الفصل الثانى عشر

ها هم عساكر البوليس، وها هي اللمة. كما تخيل ذلك تمامًا طيلة النهار. وإذن فقد انتهى الرجل، واكتشفت الجريمة، والبحث دائر عن المجرم. ولا مفر من التقدم فأسكت هذه الرعدة، وتمالك نفسك حتى الموت. ولتنس النظرة الغائبة التي ألقاها عليك الرجل إلى الأبد. ولا تسل عن الصوت الذي ند عنه. والعودة إلى الفندق شاقة مرعبة كالاعتراف. حتى الخطة التي نفذت نوقشت من جديد كأن لم تنفذ بعد. كان يجب أن تغادر الفندق قبل يوم الجريمة بأسبوع. لم يكن الشيطان نفسه ليفكر فيك، ولكنك لن تجني من الهلوسة إلا الحسرات. ومن يصدق أنه حتى في غمرة هذا الفزع الشامل لا يكف صوت الشحاذ عن المديح! وشق طريقه خلال المتطلعين حتى اعترضه عسكري، فقال بدهشة: ماذا حدث؟ أنا من نزلاء الفندق.

وظهر عم محمد الساوي على عتبة الفندق بوجه شاحب استقرت في صفحته صورة دميمة للفزع، فأشار إليه قائلًا بصوت لا يكاد يُسمَع: دعه يدخل.

سأله بلهفة: ماذا حدث يا عم محمد؟

فأجاب الرجل ووجهه يتقلص تقلص البكاء: قُتِلَ عم خليل!

– قُتِلَ!

– وُجِدَ قتيلًا في فراشه لعنة الله على المجرمين.

رأى في المدخل عساكر ومخبرين، وفي مكان عم خليل جلس المحقق وإلى يمينه — على كرسي كريمة المعتاد — رجل آخر. وكان شاغل كرسي عم خليل عاكفًا على أوراق بين يديه، وقد جلس وراء المكتب من الناحية الأخرى أحد النزلاء. وذكَّره الجالس مكان عم خليل بصورة أبيه المتخيلة. وأوشك اهتمام مفاجئ أن ينتزعه من دوامة الاضطراب التي اجتاحته، ولكنه ما لبث أن تبين شباب الرجل النسبي، واختلافه عن الصورة عند التحقق، فوضح له سخف مخيلته. هل يقف أو يمضي إلى حجرته؟ وبعد تردد قصير شرع في السير إلى الأمام، ولكن الجالس مكان كريمة أوقفه بإشارة من يده قائلًا: انتظر من فضلك في الاستراحة.

ذهب إلى الركن الأيمن حيث جلس بعض النزلاء، فجلس معهم وهو يسأل: ماذا حدث؟

– وُجِدَ عم خليل مقتولا.

– ولكن كيف؟

– من يدري! وجاء المحققون، وحجزنا جميعًا للتحقيق، وحصلت المعاينة كما حصل تفتيش شامل.

وارتفع صوت بكاء مكتوم جذب عينيه إلى ركن الاستراحة الأيسر فرأى كريمة! رآها جالسة بين امرأة عجوز في السبعين ورجل يكبرها بأعوام. كيف لم ينظر صوبها وهو داخل؟ وماذا يجدر به أن يفعل؟ وبعد تردد نهض إليها، ثم قال بصوت خافت: شدي حيلك، البقية في حياتك.

لم تنبس بكلمة، وظلت مُخفية وجهها بين يديها فرجع إلى مجلسه وهو يهزُّ رأسه أسفًا. ترى هل أخطأ أو أصاب بهذه الحركة؟ وهل يمكن أن تشبه المرأة العجوز أم بنت الأنفوشي؟ وماذا يدور في أذهان المحققين؟ هل سألوا عن ساكن الحجرة رقم ١٣؟ هل بدأت التحريات عنه؟ هل يفهمون المجرمين كما يفهم هو بنات الليل؟ وكرههم جميعًا لدرجة الموت. ونظر إلى الجالسين متسائلًا: وبعد؟

– أنت لم تنتظر إلا دقائق ونحن على هذه الحال منذ الصباح.

