جون ستوارت مل
(١) حياته ومصنفاته
هو ابن جيمس مل (١٥١) وقد دعاه أبوه جون ستوارت باسم اللورد الذي كان مؤدبًا في أسرته، ثقفه أبوه بنفسه، فأبدأه اليونانية في الثالثة من عمره، وما بلغ الثامنة حتى كان يقرأ هيرودوت ومذكرات سقراط لأكسانوفون وتراجم الفلاسفة لديوچين لايرث بل بعض محاورات أفلاطون، وقد قال هو إن كل هذا كان متيسرًا، ثم أخذ يتعلم اللاتينية والحساب إلى جانب لغته طبعًا، ثم قرأ التاريخ العام في كتب مفصلة، وهذا أدعى إلى فهمه وحفظه من المختصرات التي تعلم في المدارس، وبعد دراسة قسم كبير من الأدبين اليوناني واللاتيني شرع يدرس المنطق بنفسه، وكان يراجع أباه فيه أثناء النزهة كما كان يفعل في سائر المواد، ثم قرأ كتبًا في الاقتصاد السياسي، ودرس ديموستين وأفلاطون، وفي الثامنة عشرة قرأ الكتب الأربعة الأولى من منطق أرسطو ولخصها، ودرس القانون، وقرأ كتب بنتام وكوندياك ولوك وهلفسيوس وهيوم والأسكتلانديين، فجمع لأبيه كثيرًا من المواد لكتابه «تحليل الفكر الإنساني»، وانضم إلى فريق الشباب الذين كانوا يعملون على نشر أفكار بنتام وجيمس مل الفلسفية والسياسية ومذهب هارتلي في تداعي المعاني، وكان قد دخل في خدمة شركة الهند الشرقية منذ السابعة عشرة، فترقى في مناصبها حتى بلغ آخر منصب شغله أبوه، فكان يقوم بأعماله العقلية في أوقات فراغه، وانتخب عضوًا بمجلس النواب سنة ١٨٦٥ وبقي فيه ثلاث سنين كان خلالها موضع تقدير كبير، ولكن خصومه أخذوا عليه آراءه في الدين فلم يجدد انتخابه.
كتب كثيرًا في المجلات والجرائد، ومنها مجلة «وستمنستر» التي كان يحررها بنتام وچيمس مل، وقد جمع مقالاته الكبرى في عدة مجلدات بعنوان «مقالات ومناقشات»، ونشر كتبًا عدة نذكر أهمها: كتاب «المنطق القياسي والاستقرائي» (١٨٤٣) كان له صدى كبير في أوربا؛ و«مبادئ الاقتصاد السياسي» (١٨٤٨) يجعل فيه من هذا العلم جزءًا من علم الاجتماع، ويعرف ما في الاشتراكية من وجه حق و«مقال في الحرية» (١٨٥٩) يدافع فيه عن الحرية الشخصية متابعًا الميل العام في إنجلترا ومتأثرًا بفرنسا، فقد كان قضى فيها سنة (١٨٢٠–١٨٢١) فأحبها وأحب أدبها، ولما شبَّت فيها ثورة ١٨٣٠ قصد إلى باريس وأعجب بما رآه من روح النهضة الاجتماعية عند رجالها الإصلاحيين، وكتاب «في النفعية» (١٨٦١) يدافع فيه عن مبدأ المنفعة في العمل ويعرض لتصحيح مذهب بنتام وتكميله، و«مراجعة فلسفة هاملتون» (١٨٦٥) ينقد فيها المذهب الحدسي، و«أوجست كونت والفلسفة الواقعية» (١٨٦٥) تعقيب على الفيلسوف الفرنسي يقبل آراءه في المعرفة الإنسانية ولا يتابعه في آرائه السياسية والدينية بل يعتبرها إضافات مستقلة عن الأولى كل الاستقلال، و«ترجمته لحياته» (١٨٧٣)، ثم «محاولات في الدين» نشرت بعد وفاته (١٨٧٤).
