الفصل الاول

اغرورقت عيناه. رغم ضبطه لمشاعره وكراهيته أن يبكي أمام هؤلاء الرجال اغرورقت عيناه. وببصر مائع نظر إلى الجثمان وهو يُحمل من النعش إلى فوهة القبر، بدا في كفنه نحيلًا كأن لا وزن له، شد ما هزلت يا أماه، وتوارت عن ناظريه تمامًا فلم يعد يرى إلا ظلمة وسطعته رائحة التراب، ومن حوله احتشد الرجال ففاحت أنفاس كريهة وعرق، وفي الحوش خارج الحجرة ارتفع لغط النساء، وانفعل برائحة التراب حتى عافت نفسه كل شيء. وهمَّ بالانحناء فوق القمر، ولكن يدًا شدَّت على ذراعه وصوتًا قال: تذكَّر ربك.

تقزز من ملمسه ولعنه من الأعماق. هذا خنزير كسائر من حوله من الخنازير. ولكن لحظة الوداع استردته بوخزة كالندم، وقال أن معاشرة ربع قرن من الزمان لا تعني في هذه اللحظة شيئًا، ولا تساوي شيئًا. وتردد من بعيد صوت كالعواء، ثم دخل الحجرة طابور من العميان فطوقوا القبر في نصف دائرة ثم جلسوا القرفصاء. وشعر بأعين كثيرة تُحدِّق فيه أو تسترق إليه النظرات، إنه يعرف ما تعنيه هذه النظرات. وشدَّ قامته الفارعة الرشيقة في عناد. يقولون لِمَ يقف هكذا غريبًا في منظره وملبسه كأنه ليس واحدًا منا؟ لِمَ نحَّته أمه عن بيئته ثم تركته وحيدًا؟ إنهم لا يعزونك ولكنهم يدارون شماتتهم بك. ومذاق الحياة أمسى كالتراب. وبرز من الفوهة الترابي ومساعده فوقفا فوق سطح الأرض مرة أخرى، وأقبلا يسدان القبر، ثم يسويَّان الأرض في نشاط وحيوية. ونادى السقاء على الماء. ورتل العميان. ثم ردَّد رئيسهم التلقين. وتساءل عما ستجيب به أمه! وقال أنها ستكون وحيدة حقًّا. وماذا يقول في ذلك الخنازير؟ ها هو الخشوع يغشى جباههم كسحابة صيف. وأدركه الضجر فتاق إلى الوحدة في بيته، وألحت عليه رغبة في أن يعيد النظر في كل شيء. ستحدق الأسئلة المحرجة بأمه في ظلام القبر. ولن يساعدها أحد من هؤلاء الشياطين، ولكن يومكم سيجيء. وانخفضت الأصوات في نغمة حزينة موحية بالختام، ووقف الطابور في حال انتظار وتقدم الترابي منه خطوات. عند ذاك قال الواقف إلى يمينه: دعه لي فلا تحاسبه، إني أدرى بهؤلاء الناس.

