الفصل التاسع

مادية

(١) لفيف من الماديين

هم نفر من الأطباء وعلماء الطبيعة أيدوا المادية التطورية، وأنكروا الميتافيزيقا، وحملوا على الدين حملات شعواء، فانبرى لهم خصوم فأقاموا جميعًا ضجة هائلة، نذكر منهم:

مولسكوت (١٨٢٢–١٨٩٣) فسيولوجي هولندي علَّم بهيدلبرج وروما، قال: لا «فكر بغير فسفور».

كارل ڤوجت (١٨١٧–١٨٩٨) عالم حيوان، قال: «الفكر بالإضافة إلى الدماغ كالصفراء بالإضافة إلى الكبد».

بوخنر (١٨٢٤– ١٨٩٩) طبيب دوَّن كتابًا دعاه «القوة المادية»، حسبه الدكتور شبلي شميل الكلمة الأخيرة للفلسفة ونقله إلى العربية، وقضيته الكبرى أن المادة مستودع جميع القوى الطبيعية وجميع القوى التي تدعى روحية.

أرنست هكل (١٨٣٤–١٩١٩) أستاذ علم الحيوان بجامعة يينا (١٨٦٥)، أيَّد مذهب التطور وأرجع الإنسان إلى الحيوان قبل دروين، وكتابه المشهور «ألغاز الكون» (١٨٩٩) يعرض المادية الآلية، فيقول إن الموجود الضروري الوحيد هو المادة، وإن الحياة ترجع إلى أصل واحد هو «المونيرا» التي تركبت اتفاقًا من الأزوت والهدروجين والأكجسين والكربون، ثم تطورت على التوالي حتى تكونت جميع الكائنات الحية، ويعد هكل اثنتين وعشرين حلقة بين المونيرا والإنسان، ويصفها مستعينًا ببقايا الأحياء في طبقات الأرض، ولكي يؤيد التدرج في التطور يعدل في بنية بعضها ويسد الفراغ بتخيل كائنات حية لم توجد، ولو أن واحدًا من المؤمنين أراد أن يؤيد الدين بتزوير من هذا القبيل لما فرغ الملحدون من التهكم والسخط.

لنجي: هجلي مادي، له كتاب في «تاريخ المادية» (١٨٦٦) يعتبر مرجعًا في تاريخ الفلسفة، وهو معروف بنظرية في الانفعالات قريبة من نظرية وليم جيمس ومذكورة في كتب علم النفس.

(٢) كارل ماركس (١٨١٨–١٨٨٣)

هو نبي الشيوعية العصرية النافخ في نارها حتى أشعلها ثورة عالمية، ولد من أبوين يهوديين كانا قد اعتنقا البروتستانتية من قبل أربع سنين، ولما درس الفلسفة أعجب بجدل هجل، ولكنه أنكر إسرافه في التصورية فاعتنق المادية، علم الفلسفة بجامعة بون، ثم زج بنفسه في العمل الاجتماعي والسياسي (١٨٤١) فكان صحفيًّا وداعية للثورة، حرر في بروكسل مع صديقه فردريك إنجلز «بيان الشيوعيين» وحاول أن ينظم الحزب الاشتراكي في ألمانيا ولكنه اضطر أن يلجأ إلى لندن (١٨٤٨) حيث دوَّن كتبه الكبرى، وهي: «نقد الاقتصاد السياسي» (١٨٥٩) و«نداء إلى الطبقات العاملة في أوربا» (١٨٦٤) وكتابه الأشهر «رأس المال» (١٨٦٧) وفي الوقت نفسه كان يواصل دعوته الثورية متخذًا هذه الكلمة شعارًا «أيها المعوزون في جميع البلدان اتحدوا!» فأسس في ١٨٦٦ «الدولة الاشتراكية» الأولى التي ظلت قائمة إلى ١٨٧٠، ولكن الحرب بين ألمانيا وفرنسا، وحبوط الفتنة الشيوعية بباريس، أضعفا نفوذها إلى حد كبير، ثم قضت عليها الخلافات بين أعضائها، فأسس الفوضوي الروسي باكونين هيئة منافسة (١٨٧٤) وأسس لاسال بألمانيا حزبًا لاماركسيًّا، ومضت الحركة الاشتراكية في طريقها، ولكنها كانت تعتمد أكثر فأكثر على النقابات والجمعيات المهنية، وفي المؤتمر الدولي المنعقد بباريس سنة ١٨٨٩ أنشأ تلاميذ ماركس «الدولية الثانية» (ومنهم الألمانيان بيل وليبنخت) وجعلوا مقرها لندن، واستمرت إلى أيامنا بينما يدير السوڤييت في موسكو منذ ١٩١٧ «الدولية الثالثة الشيوعية».

