الفصل السابع

فلاسفة الحرية (طبقة ثانية)

(١) فليكس راڤيسون (١٨١٣–١٩٠٠)

هو زعيم هذه الطبقة الثانية، كان في العشرين لما أعلنت أكاديمية العلوم الأخلاقية والسياسية، بناء على اقتراح فيكتور كوزان، عن مسابقة في «ميتافيزيقا أرسطو، عرضها ومناقشتها» فعالج الموضوع وفاز بالجائزة، ثم عاد إلى رسالته يتوسع فيها ويتعمق حتى صارت الكتاب المشهور الذي صدر جزؤه الأول سنة ١٨٣٧ (وهو المخصص لأرسطو) وصدر الثاني سنة ١٨٤٦ (وهو مخصص للفلسفة اليونانية بعد أرسطو وتأثرها به)، في هذه الدراسة وجد أن الحياة، النامية منها والحاسة والناطقة، لا ترجع إلى المادة بل إلى قوة ذاتية أو نفس، وأن علة الحياة والحركة في الطبيعة نزوع يدفع بها صوب «العقل الإلهي» الذي هو موجود حقًّا وليس مجرد مثال من المثل الأفلاطونية، ووجد في الفلسفة الأرسطوطالية مدخلًا إلى المسيحية؛ ذلك بأن أرسطو يقول إن الخير بالذات الذي تنزع إليه الطبيعة يجهل الطبيعة، وأن المسيحية تعلم أن الله محبة تتنزل إلى مخلوقات فيتصل الفعل بالقوة والمثال بالواقع.

وفي الوقت نفسه (١٨٣٨) تقدم برسالة للدكتوراه «في العادة» يبين فيها أن العادة تظهرنا، في داخل الوجدان، على اتصال الروح بالمادة، خلافًا لما يذهب إليه ديكارت وكثيرون غيره من انفصال وثنائية، أصل العادة فكر وإرادة، أي تصور غاية واتخاذ الرسائل لتحقيقها، فإذا ما تحققت تناقص الفكر والإرادة والشعور شيئًا فشيئًا حتى تنمحي وتبقى العادة حاجة حيوية وميلًا يخرج إلى الفعل من تلقاء ذاته، فالعادة لا تفسر إلا بتكوين تلقائية فاعلية هي بمثابة وظيفة جديدة تختلف عن الفعل الآلي من جهة وعن الفعل المروي من جهة أخرى؛ لأن العادة فكرة متحققة في المادة، وبها تفهم تلقائية النزوع في الكائن الحي وفي الطبيعة، كما تفهم لا شخصية الطبيعة مع نزوعها الذاتي إلى غايات، فإن كلتا هاتين الحالتين فكرة منطبعة في مادة؛ وإذن فليست الطبيعة قوة عمياء تعمل كآلة، وليست الآلية هي الأصل، إنما الأصل الغائية تستخدم الآلية بحيث لما كانت هذه لولا تلك، وهكذا ميز رافيسون الحياة من المادة البحتة وبين لمعاصريه فكرة الصورة والعلية الصورية وفكرة الغاية والعلية الغائية على ما رأى أرسطو، وستظل فكرة الحياة هذه إلى وقتنا محور مذاهب عدة، ولا شك أنه مدين بها لأرسطو، ولو أن مصادر أخرى تضافرت على تأييدها عنده: منها مين دي بيران، وشلنج وقد كان استمع إلى دروسه في مونيخ، ومدرسة الطب بمونبلي التي كانت معروفة بالمذهب الحيوي تعارض به المادية.

وفي ١٨٦٧ نشر له «تقرير عن الفلسفة في فرنسا في القرن التاسع عشر» يعود فيه إلى هذه الآراء بالشرح والتأييد، يميز أولًا بين طريقتين في الفلسفة، إحداهما تحلل الأشياء إلى أجزاء جامدة وتزعم أن الأشياء مجموعات من هذه الأشياء ليس غير، فتفسر الحي بالميت وترد الأعلى إلى الأسفل، وهذا دأب المادية والآلية، والطريقة الأخرى تعنى بما بين الأجزاء من تركيب وانسجام بناء على وجهة مشتركة، فترى الحياة في كل شيء، وتفسر الأسفل بالأعلى، وهذه طريقة الروحية، ثم يقول إن الفلسفة الفرنسية تتجه هذه الوجهة الثانية؛ فقد قال أوجست كونت في المجلد الأول من «دروس الفلسفة الواقعية» إن ظواهر الحياة من جنس ظواهر الجماد سواء بسواء، وبعد ثماني سنين استثنى حياة الحيوان، وفي المجلد الأخير استثنى النبات أيضًا، وكلود برنار١ أثبت أولًا القانون الآلي حتى إذا ما أنعم النظر في ظواهر الحياة أعرب عن اعتقاده «بفكرة موجهة» بل «خالقة» هي العلة الحقة للجسم الحي، وهذا الاتجاه يلاحظ عند جميع الفلاسفة والعلماء الذين يتعمقون طبيعة الحياة، ولما كانت حياتنا الباطنة أقرب وأوضح صورة للحياة، كان هذا الاتجاه مؤذنًا بقيام مذهب جديد هو «الواقعية الروحية» تتصور الوجود على مثال الوجدان.

