الفصل العاشر

تذوق اللبن، والبيض، والفاكهة، وانظر جيدًا إلى هؤلاء الناس في الاستراحة، فعما قريب ستختلف عنهم جد الاختلاف، وعندما يأتي الليل ستكتسب صفة دموية غريبة فتنضم إلى طائفة المجرمين. ها هو عم خليل أبو النجا، يستقبل الصباح البارد، يده لا تكف عن الارتعاش، ولا يفكر في الموت. سيقف عمرك عند العاشرة مساء، أنت لا تعلم ولكنني أعلم، فلا تشغل بالك بمتاعب الدقيقة التالية. تقبل نصيحة أخ يائس. ولعلي الآن أشارك الله في بعض علمه بالغيب، مذ قبلت أن أكون قاتلًا. ورن جرس التليفون فضحك ضحكة سمعها الأقربون من حوله، أهو سيد سيد الرحيمي يجيء في اللحظة الحاسمة ليغير المصير المحتوم؟ ورفع عم محمد الساوي السماعة، ثم قال: «لا، لا يا حضرة». لا، لا، وأنا أقول لا يا سيدي الرحيمي. أنت تنكر ابنك وابنك سينكرك، ليس في حاجة إليك، سيبحث عن الحرية والكرامة والسلام عند غيرك. ها أنت تتثاءب يا عم خليل فحتام تغالب النوم الأبدي؟ لماذا تُصر على جرِّي إلى مصير محتوم؟ ما معنى أن يتمتع بمالك سالب حياتك، وأن تسقط أمي بلا عقل. وأن يصمت أبي بلا رحمة، وأن تتعلق آمالي بإزهاق روح؟ خبرني عن معنى ذلك كله. أسبوع مَرَّ ولا فكر إلا في الجريمة، وكم كانت الأحلام مختلفة عندما تحرك القطار من محطة الإسكندرية. وهؤلاء الرجال ألم يرتكب أحدهم جريمة؟ ثرثرة المال والحرب والحظ التي لا تنتهي، ونبوءات عن جرائم في باطن الغيب، وغفلة تامة عن جريمة تدبر تحت أعينهم.

حوالي العاشرة غادر صابر الاستراحة فحيا عم خليل، ومضى إلى الطريق وهو يقول لنفسه: «غادرت الفندق في العاشرة، ولم أرجع إليه قبل الواحدة صباحًا»، ألقى نظرة على مدخل العمارة المجاورة، كأنه سوق لكثرة الداخلين والخارجين، ثم قال لنفسه: «السطح خال، ولا يُرَى من مكان قريب، والظلام ينتشر ابتداء من الخامسة مساء»، فكَّر في زيارة إلهام بالجريدة، ولكنه افتقد التركيز الضروري للزيارة، وكره محادثتها وهو ينضح بالدم. وماذا يقول لها وهو يهجر طريقها إلى الأبد؟ ومرَّ أمام الجريدة وهو حزين حقًّا، وتخيل مجلس إلهام، ونظراتها، وسؤالها المألوف عن الرحيمي، ولفتاتها الرقيقة، وعجزه عن الارتفاع إلى مسئولية حبها. وقتل الوقت بالمشي في الشوارع، وتناول غداءه في بقالة الحرية بكلوت بك وشرب كأسين. وقال له البقال: الجو رديء.

فقال وهو يغادر المحل: أنا مجرم من سلالة مجرمين.

ومضى وضحكة الرجل تودعه، وصمَّم فجأة على مقابلة إلهام في فتركوان ولكنه لم يجدها، وقيل له أنها ذهبت عقب الغداء مباشرة. وأفاق من تصميمه المندفع فجفل من فكرة زيارة الجريدة. ولبث في المحل حتى الخامسة، ثم مضى إلى شارع الفسقية، فوقف تحت البواكي في شبه ظلمة على الجانب المقابل للعمارة المجاورة للفندق، وهو يتفحص المكان. وارتفع صوت الشحاذ بالمديح غير بعيد من موقفه فتقزز من المفاجأة، وانتهز فرصة انشغال البواب بمساومة بائع خس فعبر الطريق إلى العمارة ودخل. شقَّ سبيله في مدخل مزدحم. ورقى في سلم مزدحم كذلك وصاخب، بين أبواب مفتوحة على شقق مكتظة بالعمال والزبائن. وقد وقعت عليه أعين كثيرة ولكنها لم تره. وجعل يختلس النظرات إلى الوجوه ليرى إن كان ثمة أحد يعرفه من نزلاء الفندق، حتى بلغ السطح في أمان. في الفضاء تبدت الظلمة أقل كثافة فرأى السطح مغطى بالنفايات، ولكنه خال من الآدميين. اطمأن نوعًا ونظر فيما حول سطح العمارة فلم ير مبنى يطل عليه، ثم استقرت عيناه على سطح الفندق فرأى — منتفضًا — كريمة وهي تجمع الغسيل. هي تنتظره بلا شك، ولعلها رأته وهو يعبر الطريق إلى مدخل العمارة، ويداها مهتمتان بفك المشابك، ولكن وعيها مركز في طرف عينها المتجسسة. رأته عند مدخل السطح فأشارت إليه بالاقتراب، فدلف من السور وقد انحصر وعيه في تصميمه الجريء كاسحًا وساوسه واضطرابه. وظلت مولية ظهرها له كأنها لا تشعر به، وسألته: هل رآك أحد يعرفك؟

