هذا النظام، فسادت فوضى أخلاقية واجتماعية قوامها الإنكار والأنانية، فيتعين العمل على إقامة نظام جديد بوساطة العلم الواقعي، ولم يكن تلقى ثقافة علمية، فقرب إليه بعض خريجي مدرسة الهندسة ومدرسة الطلب ليتمكن من تدوين موسوعة علمية تُتخذ أساسًا للإصلاح، وكان كونت واحدًا من هؤلاء فكان كاتبًا له ومعاونًا مدة من الزمن، وأخذ سان سيمون عن طبيب مغمور من معاصريه، هو الدكتور بوردان Burdin أن العلوم بدأت تخمينية ثم تدرجت إلى الحال الواقعي بحسب بساطة موضوعها، فتكونت الرياضيات وتبعها الفلك فالكيمياء، وكان هذا الطبيب يقسم تاريخ العقل الإنساني إلى ثلاثة عصور: الأول تخميني يذهب من تعدد الآلهة إلى إله واحد، والثاني وسط بين التخمين والواقعية يذهب من تصور علة غير منظورة إلى تصور القوانين، والثالث واقعي يرمي إلى تفسير العالم بقانون واحد، وقد بدأ هذا العصر منذ قليل، وإذا ما تم تكوين الفسيولوجيا على النمط الذي تسير عليه حصلنا على العلم الواقعي للطبيعة الإنسانية، فأمكن إقامة أخلاق وسياسة واقعية، وتكوين الفلسفة الواقعية باعتبارها العلم الكلي، ووضع الدين الواقعي قوامه تصور جديد للعالم على قاعدة علمية بحتة، وقساوسته العلماء، وكان سان سيمون أول من قال «فلسفة واقعية» و«سياسة واقعية».

ثم بدا له أن التنظيم الجديد بغير حاجة ماسة للتمهيد العلمي، وأن أقرب السبل إليه تسليم زمام الحكم إلى كبار رجال الصناعة والعلم بدل الأشراف والقانونيين، ورفع مستوى الطبقة العاملة من الوجهتين العقلية والاقتصادية، موقنًا أن اتفاق المصالح كفيل بتحقيق الوحدة، وفي سنيه الأخيرة أراد أن يؤسس مسيحية جديدة قائمة على محبة الإنسانية واعتبار الحياة الأرضية غاية لذاتها لا وسيلة لحياة مقبلة غير منظورة، فكان له عدد صغير من الأتباع في حياته وبعد مماته.

(٢) شارل فوريي (١٧٧٢–١٨٣٧)

هو أحد آباء الشيوعية الحديثة، وقد دل على طريقة عملية للإصلاح، قال إن العناية الإلهية التي يشهد بوجودها نظام العالم فطرتنا على نزعات إذا اتبعناها بلغنا إلى السعادة الفردية والاجتماعية، فعلى كل فرد أن يختار العمل الذي يوافق ميله، ولا يتسنى هذا الاختيار إلا في فرق phalanges تمثل كل فرقة منها المهن الضرورية لبقائها، أو عدد الميول الممكنة، أو عدد التأليفات الممكنة للنزعات الأصيلة، ويبلغ هذا العدد ١٦٢٠ (!) فيعيش أفرادها في قرية phalanstère وتؤلف كل مهنة جماعة، وفي كل قسم من أقسام المهنة يؤلف العمال جماعة أصغر، بحيث يشعر الكل بتعاون الكل، بخلاف الحال في مجتمعاتنا الكبيرة حيث تتضاءل مكانة الفرد وتغيب عنه علاقته بالمجموع، وإذا كونَّا فرقة من هذا القبيل تكوَّنت بالمحاكاة فرق أخرى، وتلاشى المجتمع «المتحضر» شيئًا فشيئًا وحلَّت محله خلايا اجتماعية، وتبقى الأسرة في كل فرقة، ولكن حرة ممَّا يزعم من قيود وواجبات، وتلغى جميع القوانين التي تحد من الحرية، سواء أكانت قوانين وضعية أم أخلاقية أم دينية، وقد انتشرت هذه التعاليم في فرنسا، وألف فوريي فرقة نموذجية، ولكنها أخفقت، وحوالي منتصف القرن كان لمذهبه في أمريكا مائتا ألف من الأتباع.

(٣) أوجست كونت (١٧٩٨–١٨٥٧)

هو الذي حقق أماني سان سيمون، فدوَّن موسوعة علمية، ووضع علمًا سياسيًّا، ودينًا إنسانيًّا، ولد بمونلپتي في أسرة شديدة التعلق بالكثلكة، ولكنه فقد الإيمان منذ الرابعة عشرة، وكان تلميذًا ممتازًا في الرياضيات فالتحق بمدرسة الهندسة بباريس في السادسة عشرة يحصل علومها ويستكمل ثقافته بقراءة كتب فلسفية كثيرة، وبخاصة كتب هيوم ودي مستر ودي بونالد، هذه المدرسة من خلق الثورة، وكانت مركز الثقافة العلمية والفكرة الجمهورية، وكان جل طلابها متشيعين لسان سيمون، وهو في طلعيتهم، فاتصل به في ١٨١٧ وظل كاتبًا له ومعاونًا حتى ١٨٢٢ لما أراد سان سيمون أن يرجئ الإصلاح العلمي ليشرع في الإصلاح الاجتماعي، فخالفه لاقتناعه — بعد قراءة دي مستر — أن الشرط الأول للنجاح إعادة وحدة الاعتقاد إلى العقول كما كان الحال في العصر الوسيط، ولكن بوساطة العلم لا بوساطة الدين، ونشر بهذا المعنى كتابًا بعنوان «مشروع الأعمال العلمية الضرورية لإعادة تنظيم المجتمع» (١٨٢٢) ثم بعنوان «السياسة الواقعية» (١٨٢٤) يعلن فيه أن فلسفة القرن الثامن عشر القائمة على حرية الرأي وسلطة الشعب، فلسفة مفيدة في النقد والهدم عقيمة في الإنشاء؛ لأن هذين المبدأين نقديان لا منظمان، وأن الواجب قبل كل شيء وضع مذهب علمي شامل تقوم عليه سياسة واقعية تمتنع معها حرية الرأي كما تمتنع في الرياضيات أو العلم الطبيعي، إذ يتبين منها أن العلاقات الإنسانية خاضعة لقوانين، وأن النظام الاجتماعي متضامن مع جملة الحضارة كما تبدو في العلم والفن والصناعة، فيستقر المجتمع على خير حال، وذلك هو البرنامج الذي سيعمل فيلسوفنا على تحقيقه.