وثار حنقه من جديد، ولكنه أدرك أن الطقوس قد انتهت، وتضاعف شعوره بالوحدة. وألقى على المقبرة نظرة شاملة فارتاح لأناقتها، وتراءى له بين قضبان النافذة اللبلاب والصبار والريحان التي تزركش جدار الفناء والأركان. كانت رحمها الله تحب الرفاهية فأعدتها للدارين، ولكن لم يبق لها إلا المقبرة. وتحرك الناس في بطءٍ نحو الحوش فمضى إلى الباب الخارجي ليودع المشيعين. وصافحته النساء أولًا، ورغم ثياب الحداد والبكاء واللطم لم تختف من أعينهن نظرات الفجور، ولا زايلت جوَّهن القحة وفلتات التهتك. وتتابع الرجال، شد حيلك وسعيكم مشكور، من تاجر مخدرات إلى بلطجي، ومن برمجي إلى قواد. وأتبعهم نظرة باردة وهو لا يشك في أنهم يبادلونه نفس العاطفة. ومع ذلك لم ينس أنه مدين لهم، وهو ما يؤكد سخطه دوامًا. وقال أنه قد انتهى منهم إلى الأبد ولكنه بلا نصير. وفي طريقه إلى مسكنه بشارع النبي دنيال لفحه هواء منعش معبق بأنفاس الخريف، وبدت السماء غامضة في مولد المغيب. مسكن النبي دنيال الذي شهد فترة بهيجة ناعمة من حياته، ولا أثر للراحلة في مسكنه إلا صوان كبير ونارجيلة مهملة تحت فراشها المهجور. وجلس في شرفة تطل على ملتقى النبي دنيال بسعد زغلول يدخن سيجارة، فجذب بصره استعداد قائم في شقة على الجانب الآخر للطريق تسكنها أسرة أفرنجية، فثمة بوفيه رصت عليه القوارير وأوعية الثلج، وفي نهاية البهو تعانق رجل وامرأة بحرارة لا تناسب الوقت المبكر. وقال أنه ابتداء من اليوم سيعرف الحياة على حقيقتها. إنه وحيد بلا مال، ولا عمل، ولا أهل، ولم يبقَ له إلا أمل غريب كالحلم. إنه مطالب منذ اليوم بتأمين حياته، وهي مسئولية لم يتحملها من قبل، إذ نهضت بها أمه وحدها، ففرغ هو طوال الوقت لإمتاع شبابه اليافع. وأمس فقط لم يكن يفكر في الموت بحال. في مثل هذه الساعة أو قبل ذلك بقليل جاء الحنطور بأمه فغادرته معتمدة على ذراعه، وسارت في خطوات متثاقلة متخاذلة من الإعياء والضعف، وقد وهنت، وهزلت، وكبرت ثلاثين عامًا فوق عمرها الحقيقي الذي لم يجاوز الخمسين. هكذا تبدت بسيمة عمران في آخر صورة لها، وهي راجعة إلى بيت ابنها، أو البيت الذي أعدته لابنها، بعد أن قضت في السجن خمس سنوات. وتأوهت قائلة: أمك انتهت يا صابر.

فحملها بين ذراعيه دون مشقة وهو يقول: كلام فارغ، ما زلت في عز الشباب.

واستلقت على فراشها قبل أن تنزع قطعة من ملابسها، ثم أمالت وجهها نحو مرآة الصوان وقالت بحسرة وهي تنهج: أمك انتهت يا صابر، من يصدق أن هذا الوجه هو وجه بسيمة عمران!

أجل. في استدارة البدر كان. ووجنة موردة كالتفاح. وأما الجسد الجسيم الهائل فلم يكن ليهتز هزة واحدة عند القهقهة، وقهقهتها كانت تهتز لها المجالس.

– لعنة الله على المرض.

فقالت وهي تجفف وجهها بكمها رغم لطافة الجو: ليس المرض ولكنه السجن، والمرض جاء من السجن، أمك لم تُخْلَق لذلك، وقالوا الكبد والضغط والقلب، الله يمرض عيشتهم، ترى ألا يمكن أن أرجع إلى ما كنت؟

– وأحسن، عندك الراحة والطب.

– والمال؟

وامتعض عند ذلك فلم ينبس، فسألته: ماذا تبقى لك منه؟

لم يخل من حذر وهو يجيب: شيء لا يذكر.

– كنت حكيمة عندما كتبت بيت رأس التين باسمك وإلا صادروه فيما صادروا من مالي.

– ولكني بعته عندما نفدت نقودي كما قلت لك وقتها.

فتأوهت وهي تضع راحتها على يافوخها: آه يا رأسي، ليتك أبقيت عليه، كان في يدك مال كثير، ولكنني أنا التي عودتك على الحياة الحلوة، أردت أن تعيش مثل الأكابر، وأردت أن أترك لك ثروة لا يغرقها البحر، ثم …

– ثم ضاع كل شيء في خبطة واحدة.

– نعم، منهم لله، انتقام وضيع من رجل وضيع. رجل طالما تنعَّم بنقودي، ثم حقد علي بسبب بنت لا تساوي ثلاثة ملاليم، فتذكر فجأة الواجب والقانون والأعراض وأوقع بي ابن الزانية، لذلك بصقت على وجهه في المحكمة.

وطلبت سيجارة بإشارة من يدها فأشعل لها سيجارة وهو يقول: الأفضل ألا تدخني الآن، هل كنت تدخنين هناك؟

– سجائر وحشيش وأفيون، ولكني كنت قلقة عليك دائمًا.

ودخنت رغم تهافتها، وجففت وجهها وعنقها بيدها الأخرى: وماذا عن مستقبلك يا بني؟

– كيف لي أن أدري؟ ليس أمامي إلا أن أعمل برمجيًّا، أو بلطجيًّا، أو قوادًا!