– كلا.

– علي سريقوس تحت، سأقف عند رأس السلم حتى تعبر السور.

وذهبت حاملة الغسيل حتى غيبها جدار الشقة الذي يشطر السطح، فنظر حوله بحذر، ثم وثب إلى السور وهبط فوق سطح الفندق، وتقدم في أثرها، ثم وقف أمام مدخل الشقة. أطل رأسها من وراء باب السطح، وهمست: الباب مفتوح فادفعه وادخل.

اتجه نحو الباب وضغط عليه براحته فانفتح. شهق بعمق ثم زفر، ودخل إلى دهليز غارق في الظلمة فتسمر وراء الباب. وما لبثت أن لحقت به فأغلقت الباب وأضاءت المصباح. رآها شاحبة الوجه براقة العينين، ولا أثر هناك لحيويتها الفاتنة. تعانقا بلا مقدمات، وبعصبية وعنف، ولكن بلا روح ولا حس، ثم انفصلا وهما يتبادلان نظرة ذاهلة. قال: أي خطأ سيهلكنا.

فقالت بنبرة جافة: ثبت قلبك، كل ما حولنا مطمئن، وسينتهي كل شيء كما رسمنا.

وتقدمته لتريه الشقة الصغيرة، من الدهليز إلى حجرة كبيرة أُعدت للنوم، متصلة بباب مشترك بحجرة أصغر للسفرة والجلوس، وسوى ذلك لا توجد إلا المرافق. ألقى نظرة على أثاث الحجرة الكبيرة فخيل إليه أن للسرير والصوان والكنبة التركية أعينًا ترنو إليه ببرود وعدم اكتراث، وأوشك لحظة أن يفصح عن مشاعره، ولكنه خجل من ذلك واكتفى بقوله: الحجرة كئيبة.

فأجابته وكانت تفيق رويدًا من صدمة اللقاء والتسلل: ربما، المهم أنك ستنتظر هنا في حجرة النوم، ويجب أن تختبئ تحت السرير بمجرد أن تسمع الباب الخارجي وهو يفتح.

– الأرض خشب؟

– أجل، ومغطاة بالبساط، البساط يغطي أرض الحجرة كلها.

– طبعًا سيغلق الباب الخارجي؟

– طبعًا، الساوي يوصله عادة وخاصة حال غيابي، وهو يغلق الباب بنفسه، وغالبًا ما يترك المفتاح في القفل أو يضعه على الترابيزة، وستفتحه وتخرج.

– ألا أفاجأ بوجود أحد فوق السطح؟

– كلا، علي سريقوس ينزل بعد توصيل الرجل، وهو ينام في الدور الثالث.

– سيسألون كيف دخل اﻟ …؟

– ستكون النوافذ مغلقة، فإما أنه نسي أن يغلق الباب بعد ذهاب الساوي، أو أنه فتح لطارق.

– هل يُعقَل أن يفتح لطارق قبل أن يسأله عن هويته؟

– لعله سمع صوتًا يعرفه.

– وتتجه الظنون إلى من يعرفهم في الفندق؟

قالت ببرود: هذا حسن، لن يقع بريء، والمهم أن تنجو أنت.

ثم أشارت إلى حقيبتها، وقالت: تمت السرقة المطلوبة، بعض حلي وبضعة جنيهات، وقد فتحت باب الصوان بنصل سكين وبعثرت الملابس، هل أتيت بالقفاز؟

– نعم.

– حسن جدًّا، وإليك قضيب الحديد.

أشارت إلى القضيب فوق الترابيزة، وقالت: أحضرته من الطقيسي وكان رجل كرسي ولادة أثري فلا تمسه إلا بالقفاز، احذر أن يسقط منك شيء وأنت تحت السرير.