بدأ إذن بتحرير موسوعة العلوم الواقعية والمحاضرة فيها (١٨٢٦) فأقبل على الاستماع إليه جمهور من العلماء، ولكنه ما ألقى ثلاث محاضرات حتى انتابته أزمة عقلية ترجع إلى مزاجه العصبي وإرهاق العمل وشواغل الحياة، فعنيت به زوجته حتى أعادت إليه اتِّزانه، فاستأنف محاضراته في يناير ١٨٢٩، وأنفق عشر سنين (١٨٣٢–١٨٤٢) في إخراج كتابه الأكبر «دروس في الفلسفة الواقعية» في ستة مجلدات يعرض فيه وقائع العلوم وقوانينها ومناهجها عرضًا منظمًا، ثم نشر كتيبًا بعنوان «مقال في الروح الواقعي» (١٨٤٤) هو خير مقدمة لفلسفته، ودعيت هذه المرحلة الأولى في تحقيق برنامجه بالمرحلة العلمية.

ودعيت المرحلة الثانية بالصوفية، بدأت بأزمة عصبية ثانية كان من أسبابها هيامه بسيدة تعرَّف إليها في ١٨٤٤ وتوفيت بعد سنتين، فاتخذ منها مثال «الإنسانية» وكان يتوجه إليها بالفكر والصلاة كل يوم، وصارت «شيطانه» الذي يوحي إليه أثناء تحريره كتابه الكبير الثاني «مذهب في السياسة الواقعية، أو كتاب في علم الاجتماع يضع ديانة الإنسانية» (١٨٥١–١٨٥٤ في ٤ مجلدات)، واختصره في كتاب «التعليم الديني الواقعي» أو عرض موجز للديانة الكلية (١٨٥٢).

(٤) مذهبه: قانون الحالات الثلاث

يرى المذهب الواقعي أن الفكر الإنساني لا يدرك سوى الظواهر الواقعة المحسوسة وما بينها من علاقات أو قوانين، وأن المثل الأعلى لليقين يتحقق في العلوم التجريبية، وأنَّه يجب من ثمة العدول عن كل بحث في العلل والغايات وما يسمى بالأشياء بالذات، ويدلل كونت على نسبية معرفتنا، لا بنقد أفعال العقل كما فعل لوك وهيوم وكنط، بل يعرض ما ظنه تاريخ العقل كما فعل سان سيمون أخذًا عن الدكتور بوردان، فيقول إن العقل مرَّ بحالات ثلاث: حالة لاهوتية، وحالة ميتافيزيقية، وحالة واقعية.

ففي الحالة اللاهوتية كان دأب العقل البحث عن كُنه الكائنات وأصلها ومصيرها، محاولًا إرجاع كل طائفة من الظواهر إلى مبدأ مشترك، وقد وتدرج في ذلك درجات ثلاث: كانت الدرجة الأولى «الفيتشية» Fétiéhismé يضيف فيها إلى الكائنات الطبيعية حياة روحية شبيهة بحياة الإنسان؛ وكانت الدرجة الثانية تعدد الآلهة، وهي أكثر الدرجات الثلاث تمييزًا للحالة اللاهوتية، يسلب فيها عن الكائنات الطبيعية ما كان خلع عليها من حياة، ويضيف أفعالها إلى موجودات غير منظورة تؤلف عالمًا علويًّا، وكانت الدرجة الثالثة التوحيد أي جمع كثرة الآلهة في إله واحد مفارق، وفي هذه الحالة تتسع الشُّقَّةُ ويزداد التضاد بين الأشياء وبين المبدأ الذي تفسر به، وقد بلغت الحالة اللاهوتية أوجَّها في الكثلكة التي تؤلف تأليفًا عجيبًا التفسيرات الفائقة للطبيعة في فكرة إله واحد مدبر للكل بإرادته، فخصائص الحالة اللاهوتية هي أن موضوعها مطلق، وتفسيراتها فائقة للطبيعة، ومنهجها خيالي، هذا من الوجهة النظرية، أما من الوجهة العملية فقد كانت المعاني اللاهوتية أساسًا متينًا مشتركًا للحياة الخلقية والاجتماعية، وكانت هذه المرحلة الأولى مرحلة السلطة، سلطة الكهنة وسلطة الملوك.

وفي الحالة الميتافيزيقية يرمي العقل كذلك إلى استكناه صميم الأشياء وأصلها ومصيرها، ولكنه يستبدل بالعلل المفارقة عللًا ذاتية يتوهمها في باطن الأشياء، وما هي إلا معانٍ مجردة جسمها له الخيال فقال: العلة أو القوة الفاعلية والجوهر والماهية والنفس والحرية والغاية وما إليها، والميل الذي ساقه في الحالة السابقة من الفيتشية إلى تعدد الآلهة فإلى التوحيد، يسوقه هنا أولًا إلى الاعتقاد بقوى بعدد طوائف الظواهر، مثل القوة الكيميائية والقوة الحيوية، ثم إلى إرجاع مختلف القوى إلى قوة أولية هي «الطبيعة»؛ لذا تبلغ هذه الحالة أوجها في مذهب وحدة الوجود الذي يجمع في «الطبيعة» جميع القوى الميتافيزيقية، وكل الفرق بينها وبين الحالة السالفة أن المجرد يحل محل المشخص، ويحل الاستدلال محل الخيال.

