الفصل الثامن

ميتافيزيقا علم النفس

(١) لوتزي (١٨١٧–١٨٨١)

كان يجمع بين الميل إلى الفلسفة والميل إلى العلم، فحصل من جامعة ليبزج على الدكتوراه في الفلسفة والدكتوراه في الطب، وعين أستاذًا للفلسفة بجامعتي جوتنجن وبرلين، له كتاب في «ما بعد الطبيعة» (١٨٤١) يفسر فيه العالم بثلاث ممالك مترتبة: الأولى «مملكة القوانين الكلية الضرورية التي هي شرط لكل وجود ممكن»، وهنا تنطبق نظرية كنط في المقولات، وبواسطتها يمكن وضع الأسس التي تقوم عليها العلوم، لكن لا يمكن استنباط أية ظاهرة، والمملكة الثانية «مملكة الظواهر» وهي تدرك بالحواس وليس لنا من سبيل آخر لإدراكها، والمملكة الثالثة «مملكة القيم» نرى فيها الموجودات تتوجه إلى «الخير بالذات» في هذه المملكة، أي بهذا الخير بالذات، يصل حدسنا للعالم إلى الوحدة، فتثبت وحدة الجوهر في العالم، ونحن نثبتها أيضًا باعتبار استحالة التفاعل بين الأشياء؛ فإن الفعل عرض والعرض لا يتنقل بذاته، وعلى ذلك لا يؤثر الشيء المعروف في العارف، ولا يؤثر الجسم في النفس أو النفس في الجسم، كل تفاعل فهو وهم، والأجسام مجرد ظواهر والنفوس فيوضات من الجوهر الأوحد، والفعل الذي يبدو متعديًا هو فعل حادث بين موجودين متناهيين حدوثًا ظاهريًّا فقط، والحقيقة أنه فعل المطلق في ذاته.

على أن لوتزي يعدل هذا المذهب في كتاب «علم النفس الطبي» (١٨٥٢) وكتاب «العالم الأصغر» أي الإنسان (في ٣ مجلدات: ١٨٥٦–١٨٦٤) فإنه يبدأ بوحدة الأنا المدرك بالحدس على أنه جوهر، ويدلل على روحانيته، ويدفع عنها اعتراضات الماديين، ثم يستند إلى طموح النفس إلى الكمال فيقول بوجود روح أعظم وشخص متمايز منَّا وهو الذي رتب الكل تبعًا للخير: «إن الموجود الحق الذي هو موجود والذي يجب أن يوجد، ليس المادة، وليس من باب أولى المثال الهجلي، ولكنه الله الروح الحي الشخصي وعالم الأرواح الشخصية التي خلقها، وذلك هو مكان الخير بالذات وسائر الخيرات»، كذلك يثبت موضوعية الظواهر باعتبارها موضوعات العلوم الواقعية، ويحاول أن يفسر هذه الموضوعية دون الخروج على التصورية فيعرض نظرية «العلامات المكانية».

هذه النظرية مقصورة على إدراك المكان باللمس والبصر، وهي ترمي إلى بيان أن التأثيرات الواردة من خارج على العين وعلى سطح الجسم متمكنة ومختلفة بعضها من بعض بأمكنتها: فكل نقطة من الشبكية أو أديم الجلد تنفعل بكيفية خاصة بها وكل تأثير يعرض للشعور له طابع متميز، وهذا الطابع هو «العلامة المكانية» وهي إحساس عضلي مصاحب للتأثير اللمسي أو البصري، وهي «نظام من الحركات» أو من الميول للحركة يبعثها كل تأثير، وهي أيضًا «موجة الإحساسات الثانوية» إذ أن كل تأثير على نقطة من الجسم فهو يحدث في المنطقة المجاورة توترًا أو ضغطًا يعين مكان التأثير في الجسم تعيينًا دقيقًا، هذا هو الحل الذي رآه لوتزي وسطًا بين التصورية القائلة إن إدراكنا إنما ينصبُّ أولًا وبالذات على ظاهرة وجدانية، وبين الوجودية التي تضع في الخارج مقابلات للظواهر، فيحاول هو تفسير الانتقال من الأثر الجسماني إلى الإدراك النفسي باعتبار اختلاف الأمكنة اختلافًا في الطابع أو الكيفية.