خيِّل إليه أن وجهها ذبل تمامًا من شدة إشعاع عينيها. قالت: يجب أن أذهب.

وتعانقا كما تعانقا أول مرة، ثم قال: ابقي بعض الوقت.

– ولكن حان وقت الذهاب.

– ألم تنسي قول شيء؟

– ثبت قلبك، وتصرف بعقل في كل خطوة، ور …

– وماذا؟

حدجته بنظرة غريبة، ثم همست: لا شيء، ادخل تحت السرير.

وتعانقا للمرة الثالثة، كأنما تشبث بها، ثم مضت إلى الخارج وهي تنادي بأعلى صوتها علي سريقوس فسارع بالدخول تحت السرير. وعادت كريمة يتبعها الرجل فأمرته بأن يغلق النوافذ المفتوحة، ويتأكد من إغلاق الأخريات. وانتظرت حتى قام بمهمته، وأطفأت النور ثم ذهبا معًا. خرج صابر من تحت السرير. ثم وقف بحذر، في ظلام حالك. الظلام ضرب من الاختناق، وضياع وعدم. ولبس القفاز بعناية. وجال بيده متحسسًا حتى عثر على الترابيزة، ثم تناول القضيب وشدَّ عليه بقوة. وارتدَّ إلى موقفه الأول، ثم جلس على حافة الفراش. اختفت الدنيا. لا شيء سوى ملمس الفراش، ورائحة عطارة، وصوت الصمت الآخذ في الاستفحال. لا مفر فيجب أن تهوى الضربة بإحكام. والانتصار بضربة واحدة خير من العناء والصبر، والانتظار العابث، والبحث الضائع. وحب إلهام سحابة شفافة، ولكنها أشق من القتل. ومديح الشحاذ يترامى فهو لم يأو إلى جحره بعد. نداء ضائع كالإعلان، وثروة الأم المصادرة. ومتى تعانق كريمة بحرارة وأمان؟ وذوبان الأعصاب في الظلام محنة، ولكن وراءك إرادة من حديد، وقلب ينطلق إلى مراده الجهنمي كالشهاب.

وهذا صوت علي سريقوس فوق السطح يغني:

أيام بنشرب عسل
وأيام بنشرب خل

ثم لا شيء إلا الظلام وصوت الصمت.

وأخيرًا سمع المفتاح وهو يُدار في القفل؛ فهبط إلى الأرض وزحف تحت السرير. وسمع وقع أقدام قادمة، ثم فتح باب الحجرة وسطع النور. انكمش في اضطراب وتوثب. ورأى فوق الأرض ست أقدام. وارتفع صوت عم خليل قائلًا: اذهب أنت يا علي ولا تنس أن تُحضِر السباك.

ذهبت قدمان. وجلس عم خليل على حافة الفراش فاستقرت قدماه على بعد ذراع من عينيه. وقال: سأقابله غدًا، ولن أقبل مزيدًا من المساومة.

– هذا هو الرأي.

– رجل دنيء، رأى الموت أربع مرات بعينيه ولم يتعلم.

– ربنا يطول عمرك.

وساد صمت، فتساءل محمد الساوي: هل أفوتك بعافية؟

تأوه الرجل قائلًا: كلا، ظهري يؤلمني وعندي صداع.

إلى متى يبقيه معه؟ هل يبيت معه ليلته؟ سرت في جسده رجفة من القلق. وإذا بالرجل يقيم الصلاة وهو جالس. ثم يسترسل في صوت مسموع:

استقبلت قبلتك
واترجيت عفوك ورحمتك
يا أرحم الراحمين أدخلني جنتك

وواصل صلاته حتى السلام، ثم قال: ساعدني في خلع العباءة والحذاء يا محمد.

وبعد هنيهة قال: ناولني زجاجة المنوم من الدرج.

أين هذا الدرج يا ترى؟ إن كان في الصوان فقد انكشفت كذبة السرقة المدبرة. وانتظر وكأنه يتوقع انفجار قنبلة وهو يتابع صفيرها. ولكنه سمع الرجل وهو يرشف الماء. ثم شعر به وهو يستلقي فوق الفراش. وسمعه وهو يقول: لن أستطيع القيام لإغلاق الباب وراءك، أغلقه من الخارج، وافتحه في ميعاد الصباح، مع السلامة.