أما الملاحظة فثانوية فيها جميعًا، والحالة الميتافيزيقية فترة انتقال وأداة انحلال، هي فترة نقد عقيم ولكنه ضروري، إذ يتناول الاستدلال المعاني اللاهوتية فيبين التناقض فيها، وإنما كان العقل في هذه الحالة يضع معاني أو قوى موضع الإرادات المتقلبة، فإنه يضعف من سلطان القوى المفارقة، هذا من الوجهة النظرية، أما من الوجهة العملية فيبدو الانحلال في انتشار الشك والأنانية، فيفصم الفرد الرباط الذي يربطه بالمجتمع، ويثقف العقل على حساب العاطفة، ويتصور الاجتماع ناشئًا من تعاقد الأفراد، وتقام الدولة على مبدأ سلطة الشعب، ويحكمها القانونيون.

وفي الحالة الواقعية يدرك العقل امتناع الحصول على معارف مطلقة، فيقصر همه على تعرف الظواهر واستكشاف قوانينها وترتيب القوانين من الخاص إلى العام، فتحل هنا الملاحظة محل الخيال والاستدلال، ويستعاض عن العلل بالقوانين أي العلاقات المطردة بين الظواهر، فيكون موضوع العلم الإجابة عن سؤال «كيف» لا عن سؤال «لم» وتكون الحالة الواقعية مختلفة عن الحالتين الأخريين في العناصر الثلاثة جميعًا التي هي الموضوع والتفسير والمنهج، هذه الطريقة هي التي أفلحت في تكوين العلم، ويجب أن يحل العلم الذي تولَّد عنها محل الفلسفة: فكلما أمكن معالجة مسألة بالملاحظة والاختبار انتقلت هذه المسألة من الفلسفة إلى العلم واعتبر حلها نهائيًّا، أما المسائل التي لا تقع تحت الملاحظة فهي خارجة عن دائرة العلم، ويدل تاريخها على أنها لم تتقدم خطوة واحدة منذ أن وضعت، فهو ينطق بأنها غير قابلة للحل، كما أن نجاح العلم الواقعي يقضي بإمكانه وبأنه المجال الحقيقي للعقل، هذا من الوجهة النظرية، أما من الوجهة العملية فتمتاز الحالة الواقعية بقيام علم الاجتماع، وسيأتي الكلام عليه.

هذه الحالات الثلاث متنافرة، ونحن نجدها تتعاقب في كل إنسان، ففي الحداثة نقنع بسهولة بالتفسيرات اللاهوتية، وفي الشباب نقتضي عللًا ذاتية، وفي سن النضج نعول في الأكثر على الوقائع، غير أن هذا التنافر لا يمنع من التقارن؛ فالشخص الواحد قد يقبل تفسيرات لاهوتية أو ميتافيزيقية في بعض الموضوعات، مع قبوله العلم الواقعي في موضوعات أخرى هي على العموم أقل تعقيدًا، وأهل العصر الواحد بنوع خاص نرى بعضهم على حالة وبعضًا آخر على حالة أخرى، وكذلك شعوب الأرض ليسوا كلهم على درجة واحدة من رقي العقل على أن القانون الكلي يبقى صادقًا إذا اعتبرنا الحالة الغالبة في شعب معين وعصر معين؛ فإننا حينئذٍ نرى اللاهوت ينجم أولًا، ثم نرى الميتافيزيقا تعارضه، وأخيرًا يولد العلم الواقعي الذي هو وحده قادر على البقاء؛ لأن الحالتين السابقتين لما كانتا قائمتين على الخيال كانتا دائمًا مبعث ظنون جديدة ومناقشات جديدة، على حين أن العلم يستند إلى الواقع فيجمع العقول على وحدة الرأي ويحل محلهما، لا يتكلف في ذلك محاربتهما بل يتركهما تسقطان من تلقاء ذاتهما.

ولما كانت التجربة محدودة دائمًا، فسيظل دائمًا كثير من الظواهر خارج علومنا، ولما كانت الظواهر متباينة، فيمتنع رد العلوم بعضها إلى بعض، أو رد كثرة القوانين إلى قانون واحد، بل إن في كل علم فروعًا مستقلة، في علم الطبيعة وفي علم النبات وعلم الحيوان، ولا يمكن الأخذ بنظرية لامارك في تطور الأنواع الحية بعضها إلى بعض، فلا يمكن أن تنتهي الحالة الواقعية إلى وحدة مطلقة، كالله في الحالة اللاهوتية، وكالطبيعة في الحالة الميتافيزيقية، فالفلسفة الواقعية جملة القوانين المكتسبة فعلًا بالتجربة، لا جملة قوانين الوجود، غير أننا إذا لم نستطع البلوغ إلى وحدة موضوعية، فبوسعنا أن نبلغ إلى وحدة ذاتية تقوم في تطبيق منهج واحد بعينه في جميع ميادين المعرفة، فننتهي إلى تجانس النظريات وتوافقها، ومن ثمة إلى علم واحد، فالمنهج الواقعي يحقق الوحدة في عقل الفرد، ويحققها بين عقول الأفراد، وهكذا تصير الفلسفة الواقعية الأساس العقلي للاجتماع، ومن هذه الوجهة تجد في معنى الإنسانية المقابل الوحيد الممكن لمعنى الله ولمعنى الطبيعة، وفي الحالة الواقعية الاتصال بين النظر والعمل أوثق منه في الحالتين الأخريين، إذ أن العلم بقوانين الظواهر يسمح بإيجاد الظواهر، بل إن الرغبة في هذا الإيجاد سبب يجعلنا ننتقل إلى هذه الحالة، «العلم لأجل التوقع وبقصد التدبير» ذلك شعار العلم الواقعي؛ لذا يقابل هذه الحالة الصناعة من جهة لكونها عبارة عن استغلال الإنسان للطبيعة، وعلم الاجتماع من جهة أخرى لكونه يكشف لنا عن وسائل التقدم، ولئن كانت الفلسفة الواقعية في غنى عن التفسيرات اللاهوتية والميتافيزيقية، إلا أنها لا تعارضها معارضة مباشرة، بل إنها تعترف باستحالة التدليل على عدم وجود الروحيات كما تقرر استحالة التدليل على وجودها، وبذا تتميز من المذهب الحسي المعروف أو المذهب المادي الذي ينكر الروحيات إنكارًا.