(٢) المذهب الحسي
كان مل يعتقد أن المذهب العقلي هو المذهب الحدسي كما يوجد عند هاملتون، وأن المذهب العقلي يعني التعويل على الرأي الخاص كيفما كان، ويحمل على التكاسل والمحافظة على القديم بأن يحسم كل مشكلة بقوله إن العقل يرى كذا أو يجد في نفسه كذا وكذا من المعاني والمبادئ، فعارضه بالمذهب التجريبي القائل إن الأفكار آتية كلها من التجربة، وإن جميع النسب والعلاقات تفسر بقوانين التداعي، والواقع أن هذا المذهب يعجز عن تفسيرها، فإنه يقضي بأننا لا ندرك سوى ما يقع تحت الحس أو الباطن على ما يقع، فيدع الظواهر المدركة منفصلة متعاقبة تعاقب أفعال الآلة المادية، فلا يجد مل — لكي يفسر اعتقادنا بالجواهر — إلا أن يقول إن هذا الاعتقاد مبني على «إمكان مستمر للإحساس في ظروف معينة»: مثال ذلك أني «أرى ورقة بيضاء على منضدة، ثم أنتقل إلى حجرة أخرى ومع أني انقطعت عن رؤية الورقة فإني موقن أنها ما تزال في موضعها»؛ وذلك لأن باستطاعتي أن أعود فأراها، وباستطاعتي أن أدرك ظواهر معينة متى أدركت ظاهرة لها في تجربتي، وهذا ما يسمى شيئًا أو جسمًا، كذلك «الاعتقاد بوجود نفسي حتى حين لا يكون هناك إحساس ولا يكون تفكير ولا شعور بوجودها يرجع إلى الاعتقاد بإمكان مستمر للتفكير والشعور في أحوال معينة»، على أن استوارت مل يعترف هنا بأنه لا يفسر تذكر الماضي وتوقع المستقبل، فإنهما يفترضان بقاء الذي يتذكر ويتوقع، إذ لا يعقل أن سلسلة الظواهر المدركة تدرك نفسها بما هي سلسلة أي بما هي ماضٍ ومستقبل، وهذا عين الصواب، وكان مل يعتقد بالأنا ويرى أن الشعور به أصيل لا يرد إلى قوانين الفكر، ويعتبر الأنا أساس الحرية والكرامة الإنسانية، فيقول إن الموقف الأحكم هو قبول هذا الأمر الواقع ولو لم نستطع تفسيره، وهو يعارض أوجست كونت في نقده للاستبطان، ويقول بإمكان علم النفس بناء على الملاحظة بالذاكرة بعد الفعل مباشرة، ويستشهد بتجارب علماء النفس وكتاباتهم، فهو في هذه المسألة الهامة يخرج على المذهب الحسي ومع ذلك لا يخرج منه، بل إنه يعتقد أن النظر في نظام العالم يؤدي إلى الاعتقاد بوجود إله خالق محسن، ويستدرك فقط بأن النقص البادي في العالم يستتبع أن هذا الإله متناهٍ (١٠٤، د).
(٣) المنطق
في مثل هذا المذهب كيف يكون المنطق؟ يون تشويهًا للمنطق الصحيح وتبديدًا له، ويبين هذا من استعراض المسائل الرئيسية: وأولًا موضوع المنطق، ففي هذه المسألة يأخذ مل على كنط وهاملتون تعريفهما المنطق بأنه علم اللزوم (أي لزوم التالي من المقدم) وأنه علم صوري يتناول شروط مطابقة الفكر لنفسه ويتجاهل صدق القضايا وكذبها، فيأبى مل التسليم بمنطق صوري بحجة أن الفكر لا يكون صحيحًا حقًّا إذا هو غض النظر عن مادة المعرفة، ولكن ما الذي يمنع من اعتبار شروط مطابقة الفكر لنفسه؟ لعل المانع أن هذا الاعتبار يفترض وجود الفكر مستقلًّا عن الموضوعات، وهذا ما لا يطيقه المذهب الحسي، وفضلًا عن ذلك لو سلمنا بأن المنطق يعنى بصدق القضايا وكذبها، لتبدد المنطق باعتباره علمًا خاصًّا وبقيت فقط العلوم على اختلافها، على أن مل — إذا ما عالج المسألة في كتاب المنطق — اعترف بأن المنطق لا يعنى بالحقائق المدركة إدراكًا مباشرًا في التجربة، وقال إنه «علم التدليل» وإن المنطق الصوري قسم مرءوس من المنطق العام أو «منطق الحقيقة»، وهو مرءوس لأن الأصل عنده إدراك المحسوس وأن إدراك المجرد لاحق، ولكن هذا اعتبار لكيفية إدراكنا لا للموضوعات المدركة وتفاوتها في التجريد وترتبها من ثمة بحسب هذا التفاوت من الأعم إلى الأخص، ولو أنه روى في الأمر لرأى أن «منطق الحقيقة» لا يعنى بحقيقة القضايا في العلوم، بل بالشروط الصورية للمعرفة بالإجمال (وهذا موضوع المنطق الصوري) ولكل علم بالتفصيل (وهذا موضوع المنطق المادي)، فالتردد (أو التناقض) واضح هنا بين مقتضى المذهب الحسي وبين مقتضى المنطق كما هو قائم بالفعل.