تعتبر الماركسية أكمل تعبير عن المذهب الاشتراكي، ولها الآن النفوذ الأكبر في الحركات العمالية، وقد أراد ماركس أن يكون كتابه «رأس المال» عرضًا لعلم الاقتصاد، وكانت هذه الخاصية سببًا قويًّا في رواج الكتاب والعصر عصر اعتداد بالعلم ومناهجه المضبوطة، ولكن في الكتاب مذهبًا فلسفيًّا يتألف من المادية التاريخية والجدلية على طريقة هجل، ومن الشيوعية الإلحادية التي هي نتيجتها.

المادية التاريخية الجدلية مبدؤها أن المادة هي كل الموجود وأن مظاهر الوجود على اختلافها نتيجة تطور متصل للقوى المادية، غير أن ماركس قليل العناية بدراسة المراتب العليا، وهو يوجه همه إلى دراسة التاريخ الإنساني، ومن هنا جاء وصف مذهبه بالمادية التاريخية، فعنده أن نمو الحياة الإنسانية، فردية واجتماعية، يتوقف كله على الظروف المادية والاقتصادية، وأن درجة الحضارة تُقاس بدرجة الثروة الزراعية والصناعية وأن نوع الإنتاج في الحياة المادية شرط تطور الحياة الاجتماعية والسياسية والعقلية على العموم؛ فليس وجدان الناس هو الذي يعين وجودهم، وإنما هو وجودهم الاجتماعي الذي يعين وجدانهم، والحياة الاقتصادية تحقق قانون الصيرورة بأوقاته الثلاثة التي هي القضية ونقيضها والمركب منهما، وهذه المادية الجدلية، ومظهرها الاجتماعي الراهن «تنازع الطبقات» ويعرض ماركس الدليل على هذه النظرية بدراسة الحياة الاقتصادية على ما كانت في أيامه.

ويمكن تلخيص كتابه «رأس المال» في أربع قضايا: القضية الأولى أن القيمة الحقة لكل سلعة تعادل كمية العمل المتحقق فيها، بحيث يعتبر العامل المصدر الوحيد لهذه القيمة ومن ثمة المالك الوحيد للسلعة، وتقدر هذه القيمة بالزمن المخصص للإنتاج، مع مراعاة المتوسط تفاديًا للاختلاف بين عامل وآخر، أي مع افتراض عامل متوسط المهارة وظروف عادية، القضية الثانية أن النظام الرأسمالي يحرم العامل جزءًا من قيمة عمله، وهذا الجزء هو الزيادة في قيمة السلعة وهو ربح صاحب المال، وهذا الربح يتكدس فيكون رأس المال، فرأس المال «سرقة متصلة وافتئات على العمل»، وهو أداة سيطرة صاحب العمل على العامل؛ فإن الأول لا يدفع إلى الثاني قيمة عمله وإنما يدفع إليه ما يسد رمقه بل أقل من ذلك إذا رضي العامل تبعًا لقانون العرض والطلب، القضية الثالثة أن من شأن الصناعة الآلية متى استخدمها الطمع المطلق من كل قيد أن تزيد التعارض عنفًا بين رأس المال والعمل، فإن كبار الماليين يتغلبون على الضعاف من منافسيهم ويؤلفون شركات قوية تستغل المال إلى أبعد حد وينتهي الماليون المتواضعون وأهل الطبقة الوسطى إلى الانضمام إلى صفوف المعوزين، فتقف الطبقتان وجهًا لوجه، ولكن المعوزين يحسون تضامنهم في جميع البلدان، فيدركون شيئًا فشيئًا مصلحتهم وحقهم وقوتهم، وكارل ماركس يسهب في وصف مراحل هذا التطور، القضية الرابعة أن الطبقة العاملة، وهي الحاصلة على الحق والعدد والقوة، ستفوز حتمًا على الماليين فتنتزع الملكيات بتعويض أصحابها وتجعل من الثروات والمرافق ملكية مشاعة بين الجميع، فيتناول كلٌّ قيمة عمله كاملة ويجد فيها ما يكفي لإرضاء جميع حاجاته ويزيد، ولا يعالج ماركس طريقة تنظيم الشيوعية، ويقتصر على القول في الختام بأن التقدم الصناعي يجعل من المستحيل العود إلى الملكية الصغيرة، وأن من شأن هذه الاستحالة أن يتحقق المجتمع الشيوعي حتمًا في مستقبل قريب أو بعيد على أنقاض المجتمع الرأسمالي، ومهمة الحزب الشيوعي تكوين «عقلية الطبقة» عند العمال وتأليفهم حزبًا سياسيًّا كفيلًا بانتزاع السلطة وإقامة الدكتاتورية العمالية.