(٢) فخنر (١٨٠١–١٨٨٧)

أستاذ بجامعة ليبزج، عرف أولًا بمذهب ميتافيزيقي لم يكن ليذكر لولا غرابته في العصر الحديث وتأثيره مع ذلك في بعض المفكرين الأميركيين ومنهم وليم جيمس؛ فإنه يذهب في كتابه «زند أفستا أو أمور السماء وما بعد الموت» إلى أن الميتافيزيقا علم حق يقوم على حاجة فينا للإيمان بمبدأ عدل وخير، وأن الدليل الأقوى على وجود هذا المبدأ هو كوننا نبحث عنه ولا يسعنا إلا أن نبحث عنه، ثم إن معيار الإيمان فائدته العلمية، ولهذا الإيمان فائدة كبرى، ومنهج الميتافيزيقا تصور العالم على مثال وجداننا، فكما أن موضوع العلم الطبيعة المنظورة المعلومة بالملاحظة والاستقراء، فكذلك موضوع الميتافيزيقا باطن الطبيعة يدرك بالحدس الباطن، هذا الحدس يظهرنا على أن الوجدان تقدم أفعال من الماضي إلى الحاضر فإن المستقبل، وأنه كثرة أفعال في وحدة غير متجزئة، فالعالم من ثمة وحدة حاصلة على نفس الخصائص، إلا أنه غير محدود، العالم وجدان واحد هو وجدان الله، وكل وجدان، مع تميزه من غيره في الظاهر، فهو مظهر من الوجدان الكلي، والكواكب ملائكة السماء، والأرض متنفسة لأنها كل منظم بفصولها المطردة، وأجزاؤها نفوس الموجودات الأرضية من نبات وحيوان وإنسان، وهذه النفوس بالإضافة إليها كأفكارنا بالإضافة إلى أنفسنا.

لكن شهرة فخنر قائمة على أنه مؤسس علم النفس الفيزيقي، ولو أنه يضيف هذا الشرف إلى أرنست هنريخ ڤيبر (١٧٩٥–١٨٧٨) أستاذ التشريح بجامعة ليبزج الذي كان بدأ تجاربه في قياس الإحساسات سنة ١٨٣٠ وبعد ست عشرة سنة أعلن القانون المعروف باسمه وهو: «إن الزيادة في قوة المؤثر الضرورية لإحداث أقل زيادة مدركة في الإحساس، هي كسر مطرد من هذه القوة»، وهذا القانون صحيح على وجه التقريب في الإحساسات المتوسطة القوة، ولكنه لا يعني أن القياس واقع على الإحساسات بما هي ظواهر وجدانية، فشرع فخنر يجري التجارب، وكان كتابه «مبادئ علم النفس الفيزيقي» (١٨٦٠) أول كتاب منظم في علم النفس مبني على الرياضيات.

وهو يعرف علم النفس الفيزيقي بأنه «مذهب مضبوط في العلاقات بين النفس والجسم، وبصفة عامة بين العالم الفيزيقي والعالم النفسي»، فنحن بإزاء علم تجريبي بحت يتناول الظواهر وقوانينها دون أن يعرض لجوهر النفس ولا لجوهر الجسم ولما كان الفرض مشروعًا في العلم الواقعي افترض فخنر أن التقابل بين النفس والجسم يرجع إلى أن ما يبدو أنه النفس من الداخل يبدو أنه الجسم من الخارج، وهذا ما سمى «التوازي النفسي الفيزيقي» وقد صادفناه عند ليبنتز وسبينوزا وغيرهما كنتيجة لمذهب ميتافيزيقي، في حين أنه عند فخنر فرض علمي يشرف على علم مستقل يتخذ من قياس الظواهر الخارجية وما تحدثه فينا من ظواهر عصبية قياسًا للظواهر النفسية التي لا تقاس مباشرة.