ويظن مل أننا في غنى عن المعنى المجرد لتركيب الحكم، فيرى أن الأحكام الواقعية التي من قبيل قولنا: هذا الحائط أبيض، هي عبارة عن الجمع بين إحساسين لا أكثر، وأن الأحكام التي تسمى ضرورية تفسر بتداعي الأفكار أي بالتجربة أيضًا؛ وذلك أن التداعي يوثق الصلة بين ظاهرتين حتى لا نستطيع تصورهما منفصلتين، فالضرورة ترجع إلى عجزنا عن تصور نقيض حكم ما أو ضده، وقد فاته أن المحمول في الحكم الواقعي هو في حقيقة الأمر معنى مجرد، ويتضح هذا غاية الوضوح باعتبار الحكم السالب مثل قولنا: ليس هذا الحائط أبيض، فإن البياض ههنا لم يدرك مع إدراك الحائط، ولكنه معنى محفوظ في الذهن يوجب تارة ويسلب أخرى، كذلك فاته أن الضرورة في الأحكام العلمية والفلسفية ليست كضرورة الترابط بالتشابه والتضاد والاقتران، ولكنها نسبة جوهرية بين الموضوع والمحمول يدركها العقل ويقصد إليها، فتفسيره للحكم تفسير المعقول بالمحسوس، فلا غرابة أن يجيء قاصرًا، وسيزداد هذا الأمر بيانًا عند الكلام على الاستقراء.
ونقده للقياس مشهور، فهو يزعم أن القياس مصادرة على المطلوب الأول لأننا حين نقول: «كل الناس مائتون، والدوق أوف ولنجتون إنسان، فالدوق أوف ولنجتون مائت» نفترض النتيجة في المقدمة الكبرى الحاكمة على «كل الناس» ولا يسوغ افتراضها وهي المطلوب؛ فإنها إما أن تكون معلومة قبل الكبرى وحينئذٍ فلا فائدة من تركيب القياس وتركيبه عمل صناعي بحت، وإما أن تكون مجهولة، وحينئذٍ يستحيل صوغ الكبرى لاستحالة التحقق من موتية كل الناس إلا بالتحقق من موتية كل فرد من الناس، فليس القياس استنتاج الجزئي من الكلي، ولا الكلي من الجزئي، ولكن استنتاج الجزئي من الجزئي، أي استنتاج حالة معينة من حالة أخرى شبيهة بها، فحين نريد أن ندلل على أن الدوق أوف ولنجتون مائت، لا نفكر في كل الناس، وإنما نفكر فقط في الذين ماتوا قبله ونتخذ منهم مقدمة جزئية، وحينئذٍ لا يكون الاستدلال مصادرة من حيث إن الدوق غير متضمن فيها، فالقياس عبارة عن استقراء وليست النتيجة فيه «مستنبطة» من الكبرى ولكنها مكتسبة «وفقًا» للكبرى، ولو أن مل أنعم النظر لوجد أن القياس شيء مختلف عن هذا الاستنتاج بالمشابهة والمماثلة، وقد رددنا على مزاعمه في سياق عرضنا لمنطق أرسطو («تاريخ الفلسفة اليونانية» الطبعة الثانية ص ١٢٣).