– أنت!

– حق أنك علمتني حياة أجمل، ولكني أخشى ألا يكون ذلك في صالحي.

– أنت لم تخلق للسجون.

– وماذا في الدنيا غير هذه الأعمال؟

ثم مستدركًا في حدة: كم شمت بي الأعداء في غيابك!

– صابر … تجنب الغضب … إنه الغضب الذي أدخلني السجن، فما كان أسهل علي أن أرضي الوغد الذي غدر بي.

– في كل مكان أصادف من يستحق السحق.

– دعهم يقولون ما يشاءون ولكن لا تستعمل قبضتك.

فكور قبضته قائلًا: لولا هذه القبضة لعرَّضوا بي في كل مكان، إن أحدًا لم يجرؤ على ذكرك بسوء أمامي حتى وأنت في السجن.

فنفخت الدخان في غضب، وقالت: أمك أشرف من أمهاتهم، إني أعني ما أقول، ألا يعلمون أنه لولا أمهاتهم لبارت تجارتي!

ابتسم صابر رغم الكآبة الشاملة، فعادت تقول: إنهم مهرة في خداع الناس بمظاهرهم، الوجيه فلان، المدير فلان، الخواجا علان، سيارات وملابس وسيجار، كلمات حلوة، روائح زكيَّة، لكنني أعرفهم على حقيقتهم، أعرفهم في حجرات النوم وهم مجردون من كل شيء إلا العيوب والفضائح، وعندي حكايات ونوادر لا تنفد، الأطفال الخبثاء القذرون الأشقياء، وقبل المحاكمة اتصل بي كثيرون منهم ورجوني بإلحاح ألا أذكر اسم أحد منهم ووعدوني بالبراءة، مثل هؤلاء لا يجوز أن يعيروك بأمك، فأمك أشرف من أمهاتهم وزوجاتهم وبناتهم، وصدقني أنه لولا هؤلاء لبارت تجارتي.

عاود الابتسام، فتأوَّهت قائلة: أين أيام الضحك؟ أين؟ أمك أحبتك بكل قواها، ولك أعددت هذا المسكن الجميل بعيدًا عن جوِّي كله، وأرسلت مالي يجري تحت قدميك، فإذا جاءتك مني إساءة لا حيلة لي فيها فلا ذنب لي، وليس في الرجال من له نصف جمالك ورشاقتك، غير أنه يجب أن تتجنب الغضب وأن تتعظ بما جرى لي.

رنا إلى تعاستها بحزن، ثم تمتم: سيعود كل شيء إلى أصله.

– أصله؟ أنا انتهيت، بسيمة أيام زمان لن يعود، ولا سبيل إلى العمل من جديد، لا الصحة تسمح بذلك ولا البوليس.

ونظر في الأرض قائلًا: لم يبق من ثمن البيت إلا القليل.

– وما العمل؟ يجب أن تعيش كما عودتك.

– لكني لم أعرفك يائسة أبدًا.

– إلا هذه المرة.

– إذن عليَّ أن أعمل أو أن أقتل.

أطفأت السيجارة ثم أغمضت عينيها إعياء أو طلبًا للتركيز، فقال صابر: لا بدَّ من مخرج.

– نعم طالما فكرت في ذلك وأنا في السجن.

لأول مرة في حياته تزعزعت ثقته في أمه. واستطردت المرأة: أجل فكرت طويلًا، ثم أقنعت نفسي بأنه لا يصح أن أصر على الاحتفاظ بك ما دام ذلك في غير مصلحتك.

حدجها بنظرة متسائلة من عينيه السوداوين فتمتمت بنبرة اعتراف منهزمة: أنت لا تفهم شيئًا ولك الحق، الواقع أن الحكومة صادرتك ساعة صادرت أموالي، لم يعد لي الحق في امتلاكك أنت أيضًا. أدركت ذلك يوم صدور الحكم.

وصمتت من شدة معاناة اليأس، ثم واصلت: معنى هذا أنه يجب أن تهجرني.

تساءل بامتعاض: إلى أين؟

أجابت بصوت لا يكاد يُسمع: إلى أبيك.

رفع حاجبيه المقرونين في ذهول هاتفًا: أبي؟

فهزَّت رأسها علامة الإيجاب، فقال: لكنه ميت، أنت قلت أنه مات قبل مولدي.

– قلت ذلك ولكنه ليس من الحقيقة في شيء.