– هل سألوا النزلاء الآخرين؟

– نعم، وتركوهم يذهبون، ولم يأت دورنا بعد، وسألوا الزوجة وأمها وخالها.

– لكنها لم تكن موجودة فيما أعلم.

وندم على تسرعه، ولكن رجلًا قال: ولو، وحصلت مفاجآت: ففي الحجرة رقم ٦ ضُبطت كمية ضخمة من المخدرات فقُبض على صاحبها، وفي الحجرة رقم ٣ عثروا على لص محترف.

– آه … لعله.

– هذا جائز، كل شيء يتوقف على سبب الجريمة.

– لا شك أنه السرقة.

وندم على تسرعه مرة أخرى، يحسن به أن يتجنب الأخطاء. هل وجدوا دليلًا أو شبه دليل في حجرة عم خليل أو في حجرته؟ لا يبدو أن أحدًا منهم يهتم به. وكم يود أن يخلو ولو دقائق إلى كريمة. احذر أن تنظر نحوها. لديها بلا شك ما يستحق أن تخبره به. ليس الأمر كما تخيل. أجل ليس الأمر كما تخيل. اللعنة. متى يخرس الشحاذ البشع؟ في مثل هذا الوقت من كل شهر أذهب لزيارة أمي. سُرقت نقود وحُلي. أغلق علي سريقوس النوافذ أمام عيني، ثم أغلقت الشقة بنفسي. لا، لا أعرف له أعداء، لماذا ذكرني هذا الرجل بصورة أبي؟

وإذا برجل يقول: ومع ذلك فنحن أبرياء، فكيف يكون اضطراب المذنبين!

– وأكثر من هذا فمجرد خطأ في التعبير قد يجلب متاعب لا حدَّ لها.

– ولكن لم يُشنَق بريء قط.

– أوووه.

ولكن قد ينجو مذنب. أمك والرجل الهارب إلى ليبيا. والعودة إلى الفندق محض جنون، فخطة أخرى هي ما كان يلزمك، وكالقضاء والقدر اعترضت مسعاك الخائب كريمة. وحاجتك إلى أبيك لم تنقض كما توهمت ولكن الخطر يزيدها إلحاحًا.

واستدعوا تباعًا. وأخيرًا وجد نفسه جالسًا أمام المحقق. كرهه من أعماقه، ثم صمم على الانتصار عليه.

– صابر سيد سيد الرحيمي.

وقدَّم بطاقته فتصفحها الرجل بعناية: نزلت في هذا الفندق منذ شهر تقريبًا وهو مسجل في الدفتر.

كلا، لا يشبه الأب في شيء وإن يكن ذكَّره به عند النظرة الأولى.

– استيقظت كالعادة فارتديت ملابسي، ونزلت إلى الاستراحة، ثم تناولت الفطور وذهبت.

– ليس كالعادة تمامًا، استيقظت مبكرًا.

– لا أستيقظ عادة في وقت محدد، وقد استيقظت مبكرًا أكثر من مرة.

– قال الخادم أنك استيقظت هذا الصباح مبكرًا بخلاف عادتك.

– لعله لم يرني في المرات السابقة.

– ألم تسمع شيئًا غير مألوف في الليل؟

– كلا، نمت عقب عودتي فلم أستيقظ إلا في الصبح.

– ألم يلفت نظرك شيء عقب استيقاظك؟

– كلا.

– متى رأيت الخادم علي سريقوس؟

– عند خروجي من الحمام مباشرة.

– ألم تلاحظ عليه شيئًا؟

– كلا، كان كعادته كل يوم.

– وأنت ألم يحدث لك ما يستحق الذكر؟

– كلا.

– ألم تنس حافظة نقودك؟

– بلى، حدث هذا حقًّا، وأتاني بها علي سريقوس في الاستراحة.

– وكيف كان وقع ذلك في نفسك؟

– سررت بطبيعة الحال.

– وماذا أيضًا؟

– لا شيء.

– ألم تدهشك أمانته؟

– ربما، لا أدري بالضبط، ولعلي لم أفكر في ذلك.