(٢) جول لاشليي (١٨٣٢–١٩١٨)

هو ثاني أعلام هذه الحركة، مصنفاته قليلة العدد صغيرة الحجم، ولكنها غاية في الرصانة والعمق، وهي لا تعدو رسالتين للدكتوراه (١٨٧١) إحداهما «في أساس الاستقراء» والأخرى «في طبيعة القياس» ومقالات أهمها مقال «علم النفس والميتافيزيقا» (١٨٨٥)، يضاف إلى ذلك تدريسه بمدرسة المعلمين العليا، وكان قصير الأمد، وتأثيره الشخصي في توجيه الأفواج المتتالية من الطلاب.

إنه ينتمي إلى تصويرية كنط ويتعمق بنوع خاص «نقد الحكم» (٩٦ج) ويعمل على إعادة مبدأ الغائية إلى مقامه بين المبادئ الأولى والدفاع عنه ضد الآلية والجبرية، فبين أن الاستقراء العلمي يقوم على فكرة العلة الغائية لا على فكرة العلة الفاعلية، إن في الطبيعة نوعين من القوانين: نوعًا يشمل قوانين آلية تنطبق على ظواهر جد بسيطة، ونوعًا يشمل القوانين الكيميائية وبخاصة القوانين البيولوجية وهي تعبر عن علاقات جد مركبة وتعمل دائمًا بحيث يحدث عنها دائمًا عين النتائج أي عين الأنواع الكيميائية وعين الأنواع النباتية والأنواع الحيوانية، وذلك بالرغم من تعقد التركيب وكثرة الشروط والظروف المطلوبة، فلو كان العلم يقوم على الآلية فحسب لوجب الاقتصار على القول بأن المركبات الكيميائية والكائنات الحية تحدث في المستقبل نفس الأنواع «إذا توفرت لها الشروط المطلوبة»: ولكن العلم لا يستعمل هذه الصيغة الشرطية، ونحن نعتقد أن الشروط جميعًا متوافرة بالفعل، فتصور القوانين الطبيعية، ما خلا عددًا يسيرًا من القوانين البسيطة، يقوم على مبدأين متمايزين: مبدأ بموجبه تؤلف الظواهر سلاسل يتعين فيها وجود اللاحق بوجود السابق، وهذا مبدأ الآلية، ومبدأ بموجبه تؤلف هذه السلاسل أنظمة يتعين فيها وجود الأجزاء بفكرة الكل، و«الكل الذي يحدث أجزاءه» علة فاعلية، فيجب أن نضع إلى جانب الآلية، أو بالأحرى فوقها، «مبدأ نظام يسهر — إن جاز هذا التعبير — على استبقاء الأنواع الكيميائية والأنواع الحية».

مبدأ الغائية إذن هو القانون الذي يخضع له العالم، وليس يعني هذا أنه من وضع الفكر الإنساني في محاولته فهم العالم؛ فإن الفكر نفسه جهد نحو غاية، نزوع إلى الخير وإلى تمام الوجود، «إن المسألة العليا في الفلسفة — وقد تكون مسألة دينية أكثر منها فلسفية — هي الانتقال من المطلق الصوري إلى المطلق العيني الحي، من فكرة الله إلى الله، فإذا أخفق القياس في هذه المهمة فعلى الإيمان المخاطرة وعلى الدليل الوجودي أن يدع مكانه للرهان» أي لرهان پسكال كما يقول في مقال عنه (١٩٠١)، فهو من الذين يلجئون إلى الإيمان لمجاوزة حدود الفكر وحدود الطبيعة، وقد كان كاثوليكيًّا مؤمنًا ورعًا، ولكنه لم يجد إلا هذه الطريقة للتملص من مذهب كنط، والطريقة الوحيدة السائغة هي الإيمان أولًا بموضوعية الفكر فتلزم عنها موضوعية سائر ما يتأدَّى إليه الفكر.