هذا هو الجدل التاريخي القائم في الصراع بين الطبقات والمنتهي حتمًا إلى المجتمع البريء من الطبقات الكامل الاشتراكية! ولكنه باطل من جميع الوجوه، إنه باطل في أساسه المادي وفي محاولته استخراج الموجودات على اختلاف أنواعها من المادة البحتة. وإذا كان للظروف المادية والاقتصادية أثرها في حياة الإنسان، فإن هذا الأثر لا يعدو تكييف هذه الحياة وتوجيه بعض أفعال الإنسان، وتبقى القوى الإنسانية ويبقى الوجدان، وهذا الجدل باطل في اعتماده على الإلحاد. قال كارل ماركس إن الدين أفيون الشعب يجب منعه عنه لكي ينفض التسليم والخنوع وينهض للمطالبة بحقه، ولكنه لم يفطن إلى ما ينتج عن الإلحاد من الهبوط بالإنسان إلى درك البهيمة بل إلى أدنى؛ إذ أن الإنسان حينذاك يجري مع غرائزه مطلقًا من القيد الطبيعي الذي نشاهده في البهيمة والذي يقفها عند حد الاعتدال فلا يعرف رادعًا سوى الخوف من بطش الأفراد والجماعة، وإذا كان الشيوعيون يشبعون الجسم كما يعتقدون، ويأملون أن يستغني الإنسان الشبعان عن الدين فإنهم واهمون؛ إن الحاجة إلى الدين أصيلة في النفس لا يمكن اجتثائها، و«ليس يحيا الإنسان بالخبز وحده بل بكل كلمة تخرج من فم الله»، ومن عجب أن تبنى الشيوعية على فكرة العدالة وليست العدالة معروفة من الطبيعة الصماء، وليس الناس متساوين قوة ونشاطًا وذكاء، والنتيجة المنطقية للمادية أن يعتبر الإنسان كائنًا اقتصاديًّا فحسب، قانونه الطمع والمنفعة وتنازع البقاء بالأسلحة الطبيعية، لا عدالة إلا في مذهب يعترف بماهية إنسانية مشتركة بين أفراد النوع، وبحياة إنسانية أرفع من الحياة المادية، وهذان ركنان لا يعترف بهما المذهب المادي.

وهذا الجدل التاريخي باطل في تعريفه لقيمة السلعة، وفي إنكاره لحق الملكية، وفي ما يترتب على التنظيم الشيوعي من استبداد شنيع، ليس بصحيح أن قيمة السلعة تُقاس بكمية العمل المتحقق فيها، فإن القيمة تابعة أيضًا لمقدار الحاجة إلى السلعة، أو لما يتجلى فيها من ذوق ودقة وصنع، وقد يبذل عمل كثير في مصنوعات غير قابلة للاستهلاك، كالمصنوعات الفنية، فهل نقتل الذوق في النفوس ونحرم الفنون؟ والأصل في رأس المال أنه عمل مدَّخر، فالملكية حق طبيعي متى استمدت أصلها من العمل نفسه، وإنصاف العامل ممكن دون ظلم غيره وقلب المجتمع رأسًا على عقب، وإذا كان للملكية مساوئ فباستطاعة الحكومة ومن واجبها أن تصحح هذه المساوئ بتشريع معقول يستبقي الملكية ومزاياها، ثم إن الشيوعيين يقدمون لنا دواء هو شر من الداء؛ فإن تحقيق مذهبهم يستلزم إخضاع الفرد للدولة في جميع الشئون وخنق كل حرية فكرية، ونحن لا نصدق أن باستطاعة حكومة أيًّا كانت أن تعنى بجميع الأفراد وتدير جميع المرافق، ولكنها فتنة العقول العامة الضعيفة وغرائزهم الجامحة، نوقن أنها لن تلبث أن تخمد إلى توازن بين الطبقات.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