الفصل الحادى عشر

غادر الفراش في السادسة صباحًا. ترى هل ذاقت النوم عيناه؟ إنه لا يذكر من ليله إلا السهاد. ولكن مهلًا لقد حلم. أجل لا يذكر من الحلم سوى منظر عراك نشب بينه وبين كريمة أمام عم خليل الذي لم يكترث لما يجري أمامه، ولكن ذلك دليل كاف على أنه نام ولو بعض الوقت. والجو بارد حقًّا، ولكن فلتكن رجلًا إلى النهاية، وإلا فما معنى مباهاتك بأنك مجرم من سلالة مجرمين!

وأضاء المصباح فهاله أن يرى فردة القفاز في يمناه! حملق فيها بذهول وفزع. إذن رمى بالقضيب والفردة اليسرى ونسى هذه! عاد بها إلى شاطئ النيل، وسار في الجزيرة، وجرى وراء السيارة الكبيرة، وقطع الشوارع، ولوح بها للساوي وهو يحدثه. حملق فيها بفزع متزايد. بقعة من الدم انداحت وسط راحتها البنية. ماذا فعلت هذه القبعة! أي آثار خلفتها وراءك! وماذا بقى من حسن التدبير؟ عليك أن تختبر كل شيء. وتفحص الفراش والغطاء والملاءة، وأرض الغرفة، ثم الحذاء، والجورب، والبدلة، والقميص، والمنديل، كل شيء بعناية، ولكنه لم يطمئن لشيء، ودار رأسه بالوساوس فعيناه لا تريان شيئًا، أما أعين شياطين الأمن فلن يخفى عليها شيء. وقرر أن يتخلص من القفاز فمضى به — مع الفوطة والصابونة — إلى الحمام، مخفيًا في جيب البيجاما مقصه الصغير. وراح يقطعه، ويرمي بكل قطعة على حدة ثم يشد السيفون. وهو يفعل ذلك سقط منه مرة على الأرض، فالتقطه وواصل عمله، ثم غسل وجهه وغادر الحمام. وفي الطرقة رأى علي سريقوس أمامه فحياه الرجل قائلًا: صباح الخير يا سي صابر، استيقظت اليوم مبكرًا.

اللعنة! ماذا جاء بك إلى طريقي! ساكن الحجرة رقم ١٣ استيقظ مبكرًا على غير عادته، هذا هو الشيء الوحيد غير العادي يا حضرة الضابط. اللعنة. بادرة سوء ولا شك. وهل غسل الأرض عند موضع سقوط القفاز؟ اللعين دخل الحمام! ولما دخلت الحمام عقب خروجه منه رأيت أثرًا يشبه الدم عند البالوعة. ولم يدخل حجرته ولم تفارق عيناه باب الحمام. وفتح الباب وخرج علي سريقوس، فلما رآه بموقفه سأله: أي خدمة يا سي صابر؟

فذهب إلى الحمام دون أن يلتفت إليه، وتفحص موضع سقوط القفاز جيدًا ثم غادره، ولما رأى علي سريقوس في الخارج قال كالمعتذر: نسيت الصابونة.

فابتسم الرجل قائلًا: كانت بيسراك وأنت ذاهب!

يا للداهية! وتكلف ضحكة قائلًا: هذه عاقبة الاستيقاظ مبكرًا قبل أن يشبع الواحد من النوم، زياط ملعون أيقظني بعد الفجر، وعبثًا حاولت النوم من جديد.

ودخل الحجرة وهو يستأنف ضحكته. بداية سيئة، ولكن لا داعي للمبالغة في الخوف. وأعاد تفحص ملابسه وهو يرتديها. ورفع رأسه نحو السقف متخيلًا صورة عم خليل فوق فراشه. وقال لنفسه — رغم قشعريرة تقلص بها جسده — إن حوادث القتل تقع كل يوم وبلا حصر. ومجرد التفكير في السفر إلى الإسكندرية جنون. ولما انتهى من ارتداء بدلته نظر فيما حوله متسائلًا، ترى هل نسى شيئًا؟ إنه غير مطمئن إلى بدلته رغم إعادة الفحص، وسوف يكتشف الشياطين في نسيجها ما لا يخطر ببال. وخطر له أن يرتدي أخرى، ويذهب بهذه إلى مصبغة لغسلها بالبخار، ولكن فيم يلفها؟ وألا يلفت ذلك بعض الأنظار؟ ألا تصير موضع تحقيق بعد ظهر اليوم؟ وشعر بضيق ويأس، وبخاصة لأنه رسم أن يغادر الفندق قبل اكتشاف الجريمة. ورأى أن ذلك أهم من البدلة نفسها. وألقى نظرة أخرى على الحجرة وهو يقول لها: «لا تخونيني» ثم ذهب. رأى عم محمد الساوي وهو يصلي الصبح فجلس في الاستراحة مع نفر قليل من النزلاء. وتناول فطورًا خفيفًا، وفي أثناء ذلك جاءه علي سريقوس مسرعًا وهو يقول: نسيت هذه يا سي صابر.