(٥) مذهبه: تصنيف العلوم

الفلسفة الواقعية جملة العلوم الواقعية، ويذكر كونت ستة علوم أساسية مرتبة هكذا: الرياضيات، علم الفلك، علم الطبيعة، علم الكيمياء، علم الحياة، علم الاجتماع، هذه العلوم مكتسبة بالاستقراء، حتى الرياضيات فإنها إنما تعتبر علمًا عقليًّا بحتًا؛ لأن موضوعها من البساطة بحيث نغفل عادة أصله الاستقرائي، ولكن ليس هناك علم عقلي بحت، ومبدأ هذا التصنيف تزايد التركيب وتناقص الكلية، أي النسبة العكسية بين المفهوم والما صدق، فكلما كان المفهوم بسيطًا كان الما صدق واسعًا، والعكس بالعكس، وهذا التصنيف هو أيضًا تصنيف تعقل متناقص وتجربة متزايدة، أي كلما نزلنا درجة قل مجال العقل البحت وازداد شأن التجربة، فالرياضيات في رأس الجدول لا تتبع علمًا أخر ويتبعها باقي العلوم لأن موضوعاتها وقوانينها أكثر بساطة وكلية، وعلم الاجتماع في أخر الجدول يتبع سائر العلوم ولا يسيطر على علم لأن موضوعاته وقوانينه أكثر تعقدًا وتخصصًا، وبالنزول من الرياضيات إلى علم الاجتماع نرى التركيب يتزايد والكلية تتناقص؛ وذلك لأن الرياضيات لا تنظر لغير الكم المجرد، وهو أبسط الأشياء وأقلها تعيينًا، فيضيف إليه علم الفلك معنى القوة فيدرس الأجسام الحاصلة على قوة جاذبة وهي الأجرام السماوية، وعلم الطبيعة يضيف الكيف إلى القوة فيدرس القوى المتمايزة بالكيف، كالحرارة والضوء، وتضيف الكيمياء الخصائص الملازمة لكل نوع كيميائي من الأجسام، ويضيف علم الحياة إلى المادة اللا عضوية التركيب العضوي والظواهر الخاصة به، ويضيف علم الاجتماع ما ينشأ بين الأحياء من روابط مستقلة عن تركيبها، ولئن كانت جميع العلوم محصلة بمنهج واحد كما سبق القول، إن هذا المنهج يتعدل في كل علم تبعًا لموضوع هذا العلم: فالرياضيات، أو بالأحرى الحساب؛ لأنه أكثر بساطة وكلية من الهندسة والميكانيكا، يتضمن شروط العلم بالإطلاق أي جميع أنواع التحليل والاستدلال، بحيث تعود العلاقات الرياضية فتظهر في العلاقات المعقدة وهذا وجه التجانس بين العلوم، وعلم الفلك يعلمنا فن الملاحظة؛ فإنه يراجع بالاستقراء فروضًا يضعها بالقياس، ويعلمنا علم الطبيعة فن التجربة، وتعلمنا الكيمياء فن التصنيف، ويعلمنا علم الحياة الطريقة المقارنة، ويعلمنا علم الاجتماع الطريقة التاريخية، وكلما كان موضوع العلم بسيطًا كليًّا كانت الطريقة القياسية متقدمة فيه على الطريقة الاستقرائية، وأخيرًا إن هذا الترتيب المنطقي مطابق لتدرج ظهور العلوم أو بعبارة أدق لتكونها تكونًا واقعيًّا، فإن الحالات الثلاث تبدو في تاريخ كل علم، فكلما كان موضوع العلم أعقد استغرق وقتًا أطول في اجتياز هذه المراحل؛ لذا كانت العلوم المجردة هي التي تبلغ أولًا المرحلة النهائية، ولا تبلغ إليها العلوم المشخصة إلا فيما بعد.

نلاحظ على هذا التصنيف أربع ملاحظات: الأولى أنه يبدأ بالكم، وهناك معانٍ أكثر منه بساطة وكلية هي المعاني المعروضة في المنطق والميتافيزيقا، ولكن كونت لا يرى أن للعقل موضوعًا خاصًّا ولا مظهرًا إلا في موضوع، ويذهب في هذا السبيل إلى حد إنكار استخدام الإشارات في الرياضيات بدل الكميات وإنكار حساب الاحتمالات لأنه عبارة عن إنكار فكرة القانون، وإنكار كل تفسير يجاوز المشاهد، مثل تفسير انتشار الضوء بالتموج أو غيره، وتفسير أصل الأنواع الحية بالتطور، وكل وجود لا يقع تحت الحس، مثل وجود الأثير أو الذرات، ويدعو كل هذا ميتافيزيقا، فهو يبتر من العلم مقدماته ومبادئه، ويقصي منه فروضًا كثيرة نافعة، الملاحظة الثانية أنه يجعل من الفلك علمًا أساسيًّا ويضعه في المحل الثاني، والواقع أن علم الفلك يتقوم بالميكانيكا وعلم الطبيعة والكيمياء، فهو إذن علم تطبيقي تابع لهذه العلوم، ويجب أن ينزل عن مكانه لعلم الميكانيكا الذي يتخذ من الحركة موضوعًا له، وهي ظاهرة لا يمكن ردها إلى سواها، وهي بادية في جميع الظواهر الطبيعية، الملاحظة الثالثة أنه لا يجعل مكانًا خاصًّا لعلم النفس، بل يقسم كونت دراسة الإنسان بين علم الحياة وعلم الاجتماع حيث يدرس الإنسان في آثاره الخارجية، والواقع أن علم النفس يجيء بينهما متصلًا بالأول موصلًا للثاني، وينكر كونت إمكان ملاحظة النفس فيقول: إننا نلاحظ جميع الظواهر بالعقل، فبأي شيء نلاحظ العقل نفسه؟ لا يمكن قسمة العقل إلى قسمين أحدهما يفكر والآخر يلاحظ التفكير، أما الانفعالات النفسية فتمكن ملاحظتها لأنَّ لها عضوًا غير عضو العقل، ومعنى هذا أن المادة لا تنعكس على نفسها، ولما كان العقل عند كونت وظيفة عضوية فهو لا ينعكس على نفسه ولا يعلم أفعاله، ولكن هذا الانعكاس وهذا العلم واقعان، وعلم النفس قائم، فالمنطق يقضي بأن تنكر عضوية العقل، وقديمًا استدل أرسطو على روحانية النفس بانعكاسها على ذاتها، الملاحظة الرابعة أن كونت ينكر بذلك أصالة الظواهر النفسية، وأن جدوله إذ يحتم تبعية العلم الأدنى للعلم الأعلى، يحتم تبعية الظواهر النفسية والظواهر الاجتماعية للرياضيات، وهو لم يبين هذه التبعية، ولم يبين الفرق بينه وبين الماديين، فما المذهب الواقعي في حقيقة الأمر إلا المذهب المادي، مع استدراك متواضع بصدد الروحيات لا يبدو له أي أثر عملي.

