الفلسفة في إنجلترا
(١) فرنسيس هربرت برادلي (١٨٤٦–١٩٢٤)
الفلسفة الإنجليزية في نصف القرن هذا موزعة بين تصورية هجلية وتصورية طبيعية وتصورية منطقية رياضية وحسية وبراجماتزم، وهي تدل على مقدرة جدلية ملحوظة، ولا تحتوي على ابتكار، كان برادلي أبرع وأعمق ممثل للهجلية وإن يكن نبذ مذهب هجل بما هو كذلك في وقت مبكر، فقد تخرج في جامعة أكسفورد، وصار أستاذًا فيها ينزع نزعتها وهو متأثر بكتب جرين وهجل ولوتزي، وإنما أقبل على الفلسفة الألمانية بعد أن رأى استحالة اعتبار الوجدان سلسلة ظواهر مستقلة، كما يرى المذهب التجريبي الإنجليزي، لاستحالة إدراك مثل هذه السلسلة لنفسها، وهي الاستحالة التي وقف عندها لوك وهيوم ومل كما رأينا، ويحكم برادلي على المذاهب الإنجليزية حكمًا صارمًا، فيأخذ عليها الحسية والنفعية وضيق النظر والتعصب للرأي وبخاصة في المسألة الدينية، ويرمي إلى تطهير الأذهان من هذه النزعات، فكان أول كتاب هام له «دراسات أخلاقية» (١٨٧٧) فيه نقد بارع لمذهب اللذة في الأخلاق، وأردفه بكتاب «مبادئ المنطق» (١٨٨٣) حلل فيه مسائل الاستدلال والحكم وعرض نظرية المعرفة، وبعد عشر سنين نشر كتابه الأكبر «الظاهر والحقيقة» أجمل فيه مذهبه في الوجود، وله مقالات في مجلة «مايند».
في «الدراسات الأخلاقية» يعارض تصور المدرسة الحسية للوجدان، ويصف الوجدان بأنه «كل مغلق غني معًا» وأن فيه ميلًا أخلاقيًّا وآخر نظريًّا: الميل الأخلاقي يدفع بالإنسان إلى تحقيق إنيته في صورة كل منسجم مغلق أي مستقل بنفسه، والميل النظري يدفع بنا إلى اعتقاد الوجود كلًّا مترابط الأجزاء مغلقًا فإذا كنا لا نستطيع أن نصير كلًّا بذاتنا، وجب أن نجعل من ذاتنا جزءًا من كل أوسع، وإذا بدت لنا متناقضات في كل صغير، وجب أن نتصور كلًّا أكبر، هناك إذن نوافق بين طبيعتنا العملية وطبيعتنا النظرية، ولنا من طبيعتنا مقياس نعلم به ما نسميه أعلى وما نسميه أسفل، ولم يكن الإنسان ليحس ألم التناقض بين نوازعه لو لم يكن هو نفسه كلًّا لم يعلم أنه كل، فإن التناقض يجيء من عدم الانسجام الباطن من جهة، ومن عدم التوفق مع الخارج من جهة أخرى.
