هربرت سبنسر
(١) حياته ومصنفاته
(٢) المعلوم والمجهول
- (١)
العلوم المجردة أو علوم الصور الجوفاء، وهي المنطق والرياضيات بفروعها.
- (٢)
العلوم المجردة المشخصة أو علوم الظواهر، وهي الميكانيكا وعلم الطبيعة والكيمياء.
- (٣)
العلوم المشخصة أو علوم الموجودات، وهي علم الفلك وعلم طبقات الأرض، وعلم الحياة (وفيه الأخلاق) وعلم النفس وعلم الاجتماع.
هذا التقسيم يشبه تقسيم العلوم النظرية عند أرسطو بحسب درجات التجريد الثلاث، ولكن سبنسر يظن أن المشخص بما هو كذلك موضوع علم في حين أنه موضوع وصف فحسب، فما في علمي الفلك طبقات الأرض من قضايا كلية يرجع في الحقيقة إلى علوم أخرى هي الرياضيات والطبيعة والكيمياء، وما يقال فيهما عن أشخاص الأفلاك ومداراتها وعن الطبقات الأرضية وأحوالها أمور جزئية، ثم إنه يضع بين العلوم المشخصة علوم الحياة والأخلاق والنفس والاجتماع وهي في الواقع تدرس ظواهر عامة وتتأدى إلى قوانين كلية، فالتقسيم غير محكم، ومهما يكن من قيمة هذا الجدول فهو يمثل في نظر سبنسر «مجال المعلوم» كما يبدو في «الفلسفة الواقعية» التي هي عبارة عن جملة القوانين المشتركة بين جميع فروع المعرفة العلمية، بحيث يمكن أن يقال إن المعرفة العامية عديمة الوحدة، والعلم معرفة ناقصة الوحدة، والفلسفة معرفة موحدة تمام التوحيد بفضل قانون التطور الذي هو أعم القوانين.
وكل ما خرج عن العلوم والفلسفة الواقعية يؤلف «مجال المجهول» أو ما يجاوز إدراكنا، وفي كتاب «المبادئ الأولى» يعرض سبنسر جملة العلوم عرضًا منظمًا، ويحاول أن يسوغ استبعاد الميتافيزيقا أو علم المطلق، ونقده صوري ومادي: من الوجهة الأولى يبين الاستحالة الصورية لإدراك المطلق، وذلك استنادًا إلى نسبية كل معرفة، ومن الوجهة الثانية يبطل المذاهب الميتافيزيقية في المطلق، يقول من الوجهة الأولى: إن العقل إذا حاول أن يتصور المطلق وضع نفسه بإزاء المطلق فحده وجعله غير مطلق، وكل معرفة فهي تفترض اختلافًا أو شبهًا، فإن فكرة ما لا تدرك إلا بمعارضتها بفكرة سابقة مختلفة عنها أو شبيهة بها، وعلى ذلك فكل فكر فهو نسبي، ولا يمكن أن يوجد شيء خارج المطلق حتى يختلف عنه أو يشبهه، ويقول من الوجهة الثانية: سواء اعتقدنا أن العالم هو المطلق وأنه موجود بذاته، أو أن المطلق موجود مفارق هو الذي أوجد العالم، انتهينا إلى هذا التناقض وهو أن شيئًا قد يستطيع أن يكون علة نفسه، وهناك متناقضات أخرى بين اللا نهاية من جهة والشخصية من جهة، إذ أن الشخصية حد وتمييز وأن اللا نهاية شمول كل شيء، وبين القدرة الإلهية من جهة والخيرية والعدالة من جهة، وبين العدالة من جهة والنعمة من جهة، وما إلى ذلك من المتناقضات، وكذلك الحال في المعاني العلمية الرئيسية، كالزمان والمكان والمادة والحركة والقوة والوجدان والشخصية، فإنها واضحة يجوز لنا استخدامها مادمنا نقتصر على عالم التجربة المحدود، ولكنها تؤدي إلى متناقضات حالما تريد استخدامها للتعبير عن ماهية موجود مطلق كأنها مظاهرة، إن معرفتنا تنتقل من ظواهر إلى أخرى دون أن تدرك البداية ولا النهاية، كل ما هنالك أن النظر في العالم المعلوم يؤدي بنا إلى وضع المطلق المجهول.