– أبي حي! شيء مذهل حقًّا، أبي حي!

وجعلت ترمقه بنظرة استياء، ومضى هو يقول: أبي حي! لكن لم أخفيت عني ذلك؟

– آه، جاء دور الحساب.

– أبدًا، ولكن ألا يحق لي أن أسأل؟

– أي أب في الدنيا كان يمكن أن يهيئ لك من أسباب السعادة بعض ما هيأت لك.

– لا أنكر شيئًا من هذا أبدًا.

– إذن فلا تحاسبني واستعد للبحث عنه.

– البحث؟

– نعم، إني أتحدث عن رجل كنت امرأة له منذ ثلاثين عامًا، ثم لم أعد أدري عنه شيئًا.

قطب في حيرة وتهاوى جذعه الذي أطلقه الانفعال: أمي ما معنى هذا كله؟

– معناه أني أوجهك إلى المخرج الوحيد من ورطتك.

– لعله قد مات.

– ولعله حي.

– وهل أضيع عمري في البحث عن شيء قبل التأكد من وجوده؟

– ولكنك لن تتأكد من وجوده إلا بالبحث، وهو خير على أي حال من بقائك بلا مال، ولا عمل، ولا أمل.

– موقف غريب لن أُحسد عليه.

– بديله الوحيد أن تعمل برمجيًّا، أو بلطجيًّا، أو قوادًا، أو قاتلًا، فلا بد مما ليس منه بد.

– وكيف يمكن أن أعثر عليه؟

تنهدت من الأعماق وهي تزداد تعاسة بالعودة إلى الماضي.

– أما اسمه فهو المسجل في شهادة ميلادك، سيد سيد الرحيمي، وقد أحبني منذ ثلاثين عامًا وكان ذلك في القاهرة.

– القاهرة! ليس أيضًا في الإسكندرية!

– إني أعلم أن مشكلتك الحقيقة ستكون في العثور عليه.

– لِمَ لَمْ يبحث عني هو؟

– إنه لم يعلم بك.

قطب صابر، واستقرت في عينيه نظرة احتجاج مكفهرة، فقالت: انتظر، لا تنظر إلي هكذا، واسمع بقية الحديث عنه، إنه سيد ووجيه بكل معنى الكلمة، لا حدَّ لثروته ولا نفوذه، لم يكن في ذلك الوقت إلا طالبًا بالجامعة، ومع ذلك كانت الدنيا تهتز لدى محضره.

تابعها بنظرة تجلى فيها الاهتمام المشوب بالفتور، فقالت: أحبني، وكنت بنتًا جميلة ضائعة، وحفظني سرًّا في قفص من ذهب.

– تزوجك؟

– نعم، وما زلت أحتفظ بشهادة الزواج.

– ثم طلقك؟

تنهدت قائلة: بل هربت.

– هربت؟

– هربت بعد معاشرة أعوام وأنا حبلى، هربت مع رجل من أعماق الطين.

بذهول وهو يهز رأسه: شيء لا يُصدَّق.

– وبعد قليل ستتهمني بأنني المسئولة عن ورطتك.

– لن أتهمك بشيء فحسبنا ما بنا، ولكن ألم يبحث عنك؟

– لا أدري، هربت إلى الإسكندرية، ثم لم أسمع عنه شيئًا، وكثيرًا ما توقعت أن ألقاه يومًا في أحد بيوتي، ولكن عيني لم تقع عليه.

ضحك في فتور، ثم قال: وبعد ثلاثين عامًا تدفعينني للبحث عنه.

– اليأس يدفعنا إلى ما هو أغرب من ذلك، وستكون معك شهادة الزواج، وستكون معك أيضًا صورة الزفاف، وسوف ترى بعينك أنك صورة منه.

– عجيب أن تحتفظي بالشهادة والصورة.

– كنت أفكر في مستقبلك، وكنت فتاة فقيرة تعيش في كنف بلطجي، ولما أتاني صدقت نيَّتي على الاستئثار بك.

– ومع ذلك لم تتخلصي من بقايا الذكريات.

جففت وجهها وعنقها بحركة حادة بعض الشيء، وقالت: هممت بذلك مرات ثم عدلت، كأن ركنًا فيَّ كان يتنبأ بما سيقع.