(٦) مذهبه: علم الاجتماع

هذا العلم من إبداع أوجست كونت، وقد خصص له ثلاث مجلدات من كتابه «دروس في الفلسفة الواقعية»، دعاه Saciologie فذاع هذا الاسم وعرفه بأنه «العلم الذي يتخذ له موضوعًا ملاحظة الظواهر العقلية والأخلاقية التي بها تتكون الجماعات الإنسانية وتترقى»، وكثيرًا ما يسميه بالعلم الاجتماعي الطبيعي Physique Saciale ليدل على منهجه الاستقرائي وليميز بينه وبين علم السياسة الذي ينهج نهجًا قياسيًّا ابتداء من فكرة الطبيعة الإنسانية أو من غاية للدولة توضع أولًا، وهذا لا يمنع من أن يتضمن علم الاجتماع مسائل جوهرية من علم النفس والاقتصاد السياسي والأخلاق وفلسفة التاريخ، والعلم فيه لأجل العمل، فإننا — ولو أن الإنسانية تنمو طبقًا لقوانين ضرورية — نستطيع استعجال التقدم وتلطيف الأزمات بتوفير الظروف الملائمة؛ وذلك إما بتعديل ظروف الحياة المادية كالتربة الغذاء، أو بتعديل ظروف الحياة الاجتماعية بالأخذ عن حضارات مختلفة أو بتدبير حكومي، ويقسم أوجست كونت علم الاجتماع إلى قسمين أحدهما الاجتماع الساكن S. statique يفصح عن الشروط الدائمة لوجود المجتمع أي الأوضاع الملازمة له، والقسم الأخر S.dynamique يفحص عن قوانين نمو المجتمع أي تطور هذه الأوضاع، والفكرة الأساسية في القسم الأول هي فكرة النظام، وفي القسم الثاني فكرة التقدم، والقسمان مرتبطان ارتباطًا وثيقًا، إذ أن النظام والتقدم مترتبان الواحد على الأخر، وهذا ما تغفل عنه المدرسة الرجعية والمدرسة الثورية على السواء، الأولى تتمسك بالنظام، والثانية تدعو إلى التقدم، وليس هذا التقسيم خاصًّا بعلم الاجتماع، ولكنه مشترك بين العلوم، ففي الرياضيات تنظر الهندسة إلى العالم في حالة السكون، وتنظر إليه الميكانيكا في حالة الحركة، وفي عالم الجماد ينظر علم الطبيعة إلى القوى الطبيعية في حالة التوازن، وتنظر إليها الكيمياء في حالة الفعل، وفي عالم الحياة يدرس علم التشريح تركيب الأعضاء فيمثل السكون، ويدرس علم الفسيولوجيا وظائف الأعضاء فيمثل الحركة.