وبعد تجارب طويلة وضع فخنر هذه النتيجة وهي: لكي يزيد الإحساس أقل فرق مدرك يجب أن تكون الزيادة في المؤثر للمجهود العضلي، و للمس والحرارة والصوت، و للضوء، ثم عين الحد الأدنى للمؤثر في كل حس (وهو الحد الذي يدعى بالعتبة) ووضع بناء على ذلك جدولين للزيادات: أحدهما للمؤثرات والآخر للإحساسات، ولما كانت زيادة المؤثرات مقيسة تبعًا لنسبة مطردة كما تقدم، اعتقد أنه يكفي أن نفترض أن كل زيادة مدركة في الإحساس تمثل «وحدة هي دائمًا» فنحصل على سلسلتين متزايدتين يمكن المقارنة بينهما مقارنة رياضية، ووضع هذا القانون: «حين يزداد التأثير بنسبة هندسية يزداد الإحساس بنسبة حسابية فقط» أو «أن الإحساس يعادل لوغارتم التأثير»، ولكن ليس بصحيح أن «جميع الزيادات المدركة للإحساسات متساوية الكم» أو أن للإحساس في ذاته مقدارًا يقاس مباشرة؛ فإن الإحساس في ذاته فعل حيوي وكيفية نلاحظ تغيراتها ولا نستطيع تقديرها تقديرًا رياضيًّا، أجل إن السلسلتين متضامنتان، وقانون ڤيبر صحيح، ولكن القانون الرياضي الذي وضعه فخنر شيء آخر ولا يمكن قبوله، وقد أثارت أبحاث فخنر اهتمامًا بالغًا ومناقشات حادة وحركة واسعة للتجارب في ميدان علم النفس.

(٣) ڤوندت (١٨٣٢–١٩٢٠)

تلميذ العالم الطبيعي والفسيولوجي هلمولتز (١٨٢١–١٨٩٤) الذي عني بدراسة الإحساسات من الوجهة الفسيولوجية، وهو يصدر أيضًا عن هربارت وفخنر فيرى أن دراسة الظواهر النفسية لا تصير علمية إلا بالاختبار المصحوب بالمقاس للحصول على قوانين مضبوطة، ونشر كتابًا في «مبادئ علم النفس الفسيولوجي» (١٨٧٤) وعين في السنة التالية أستاذًا بجامعة ليبزج، وأنشأ بها أول معمل للاختبارات النفسية (١٨٧٩) فكان هذا حدثًا هامًّا جذب إليه طلابًا كثيرين من جميع البلدان، وقد دافع عن قانون فخنر واعتقد مثله أن الظواهر الشعورية تقاس حقًّا بوساطة آثارها، ولكنه وسع مجال الاختبار، فجاوز علم النفس الفيزيقي أو قياس الإحساسات بوساطة المؤثرات الخارجية، إلى علم النفس الفسيولوجي أو قياس جميع الظواهر النفسية بوساطة مقابلاتها الفسيولوجية.