حياه الساوي، وأطفأ النور، ثم أضاء المصباح السهاري وانصرف. سوف يفتح الباب صباحًا فيجد صاحبه جثة. كيف دخل القاتل؟ كيف يذهب عقب الجريمة؟ النافذة. النافذة المطلة على السطح. كيف يتصورون الجريمة؟ آه، العقل مشتت. المهم التنفيذ لا تخمين آراء المحققين. ضربات قلبك تشوش عليك أفكارك. ورغم الدراسة السابقة يجد في كل لحظة جديد. هل ينام قبل أن تنفجر أعصابك؟

وارتفع الشخير، كشخير أمك في الليلة الأخيرة. والكفن كعود جاف. وبكاء السماء من زجاج الشرفة بالنبي دنيال. قطب في تصميم طاردًا خواطر الأحزان ثم زحف. زحف حتى خرج جسمه كله. وقف بحذر شديد قابضًا على القضيب. رأى الرجل مختفيًا من الرأس إلى القدم تحت الغطاء. رأى رأسه المغطى بارزًا تحت الوسادة. ارتاح جدًّا لاختفائه، وانبعثت فيه جرأة جديدة. اقترب من الفراش خطوة رافعًا القضيب إلى أقصى ذراعه، وإذا بالرجل يزيح طرف الغطاء عن وجهه، ويميله إلى ناحيته. ارتعد صابر وتسمر. تسمر جسمه وذراعه المرفوعة. وفتح الرجل عينيه فالتقيا بعينيه. ولم يبدر منه ما يدل على أنه رآه أو أنه انذعر. أفاق صابر من الصدمة بجنون. هوى بيده بكل قوة على الرأس فوق الطاقية. وتراجع ذاهلًا عن تكرار الضربة. ند عن الرجل صوت لم يتبين حقيقته، وعبثًا حاول فيما بعد تحديده. تأوه … صرخة … شخير … حشرجة؟ وانتفض الجسم تحت الغطاء انتفاضة خفيفة فيما رأى ثم همد. وبسرعة حوَّل عنه عينيه فاستقرتا على النافذة. لم يفكر أبدًا في التأكد من موته. اقترب من النافذة ثم فتحها. ومرق منها معتمدًا على ساعديه. ردها وراءه، وازدرد ريقًا جافًّا لأول مرة. آه، هل القضيب ملطخ بالدم؟ والسطح المجاور خال كما توقع. كم الساعة يا ترى؟ وعبر السور. لماذا لم يغسل القضيب في الحمام؟ هل يتخلص منه هنا؟ جنون. هل يرميه في الجهة الخلفية للعمارة؟ جنون وسخف. وثمة أصوات آدمية آتية من أسفل السلم. أطل من فوق الدرابزين فرأى الدور الثالث غارقًا في الظلام، ولكن نورًا ينبعث من شقة في الدور الثاني انعكس على الدرابزين والجدار وراءه. ومسح القضيب بفردة القفاز اليسرى، ثم قبض عليه بها، وهبط السلم. مرَّ أمام الشقة المفتوحة لا يلوي على شيء، ثم غادر الشقة رجلان أو ثلاثة فنزلوا وراءه فتباطأ حتى أدركوه، ثم فاتوه، فهبط وراءهم حتى الدهليز، وغادر العمارة كأنه واحد منهم، وقد لمح البواب جالسًا في حجرته الصغيرة وراء الباب. في الطريق شهق بعمق ثم زفر. هل عرفه أحد؟ هل رأى أحد القضيب في يده؟ هل لوث الدم بدلته؟ ورأى تاكسي عند الطوار المقابل، ولكنه خاف إن عبر الطريق مباشرة أن يراه أحد من الفندق، فتوغل في الشارع، ثم عبر من بعيد إلى الجانب الآخر، فرجع تحت البواكي صوب موقف التاكس. وصادف رجوعه قيام الشحاذ وسيره نحوه متلمسًا طريقه بعصاه. اضطر أن يقف على بعد مترين من التاكس حتى يمر الرجل، فرآه لأول مرة بوضوح على ضوء مصباح. وشدَّ ما أثار اشمئزازه لحد الغثيان. وجه نحيل ضائع اللون والمعالم في لحية متلبدة بالقذارة، وعظام بارزة، ووجنتان غائرتان، وأنف مجدوع، ورأس مغطى بطاقية سوداء يحجب مقدمها حاجبيه، تدمع تحتها عينان دمويتان مشدودتان إلى أسفل، فمن أين جاءه الصوت اللطيف الذي يتغنى بالمديح؟ كتم أنفاسه كي لا يشم رائحته وهو يمضي أمامه، وتقلص وجهه في تقزز ونفور حتى اختفى عن ناظريه، ثم اندفع نحو التاكسي آمرًا السائق بالذهاب إلى ناحية من النيل بها مرسى قوارب. أي إنسان يعطف على هذا الشحاذ! ولكن هل لمحه أحد وهو يغادر العمارة؟ القفاز والقضيب هل رآهما أحد؟ وسائق التاكس هل ينقلب شاهد إثبات غدًا؟ التاكس لا يريد أن ينطلق، والسائق يزعجه بتعليقات غير مفهومة.