راح يذرع الحجرة في حيرة، ثم وقف أمام السرير وهو يسأل: وإذا بعد الجهد والتعب أنكرني؟

– من يرى بهاء صورتك وينكرك؟

عاد إلى الجلوس وهو يقول: القاهرة مدينة كبيرة وأنا لم أزرها من قبل.

– من قال أنه اليوم في القاهرة؟ لِمَ لا يكون في الإسكندرية، أو في أسيوط، أو دمنهور؟ الحق أنه لم يطلعني على حال من أحواله، أين هو اليوم؟ ماذا يعمل؟ أهو أعزب أم متزوج؟ الله وحده يعلم.

فلوح بيده كالغاضب، وقال: وكيف يراد مني العثور عليه؟

– ليس ذلك يسيرًا بطبيعة الحال، ولكنه ليس بالمحال، وأنت لك معارف من ضباط البوليس والمحامين، وليس من شخصية كبيرة إلا ولها في القاهرة مقام.

– أخشى أن ينفد مالي قبل العثور عليه.

– لذلك يجب ألا تتوانى عن البحث.

وتفكَّر قليلًا، ثم سأل: وهل هو يستحق يا ترى كل هذا التعب؟

– بلا أدنى شك يا بني، ستجد في كنفه الاحترام والكرامة، وسيحررك من ذل الحاجة إلى أي مخلوق بما سيهيئ لك من عمل غير البلطجة أو الجريمة، فتظفر آخر الأمر بالسلام.

– وإن وجدته فقيرًا! ألم تكوني أنت غنية لا يحيط بثروتك حصر؟

– أؤكد لك أن المال ليس إلا حسنة من حسناته، وقد كنت غنية حقًّا، ولكني لم أهيئ لك كرامة، ولا عملًا، ولا سلامًا، وكنت تسير ملوحًا بكلمتك لتخرس الألسنة المتوثبة للنيل منك ومن أمك.

عاد إلى التفكير فخُيِّل إليه أنه يحلم، ثم سألها: هل تؤمنين حقًّا بأنني سأعثر عليه؟

– شيء يحدثني بأنه حي، وبأنك إذا لم تيأس أو تتوان فسوف تعثر عليه.

هزَّ رأسه وهو بين الحيرة واليأس، وتمتم: هل حقًّا أمضي للبحث عنه؟ وإذا علم أعدائي بهذه الحكاية أفلن يجعلوا مني نادرة جنونية؟

– وماذا يقولون إذا وجدوك آخر الأمر قوادًا؟ الحق أنه لا خيرة لك فيما أنت ذاهب إليه.

أغمضت عينيها بعد ذلك وغمغمت: «إني تعبة جدًّا»، فرجاها أن تنام على أن يستأنفا الحديث غدًا. وخلع حذاءها ثم غطاها، ولكنها أزاحت الغطاء عن صدرها بحركة عصبية فلم يعده، وما لبث شخيرها أن تردد. واستيقظ حوالي التاسعة من صباح اليوم التالي بعد ليلة سهاد ممزقة بالفكر، وذهب إلى حجرتها ليوقظها فوجدها ميتة. ترى هل ماتت وهي نائمة، أو أنها نادته آخر الليل فلم يسمع؟ على أي حالٍ وجدها ميتة وهي لم تزل بالملابس التي غادرت بها السجن. وها هو الآن يتفحص بعناية ودهشة صورة الزفاف. الصورة التي جمعت بين والديه منذ ثلاثين عامًا. وها هو يركز بصره على صورة أبيه، على وجهه بالأخص. شابٌّ جميلٌ حقًّا، مفعم بالشباب والحيوية، ونظرته تفيض بالاعتداد بالنفس، ووجهه المائل للبياض، المستطيل الممتلئ، ذو الجبهة العالية، والطربوش المائل المائل إلى اليمين، لا يمكن أن ينسى. ولم تكذب أمه حين قالت أنه صورة منه، ولكنه كما يكون القمر على الورق صورة من القمر في كبد السماء.

وفي شقة الجيران أخذ المدعوون يتوافدون وأنغام الموسيقى تترامى، هذا وصوت القرآن يُتلى في غرفة المرحومة. والآن أين هي الحقيقة؟ وأين هو الحلم؟ أمك التي ما تزال نبرتها تتردد في أذنك قد ماتت، وأبوك الميت يبعث في الحياة. وأنت المفلس المطارد بماضٍ ملوث بالدعارة والجريمة تتطلع بمعجزة إلى الكرامة والحرية والسلام.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