حافظة نقوده! سقطت بلا شك وهو يتفحص الجاكتة. وراجع محتوياتها، ثم قال له: أشكرك جدًّا يا عم علي.

ونفحه بعشرة قروش، فقال الرجل وهو يمضي عنه: وجدتها عند رجل السرير.

الأخطاء التي اكتُشِفَت كثيرة حقًّا، فما عدد الأخطاء التي لم تُكتَشف؟ والقوة العمياء التي تجردك من ملابسك قطعة وراء قطعة سترمي بك في النهاية عاريًا كما ولدتك أمك. وأمك هي القاتل الحقيقي لعم خليل أبو النجا. وما أشبه شخيرها بشخيره في الليلة الأخيرة، أما الصوت الذي ند عنه عقب الضربة القاتلة فقد مضى وانقضى. وضبط رجلًا من الجالسين وهو يداري ابتسامة ابتسمها لدى ملاحظته، فأدرك أن شفتيه تفضحان أفكاره فأربكه الحرج. وكره المكان فغادره. وفي الخارج ترامى إليه الغناء المألوف كل يوم «طه زينة مديحي» فتذكر الصورة البشعة بتقزز، ثم قال وهو يتجنب النظر ناحيته: «من يدري لعله سعيد بالغناء». ويصعد عم محمد الساوي إلى السطح، ويفتح باب الشقة، ثم يطرق حجرة النوم … عم خليل استيقظت؟ استيقظ يا عم خليل الساعة تدور في الثامنة … يا عم خليل … يا عم خليل … ويدفع الباب برفق ويختلس من الداخل نظرة … عم خليل … رباه … يا ألطاف الله … أغيثونا … يا علي … يا علي … يا هوه … عم خليل قتل … أغيثونا … بوليس النجدة. قديمًا اختفت أمي فلم يعثر عليها أبي، واختفى أبي فلم أعثر عليه. فليكن هذا الاختفاء الموفق نصيبي أيضًا، وإذا انجابت الغمة وطواها النسيان فتلق كريمة بين ذراعيك، ومعها كل ما تعد به من الحياة السعيدة المطمئنة. سار على غير هدى تقوده الشوارع والمنعطفات. وكلما أجهده السير جلس في قهوة ليريح قدميه. لم ير شيئًا ولم يسمع شيئًا. ومرة ارتفع رأسه إلى الأفق فوق مبنى القضاء العالي فرأى مظلة كبيرة من السحب ذات أرضية بيضاء صافية تنتشر عليها قطعان من السحائب الداكنة، فاستيقظ قائلًا: «هذه زفرة من الإسكندرية»، وتحرك في القلب الشجن، ثم مضى بالعين التي لا ترى، والأذن التي لا تسمع. وطيلة الوقت وهو يشعر بحاجة حارة إلى لقاء إلهام، فلما فات النهار منتصفه مضى إلى فتركوان وهو ينظر إلى كل شيء بغرابة. ولدى رؤية الفتاة مقبلة فاضت به رغبة مفاجئة في الاعتراف. ولما رأته وَمَضَتْ عيناها، ثم صافحته وهي ترميه بنظرة زرقاء عاتبة: لماذا أصافحك ما دمت تقاطعني؟

وتفحصته باهتمام ثم استدركت: وأيضًا لا تتكلم!

– استغرقتني المشاغل، وكنت وما زلت في غاية التعب.

– ولا تليفون؟

– ولا تليفون، فلنؤجل حديث ذلك لأشبع شوقي إليك.

وارتضيا الصمت وهما يتناولان الغداء، ولكنه ظل يرنو إليها طيلة الوقت. وردد باطنه: «طه زينة مديحي — صاحب الوجه المليح». وقال أن تصميمه على هذا اللقاء عجيب. وهو يبدو لا معنى له إلا أن يكون ملجأ مؤقتًا في العاصفة. وهي تبتسم رغم أنها صافحت يدًا ملوثة بالدم. ورهبة الوداع تغري بالدمع.

– أنت متعب حقًّا.

فقال بفتور: أمس رأيته.

فلمعت عيناها باهتمام شديد مدركة من يعنيه: أخوك؟

– سيد سيد الرحيمي.

– إذن قد انتهت مهمتك؟

فقص عليها الحكاية فيما يشبه الضجر، فقالت: هناك احتمال كبير أن يكون هو.

– وثمة احتمال أن يكون غيره.

فتساءلت برجاء: متى نعتبر هذه المسألة منتهية؟

– إني أعتبرها كذلك.

– لكنك متعب حقًّا؟

– مضت الأيام الأخيرة في مقابلات متواصلة ومشاوير معقدة.

– أناس من طرف والدك؟

– نعم.

وشربا العصير، ثم تهيأت لنغمة جديدة مهدت لها بابتسامة حيية، ثم تساءلت: ولا تجد وقتًا للتفكير في؟

– بل أفكر فيك طول الوقت.

– ماذا قال لك التفكير؟

متى تعترف لها بكل شيء، وتعفي نفسك من الكذب؟

– أنت لا تتكلم، تحدثنا آخر مرة عن عمل جديد في القاهرة!

آه، أنت لا تفكر إلا في الاعتراف، وعما قليل ستنفجر.