– أليس كذلك؟

– هه!

– وبدل الجنون أقول لنفسي الصبر طيب.

ليس أفضل من السكوت إلا الجنون. وشاطئ النيل راقد في ظلام، فمن يرى القضيب أو القفاز أو الدم؟ والتجديف في هذه الساعة من السنة غريب، ولكنه سلوك عادي جدًّا إذا قيس بغيره. الآن تتخلص من القضيب والقفاز وتغسل يديك. اغسلها جيدًا في الأمواج الثقيلة النابعة من الليل. وبمجرد التفكير في الراحة زحف الإعياء كالنوم. وترك القارب للتيار. ليس فوق البر من شيء يهم. وثمة لذة غريبة في أغماض العين والاستسلام للتيار. وفي محو الفكر والذاكرة. لكن التقاء العينين تحت المصباح السهاري لا يُنسَى. والصوت الذي انبعث ما كنهه؟ وما يسيل من عين الشحاذ دم أم دمع؟ حتى المطاردة الآن لا تهم. ولكن أين مضى بك التيار؟

وفجأة انطبقت السماء على الأرض. وثب من الفزع فتمايل به القارب. وفي اللحظة التالية أدرك أنها صفارة قاطرة بحرية انفجرت بغلظها المحطم لأركان الجو. وتتابعت أمواج قوية فرقص القارب. وتناول المجدافين وجدف بقوة راجعًا إلى المرسى. ولم ير في السماء نجمًا واحدًا، فتذكر الشتاء وسرعان ما سرت في جسده قشعريرة البرد. ومشى في الجزيرة بسرعة وقوة دفعًا لبرودة الجو حتى عبر جسر قصر النيل. وعند إشارة المرور لمح سيارة كبيرة واقفة، ورأى داخلها رجلًا جذب انتباهه من النظرة الأولى. كهل فخم، ولكن هذا الوجه كم أنه محتمل أن … وانفتح الطريق وتحركت السيارة فصاح بأعلى صوته: سيد الرحيمي!

وجرى وراء السيارة بأقصى سرعته، ولكن المسافة الفاصلة بينهما اتسعت إلى غير نهاية، وسرعان ما اختفت السيارة. حتى رقمها لم يره. توقف عن الجري وهو يلهث. هو الرحيمي! صاحب الصورة بعد ثلاثين عامًا. ولو تقدم خطوات أسرع لأمكنه الوثوب على مؤخرة السيارة. لكنه لم يعرف الرقم ولا الماركة. والحسرة غير مجدية، وهي في حالته مضحكة أيضًا. وكيف يثق في عينيه وهو لم يشعر بالبرد فوق سطح النيل! وماذا يعني الرحيمي له بعدما كان؟ الأمل الوحيد الباقي له هو كريمة. هي الآن سهرانة تفكر. وتربطهما حقيقة واحدة رغم البعد. ومع ذلك كم يحن إلى لقاء إلهام ليعترف لها بكل شيء. وأنبأته ساعة الميدان بانتصاف الليل، فقرر العودة إلى الفندق في ميعاده المألوف رغم كراهيته للفكرة. ارتعد وهو يمر أمام العمارة. وتذكر الشحاذ بصورته البشعة؛ فتساءل عن المأوى الذي يؤويه. ووجد عم محمد الساوي جالسًا مكان عم خليل لم يذهب بعد للنوم. وتذكَّر أنه لم يأكل ولم يشرب، وأنه كان ينبغي أن يشرب قليلًا من الكونياك. ورفض فكرة الرجوع خشية ألا يحسن تفسيرها غدًا!

وقال له العجوز: التعب واضح في وجهك!

فأجاب بحذر: الدنيا برد جدًّا في الخارج.

فابتسم الرجل قائلًا: سألت عنك مرة أخرى.

– من؟

– أنت أدرى.

إلهام! خرافة كالرحيمي.

– ليس وراء بلدكم إلا التعب.

– الحياة كلها تعب، ولكن أما من جديد؟

أَدرَك أنه يسأل عن الرحيمي، فقال وهو يمضي محييًا: سأبحث عنه غدًا في القرافة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