من وجهة الاجتماع الساكن يجب أولًا الفحص عن أصل الاجتماع، لا يمكن أن يكون هذا الأصل حسبان الفرد للربح الذي يعود عليه من العيش مع أمثاله، إذ أن الربح لا يبين إلا إذا حصل الاجتماع ومضى عليه وقت كافٍ، إنما الدافع إلى الحياة المشتركة غريزة مستقلة عن حساب الفرد، ونحن نرى العاطفة تسبق المعرفة في كل ميدان، على أن الأنانية أقوى في الأصل من هذه الغريزة الغيرية، ثم تخضع لها بنمو العقل والتعاطف، وإنما ينمو العقل والتعاطف بالحياة الاجتماعية، وإن الفلسفة الواقعية لتعاون على ذلك بتقريرها أن نمونا كله يتحقق في المجتمع وبوساطته، وحالما يوسع المرء عاطفته حتى تستوعب النوع الإنساني أجمع، يحصل على رضا حاجته للخلود بأن يعتبر بقاء النوع امتدادًا لحياته الخاصة، ومتى وجد المجتمع كان وحدة مؤلفة من أجزاء متفاعلة حتى إن أحدها لا يتغير إلا وتتغير أجزاء أخرى، أجزاء المجتمع أو شروط وجوده طائفتان: مؤسسات ووظائف، أي شروط موضوعية وشروط ذاتية؛ ذلك أنه لما كان المجتمع لا يصير ممكنًا إلا بتغلب الغيرية، فقد مسَّتِ الحاجة إلى ثلاث مؤسسات لتحقيق هذه الغلبة: فأولًا ومن حيث الحياة المادية نجد الملكية شرطًا أساسيًّا، إذ أن المالك ينتج أكثر مما يستهلك فيدخر الفرق لفائدة الغير، وثانيًا ومن حيث الحياة الأخلاقية نجد الأسرة وهي الوحدة الاجتماعية وأوثق الجماعات حتى إن تسميتها اتحادًا أصح من تسميتها اجتماعًا، فيها تظهر البذور الأولى للاستعدادات التي تعين المجتمع، وفيها يتعلم الفرد أن يجاوز نفسه ويسود التعاطف على الغرائر الشخصية، فهي ضرورية كتمهيد بين الفرد والمجتمع من وجهين: أحدهما أنها تلاءم ملاءمة طبيعية بين الطباع والأخلاق المختلفة الناشئة من استعدادات مختلفة؛ فإن الاجتماع يقتضي تنوع الأفراد واتفاقهم في آنٍ واحد، والوجه الآخر هو أن الأسرة هي المدرسة التي تولد فيها العواطف الاجتماعية متمثلة في التضامن يبدو في تعاون الوالدين على تربية البنين، وفي الطاعة تبدو في انصياع البنين لأوامر الوالدين الرامية إلى قمع الأنانية، وفي الاقتصاد يبدو في تدبير التراث العائلي احتياطًا للمستقبل، وثالثًا ومن حيث الحياة العقلية نجد اللغة وسيلة الاتصال بين الأفراد، فيشتركون في الأفكار والعواطف ويؤلفون رأس مال عقلي كما تجمع الملكية رأس مال مادي، ومما تجب ملاحظته أن الصلة وثيقة بين الأفكار والأخلاق من جهة وبينها وبين المؤسسات من جهة أخرى، بحيث لا يسع أية سلطة، رجعية كانت أو ثورية، أن تحصل على نتيجة ما بفرض مؤسسات مغايرة للأفكار والأخلاق السائدة، ولئن كانت المؤسسات مصدر تأثير في الأفكار والأخلاق، إن هذا التأثير يقتضي فترة من الزمن هادئة، ويبدو خاصة في طفولة النوع الإنساني، وأما الوظائف فهي وجوه النشاط المقتضاة للحياة الاجتماعية، ومن هذه الوجهة نجد أن الخاصية الجوهرية لكل مجتمع هي تنوع الأعمال وتناسقها، ولهذه الخاصية أساس هو جملة القوى الاجتماعية من مادية وعقلية وخلقية، ولها مدبر هو السلطة، ولها رباط موحد هو الدين؛ فالقوة المادية تقوم على الكثرة والثروة، وتخص رجال الحرب ورجال الصناعة، والقوة العقلية ترجع إلى العلماء والكهنة، والقوة الأخلاقية مزية المرأة التي هي أكبر عامل على نمو العواطف الغيرية، إلا أن المرأة لا تزاول هذه القوة إلا في الأسرة بسبب ضعفها الطبيعي، والسلطة ضرورية لكل مجتمع، والدين ضروري كذلك، وسنتكلم عنه فيما بعد.

ومن وجهة الاجتماع المتحرك يمكن رد أقوال كونت فيه إلى أربعة قوانين: الأول قانون التطور نفسه، والثلاثة الأخرى خاصة بقوانا الثلاث وهي العقلية والعملية والعاطفية، فأما التطور فخاصية الإنسان لأنه من دون سائر الحيوان حاصل على قوى قادرة على التقدم المتصل، لكن تقدم الإنسانية لا يتجه نحو غاية مطلقة، والفلسفة الواقعية لا تعترف بالمطلق، بل نحو تكامل الحالات المكونة للحياة الاجتماعية، كما يتكامل الجنين بمروره بسلسلة معينة من الحالات وهذا التقدم في تاريخ الإنسانية ضروري مطَّرد، كما هو شأن كل قانون طبيعي، دون أن يصل أبدًا إلى الكمال المطلق، وأما قانون التقدم العقلي فهو قانون الحالات الثلاث المذكورة آنفًا، وعليه يتمشى التقدم العملي، فإن الحالة اللاهوتية تقابلها حالة عسكرية، وتقوم أهمية هذه الحالة فيما تطبع عليه الناس من نظام واطِّراد، وهما الشرطان الضروريان لكل كيان سياسي، وفيها تتركز القوى حول غايات مشتركة مسيسة الحاجة، وما كان إلا لقوة خارجية أن تكون الوحدة وتصونها، فالحرب هي التي تتيح النمو للمجتمع في مرحلته الأولى، وتستتبع الحرب الرق لضرورة اضطلاع الرقيق بالأعمال المادية كي يتوفر المحاربون على أعمالهم الحربية، ويقابل الحالة الميتافيزيقية فترة تئول فيها السلطة إلى الفقهاء فيميلون بالحكم من الملكية إلى الديمقراطية، وتتحول العسكرية من هجومية إلى دفاعية، ويضعف الروح العسكري شيئًا فشيئًا ويقوى روح الإنتاج، وتحاول الطبقة الوسطى التقدم إلى المحل الأول وتطالب بحقوق سياسية، ويحاول الفقهاء إيجاد التوازن بين الدعاوى المختلفة وهذه حالتنا الراهنة، وهي حالة انتقال غامضة مضطربة، ويقابل الحالة الواقعية الحالة الصناعية، يرجع فيها إلى القوى المنتجة تعيين نظام المؤسسات وتوزيع السلطات، فتحل المسائل الاجتماعية محل المسائل السياسية، ويسير العمال مع ميل الفلسفة الواقعية إلى تقديم الواجبات على الحقوق، حتى يتركز اهتمام الجميع في حل المعضلة الاجتماعية الكبرى التي هي توفير العمل والنمو الروحي للجميع، وأما قانون التقدم العاطفي فيمضي من الأنانية إلى شيء من الغيرية، ثم لا تزال الغيرية تتقدم حتى تسود سيادة تامة تمشيًا مع القانونين الآخرين؛ فاتحاد الأفراد في الأسرة، واتحاد الأسرة لأجل الحرب، وتعاون الجميع لأجل ازدهار الصناعة، تلك مراحل نمو الغيرية.