(٣) إميل بوترو (١٨٤٥–١٩٢١)

أستاذ بالسوربون حمل هو أيضًا على الآلية ودافع عن الغائية، رسالته للدكتوراه «في إمكان قوانين الطبيعة» (١٨٧٤) ترمي إلى الفحص عمَّا إذا كانت للضرورة العقلية هي التي تتحقق في الأشياء كما يدعي الآليون، أو أن في العالم ما يظهرنا على شيء من الإمكان، وحينئذٍ لا تكون قوانين الطبيعة كافية أنفسها، بل يكون لها أسبابها في علل أرفع منها، والواقع أن هنالك من القوانين بقدر ما هنالك من درجات الوجود، وفي هذه الدرجات المترتبة من الأقل كمالًا إلى الأكمل فالأكمل، كل درجة فهي ممكنة بالإضافة إلى الدرجة السفلى، في حين أن الآلية تقوم على وحدة مادة الوجود وتعادل القوى المادية وعلى أن الدرجات درجات تركيب هذه المادة وقواها لا أكثر، والحقيقة أن لا معادلة بين الجسم وعناصره، وبخاصة إذا اعتبرنا الجسم الحي من النبات إلى الحيوان إلى الإنسان؛ لذا كنا عاجزين عن أن نقول مبدئيًّا أي جسم ينتج عن عناصر معينة، وكنا مضطرين للرجوع في ذلك إلى التجربة، بل إن الإمكان يتزايد من درجة إلى أخرى، وكلما مضينا من العلوم المجردة إلى المشخصة غلبت وجهة الحركة والقوة على وجهة السكون والمعادل وحلت الكيفية محل الكمية؛ ففي ميدان الحياة يستحيل قياس القوة الحيوية إذ أنها ترجع إلى الكيف لا إلى الكم، ولا ينحصر الفرق بين الحياة والمادة في هذا فقط، فإننا نلاحظ أيضًا أن الحي ينمو وينقص، يرقى وينحط، أي أنه له تاريخًا وليس للعادة البحتة تاريخ، ثم إنه لا سبيل إلى ملاحظة تعادل القوة في الوجدان، وإنما الواضح البين أن الوجدان يستخدم القوة كأداة، وهكذا نرى أن «الواقعية» إذا فُهمت على وجهها جاءت مع الروحية من حيث إن سلم الموجودات يرينا الحرية تنمو شيئًا فشيئًا على حساب الآلية حتى «إذا ما تركنا الوجهة الخارجية التي تبدو فيها الأشياء كأنها موجودات جامدة محدودة، لكي نلج إلى أعمق أعماق أنفسنا وندرك ذاتنا في منبعها، إن أمكن، وجدنا أن الحرية قوة لا متناهية، ونحن نشعر بهذه القوة كلما عملنا حقًّا» (ص١٥٦) أي كلما نزعنا إلى الخير والحياة الخلقية، فإن «الله هو الموجود الذي نحس فعله الخالق في أعماق النفس حين نجهد للاقتراب منه»، فعلة الإمكان في العالم قوة خلق وتغيير نازلة من على، من الله نفسه، ومتغلغلة في جميع درجات الوجود على قدر الجهد الذي تبعثه جاذبية المثل الأعلى، وهي جاذبية فنية إلى أجمل الصور، وجاذبية خلقية إلى فعل الخير، إن الله الحي علة الإمكان في العالم لأنه حياة وحرية.

