الفصل الثالث عشر

مركزك غامض كالموت. غير بعيد أن تكون الآن محور بحثٍ وتحرٍ. وغير بعيد أن تكون الآن هدفًا لعين أو أكثر. ولن تدري بما يدور حولك. كعم خليل قبل أن تهوى عليه ضربتك. حذار أن تأتي حركة مريبة واحدة. الفندق خير منك فقد استعاد هدوءه. رائحة الموت طردت كثيرين من نزلائه، ولكن غيرهم يجيئون. والاستراحة باردة برودة القبر. وليس في الجرائد اليوم من جديد، وها أنت تقرأ الجرائد كبقية الناس. ها هم يعودون إلى أحاديث القطن والعملة والحرب. والهواء يصفر في الخارج كالعويل. والشحاذ يرتفع إنشاده مضجرًا سقيمًا فيا لإلحاح الشحاذين!

ولفت سمعه وقع أقدام في مدخل الفندق فرأى عم محمد الساوي واقفًا يستقبل كريمة. انتفض باطنه. وجلست المرأة وأمها العجوز أمام الرجل. أجاءت لتتسلم إدارة الفندق؟ هل تلتقي عيناهما الآن أو بعد لحظات؟ حضورها رد إليك روحك الهاربة، فمتى تغفل عنا العيون. سوف تبلغك رسالة بطريقة ما وليست الرحمة ببعيدة. وهي في السواد أشد إثارة، وما أحوجك إلى العزاء الساخن. ويدور بينها وبين الرجل حديث، ترى ما أهميته غير الخافية؟ وسمع عم محمد الساوي وهو يقول: ولا أدري حتى متى يُسمَح بدخول الشقة.

تود أن تعرف مقرها ولكن من الجنون أن تتبعها. كيف فاتك أن تسألها عن عنوان أمها وأنتما تضعان الخطة كاملة؟ يجب أن تفكر في الاتصال بك تليفونيًّا. وأن تتذكر حاجتك الماسة إلى النقود.

– تليفون يا سي صابر.

– آه، ماذا يريد التليفون. هل يحسن الرحيمي فن السخرية؟ تناول السماعة بيسراه وهو يمد يمناه إلى المرأة قائلًا: أكرر العزاء يا هانم.

تلقت يده شاكرة دون أن ترفع إليه عينيها. وجعل ظهره للساوي وعينيه لها طوال المحادثة.

– أنا إلهام.

لِمَ لَمْ تكن الرحيمي؟ ولم كان هذا الفندق بالذات؟ أجاب: أهلًا.

– أأنت بخير؟

– بخير.

– لم تحضر أمس.

– آسف، بعض التعب.

– فلنؤجل الحساب ولكنك ستحضر اليوم؟

– ليس اليوم، عندما أُشفى من زكام.

– لن أضايقك، أنت تعرف المكان والزمان، إلى اللقاء.

– إلى اللقاء.

وأغلقت الخط ولكنه أبقى السماعة على أذنه كأنما الحديث ما زال متصلًا. وظل ينظر إلى كريمة حتى صاد عينيها، فقال: يجب أن تتصلي بي بأي وسيلة، بالتليفون على سبيل المثال.

حولت عنه عينيها ولكن خُيِّل إليه أنها فهمت لعبته. قال: أريد أن أعرف أشياء كثيرة، لا شك أنك تدركين موقفي تمامًا، لا بد من تفاهم بوسيلة ما، ولا تنسي أن نقودي تنفذ بسرعة.

رمقته بنظرة سريعة محذرة، فقال: إني مدرك تمامًا لجميع المصاعب، ولكنك لن تعدمي حيلة ذكية.

عاد إلى مجلسه مضطربًا، ولكنه ظفر بشيء من الارتياح. وما لبثت كريمة أن ذهبت متبوعة بأمها. واقتحمه إحساس غامض بأنها تختفي إلى الأبد. وقال أنه بدونها جريمة بلا هدف. ولبث في الاستراحة على أمل أن تتصل بالتليفون. ومر وقت عقيم. وترك اختفاؤها وراءه جحيمًا من الرعب، وخلت الاستراحة من النزلاء فرأى عم محمد ينظر نحوه فتبادلا تحية مجاملة. وسأله الرجل: ماذا يبقيك وحدك؟

– الزكام! تناولت اسبرينة وسأذهب إذا شعرت بتحسن.

وهو يتكلم انتقل إلى الكرسي التي جلست عليه كريمة من قبل. ترى أين يقبع المخبر؟ وقال: كم خيب هذا التليفون أملي.

– آه، الغائب سِره معه.

فرنا إليه برثاء قائلًا: الحق أنك تعرضت لتجربة قاسية.

تقلص وجه العجوز وهو يقول: لا أراك الله ما رأيت!