هذا القانون الأخير صلب علم الأخلاق، ولم يكن كونت عالج هذا العلم إلا في الفصل الأخير من علم الاجتماع، ثم اقتنع بأهميته العظمى لتعزيز العاطفة الاجتماعية، واعتزم أن يجعل منه علمًا قائمًا برأسه يكون سابع العلوم الرئيسية، فيصير هو من ثَمَّةَ أعقد العلوم، ونصير سائر العلوم أجزاء له، وفي رأيه أن المهمة التي يجب على الفلسفة الواقعية أن تعمل لها هي محو فكرة «الحق» الراجعة إلى أصل لاهوتي من حيث إنها تفترض سلطة أعلى من الإنسان، وحصر الأخلاق كلها في فكرة «الواجب» ذلك «الميل الطبيعي إلى إخضاع النزعات الذاتية لصالح النوع أجمع» بحيث يصير شعارنا «الحياة لأجل الغير».

إن فكرة الواجب آنية من الروح الاجتماعي الذي تحققه الفلسفة الواقعية إذ تبين الفرد عضوًا من أعضاء النوع، وتستنبط قوانين سيرته من النظام الكلي للأشياء لا من مصلحته الخاصة فحسب، وأرفع المعاني في ميدان الأخلاق معنى الإنسانية بما هي كذلك، أي الإنسانية التي يتوقف تقدمها على تضافر الأفراد والجماعات، والعلم الواقعي مفيد جدًّا لعلم الأخلاق إذ من المهم جدًّا تعيين مبلغ التأثير المباشر وغير المباشر لكل ميل وكل فعل في الحياة الفردية والاجتماعية.

(٧) مذهبه: ديانة الإنسانية

خطا كونت خطوة أوسع فبلغ إلى الدين، إنه ينعت دينه بالواقعي، والحقيقة أن هذا الدين يكاد يكون كله ثمرة العاطفة والخيال في تكوينه والإحساس به، كان فيلسوفنا قد وضع العقل في المحل الأول يستكشف قوانين الوجود ويؤثر في العاطفة فيحدث أخلاقًا ومؤسسات اجتماعية، وها هو ذا الآن يرى أن قيمة العقل تنحصر في نتائجه العملية، وأن هذه النتائج تتوقف على الظروف الخارجية في حين أن العاطفة توفر لنا رضًا باطنًا مباشرًا، فيقدم العاطفة إلى المحل الأول ويطلب إليها إنارة العقل فينتهي إلى مثل الحالة اللاهوتية التي اعتبرها طفولة النوع الإنساني، حتى إنه يتبع في ذلك منهجًا يخالف المنهج العلمي فينقطع عن كل جديد في العلم والأدب ويتوفر على الموسيقى والشعر الإيطالي والإسباني، ويطالع كتاب «التشبه بالمسيح» فيتسبدل الإنسانية بالله في كل موضع منه ويستعين به على تعمق فكرة الإنسانية والإخلاص لها على مثال الصوفيين، ويلزم من ذلك تقديم الفن على العلم من حيث إن مصدر الفن العاطفة وإن الفن يصور مُثُلًا عليَا تهذب أفكارنا وغرائزنا، وقد حدا هذا الموقف ببعض تلاميذه الأقربين إلى اعتزاله وعدِّه خارجًا على الفلسفة الواقعية الخالصة، بيد أن من الحق أن نذكر أن علم الاجتماع الساكن قد عد الدين أحد الأوضاع الملازمة للمجتمع، وأنه كان من المتعين على كونت الاحتفاظ به مع الملاءمة بينه وبين المذهب الواقعي، فلا يمكن أن يقال إن الدين خاطر طارئ على فكره أثارته الأزمة العصبية الثانية، ولسنا ندري على أية صورة كان يجيء الدين المتسق مع العقل الواقعي، أما الصورة التي رسمها كونت فنجملها فيما يلي:

الدين خاصية النوع الإنساني، وتعريفه أنه المبدأ الأكبر الموحد لجميع قوى الفرد ولجميع الأفراد فيما بينهم؛ وذلك بنصب غاية واحدة لجميع الأفعال، وقد سبق القول أن معنى الإنسانية أرفع المعاني من الوجهة الذاتية، وأنه هو الذي يكفل وحدة المعرفة إذ تحصل هذه الوحدة بالنظر إلى العالم من حيث علاقاته بالإنسانية، وهذا المعنى واقعي ينطق به التاريخ، فليس يوجد الفرد إلا بفضل الماضي، وليس يستمد أسباب الحياة المادية والعقلية والخلقية إلا من الإنسانية، بحيث نستطيع أن نقول إن الأموات أحياء أكثر من الأحياء أنفسهم، فديانة الإنسانية عبادة الإنسانية باعتبارها «الموجود الأعظم» الذي تشارك فيه الموجودات الماضية والحاضرة والمستقبلة المساهمة في تقدم بني الإنسان وسعادتهم، والعبادة مشتركة وفردية: تقوم المشتركة في أعياد تذكارية تكريمًا للمحسنين إلى الإنسانية، فيملؤها السرور وعرفان الجميل، وقد وضع كونت «تقويمًا واقعيًّا» دل فيه على كل يوم وكل شهر بأسماء الرجال الذين امتازوا بالعمل على تقدم الإنسانية، وفي العبادة الفردية يتخذ الأشخاص الأعزاء على الفرد نماذج للمثل الأعلى، ولما كانت كرامة الفرد تقوم في كونه جزءًا من «الموجود الأعظم» كان واجبه أن يوجه جميع أفكاره وأفعاله إلى صيانة هذا الموجود وإبلاغه حد الكمال، وهكذا تنطوي الغيرية على الواجب الأعظم وعلى السعادة العظمى جميعًا.