– من الطبيعي جدًّا أن تفكر في ذلك.

– لعلي دُهشت بعض الشيء.

– بعض الشيء؟

– أعني دهشة عادية.

– ما رأيك في مدى أمانته؟

– لم ألاحظ عليه ما يسوء.

– وأين أمضيت الوقت فيما بين ذهابك وإيابك؟

– أتجول هنا وهناك كيفما أتفق.

– بلا عمل وهذا مفهوم من البطاقة، ولكن بلا أصدقاء؟

– لا أصدقاء لي هنا.

– وأمس متى غادرت الفندق؟

– حوالي العاشرة صباحًا.

– ومتى رجعت إليه؟

– عند منتصف الليل.

– لم ترجع في أثناء النهار كما فعلت اليوم؟

– كلا؟

– وهل سبق لك أن فعلت ذلك؟

كيف خرقت مألوف سلوكك أمس خلافًا للخطة؟

– مرة أو مرتين؟

– لا يتذكر أحد هنا ذلك.

– ولكني أتذكره.

– مرة أو مرتان؟

– الأرجح مرتان.

– وكيف تقضي هذا اليوم عادة؟

– في التجوال، وأنا رجل غريب، وكل مكان في المدينة بالنسبة إلي جديد.

– وماذا وجدت عند عودتك؟

– قابلت عم محمد الساوي في هذا المكان، وعلي سريقوس أمام باب حجرتي.

– وكيف وجدته؟

– سألني إن كنت في حاجة إلى خدمة ثم ذهب.

– ألم يصادفك أحد من النزلاء؟

– كلا.

– وكيف أمضيت أمس من الساعة العاشرة صباحًا حتى منتصف الليل؟

– تجولت في الشوارع حتى موعد الغداء.

– وأين تناولت الغداء؟

– في بقالة الحرية بكلوت بك.

– مكان غريب بعض الشيء لرجل من الأعيان.

طفح بالكراهية للرجل وهو يقول: اهتديت إليه أول عهدي بالمدينة وأنا أتخبط فآنست إليه.

– وبعد ذلك؟

– مشيت على شاطئ النيل.

– في هذا الجو؟

وهو يضحك: أنا إسكندراني.

– ثم؟

فتركوان. لا، حتى لا يجر إلهام، وفيلم مترو رأيته في الإسكندرية.

– دخلت سينما مترو.

– متى؟

– من الساعة السادسة.

– أي فيلم؟

– فوق السحاب.

– وبعد التاسعة؟

– تجولت كالعادة، وركبت بص مصر الجديدة إلى نهاية الخط لمجرد قتل الوقت.

قتل! لماذا اخترت هذه الكلمة المرعدة!

– وأين تناولت العشاء؟

آه … حذار.

– في سينما مترو تناولت شطائر وحلوى.

– ألم تقابل أحدًا؟

– كلا.

– لم تعرف أحدًا في القاهرة؟

– كلا.

ثم بعد لحظة تردد: اتصلت بمدير الإعلانات بجريدة أبو الهول لعمل لكنها ليست علاقة معرفة بالمعنى المفهوم.

أخطأت؟ هل يقحم ذلك إلهام؟

– لماذا انتقلت من الإسكندرية إلى القاهرة؟

– زيارة سائح.

– لعل هذا الفندق غير جدير بإقامة سائح من الأعيان؟

– هو جدير من الناحية الاقتصادية.

– يبدو أنك لست من الأغنياء؟

– بلى.

– ولا غاية لك من الزيارة إلا السياحة؟

الحلقة تضيق. والكذب غير مجد في هذه النقطة. وأنت لم تفكر في هذه الأسئلة عند وضع الخطة.

– ولدي مهمة خاصة.

– أمن الممكن أن آخذ عنها فكرة؟

– مهمة عائلية.

– حدثني عن أملاكك؟

– مجرد نقود.

– لا عقار ولا أطيان؟

– مجرد نقود.

– ومحل إقامتك بالإسكندرية كما هو في البطاقة أم تغير؟

آه، تحريات. النبي دنيال. الكنار الليلي. بسيمة عمران. سوف تطاردك الشبهات بالوراثة.

