تشارلس دروين
(١) حياته ومصنفاته
حفيد أراسم دروين (٦٧)، عالم طبيعي وضع نظرية في تطور الأحياء أدت به إلى نظرية فلسفية في الطبيعة، وعالج تبعًا لهذه النظرية مسائل نفسية وأخلاقية، كان عالمًا طبيعيًّا فكان عالمًا كبيرًا، حاول أولًا دراسة الطب في أدنبرى فلم يتذوقه، ثم عرض لدراسة اللاهوت في كمبردج فما لبث أن انصرف عنها، ودفعه ميله الفطري إلى الاشتراك في رحلة علمية حول الأرض طالت خمس سنين (١٨٣١–١٨٣٦) وجمع خلالها من الملاحظات ما كان الأساس الأول لنظريته، وقضى بعد ذلك زهاء ربع قرن يستكمل ملاحظاته وتجاربه حتى أخرج النظرية، وقضى زهاء ربع قرن أخر يدعمها ويجادل عنها ويعالج في ضوئها ما يعرض له من مسائل.
أخرج نظرية التطور في كتابه «أصل الأنواع» (١٨٥٩)، ثم أيدها بكتاب عنوانه «تغير الحيوان والنبات في حال الدجن» (١٨٦٨)، ثم طبقها على الإنسان في كتابه «تسلسل الإنسان والانتخاب الطبيعي» (١٨٧١)، وعالج على مقتضاها مسائل نفسية في كتاب «التعبير عن الانفعالات في الإنسان والحيوان» (١٨٧٢)، وكتب ترجمة لحياته.
(٢) أصل الأنواع
فانتهى دروين إلى أن الأنواع الحالية على اختلافها يمكن أن تفسر بأصل واحد أو ببضعة أصول تمت وتكاثرت وتنوعت في زمن مديد بمقتضى قانون الانتخاب الطبيعي أو بقاء الأصلح وهو القانون اللازم من تنازع البقاء، وقوانين ثلاثة ثانوية هي: أولًا قانون الملاءمة بين الحي والبيئة الخارجية، ثانيًا قانون استعمال الأعضاء أو عدم استعمالها تحت تأثير البيئة أيضًا بحيث تنمو الأعضاء أو تضمر أو تظهر أعضاء جديدة تبعًا للحاجة، وثالثًا قانون الوراثة وهو يقضي بأن الاختلافات المكتسبة تنتقل إلى الذرية على ما يشاهد في الانتخاب الصناعي، فالنظرية الدروينية آلية بحث تستبعد كل غائية ولا تدع للكائن الحي قسطًا ما من التلقائية كالذي تدعه له نظرية لامارك، بل تعتمد على محض الاتفاق أو الصدفة في حياة النبات والحيوان؛ وهي لذلك لا تستتبع الترقي المطرد في جميع الأحياء كما ظن البعض فاعترضوا عليها ببقاء الحيوانات الدنيا، فإن دروين كان قد قال إن الحي يبقى على حاله ما لم تضطره الظروف إلى صراع قوي للبقاء، وأن لا ميزة ترجى للدودة في اكتسابها أعضاء أكثر كمالًا ما دامت ظروفها على حالها، وعلى ذلك فقد يحدث الانتخاب الطبيعي تقهقرًا إلى صورة أبسط إذا ما تبسطت البيئة لسبب من الأسباب، فتضمحل بعض الأعضاء وتضمر لزيادتها عن الحاجة، وسوف نرى دروين يمعن في الآلية والمادية بصدد الإنسان.
(٣) الإنسان
في كتاب «أصل الأنواع» ترك دروين مسألة أصل الإنسان معلقة، ولكنه عاد فرأى أن ليس هناك من موجب لاستثنائه من قانون التطور، وهو يصرح بذلك في كتاب «تسلسل الإنسان» ويقول بأن الفرق بين الإنسان والحيوان فرق بالكم أو الدرجة فقط، وأن المسألة بين القوى الفكرية لحيوان من أدنى الفقريات والقوى الفكرية لقرد من القردة العليا، أكبر من المسافة بين القوى الفكرية في الفرد وبينها في الإنسان، كما يقول إن الحيوان يكتسب الفطنة والحذر ممَّا يعرض له من تجربة ويتحمل من ألم، وإن له ذاكرة وذوقًا فنيًّا وغريزة تعاطف، فلا يسوغ نفي العقل عنه، ولدروين في هذا الباب ملاحظات عديدة دقيقة، ولكنه اعتقد مثل جميع الحسيين أن العقل امتداد للحس من نوعه، والواقع أن الحس قد يذهب في إدراكه بعيدًا جدًّا ويستدل بالجزئي على الجزئي نوعًا من الاستدلال دون أن يبلغ إلى مرتبة العقل الذي هو قوة إدراك المعاني المجردة والمبادئ الكلية وقوة الحكم والاستدلال.