على أن هذه المناقشة تفترض أن لدينا مقياسًا لما هو وجود وحقيقة، والواقع أن لنا في «معنى التجربة» هذا المقياس: في هذا المعنى شيئان مرتبطان ارتباطًا وثيقًا، هما الكثرة والعلاقة المنسجمة بين وحداتها، فالتجربة الكاملة تفترض محتوى واسعًا جدًّا مرتبطًا أوثق ارتباط بحيث يؤلف كلا حقًّا، وهذا مقياس الحقيقة، وهو أيضًا مقياس القيمة في العمل؛ ذلك بأن كل ميل من ميولنا لا يجد رضاءه فهو معنى غير تام، وكل ألم فهو تعبير عن عدم انسجام وهو حافز لرفع هذا العدم، فالنقص والقلق وعدم الانسجام، ذلك نصيب الموجود المحدود، في حين أن مثلنا الأعلى العملي يقضي بإرضاء كل ناحية ن طبيعتنا بانسجام مع سائر النواحي، ولكننا عاجزون عن تصور ما يرضي المقياس تمام الرضا، وفينا تعارض مستمر بين الكثرة والانسجام، والسبب في عدم الانسجام الحد، ولا يرفع الحد إلا بمحتوى أوسع يمحو تبعيتنا للعلاقات الخارجية التي هي سبب الاضطراب الباطن؛ لذا كان الموجود اللامتناهي دون غيره منسجمًا تمام الانسجام وثابتًا لا يتغير لأنه كامل؛ ولذا كنا ننزع دائمًا إلى الصعود ونريد أن نفنى في المحبة كما يصب النهر في البحر، والفلسفة والدين تعبيران عن المطلق الذي نصبو إليه، الفلسفة ترينا أن العلم شيء ضئيل بالإضافة إلى غنى الوجود، ويحاول الدين تصور المطلق في ذاته بمعانٍ مستمدة من التجربة، ولكن الفلسفة علم يراجع ماهية المعاني وقيمتها، والدين لا يراجع، فمن هذه الوجهة الفلسفة أرفع، والفلسفة علم نظري، والدين مجهود يتجه إلى التعبير عن الحقيقة الكاملة للخير بواسطة جميع نواحي طبيعتنا، فمن هذه الوجهة الدين أرفع ومن الخاصة هذه نتبين أن برادلي تصوري لا يعترف لمعاني العقل بغير قيمة اصطلاحية، وأنه أحادي يقضي على وجود الفرد، فيتفق مع أصحاب البراجماتزم في النقطة الأولى، ويختلف عنهم في الثانية.
(٢) برنارد بوزنكيت (١٨٤٨–١٩٢٣)
تخرج هو أيضًا في أكسفورد وكان أستاذًا فيها، أهم كتبه: «المنطق» (١٨٨٨) «قيمة الفرد ومصيره» (١٩١٣) «ما الدين» (١٩٢٠)، هو من رجال الهجلية الجديدة، ولكنه لا يرى أن هناك فكرًا خالصًا ومنطقًا خالصًا ومعنى مجردًا هو كلي فحسب، وإنما الوجود عنده مركب من الكلية والتشخص، فالمنطق عنده معرفة تركيب الأشياء أو هو العلم الذي يجعل الأشياء قابلة لأن تكون معقولة، فهو يعرض لتأييد مذهب برادلي بالاعتماد على التجربة، فيرى أن الوجود موجود فردي مستوعب كل شيء معقول تمام المعقولية، وأنه وحده «موجود» وما عداه ن الجزئيات، عقولًا أو أشياء، فله فردية جزئية ووجود جزئي، والدليل على ذلك أن الإدراك الظاهري والتفكير والحياة الاجتماعية والأفعال الأخلاقية والتأمل الفني والتجربة الدينية، كل أولئك يظهرنا على أن تحقيق أنفسنا معناه تسليم أنفسنا لشيء أوسع من الأنا، هذا الشيء هو المطلق، والمطلق هو الذي كتب الدراما العالمية وهو الذي يحققها، إنه فنان وممثل ومنطيق، فالوجود تراجيديا، وما فيه من شر فهو يشارك في كمال الكل، على ما نرى في التراجيديات التي يؤلفها البشر، وحين ينظر الفرد المحدود إلى الشر ويقبله بهذا الاعتبار، يراه وإذا به يفقد من شريته ويفيد هو منه بأن يحاربه ويفوز عليه.
(٣) صمويل ألكسندر (١٨٥٩–١٩٣٨)
أستاذ بجامعة مانشستر، مشهور بكتاب عنوانه «المكان والزمان والألوهية» (١٩٢٠) يؤيد فيه الموضوعية، ولكن الموضوعية تصير عنده شيئًا شبيهًا بالمادية، فإنه يمضي في إثر إنشتين وغيره من العلماء المعاصرين، فيحول المادة التي تعطينا المكان، والحركة التي تعطينا الزمان، إلى شيء واحد هو «المكان الزماني» فيتصور الطبيعة في البدء أصلًا ذا أربعة أبعاد فيه مبدأ محرك ومنه تخرج المادة والكيفيات الثانوية والحياة والفكر الذي هو عبارة عن الجهاز العصبي، وكلها تعينات مكانية زمانية، كذلك الحال في المقولات التي اعتبرها كنط غريزية في العقل توجد بها تنوعات الزمان والمكان، فما هي إلا تعينات موضوعية للوجود المركب من مكان وزمان معًا، فمن خصائص هذا الوجود تلزم جميع المقولات: فمقولة الوجود هي شغل جزء من المكان الزماني، ومقولة الجوهر تدل على مكان محدود بنطاق تتعاقب فيه أحداث، ومقولة الشيء تأليف حركات، ومقولة الإضافة هي الرابطة المكانية الزمانية بين شيئين، ومقولة العلية تدل على الانتقال من حادث إلى آخر، وفي الطبيعة ميل إلى إيجاد صور أرقى فأرقى يعتمد كل منها على ما دونه كما يعتمد الفكر على الجسم، هذا الميل هو الألوهية، وهي بالنسبة إلى كل مرتبة المرتبة التي تبرز بعدها، أما بالنسبة إلى الإنسان فلم تبرز الألوهية بعد؛ فهذا المذهب يرجع إلى المادية التطورية.
