الفصل التاسع

المذهب الحسي

(١) إرميا بنتام (١٧٤٨–١٨٣٢)

اعتنق المذهب النفعي، وطبقه في كتابه «المدخل إلى مبادئ الأخلاق والتشريع» (١٧٨٩)، ووضع مشروعًا لسجن نموذجي (١٨٠٢)، وأنشأ مجلة «وستمنستر» (١٨٢٤) للدعوة إلى الإصلاح الدستوري، وكوَّن حزبًا لهذا الغرض، فكان لدعوته أثر كبير في السياسة الإنجليزية، وتم الإصلاح المنشود في سنة وفاته، ودون مذكرات في «المكافأة» وأخرى في «المعاقبة» وأعطاها إلى صديق فرنسي هو إيتين ديمون حرَّرها بلغته ونشرها في كتابين نقلًا إلى الإنجليزية ونشر الأول سنة ١٨٢٥ والثاني سنة ١٨٣٠، وترك لأحد أتباعه مذكرات نشرت بعد وفاته بسنتين بعنوان علم «الأخلاق» deontology.

مذهبه أن الناس يطلبون اللذة ويجتنبون الألم بالطبع، شأنهم في ذلك شأن الحيوان، ولكنهم يمتازون على الحيوان بأنهم يتبعون مبدأ النفعية حيثما يُعملوا العقل، أي إنهم يحكمون بأن الفعل الخير هو الذي يعود بلذة مستمرة أو الذي تزيد فيه اللذة على الألم، وأن الفعل الشرير هو الذي يعود بألم مستمر أو الذي يزيد فيه الألم على اللذة، ولا يمنع من الإقرار بهذا المبدأ سوى الأحكام المتواترة وبنوع خاص العقائد الدينية؛ فالمطلوب التدليل على أن الأخذ به يعود بأكبر قدر من اللذة أو السعادة التي هي مقصد الكل، ولكي يحكم العقل يجب تقدير اللذات بجميع ظروفها والموازنة بينها، تقاس اللذات أولًا من جهة صفاتها الذاتية، وهي: الشدة والمدة والثبات وقرب المنال والخصب (أي القدرة على إنتاج لذَّات أخرى) والنقاء (أي خلوها من أسباب الألم)، وتقاس ثانيًا من جهة عواقبها الاجتماعية، وهي: الخوف الذي يستولي على المواطنين من جراء الجريمة، والقدوة السيئة التي تنشرها بينهم، والاضطراب الاجتماعي الذي تسببه، والقصاص الذي ينزل بالمجرم، فإن القصاص عنصر يدخل في حساب الآلام ويعارض لذة الفعل، فيميل بالمرء إلى اتباع القوانين التي يراها المشرع نافعة لأكبر عدد، كما أن المكافأة وإقرار المواطنين وثناءهم تحمل على ذلك أيضًا مع ما فيه من حرمان وهذه العواقب هامة جدًّا يجب على الفرد مراعاتها لأن منفعة المجموع شاملة للمنافع الفردية ومن ثمة مقدمة عليها؛ ولذا كانت الغاية التي يتعين علينا السعي لتحقيقها هي «أكبر سعادة لأكبر عدد»، وهذا هو العلم الجديد الذي يأتي به بنتام ويسميه بالحساب الخلقي لإجادة الاختيار بين اللذات، ويعتقد أنه يحول به علم الأخلاق وعلم التشريع إلى علمين مضبوطين كالرياضيات، ويعول في التوحيد بين النفع الذاتي والنفع العام على الجزاء الطبيعي للفعل والجزاء القانوني والجزاء الاجتماعي.

وما هذا المذهب إلا مذهب أبيقور وهوبس ومن لف لفهما، وقد كان أفلاطون فطن إلى حساب اللذات والآلام، ولكنه لم يعتبره حسابًا كميًّا مثل بنتام، ولم يرد الخلقية إلى النفعية مثله، إن اللذة والألم يرجعان إلى الكيف لا إلى الكم، ويستحيل قياس القيمة الذاتية للذة ما باعتبار الكم، ويستحيل الموازنة بين لذتين من نوع واحد كلذة التفاح ولذة الخوخ، ويستحيل من باب أولى الموازنة بين لذتين مختلفتين بالنوع، ولا سيما إذا كانت إحداهما حسية والأخرى عقلية أو فنية، كذلك لا يوجد قياس مشترك بين قرب المنال والنقاء، أو بين الشدة والمدة، إلى غير ذلك من خصائص اللذة التي يمتنع اجتماعها للذة بعينها، وإنما يتفق بعضها للذة وبعض آخر للذة أخرى، وهكذا بحيث تمتنع المضاهاة ويمتنع الاختيار.

(٢) جيمس مل (١٧٧٣–١٨٣٦)

إسكتلندي أخذ عن دوجالد ستوارت بجامعة أدنبرى، ثم كان مؤدبًا في أسرة اللورد جون ستوارت، وفي الثلاثين صحبه إلى لندن وأخذ ينشر بعض الرسائل، ثم نشر تاريخ «الهند البريطانية» (١٧١٨) نقد فيه حكومة شركة الهند نقدًا عسيرًا، ولما خلا فيها منصب تقدم له فعين فيه للإفادة من معارفه، وترقى إلى منصب رفيع أكسبه نفوذًا كبيرًا على حكومة الهند، وعرف بنتام وشاركه في مجلته وفي نضاله الدستوري، وكان إلى جانب ذلك يواصل النظر في الفلسفة حتى نشر كتابه «تحليل ظواهر الفكر الإنساني» (١٨٢٩) وقد عرض فيه مذهب تداعي المعاني على صورة أوضح وبمادة أغزر مما جاء عند أراسم درون وديفيد هارتلي اللذين أوحيا به إليه.

في هذا الكتاب يتصور الفكر كما يتصور الآليون الطبيعة؛ فإن هؤلاء يقولون إن الطبيعة مؤلفة من ذرات تأتلف فتكون الأجسام، ويقول هو إن الفكر مؤلف من عناصر بسيطة «نقط شعورية» هي الإحساسات والانفعالات الأولية تأتلف تبعًا لقانون الترابط بالتقارن فتكون سائر الظواهر الفكرية، وقانون التقارن هو القانون الوحيد للفكر، وليس الترابط بالتشابه قانونًا أصيلًا ولكنه يرد إلى الترابط بالتقارن، فالحياة الفكرية خاضعة للآلية، وقوة الترابط تابعة بنوع خاص لقوة ما تهيجه الإحساسات من انفعالات ولتواتر الترابط، وحين يتوثق الائتلاف تتكون في الفكر التصديقات، ولهذه الذرية الفكرية تطبيقاتها في المنطق والأخلاق والتربية؛ فبالترشيع والتربية يمكن تثبيت الروابط التي يراد أن تسيطر على الإنسان، وبالنظر في الأخطاء المتواترة ندرك أنها ناشئة عن الترابط فنتحرر منها ونعمل على أن نحل محلها بالترابط أيضًا آراء جديدة، وهنا يبدو قصور المذهب الحسي؛ فإنه يلجأ إلى الفعل الشخصي بعد استبعاده من النفس، ولا يدل على قيمة خاصة للآراء الجديدة تفضل بها الآراء القديمة ما دامت كلها وليدة الترابط، فلا يبرر مبادئ النظر وقواعد العمل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