هذا المذهب يكشف لنا عن سبب اختيار بوترو لموضوع رسالته الثانية «في الحقائق الأزلية عند ديكارت» فقد أراد أن يفحص عن الإمكان في ذات الله، وظل يتتبع فكرة الإمكان هذه حتى خصص لها كتيبًا عنوانه «فكرة القانون الطبيعي في الفلسفة المعاصرة» (١٨٩٥) يوسع فيه مجال الإمكان حتى يجعل من القوانين الطبيعية مجرد مناهج وجدناها للملاءمة بين الأشياء وعقلنا وللتصرف في الأشياء لتحقيق رغباتنا، كذلك يقول في جميع المعاني التي تكونها لفهم الأشياء، بحيث لا يحق لنا أن نضيف قيمة مطلقة للتمييز بين الفكر والحركة مثلًا، ولسائر المعاني والتمييزات، إذ أنها تعبر عن طريقتنا في النظر إلى الأشياء لا عن أحوال الأشياء أنفسها، وهذا ميل إلى محو موضوعية للقانون الطبيعي، وإلى التصورية في مسألة المعرفة، وهذا الميل المزدوج منتشر في أيامنا، سنصادفه عند أصحاب البراجماتزم وعند برجسون وكثيرين من الفلاسفة والعلماء الذين رأوا معارضة الآلية والجبرية بهذا الإنكار البات فقبلوا آية «العلميين» رأسًا على عقب.

وقد كان بوترو أستاذًا ممتازًا لتاريخ الفلسفة، ورائده مذهبه هذا؛ ففي المقدمة التي مهد بها لترجمة كتاب تزلر في الفلسفة اليونانية (١٨٧٧) يؤيد هذا المؤلف ضد هجل في القول بالإمكان في التقدم التاريخي الذي هو تاريخ العقل، وكذلك الحال في دروسه على كنط (وقد نشرت أولًا في «مجلة الدروس والمحاضرات» ثم جمعت في مجلد ظهر سنة ١٩٢٦) وفي مقدمته لمونادولجيا لبينتر، وفي «دراسات في تاريخ الفلسفة» (١٨٩٧) و«دراسات جديدة في تاريخ الفلسفة» (١٩٢٧) و«دراسات في تاريخ الفلسفة الألمانية» و«دراسات في الأخلاق والتربية»، وفي كتبه: «پسكال» (١٩٠٠) و«نفسية التصوف» (١٩٠٢) و«العلم والدين في الفلسفة المعاصرة» (١٩٠٨) و«وليم جيمس» (١٩١١)، وطريقته في تأريخ الفلسفة مثال يحتذى، فهي موضوعية تعرض المذاهب على الصورة التي وضعها عليها أصحابها، وتعقب عليها تعقيبًا مقتصدًا، في أسلوب ناصع رصين.

(٤) ألفريد فويي (١٨٣٨–١٩١٢)

بعد أن صنف كتابًا في «فلسفة سقراط» (في مجلدين) وآخر في «فلسفة أفلاطون» (في أربعة مجلدات) شرع ينشر مذهبًا خاصًّا مؤداه أن من المستحيل اعتبار الظاهرة الوجدانية عرضًا طارئًا على التغير العصبي، كما يقول الماديون، فإنها لو كانت كذلك لكانت عديمة النفع للحياة وانقرضت وظيفة التفكير، وإن قليلًا من التأمُّل يرينا أن الفكرة (أي الظاهرة الوجدانية) هي قوة تبعث فكرات أخرى وتدفع إلى العمل، أجل إن كل فكرة فهي قوة وميل إلى الحركة يتحقق من تلقاء ذاته إذا لم تعارضها فكرة أخرى، فلا ينبغي التمييز بين عقل وإرادة، أو بين فكرة معلومة فحسب وفعل يحققها، والفكرة التي هي قوة، وهذا اسم نظريته (Idée-force) تسمح لنا بإنقاذ القيم الروحية التي يتهددها المذهب المادي كما يبدو في نظرية التطور إذ يضع القوة في الطبيعة الخارجية ويجعل النفس تابعة لها منفعلة بها، فمسألة الحرية مثلًا تحل بأن الموجود الذي يعتقد نفسه حرًّا تختلف سيرته عن سيرة الذي يعتقد نفسه مجبرًا؛ فإنه يغير من شأنه، وهذه خاصية الموجود المشارك في الحياة الروحية بينما خاصية المادة الجمود ومطاوعة القوانين الآلية، فما علينا إلا أن نؤمن بالحرية حتى تصير الحرية أمرًا واقعًا (كتاب «الحرية والجبرية» ١٨٧٢).