إذا لم يكن هناك سوى الاستدلال بالجزئي على الجزئي، فما القول في الاستقراء العلمي وهو استدلال بالجزئي على الكلي، أي وضع قانون بسبب ما يشاهد في بعض الجزئيات؟ يجيب مل أننا نتعلم بالتجربة أن في الطبيعة نظام تعاقب لا يتغير، وأن كل ظاهرة فهي مسبوقة بأخرى، فندعو السابق المطرد علة، واللاحق المطرد معلولًا، وبموجب قانون التداعي تميل المخيلة إلى استعادة الظواهر على النسق الذي تعاقبت عليه، وهذا أصل الاعتقاد بقوانين علمية ومبادئ كلية ضرورية، بما في ذلك مبادئ الرياضيات وقضاياها، بالرغم مما قال هيوم، فإنها عادات أو روابط غير منفصمة، بل بما في ذلك مبدأ الذاتية فما هو إلا تعميم للتجربة قائم على هذه الظاهرة وهي «أن الاعتقاد وعدم الاعتقاد حالتان عقليتان متنافيتان»، فالقضايا الكلية الضرورية وليدة التجربة الجزئية، ومن يدرينا؟ لعل في الكون مناطق توجد فيها معلولات بدون علل، وتكون فيها ٢+٢ مساوية لخمسة، وهذا في الحق منطق المذهب الحسي، أي إلغاء العقل والمنطق والعلم على اختلاف أنواعه.
غير أن مل وكان يعلم أن ليس كل تعاقب مطرد يعتبر قانونًا، وأن العلم يقصد بالعلة شيئًا أخر غير السابق المطرد، فاعترف بأن العلة هي «السابق الضروري» دون أن يبين سبب الضرورة، ووضع مناهج كمناهج فرنسيس بيكون لتمييز العلة من مجرد التعاقب والتلازم وتعيين الاستقراء الصحيح، هذه المناهج مشروحة في كتب المنطق، فنقتصر على ذكرها، وهي: منهج الاتفاق أو التلازم في الوقوع، ومنهج الاختلاف أو التلازم في التخلف، منهج التغير النسبي أي تغير المعلول بنسبة تغير العلة، وأخيرًا منهج البواقي يطبق على معلول مركب يقع بعد جملة ظواهر، ومثاله إذا كنت أعلم باستقراءات سابقة أن بعض هذه الظواهر علة لأجزاء من المعلول، كانت الظواهر الباقية علة الأجزاء الباقية، وهكذا يسلم مل راغمًا بأن العلة مغايرة للسابق العرضي ولو كان مطردًا؛ فإنها سابق ضروري أي سابق فاعلي، إذ لو لم تكن هناك فاعلية لما كانت هناك ضرورة أو نسبة ضرورية.
(٤) الأخلاق
هنا أيضًا يصطنع مل المذهب الحسي ثم يخالفه وهو لا يدري، كما يبين خصوصًا في كتاب «النفعية»، يبدأ بأن يقول إنه لم يكن للإنسان في الأصل من سبب للعمل سوى المنفعة أي توخي اللذة، وبخاصة تفادي الألم، ثم عمل ترابط الأفكار عمله فصارت الأفعال التي كانت وسيلة لخير تعتبر خيرة في ذاتها كما يعتبر البخيل المال غاية وخيرًا وهو وسيلة إلى الخير، هذا هو المذهب الحسي المتعارف، غير أن مل يستدرك فيقول: ليست اللذة راجعة كلها إلى اللذة الجسمية وكميتها، كما اعتقد بنتام، وإنما هناك لذات تابعة للكيفية أي لاعتبارات معنوية، فممَّا لا شك فيه أن وظائفنا متفاوتة رتبة وقيمة، وأن حياة الوظائف العليا أشرف من حياة الوظائف الدنيا، يدل على ذلك أن ما من إنسان يرضى أن يستحيل حيوانًا أعجم، اللهم إلا أفرادًا جد قليلين، إن الإنسان البائس لخير من خنزير شبعان، وإن سقراط معذبًا لخير من جاهل راضٍ، هذا ما يراه الإنسان المهذب ويؤثره لنفسه، وهو كذلك يؤثر المنفعة العامة على منفعته الخاصة، إذ أن النفعية تقتضي الفاعل الحكيم أن يعمل للآخرين كما يحب أن يعملوا له، وهذا الإيثار شرط الحياة الاجتماعية التي هي شرط المنفعة الشخصية.