– كما هو في البطاقة.

– وأموالك في أي بنك؟

– بنك؟

– في أي بنك تودع أموالك؟

– ليست في أي بنك.

– أين تودعها؟

– في … في جيبي.

– جيبك! ألا تخاف عليها السرقة؟

أجاب بيأس وحقد مكتوم: لم يبق منها إلا القليل.

– ولكن في بطاقتك ما يدل على أنك من ذوي الأملاك.

– كنت كذلك، أعني قبل إفلاسي.

– وماذا أعددت لمستقبلك؟

لا تتردد طويلًا. سأتحداك بصدق. أو رغم الصدق!

– كنت أبحث عن أبي، وهذا هو مستقبلي.

– تبحث عن أبيك؟

– أجل، انفصلت عنه وأنا في المهد. ولذلك قصة عائلية لا أهمية لذكرها، ولما أفلست لم أجد بدًّا من البحث عنه.

– أليس لك أي فكرة عن مكانه؟

– كلا، والإعلان في الصحف هو آخر ما عمدت إليه من وسائل البحث.

– ولعل ذلك هو السبب الحقيقي في انتقالك إلى القاهرة؟

– لعله.

– وحتى متى تكفيك نقودك؟

– شهر على الأكثر.

– تسمح؟

أعطاه المحفظة بوجه يحمار ويحتقن، ثم استردها بوجه عابس: وإذا نفدت نقودك؟

– شرعت في البحث عن عمل.

– ما مؤهلاتك؟

– لا مؤهلات.

– أي نوع من العمل؟

– عمل تجاري.

– هل تظن البحث سهلًا؟

– لي أصدقاء في الإسكندرية، ولن أجد صعوبة في الحصول على عمل.

– أأنت مدين للفندق؟

– كلا، ولقد دفعت أجرة هذا الأسبوع مقدمًا.

– وكيف اهتديت إلى هذا الفندق؟

– صادفته وأنا أبحث عن فندق رخيص.

– ألم تكن تعرف فيه أحدًا من قبل؟

– كلا.

– ولكنك عرفت فيه الكثيرين ولا شك؟

– عم محمد الساوي، وعلي سريقوس.

– وعم خليل، أعني المرحوم خليل أبو النجا؟

– طبعًا.

– ماذا ترك في نفسك من أثر؟

– رجل عجوز جدًّا وطيب جدًّا.

– ومع ذلك فقد وجد من قتله بلا رحمة.

– أمر محزن جدًّا.

– أكنت تعرف أين يقيم؟

اللعنة والمقت، ولكن حذار من الكذب.

– في شقة فوق السطح فيما أظن.

– لست متأكدًا؟

– كلا.

– كيف عرفت ذلك؟

– علي سريقوس أخبرني.

– أم أنك أنت الذي سألته؟

– ربما.

– ترى لِمَ سألته؟

– لا أذكر الآن بالضبط، ولكن العادة جرت بيننا بالدردشة كلما جاءني لخدمة ما.

– ألم توجه إليه أسئلة أخرى؟

خفق قلبه بعنف أليم وهو يجيب: ربما، لا أذكر سؤالًا على وجه التحديد، كانت مجرد ثرثرة.

وشعر بأنه يُدفَع إلى شر يصعب التخلص من عواقبه، ولكن الرجل سأل: حتى متى تبقى في القاهرة؟

– حتى أعثر على أبي، أو أجد عملًا، أو تنفد نقودي.

أشعل الرجل سيجارة في صمت مُعذب، وتفكر مليًّا، ثم سأله: أليس عندك أقوال أخرى قد تفيد التحقيق؟

– كلا.

– قد نحتاج إليك فيما بعد فلا تسافر قبل أن تخطرنا.

– بكل سرور يا فندم.

لم تكن خطة كاملة. هي خطة بلهاء. ومحاولة الهرب جنون، وسوف ترصدك عين لا تغمض. وعليك أن تستعيد كل سؤال وكل جواب لتعرف حقيقة مركزك.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