ويعهد بتدبير العبادة التربية إلى هيئة إكليريكية أعضاؤها فلاسفة شعراء أطباء معًا، مهمتهم استكشاف ما يكفل خير «الموجود الأعظم» وتحقيق ما حققته الكنيسة في العصر الوسيط أو أرادت تحقيقه من أفكار جليلة عميقة، ولما كانت «الواقعية» قد تحررت من الأوهام القديمة فلا بأس عليها أن تعود إلى التصور الفيتشي للطبيعة فتضيف إلى الأشياء نفسًا وحياة، وهذه الإضافة مصدر قوة للغة والفن وكل ما من شأنه أن يفيد في بقاء «الموجود الأعظم» ونمائه، وتعتبر السماء أو الهواء «الوسط الأعظم» الذي تكونت فيه الأرض التي هي «الفيتش الأعظم» فيؤلفان مع «الموجود الأعظم» الثالوث الواقعي، وبعد الفلاسفة الذين هم بمثابة الدماغ من الجسم، يأتي النساء وهن بمثابة أعضاء العاطفة، وواجبهن إثارة عواطف الحنان والغيرية الكفيلة باستكمال «الموجود الأعظم»، وبعدهن يجيء رجال الصناعة والمال وهم بمثابة أعضاء التغذية، وأخيرًا يجيء العمال وهم بمثابة أعضاء الحركة.

تلك هي ديانة الإنسانية مسخ بها كونت الديانة المسيحية، ونصب نفسه كاهنها الأكبر، ووضع لها شعارًا: المحبة كمبدأ، والنظام كأساس، والتقدم كغاية، فكان له بعض الأشياع في فرنسا وإنجلترا والسويد وأمريكا الشمالية والجنوبية، تبعوا في كل بلد كاهنًا أكبر وأقاموا معابد، ولا نظننا بحاجة إلى التنبيه على غرابتها وتهافتها، ولا على ضعف النظرية الأساسية في المذهب وهي نظرية الحالات الثلاث، فقد أقر كونت أن الرياضيات وجدت واقعية أول ما وجدت، وقليل من التفكير يدلنا على أن الإنسان ما كان بقي على سطح الأرض لو لم يتعرف خصائص الأشياء منذ أول أمره فيفيد من النافع ويحتاط للضار ويصطنع الأسلحة والآلات، فالحالات الثلاث أولى بها أن تكون متعاصرة متلازمة مع تفاوت فيما بينها في كل عصر وكل فرد، وأن يكون لكل منها قيمته، ولكن كونت اقتنع بنسبية المعرفة ورأى أن يبررها بهذه النظرية، وبهره العلم التجريبي فحصر فيه كل الحقيقة وجاءت فلسفته الواقعية هي الفلسفة المادية بالرغم من تحفظه إذ أنها تؤدي إلى النتيجة نفسها وهي إنكار الميتافيزيقا، ونحن نقصر فضل كونت على طائفة كبيرة من الأفكار الجزئية العميقة في العلوم والاجتماع.

(٨) جوزيف پرودون (١٨٠٩–١٨٦٥)

نختم هذا الفصل بذكر اثنين من الاشتراكيين أرادا أن ينظما المجتمع تنظيمًا واقعيًّا، أولهما پرودون كان عامل طباعة ولكنه تثقف بالقراءة الكثيرة، ثم كتب، فجاءت كتاباته مزيجًا يعوزه الوضوح والانسجام من ملخصات قراءاته ومن آراء خاصة، أهم كتبه: «ما الملكية؟» (١٨٤٠) و«خلق النظام في الإنسانية» (١٨٤٣) و«المتناقضات الاقتصادية» (١٨٤٦) و«العدالة في الثورة الفرنسية وفي الكنيسة» (١٨٥٨) و«الحرب والسلم» (١٨٦١)، وهو ينتقد فيها على السواء مذهب الحرية والمذهب الشيوعي، يقول إن الحرب ضرب من حكم الله ويشيد بالسلم، يحمل على الاستبداد ولا يؤمن بالاقتراع العام …

مذهبه الخاص قائم على فكرة العدالة، وهو يعرفها بأنها «حقيقة كلية تتجلى في الطبيعة بقانون التوازن، وفي المجتمع بتبادل أساسه تساوي الأشخاص»، ومن فكرة العدالة هذه يستنبط نظامًا اقتصاديًّا يسميه «التعاون» أو «التبادل» ويرجو تحقيقه حين يصل العمال إلى السلطة بفضل الاقتراع العام فيديرون المشروعات والمصارف وغيرها من المؤسسات الاجتماعية بحيث يجعلون لكل عمل مكافأة من جنسه أي على قدره؛ فإن الواجب على كل إنسان أن يعمل لكي يعيش ويحق له أن يقتني ملكًا بنتاج عمله، والملكية سبب من أسباب الحرية، ولكن كل ثروة أو كل ملكية تجيء من غير طريق العمل هي سرقة، كالفائدة على رأس المال، فإن المال عقيم بطبيعته فلا ينبغي أن ينتج ربحًا يتيح لصاحبه الحياة بلا عمل، إن هذا تناقض وإنه منافٍ للعدالة، هكذا كان قد قال أرسطو والمدرسيون، ويوجد عند پرودون أفكار أخرى محافظة، مثل أن الزواج عقد غير قابل للفسخ لأنَّه عبارة عن التوحيد بين الزوجين، وقد كان له أثر عميق في الحركة النقابية والحركة التعاونية والحركة السلمية.

(٩) لويس بلان (١٨١١–١٨٨٦)

ثوري ساهم في ثورة ١٨٤٨ وأسس «مصانع قومية» أخفقت وأدى إخفاقها إلى اضطرابات دموية، هذه المصانع كانت تطبيقًا لمذهب بسطه في كتيبين: أحدهما في «تنظيم العمل» (١٨٤٦) والآخر في «الحق في العمل»، ويرجع مذهبه إلى ما يأتي: لكل إنسان حق طبيعي في أن يحيا، ولا يتحقق هذا الحق إلا بإحدى وسيلتين هما الملكية الخاصة والعمل، أما الملكية الخاصة فيستغلها في المجتمع الرأسمالي نفر من الأغنياء يركزون الثروات في أيديهم ولا يدعون للسواد سوى العمل بأجور دنيئة مع التعرض للعطلة، فيحرمونهم فعلًا حقهم في الحياة، والعلاج الوحيد لهذه الحالة هو أن تتملك الدولة جميع الموارد فتوفر عملًا لكل مواطن وتوزع النتاج على الجميع بالقسطاس، وهذه هي الشيوعية، ولا يدري أصاحبها أنها تجر مساوئ هي شر من مساوئ الرأسمالية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