وعلى ذلك فليست اللا أدرية مرادفة للإلحاد، وليست تعني أننا مضطرون إلى الإيمان بالمطلق مجرد إيمان كما يقول هاملتون ومنسل لاعتقادهما أن معنى المطلق أو اللا متناهي معنى معدول سلبي فحسب، إنه معنى محصل، أجل إننا لا نفهمه، ولكن في هذا القول إثباتًا ضمنيًّا لوجوده، فإن من المستحيل أصلًا تصور أن لا موضوع لمعرفتنا سوى الظواهر دون أن نتصور في نفس الوقت موجودًا تكون هذه الظواهر ممثلة له، إننا في تصورنا للمتناهي نتصور الموجود والنهاية، وفي تصورنا للا متناهي ننفي النهاية ولا ننفي الموجود، إن بين أفكارنا جميعًا شيئًا مشتركًا هو ما ندل عليه بلفظ الموجود ونعني به شيئًا ثابتًا تحت الأعراض المتغيرة، هذا العنصر الفكري الأخير هو إذن بطبيعته غير معين وغير قابل للرفع، بحيث إن قوانين الفكر التي تحظر علينا تكوين تصور عن موجود مطلق، تحظر علينا أيضًا استبعاد تصوره، بل إننا نستطيع أن نتصوره بالمماثلة مع ما نشعر به أنه قوتنا الذاتية في الجهد العضلي، وذلك بأن نمحو شيئًا فشيئًا الحدود التي تبدو فيها القوة المجهولة في كل حالة جزئية دون أن نصل إلى تكوين معنى محصل عنها، المادة والحركة مظهران لها، والزمان والمكان صورتان لمظاهرهما.
إذا تقرر هذا لزم منه أن للدين مكانًا إلى جانب العلم، وإنما كان التعارض بينهما لأن الدين على اختلاف صوره، يدعى تعيين ماهية العلة المطلقة ويريد أن يحل مسائل لا تحل إلا بالعلم، وأن العلم يريد أن ينفذ إلى ميدان هو ميدان خاص بالدين، فما إن تعين حدود المعرفة كما ينبغي حتى يتفق العلم بالدين على أن ماهية الوجود مجهولة غير مدركة، وينحصر كل في دائرته وينتهي النزاع بينهما، إن للعاطفة الدينية أصلًا عميقًا في الإنسان، فهي من ثمة مشروعة: إنها عاطفة الاحترام بل الحب الذي تحسه النفس نحو ما يعلو عليها، وليس لها أن تخشى شيئًا من النقد المنطقي مهما اشتد، فإن القوة التي ينم عنها العالم تفوق إدراكنا، ذلك هو الدين الذي يعترف به العلم، لا دين الإنسانية الذي ابتدعه أوجست كونت وزعم له صفة الواقعية وأقامه على عبادة الطبيعة المنظورة وعظماء الرجال، وما سائر الأديان المعروفة عن الشعوب المتوحشة والمتحضرة إلا ترجمات مختلفة عن القوة العظمى التي هي علة الظواهر الطبيعية والتي كان الإنسان البدائي يحس شيئًا منها في فعله الإرادي.
واضح أن هذا المذهب ملفق من رقعتين؛ فإن سبنسر ينتمي إلى المدرسة الحسية فيقول إن المعرفة قائمة بأكملها على التجربة، ثم يصطنع نظرية في المطلق المجهول لكي يدع الباب مفتوحًا للدين والأخلاق، وهذه النظرية مأخوذة كلها عن سبينوزا وكنط وهاملتون ومنسل، وقد رددنا بما فيه الكفاية على ما تتضمن من قول بالنسبية ومن دعوى تناقض الميتافيزيقا، فلا نعد سبنسر هنا إلا مقلدًا ومنسقًا لعناصر معروفة في تاريخ الفلسفة، دون أن يتمكن من إقامة الدليل على أن فكرة المطلق تعبر عن وجود مفارق للطبيعة ضامن للدين والأخلاق، لا عن عظمة الطبيعة المادية فحسب فتفوتنا الأخلاق ويفوتنا الدين، هذا فضلًا عن ضآلة الدين عنده، وعن نقص فلسفته الأخلاقية كما سنرى.