– أجل، لم أنس ذلك لحظة واحدة.

– رغم مشاغلك؟

– رغم مشاغلي كلها.

– أما أنا فأدرس الموضوع من جميع نواحيه.

انهار آخر حصن للمقاومة، فقال: إلهام، أنا أحبك، أحبك من كل قلبي، ولكني كذبت عليك.

رمقته بدهشة وهي تسأل: متى وكيف كذبت؟

– كذبت عليك بدافع حبي نفسه.

– لا أفهم شيئًا.

– قلت لك أني أبحث عن أخي، والحقيقة أني أبحث عن أبي.

– أبوك!

– أجل، أبي هو الذي أبحث عنه.

– وكيف فقدته؟ أهي حكاية كحكايتي؟

– كلا، صدقت طول عمري أنه ميت، وفي الساعة الآخيرة من حياة أمي اعترفت لي بأنه حي، وأن علي أن أجده.

وهي تحدق في وجهه طول الوقت: على أي حال ليس الأمر بذي بال.

– لكنني رجل مفلس لا أملك إلا جنيهات، كانت أمي غنية جدًّا، وكنت أعيش عيشة الوجهاء، ثم ضاعت ثروة أمي لآخر مليم، لم تترك لي سوى وثيقة زواجها وصورة أبي لأثبت بها بنوتي أمامه عندما أجده، وعدا ذلك فإنني لا أصلح لشيء.

أثقل الوجوم عينيها الصافيتين. كيف كانت تكون حالها لو اعترف لها بسيرة أمه وماضيه على حقيقتهما؟

– أقرأ الانزعاج في وجهك!

– كلا، ولكنها المفاجأة.

– أنا غير جدير بك ولن أغفر لنفسي خداعك.

تمتمت: إني أفهم جيدًا لماذا كذبت علي.

– الأفظع من ذلك أنني جعلتك تحبين شخصًا غير جدير بحبك.

– وحبك أهو كاذب؟

– أبدًا، مطلقًا، أحبك من كل قلبي.

وهي تتنهد: والحب هو الذي ردك إلى مصارحتي بالحقيقة؟

– أجل هو ذلك.

– إذن فعذرك واضح.

– ولكنه يطالبني أيضًا بالابتعاد عنك.

وهي تزدرد ريقها: ولكن بالله لماذا؟

– مفلس ولا أهل لي، ولا أصلح لشيء.

– الإفلاس لا يهم فهو حال مؤقتة، والأهل لا يهمون فما حاجتنا إليهم، ولكنك تصلح لأشياء كثيرة.

– أشك في ذلك، لا شهادة لي، ولا علم، ولا خبرة، ولا عمل، ولذلك فلا أمل لي إلا في العثور على أبي.

– وهل يُغني أبوك عن كل شيء؟

– أفهمتني أمي أنه من الوجهاء وممن يشغلون المناصب الخطيرة.

فترددت لحظات، ثم قالت: لكن الإعلان … والاسم … ودليل التليفون … أعني …

– أجل، لا أصدق الآن أنه من أصحاب المناصب فهم معروفون، ولا من وجهاء القاهرة كذلك، ولكن ذلك لا ينفي أن يكون من وجهاء هذا الإقليم أو ذاك.

– ثم أنك لمحته أمس؟

– ذلك ما خُيِّل إلي، ولكني لم أعد أثق بشيء.

– وحتى متى تنتظر؟

– يجب ألا أضيع وقتي في البحث أو الانتظار.

– ثم؟

– لا أدري، السبل مسدودة في وجهي، ولكن علي أن أرجع إلى بلدي فأبحث عن أي عمل أو أنتحر.

وهي تعض على شفتيها: وتقول أنك تحبني!

– نعم، بكل قلبي.

– وتفكر في الذهاب أو الانتحار؟

– السبل مسدودة لحد الاختناق.

– لكنك تحبني، وأنا أيضًا أحبك.

قال بوجه متقلص من الانفعال والحزن: أنا لا أصلح لشيء، فكيف أصلح لك؟

– الصبر، لن أتخلى عنك.

– لكن ما الفائدة؟ كنت أحلم بالعثور على أبي، ولذلك أدخلتك في حلمي بلا حساب.

– العمل، هو الذي يحل مشكلتنا.

– قلت أنني لا أصلح لشيء.

– أعطني فرصة للتفكير وسوف تسير الأمور كما نود.

والجريمة التي ارتكبت! لا يجوز بحال أن تسير الأمور كما نود، يجب أن يكون وقت ذلك قد فات. كيف لم يأت الاعتراف بالنتيجة المدمرة! والضحك من الآن إلى نهاية العمر لن يكفي.

– لن تسير الأمور كما نود.

فقالت بحزم: أمهلني يومًا أو يومين، لا تتخذ أي قرار قبل الرجوع إلي، أنا أعرف ما أريد.

قل لها ماذا كانت أمك. قل لها ماذا فعلت أمس. قل لها أنك تزوجت من أخرى بوثيقة من دم. قل لها أنك تود أن تصرخ حتى تصدع أركان الأرض.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