ثم طبق فويي نظرية الفكرة التي هي قوة على الوجود بأسره، فذهب إلى أن كل موجود فهو متقوم بفكرة هي قوة تبدو صورتها الأولية في النزوع الغامض إلى البقاء ثم تنمو بالتطور من اللا شعور في الجماد إلى الشعور الواضح في العقل الإنساني، حتى إذا ما بلغت إلى هذه الدرجة كانت كفيلة بتحقيق فكرات روحية صرف بمجرد أن تؤمن بها إيمانًا وطيدًا، فرغبتنا في تنظيم حياتنا وتوحيدها تؤدي بنا إلى توكيد الحرية والأنا الشخصي، ورغبتنا في توحيد العلم ورغبتنا في نصب مثل أعلى للأخلاق، تؤديان بنا إلى توكيد وجود الله لكي نجد في فكرة الله التفسير النهائي للوجود والمثل الأعلى الذي تنشده، فالفكرات الروحية من خلقنا وتتحقق موضوعاها بفعلنا، طبق فويي نظريته هذه في الكتب الآتية: «تطور الأفكار التي هي قوات» (١٨٩٠) و«علم النفس والأفكار التي هي قوات» (١٨٩٣) و«الأخلاق والأفكار التي هي قوات» (١٩٠٧) و«محاولة في تأويل للعالم» (نشر في العالم التالي لوفاته)، وله كتب أخرى في نقد المذاهب المعاصرة من وجهته هو، وكتب في معالجة المشاكل الاجتماعية القائمة، وقد كان كثير التأليف فضفاض الأسلوب قليل الجدوى.

(٥) جان ماري جيو (١٨٥٤–١٨٨٨)

تلميذ فويي اهتم بالأخلاق وبالفن، عرض «أخلاق أبيقور» عرضًا لطيفًا، وعرض «الأخلاق الإنجليزية المعاصرة» ونقدها نقدًا عسيرًا، وفصل مذهبه في كتابين: أحدهما «الأخلاق بلا إلزام ولا جزاء» والأخر «إلحاد المستقبل»، وعالج «مسائل الفن المعاصر» ونظر في «الفن من الوجهة الاجتماعية» ونظم «أشعار فيلسوف».

مذهبه أن فلسفة الأخلاق يجب أن تبنى على العلم وحده، فتستمد مبدأها من التجربة، ويكون «الأمر» فيها أخف ممَّا هو في الأخلاق المرعية، بل لا يكون فيها أمر، أما الشرط الأول فلا يتوفر في المذاهب التي تنصب «الخير» مثلًا أعلى وقاعدة، فإن فكرة الخير ميتافيزيقية، ولا في المذاهب التي تتخذ «السعادة العامة» مبدأ، فإن هذه المذاهب تعرض على الفرد منذ البداية هذه الغاية التي تسمو عليه، فيحين أن الأخلاق العلمية يجب أن تبدأ بغاية فردية، ولا في المذاهب التي تقوم على طلب اللذة، إذ أن «طلب اللذة ما هو إلا نتيجة المجهود الغريزي لصيانة الحياة وتنميتها»، فالمبدأ الحق هو «غريزة الحياة» هذه التي هي غريزة كلية والتي هي «أعمق ما في الوجود والمثل الأعلى الذي لا محيص عنه»، وعلى ذلك «يكون المثل الأعلى النشاط بمختلف مظاهره، أو على الأقل بالمظاهر التي لا تتعارض، أو التي لا تسبب خسارة ذات بال من القوة»، وإذا تعمقنا هذا المبدأ حققنا الشرط الثاني للأخلاق العلمية فبلغنا إلى أخلاق خلو من الإلزام والجزاء.

ذلك بأن الحياة ليست بقاء فحسب ولكنها ميل إلى النماء والقبض واندفاع إلى بذل الذات، ولنا شاهد على ذلك في الولادة التي هي جود بالذات، وفيما يبين عنه ترقي الأنواع الحيوانية وتعقدها من حياة متزايدة متنوعة، «الحياة هي الخصب والخصب هو الوجود الحق»، «أما الأنانية فتضييق لدائرة نشاطنا ينتهي إلى إقفار هذا النشاط نفسه وإفساده»؛ فالأنانية في الواقع بتر الحياة وانتقاصها، وهكذا تجاوز وجهة النظر الفردية، فإن الفرد لا يستطيع أن يحيا تمام الحياة إلا في المجتمع وبالمجتمع، وهو يجد في الروابط الاجتماعية واللذات الفنية والحياة الخلقية بما فيها من بذل وتضحية، مصادر عواطف رفيعة جميلة قوية لا تقاس إليها عواطف الحياة الحيوانية، بدليل أن الذي يتذوقها يحس باستحالة الاستغناء عنها فالإنسان القوي الحيوية يرى نفسه مدفوعًا نحو هذه الحياة العالية وما تتطلبه من مغامرة ومخاطرة، بغير إلزام من خارج ولا جزاء يرجى، يسقط الأمر الخلقي إذن ولا يبقى إلا «معادلات له» هي: الشعور بقدرتنا الباطنة على أن نعمل أعظم فأعظم، وتأثير الفكر على العمل، والتعاطف المتزايد والصفة الاجتماعية المتزايدة للذاتنا وآلامنا، وحب المغامرة والخطر ولذة الجهاد، وحب الفرض الميتافيزيقي الذي هو ضرب من المغامرة في الفكر، وأما الجزاء ففكرة منقودة من نواحٍ عدة، وهي لا تفهم إلا من وجهة المنفعة الاجتماعية لا من الوجهة الخلقية.