هكذا يصحح مل مذهب المنفعة في نقطتين: الأولى أنه يجب اعتبار الكيفية في اللذة لا الكمية فحسب، والثانية أنه يجب إخضاع المنفعة الذاتية للمنفعة الكلية، ولكنه يخرج على مذهبه الحسي في كلتا النقطتين؛ أما في الأولى فلأن المذهب الحسي لا يعترف بالكيفية، فلا يعترف بقيم موضوعية للموجودات والوظائف، ولا بمغايرة الوظائف العليا للوظائف الدنيا بالماهية والطبيعية، وإنما الطائفتان عنده من نوع واحد، والاختيار بين اللذات متروك لتقدير المنفعة الحسية ليس غير، والمذهب الحسي يفسر الفضيلة بأنها اتخاذ الوسيلة غاية أي العمل لا لغاية وصرف النظر عن المنفعة، فيجعل من الفضيلة عملًا غير معقول؛ فيجيء مل ويوحد بين الكيفية العليا والمنفعة العامة والفضيلة، فيجعل من الفضيلة عملًا معقولًا مرادًا لذاته مع مغايرته للمنفعة الحسية، وأما في النقطة الثانية فلأن النفع الذاتي هو الأصل والمعيار في المذهب الحسي، فكيف تطالب بإخضاعه للنفع العام؟ ومهما يقل إن هذا شرط ذاك فكثيرًا ما يتعارضان، فباسم أي مبدأ يفرض على الفرد اختيار منفعة المجموع دون منفعته هو؟ التناقض بادٍ للعيان هنا وفي كل مسألة، وهو تناقض المذهب الحسي مع الحقيقة الشاملة، وستوارت مل ملوم لإصراره على هذا المذهب بعد أن لمس نقصه في نواحٍ كثيرة، ولكنه استنشقه في بيته وبيئته، ولم يوفق إلى فهم المذهب العقلي على حقيقته، فكان ما كان من الحيط الذي رأينا أمثلة منه.
(٥) ألكسندر بين (١٨١٨–١٩٠٣)
هو أبرز تلاميذ ستوارت مل وأحبهم لديه، كان أستاذًا بجامعة أبردين مسقط رأسه، وصنف كتبًا عدة أهمها: «الحواس والعقل» (١٨٥٥)، «الانفعالات والإرادة» (١٨٥٩)، «الروح والجسم» (١٨٧٣)، «المنطق» (١٨٧٥)، وكان بين قد ساهم في «منطق» مل؛ و«ترجمة لحياة چون ستوارت مل».
في هذه الكتب نجد مادة غزيرة وتحليلًا دقيقًا، وقد رمى مؤلفها إلى إقامة علم النفس على مثال العلوم الواقعية بتطبيق منهجه الوصفي الاستقرائي كما يبدو بنوع خاص في التاريخ الطبيعي والفسيولوجيا، وهذه عين فكرة ستوارت مل، فنراه يجتهد دائمًا في أن يصف بمنتهى الدقة جميع الظواهر النفسية، وخصوصًا عند المرضى، ثم يصنفها ويفسرها ويستخلص القوانين التي تربط بينها، ولمجهوده العلمي في هذا الباب خاصيتان: إحداهما استخدام الفسيولوجيا باستمرار لأنه كان يرى أن الوجهة الفسيولوجية والوجهة الوجدانية في الظواهر النفسية متحدتان، وخصوصًا في الظواهر الأولية، حتى تؤلفا كلًّا لا يتجزأ، وهذا حتى غفل عنه ديكارت وأتباعه، الخاصية الأخرى اتخاذ التداعي قانونًا أساسيًّا في تفسير حياتنا الباطنة، غير أن بين لا ينكر مع ذلك تلقائيًّا الأنا، كما أنكرها بعض أصحاب هذا المذهب، بل يقول بأن لكل إنسان عملًا ذاتيًّا صادرًا عن غرائزه ومزاجه دون قسر خارجي، على أن هذا العمل الذاتي يختلف عن الفعل الحر إذا كانت الحرية «السيطرة على أفعالنا بحيث متى عملنا على نحو معين كنا قادرين على أن نعمل على نحو آخر» لأن هذا القول يفترض وجود النفس كجوهر متمايز من سلسلة الظواهر، وبين لا يقبل هذا الافتراض ولا يقبل الحرية بهذا التعريف، وكان مل ينبذهما أيضًا.