(٣) تكوين العالم
قانون التطور يقضي بأن كل شيء يبدأ ظاهرة بسيطة فتلتئم حولها بالضرورة ظواهر أخرى فتركب كلًّا أعقد فأعقد، والطبيعة مادة وحركة، وما الحياة وما الشعور على اختلاف صوره إلا تعقد المادة والحركة، أي مجرد أثر الطبيعة في أجزاء من المادة، فهيئة العالم تفسر بنظرية لابلاس أو ما يشابهها، ونشوء الحياة يفسر بتفاعل القوى الكيميائية، وتفسر الأنواع الحية بتطور الأصول الأولى المتجانسة بفعل البيئة، وسبنسر يفيد هنا كثيرًا ببحوث دروين ويستشهد بها، ويحلل الإحساس إلى «صدمات» عصبية أولية يقابل كل منها اهتزازًا من الاهتزازات التي يحلل إليها العلم الحديث الكيفيات المحسوسة؛ وبذا يحصل على «مادة شعورية» تتكامل بتأليف الصدمات بعضها مع بعض، وبتأليف هذه التأليفات بواسطة قوانين التداعي يحصل على الصور الخيالية والمعاني المجردة والأحكام والاستدلالات والأخلاق والاجتماع، على ما سبق لنا بيانه عن الحسيين مرارًا كثيرة، بحيث يرجع ترقي الفكر إلى ترقي الجهاز العصبي وملاءمة تدريجية بين الكائن الحي وبيئته، ويرجع التطور إلى علاقات بين الظواهر الخارجية يقابلها علاقات بين الأجزاء العصبية يقابلها علاقات بين الظواهر الوجدانية، على أن هذا لا يعني إدراكاتنا شبيهة بالأشياء، بل يعني فقط أنها علامات على الأشياء وأن النسب القائمة بينها يقابلها نسب في الخارج، فسبنسر يأخذ بالتصورية ثم يصححها بنوع من الوجودية، وهو يفضل الوجودية على التصورية لسببين: الأول سلبي وهو أن هذه تعتمد على تلك، فنحن نؤمن عفوًا بوجود الأشياء ولا نحاول أن نبين أن الصوت مثلًا مجرد حالة ذاتية حتى نتحدث عن اهتزازات الجرس التي تنتقل إلى الأذن والتي تفعل كذا وكذا في أعضائها كأن كل هذه موجودات، والسبب الثاني إيجابي وهو أن ما مَرَّ بنا من نسبية موضوعات العلوم يقتضي شيئًا مطلقًا تكون هي مظاهره.
وتتأيد نظرية التطور إذا لاحظنا أن التجربة والعلم لا يفسران باكتساب الفرد فحسب، وأن العقل في الفرد وكما نعرفه ليس قابلية صرفة تكيفها التجربة الفردية على ما ارتأى لوك وهيوم ومل، إذ لو صح الرأي لكان الفرس مثلًا يقبل نفس التربية التي يقبلها الإنسان، وهذا باطل. الواقع أن العقل الإنساني كما نعرفه لا يقتصر على قبول التجارب ولكنه ينظمها، وهو إنما ينظمها بالمبادئ، فما منشأ هذه المبادئ؟ إن العقل وظيفة من وظائف الحياة، وقد خضع للتطور فتكون بتأثير البيئة في الدفاع تأثيرًا متصلًا كيفه شيئًا فشيئًا حتى بلغ به إلى هذه المطابقة التي نراها بينه وبين الطبيعة، ولما كان الناس قد عاشوا في بيئة متشابهة فقد تولدت نفس المبادئ عندهم جميعًا، وهذا أصل كليتها، ولما كان العقل قد تكيف هذا التكيف فقد أصبح عاجزًا عن تصور نقائض المبادئ، وهذا أصل ضرورتها، فالمبادئ التي تبدو الآن غريزية أولية، والتي يفسرها الحسيون بتجربة الفرد، والتي يضعها كنط وضعًا، قد اكتسبها النوع الإنساني بتكرار التجربة مدى أجيال طويلة فأصبحت عادات وراثية، يبقى أن يفسر لنا سبنسر كيف تتكون بالتدريج بديهيات تدرك دفعة واحدة أو لا تدرك، وفي أي وقت خرجت من دور التكون وصارت مبادئ تنظم بها بعد أن لم تكن تنظم.