وعلى هذا النسق ينهج جيو في معالجة المسألة الدينية، فإنه يكرر الاعتراضات على وجود الله الواردة في تاريخ الفلسفة، ويلح في الاعتراض المأخوذ من وجود الشر في الطبيعة وفي الإنسان، ثم يقول إن العاطفة الدينية تظل قائمة بعد الإلحاد، فما هي إلا الشعور بتبعيتنا ماديًّا وخلقيًّا واجتماعيًّا للكون ولمنبع الحياة المتدفقة فيه، ولكنه في الواقع يبدد الدين والأخلاق جميعًا، أين الخلقية في مذهبه؟ إن صاحب اللذة يبذل من ذاته وماله بذلًا عنيفًا في سبيل غايته، وما من أحد يعتبر سيرته خلقية؛ فإن قيل إن الحياة الرفيعة هي الجديرة بأن تحيا، قلنا: وإذن فليس المثل الأعلى مطلق الحياة ومطلق البذل، بل لا بد من قاعدة تتوخى لبذل الحياة، وإن القاعدة، وإن المفاضلة بين حياة رفيعة وحياة دنيئة، ليستا من «العلم» في شيء ولكنهما تعتمدان على الميتافيزيقا التي لا يريدها جيو، فإذا ما سلمنا بتفضيل الحياة الرفيعة فإنما نسلم لأننا نراها الجديرة بالإنسان من حيث هو إنسان، وهذه الصلة بين الماهية الإنسانية وضرب من الحياة يلائمها دون سواه، هي «الوجوب العقلي» الذي تحدث عنه رنوڤيي والذي هو أصل الإلزام الخلقي كما قلنا في الموضع، كذلك الجزاء ما هو في الحقيقة إلا أثر العمل، أما إذا كانت الأفعال صادرة عن مجرد فيض من باطن تصاحبه لذة معينة، دون غاية مفضلة وقاعدة محترمة، فقد عدنا إلى مذهب اللذة وقد ساوت أفعالنا سائر الأفعال التلقائية وبطلت أن تكون خلقية، وإن جيو ليحاول أن يوجد نوعًا من الإلزام بقوله إن الفرد لا يحيا تمام الحياة إلا بالمجتمع ولكنه يقع في نفس الخطأ الذي ألحف في مؤاخذة النفعيين عليه إذ يريدون الفرد على أن يفضل المنفعة العامة بعد أن يقولوا إن المنفعة الخاصة هي الأصل والمبدأ، ولم ير أن الأناني المسترشد بمذهب الأنانية في حل من استغلال المجتمع والإفادة منه ما استطاع إلى الإفادة سبيلًا، هذا عن الأخلاق، أما عن الدين فإن الشعور بالتبعية للكون لا ينقلب عاطفة دينية بمعنى الكلمة إلا إذا اعتقدنا أن وراء الكون أو فوقه إلهًا شخصيًّا هو خالقه ومنبع الحياة المتدفقة فيه، وفي هذه الحالة لا بتصور الدين بغير عقيدة تشتمل على صفات لازمة للإله وعلاقة بيننا وبينه، وجيو لا يريد عقيدة لأنه أراد «العلم» دون العقل والميتافيزيقا، وهذا عيب مشترك بين هذه المذاهب التي تصدت لإثبات الحرية والروحية بالتجربة فحسب، وليست التجربة بذاتها برهانًا إذا لم تستمد من العقل مبدأ البرهان.

١  فسيولوجي مشهور (١٨١٦–١٨٧٨) معروف بكتاب عنوانه «مدخل إلي دراسة الطب التجريبي» حيث يصف المنهج التجريبي بالتفصيل، وقد نقل هذا الكتاب إلي العربية الدكتور يوسف مراد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