وقد عرض للفلسفة وفروعها ودون فيها الكتب ناهجًا المنهج الوجداني الذي يحكم على الأشياء تبعًا للشعور، والفلسفة عنده «محاولة تفسير الظواهر التجريبية وتوحيدها»، والظاهرة التجريبية هي الظاهرة الشعورية التي هي وحدة ذات وجهتين: وجهة ذاتية فاعلية هي كونها فعلًا حيًّا خاصًّا بالوجدان، ووجهة موضوعية انفعالية هي ما تمثله، وبدراسة الوجهة الذاتية الفاعلية نحصل على علم النفس، وبدراسة الوجهة الموضوعية الانفعالية أو مختلف الوجهات الموضوعية نحصل على سائر العلوم، وتفسير التجربة مهمة الفهم بمعانيه، وتوحيد التجربة مهمة العقل بوساطة مبدأ السبب الكافي، وليس المقصود بالفهم والعقل ههنا ما عناه كنط؛ فإن ڤوندت يرفض التصورية ويقول إن كل فكرة مشروعة هي إدراك موضوعي، لكن الفهم يركب العلوم الواقعية في حدود التجربة، وذلك بقوانينه أو مبادئه ومنها المثل الأعلى في الفن وفي الأخلاق، فليس ڤوندت حسيًّا أو واقعيًّا ولكنه على العكس يرى أن تنظيم التجربة يفتقر إلى مبدأ أعلى منها؛ ويبحث العقل عن أقصى توحيد للظواهر فيجده بفضل مبدأ السبب الكافي الذي هو قانون الوحدة المهيمن على كل بحث علمي، والذي يثبت أنه لكي تكون المعرفة معقولة تمام المعقولية يجب أن ترتبط أجزاؤها فيما بينها بحيث تكون كلًّا بريئًا من التناقض.

بناء على ما تقدم يكون التفسير والتوحيد كما يلي: إذا اعتبرنا الظاهرة الشعورية من الوجهة الذاتية رأيناها تمتاز بالفاعلية، ولما كان خير مظهر للفاعلية هو النزوع أو الإرادة، كان السبب الكافي الموحد إرادة أصيلة عميقة، دون أن نفترض لها جوهرًا تقوم فيه، وإذا اعتبرنا الظاهرة الشعورية من الوجهة الموضوعية رأيناها تمتاز بالانفعال والتنوع، فيكون الموضوع الخارجي متكثرًا، ويكون السبب الكافي للموضوعات جملة وحدات مرتبطة فيما بينها، ويبدو ارتباط آحاد الإنسان في مجتمعات متفاوتة هي: الأسرة والقبيلة والنقابة والأمة والإنسانية، على أن الإنسانية الموحدة لم تتحقق بعد، ويجب على الأفراد أن يتخذوا منها غاية وقاعدة لأفعالهم الأخلاقية، بيد أن هذه الإنسانية نفسها محدودة حتمًا في المكان والزمان، فلا يمكن أن تكون السبب الكافي لإرادتنا التي هي نزوع غير محدود، فيجب أن نجاوزها إلى فكرة إله كامل غير متناهٍ هي لازمة عن مبدأ السبب الكافي لزومًا ضروريًّا.

وقد كانت لڤوندت مساهمة كبيرة في علم نفسية الشعوب أو تكوين الحياة النفسية، فنشر فيه كتابًا ذا مجلدين سنة ١٩٠٤ زاده إلى عشرة مجلدات للطبعة الثالثة التي صدرت بين سنتي ١٩١١ و١٩٢٠، وهو يبحث في المظاهر الكبرى لنفسية الجماعة من لغة وفن وأسطورة ودين واجتماع وقانون وحضارة، ويستخلص ڤوندت من هذا العلم أصول الأخلاق، فيصل إلى هذه النتيجة: إن الضمير — سواء في الشعوب وفي الفرد وفي جميع أوقات نموه — يعتبر أن الفعل الخلقي هو المفيد للفاعل أو للآخرين كي يستطيع هو ويستطيعوا هم أن يحيوا وفقًا لطبيعتهم ويزاولوا قواهم ووظائفهم، غير أنهم يتدرجون في فهم طبيعتهم وأخلاقهم؛ فقد كانت السيادة في الإنسانية الأولى تكاد تكون للقوة البدنية وحسب، فكانت أخلاق الفتح هي المرعية، ثم تقدمت الحضارة وتنظمت الجماعة وأصبح الخير قائمًا في أن يعمل الفرد لفائدة الكل، فإن الغاية القصوى للاجتماع الإنساني نمو القوى الروحية، وإن الفعل يعتبر صالحًا متى كان معاونًا على هذا النمو، ويعتبر طالحًا متى كان عائقًا له.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