وقد أخذ على هذه النظرية أنها مبطلة للتعاطف منافية للأخلاق، فأقر دروين بأن الإنسان هو الحيوان الوحيد الذي يمكن أن يقال إنه أخلاقي، وأن هذا هو الفرق الأكبر بينهما، ولكنه ارتأى مع ذلك أن لا تناقض بين القول بتنازع البقاء والقول بأن العاطفة الأخلاقية نمت نموًّا طبيعيًّا؛ ذلك بأنه ينبغي أن نذكر دائمًا أن الصفات والوظائف التي يتطلبها الانتخاب الطبيعي ليست هي المفيدة للفرد فحسب ولكنها أيضًا المفيدة للصنف أو النوع، من حيث إن الاجتماع والتعاون عامل فعال في درء المخاطر عن الأفراد، ولما كان بقاء النوع يتوقف على صون الذرية، وكانت الذرية في الغالب عاطلة من أسباب البقاء، فمن اليسير أن نفهم أن محبة الوالدين لذريتهم يمكن أن تنمو بالانتخاب الطبيعي، وأن المشاهدة لتدلنا على أن من الحيوان ما يعرض نفسه للخطر لإنقاذ غيره، وهكذا يمكن أن تنشأ وتحفظ في الفرد صفات غير نافعة له بما هو هذا الفرد ونافعة للمجموع يؤيدها إقرار من جانب المجموع، ولقد كان هذا بالفعل شأن الصفات التي اعتبرت فضائل في شعوب مختلفة وعصور مختلفة، فالانتخاب الطبيعي يحتمل المحبة والتعاون كما يحتمل البغض والقسوة، وهناك تاريخ طبيعي لعواطف الغيرية إلى جانب التاريخ الطبيعي لعواطف الأنانية، ومهما تتسع الشُّقَّةُ بين ما يساور الحيوان حين يدل على عطف وتضحية وبين الخلقية الإنسانية العليا، فإن الطرفين متصلان بدرجات لا تحصى، ولا يسوغ اعتبار النمو الطبيعي منقطعًا في نقطة ما، إن في النوع الإنساني نفسه فوارق كبيرة جدًّا من الوجهة الخلقية، بل إن هناك صورًا من الحياة الإنسانية هي أدنى بكثير ممَّا قد تدل عليه حياة الحيوان، ويعلن دروين أنه يفضل أن يكون منحدرًا من القرد الذي يخاطر بحياته لينقذ حارسه، على أن يكون منحدرًا من الإنسان المتوحش الذي يلذ بتعذيب عدوه ويقتل أولاده دون أن يشعر بوخز ضمير ويعامل نساءه معاملة الرقيق وهو نفسه مسترقٌّ لأشنع الخرافات! وهنا أيضًا يغفل دروين عن طبيعة العقل فيغفل عن طبيعة الخلقية، إن النظر السليم ليدل على أن الفعل الخلقي هو الصادر عن حكم العقل بناء على تصور الخير المجرد، وقديمًا نبَّه أفلاطون وأرسطو على ذلك ولاحظَا أن الفعل التلقائي في الحيوان والإنسان لا يعد خلقيًّا.
وهل يدع مذهبه محلًّا لواجب؟ ما مذهبه إلا المذهب المادي المعروف، وقد خلع عليه حلة علمية شائقة، ولكنها لا تخفي عيوبه عن النظر الثاقب، قلنا إن دروين عجب لتشابه أفراد النوع الواحد من حيث بنية الجسم وتوزعها أصنافًا تبعًا للبيئة وظروف المعيشة؛ فظاهر أن النوع ثابت من حيث الجوهر متغير من حيث العرض، ولكن دروين اتخذ التغيُّر العرضي معيارًا وفسَّر الأنواع أنفسها كما تفسر الأصناف، وقد نسلم بالتطور ثم نرانا مضطرين إلى اعتبار الإنسان نوعًا قائمًا بذاته بسبب ما يختص به من علم ولغة وفن وصناعة وخلق ودين، وهي مظاهر للعقل لا نظير لها ولا أصل في سائر الحيوان، وقد نسلم بالتطور ثم نرانا مضطرين إلى الإقرار بموجد للمادة موجه لها، لقصور المادة عن تنظيم نفسها، ولكن من العلماء والفلاسفة من يفكرون كالعامة بالمخيلة دون العقل فيسيغون المحالات، وسنصادف نفرًا منهم فيما يأتي من فصول، يتخذون من مذهب التطور سلاحًا يهاجمون به الدين والروحيات إطلاقًا.