(٤) ألفرد نورث هوايتهد (١٨٦١)
أستاذ بكمبردج (١٩١١–١٩١٤) وبجامعة لندن (١٩١٤–١٩٢٤) للرياضيات التطبيقية والميكانيكا، وأستاذ الفلسفة بجامعة هارفارد الأمريكية، (١٩٢٤–١٩٣٨)، أهم كتبه: «المبادئ الرياضية» في ثلاثة مجلدات (١٩١٠–١٩١٣) بالاشتراك مع برترند رسل، و«بحث في مبادئ المعرفة الطبيعية» (١٩١٩)، و«معنى الطبيعة» (١٩٢٠)، و«العلم والعالم الحديث» (١٩٢٦)، و«الدين في تكونه» (١٩٢٦)، هو يرمي إلى نصرة الموضوعية كما تبدو في الوجدان، فلا يقر العلماء على رد الأشياء إلى عناصر عاطلة من الكيفيات ولا يقر الماديين على إنكار الجمال والأخلاق والدين، بل يرى أن للكائن أيًّا كان طبيعة معينة، وأنه عبارة عن كل أو نظام أجزاؤه وتركيبها تابعة لطبيعة الكائن، غير أن هذه الأجزاء ليست عناصر أو مركبات من عناصر، وإنما هي أحداث أو وحدات مكانية زمانية وعلاقات بين الأحداث، تجري هذه وتلك بمقتضى قوانين ثابتة، وجملة هذه القوانين يمثل الألوهية التي لم تتحقق ولن تتحقق أبدًا تمام التحقق لأن قانون الوجود التطور المتصل.
(٥) فرديناند شيلر (١٨٦٤–١٩٣٧)
(٦) برترند رسل (١٨٧٢)
أستاذ للفلسفة بجامعة كمبردج (١٩١٠–١٩١٦) وأحد أعلام المنطق الرياضي في هذا العصر، نشر كتبًا كثيرة: منها كتاب قيم عن «فلسفة ليبنتز» (١٩٠٠) و«مبادئ الرياضيات» (١٩٠٣) و«المبادئ الرياضية» بالاشتراك مع هوايتهد كما ذكرنا، و«مسائل الفلسفة» (١٩١٢) و«معرفتنا بالعالم الخارجي» (١٩١٤) و«المدخل إلى الفلسفة الرياضية» (١٩١٨) و«تحليل الفكر» (١٩٢١) و«تحليل المادة» (١٩٢٧) و«موجز الفلسفة» (١٩٢٨) و«تاريخ الفلسفة الغربية» (١٩٤٦) وكتب أخرى في الفلسفة والسياسة والتربية كانت هدفًا لنقد المحافظين لما حوت من آراء متطرفة، وهو يذهب مع هوايتهد إلى إمكان استنباط الرياضيات من المنطق، ويعلن المنطق «المنقذ الأعظم» لأن الفلسفة تتطلب البرهان المنطقي، وليست تأليفًا تمليه المنافع الإنسانية كما يريد أصحاب البراجماتزم، والمنطق يدرس جميع العلاقات الممكنة، وهذه العلاقات تأليفات حرة تحسم بينها التجربة فيؤخذ بالعلاقات المطابقة للتجربة ويغفل ما عداها، والعالم الخارجي متكثر، وأصوله أو مبادئه ذرات هي أحداث، والمركبات تتألف من هذه الأصول، ولكن للمركب خواصه وفعله فلا يمكن تصوره كأنه مجرد مجموع.