على أن الحركة ومختلف صور الطاقة تتبدد باستمرار، فالتقدم يصاحبه انحلال، وستنتهي القوة العالمية إلى حالة توازن كلي أي موت كلي وعود إلى السديم الأول، ومن المستحيل علينا أن نعلم إن كانت هذه الحالة تدوم أو يعقبها دور تطور، إن دوامها فرض ممكن، ولكن يمكن أيضًا أن نعتقد أن وراء العوالم التي تدركها علومنا الراهنة طاقة مختزلة تكاد تكون غير متناهية تؤثر حينئذ في المادة فتستأنف التطور، فيتعاقب التطور والانحلال في أدوار هائلة، ولم يقل لنا سبنسر ما حظ الإنسان من هذا التعاقب، وما حظ هذا الفرض من الرجحان وكأنه أبى أن يعتقد بانتهاء التطور وانحلال الموجودات، وهذا الإباء صادر من غير شك عمَّا فينا من ميل طبيعي للبقاء والخلود تصدمه المادية بلا رحمة.
(٤) الأخلاق
هذا المذهب يحتم النظر إلى الأخلاق تبعًا للتطور واعتبارها ظواهر طبيعية، فهو لا يحتمل إلا علمًا للأخلاق من طراز العلوم الواقعية يستبعد المعاني والمبادئ الميتافيزيقية، ويقصر السيرة الإنسانية على أن تكون حالة خاصة من سيرة الكائنات الحية لا أكثر، إن الخلقية هي هذه السيرة في المراحل الأخيرة من التطور، ولما كان قانون تطور الكائن الحي الملاءمة بينه وبين بيئته، كما نشاهد في سلم الأحياء، كانت السيرة الإنسانية أو الأخلاق «جملة الأفعال الخارجية المتجهة مباشرة أو بالوساطة إلى صيانة الحياة وتنميتها»، ومن شأن تطور الإنسان وتقدم الحضارة تقسيم العمل بين الأفراد واستفادتهم بعضهم من بعض، فالتعاون الاجتماعي شرط ضروري لنمو الحياة الفردية؛ لأن به يتمكن كل فرد من تحقيق غايته الخاصة، وبذا تبدو تبعية المنفعة الفردية للمنفعة الاجتماعية مشروعة كلما اختلفتا، المنفعة إذن هي الحكم لا اللذة، أجل إن الخير يتفق على العموم مع اللذة، واللذة هي العنصر الجوهري في كل تصور للخلقية، وهي دليل وفرة الحيوية، والملامة التي تشهد للوجدان بالملاءمة الصالحة بين الأفعال ووظائف الحياة، فالغرض من اللذة هو الفعل الحيوي الذي هو طلب الغاية الطبيعية، والحياة الخلقية هي التي أفعالها متسقة مطابقة للإنسان، والحياة المخالفة للخلقية هي التي لا نظام بين أفعالها ولا اتساق، فتقدم الخلقية هو تقدم الملاءمة بين حياة الإنسان وقوانينها الأساسية، ومبدأ الأفعال الخلقية هو اعتبار النتائج الطبيعية الذاتية للأفعال دون أي شيء أخر، كالشعور بالواجب أو الخوف من جزاء عرفي.
لم تحصل الملاءمة بين الإنسان وبيئته من أول الأمر، وهي غير حاصلة الآن إلا حصولًا جزئيًّا، وقانون التطور يضمن لنا أن يتم في المستقبل، لقد تحقق التعاون بالانتقال التدريجي من الحالة العسكرية إلى الحالة الصناعية: الأولى تقوم على الحرب والإكراه والقانون العرفي فتتضمن تبعية الأفراد للجماعة تبعية دقيقة، والثانية تقوم على العمل والتعاقد فتفسح المجال للتعاون الإرادي، ومن الوجهة العاطفية مر الإنسان بحالة أولى كان فيها يطلب منفعته الذاتية، وهذه مرحلة الأنانية، ثم فطن إلى أن منفعته تزداد بالتعاون مع إخوانه، فأحبهم لهذه المنفعة، فكانت مرحلة الأنانية المختلطة بالغيرية، ثبت فيها بالوراثة هذا الجمع بين المنفعتين حتى بدا العلم لمصلحة الغير أمرًا مستحبًّا ولو لم يعد منه نفع ذاتي بل لو تعارضت المنفعتان، وهذه المرحلة ما تزال للآن، وهي مرحلة الصراع بين الأنانية والغيرية، وما الشعور بالواجب سوى مظهر سلطان التطور الماضي في أنفسنا، ونحن سائرون شيئًا فشيئًا إلى مرحلة ثالثة وأخيرة تتحد فيها المنفعتان تمام الاتحاد فتسود الغيرية وتصير الأخلاق الفاضلة طبيعية في الإنسان وتمحى فكرة الواجب.