– لا شك أنه كان منظرًا فظيعًا، أنا لم أر ميتًا قط، حتى جثة أمي أغمضت عيني وأنا أقرأ عليها الفاتحة.

– ومع ذلك فالميتة شيء، والقتل شيء آخر.

– أجل، القتل، الدم، الوحشية.

– وحشية تستحق اللعنات الأبدية.

– إني أتساءل أي سبب يبرر القتل؟

– نعم، أي سبب؟

– والقاتل، أي إنسان هو؟

– من كان يصدق أو يتصور، رأيت قبل ذلك قاتلًا، صبي بقال، وطالما ظننته وديعًا كالحمام.

– عجبت حقًّا!

– ولكن أين المفر؟

– صدقت، أين المفر؟ وعما قريب سنسمع بالقبض عليه.

حدجه العجوز بنظرة حزينة، ثم قال: لقد قُبِضَ عليه بالفعل.

– من؟

– القاتل.

– القاتل! لم نسمع ولم نقرأ.

هزَّ رأسه هزة العارف دون أن ينبس: ولكن من هو؟

– علي سريقوس.

– ذلك الأبله؟

– كصبي البقال.

– ألذلك لم أره اليوم ولا مساء الأمس؟

– ليرحمنا الله.

– وهل علمت بذلك زوجة المرحوم؟

– طبعًا.

– الإنسان لغز.

– ضبطوا عنده نقودًا.

– ربما كانت نقوده؟

– لكنه اعترف بالسرقة، لهم وسائلهم.

– واعترف بالقتل؟

– لا أدري.

– لكنك قلت أنهم قبضوا على القاتل!

– هو ما قالت كريمة.

– أيعني هذا أن السرقة كانت الباعث على القتل؟

– أظن ذلك.

– كان بوسعه أن يسرق دون أن يقتل.

– الراجح أن المرحوم استيقظ فاضطر إلى قتله.

– كان طيبًا لدرجة البلاهة.

– الإنسان كما قلت لغز.

– أكثر من لغز.

– أتدري أن الشحاذ الذي نسمع مديحه النبوي كل ساعة كان في شبابه فتوة داعرًا؟

– ذلك الرجل!

– ثم فقد كل شيء من قوة ومال وبصر فتسول.

– ولكن علي سريقوس عثر على حافظة نقودي صباح الجريمة فأتاني بها.

– لعله أمكر مما نتصور.

هل تقع المعجزات بهذه السهولة أو هو بنيان من الأوهام يقوم على لا شيء؟

– أما كان الأجدر به بعد ذلك أن يهرب؟

– الهرب اعتراف.

– وكيف يخفى المسروقات في حجرته؟

– ربما ضبطت في بيته.

– تهريبها إلى بيته لا يقل غباء.

– تلك حكمة ربنا.

– عندما قابلني في الصباح قبل اكتشاف الجريمة كان هادئًا لطيفًا كعادته.

– من الناس من يقتل القتيل ثم يمشي في جنازتك.

الثبات. احذر أن تفضح أطرافك اضطرابك الخلفي. قد يوافيك التليفون بضوء. وعاد العجوز يقول: كنت أول من حُقِقَ معه.

– أنت!

– طبعًا، فأنا آخر من كان معه ليلًا، وأول من دخل شقته صباحًا.

– ولكن من يتصور.

– تلقيت سيلًا من الأسئلة، وكنت أغلقت الباب بيدي، وكانت النوافذ مغلقة، ولكن وجدت نافذة مردودة دون إغلاق.

– لعلها نُسيت.

– أكدت الزوجة أن جميع النوافذ كانت مغلقة.

– هل كسرها علي سريقوس؟

– غير معقول فالكسر حقيق بأن يوقظ النزلاء لا المرحوم فحسب.

– لعله طرق الباب ففتح له الرجل.

– ولماذا يفتح النافذة؟ ثم إنه لم يكن بوسع الرجل أن يغادر فراشه وقد قُتل وهو نائم عليه.

ونظرة عينيه. وصوت الصمت.

– ربما تمكن من الاختفاء في الداخل.

– أبدًا، لقد غادر الشقة قبلي وأنا من أغلقها.

– لعله.

ماتت بقية الجملة إذ خنقها الرعب. أوشك أن يقول لعله تظاهر بإغلاق النافذة دون أن يغلقها، مع أن المفروض أنه لا يعلم بأن علي هو الذي أغلق النوافذ. ورغم نجاته فقد تثلج من الرعب. وتساءل العجوز: لعله ماذا؟

– لعله فتح الباب بمفتاح آخر.

– ربما، ولكن لم فتح النافذة؟

– الراجح أنها نُسيت مفتوحة.

– الله أعلم.

– كانت محنة لك ولكنك رجل طيب.

– لا أدري كيف تركوني ولكنهم يحسنون عملهم.

– والجرائد سكتت فجأة، لا كلمة اليوم عن الجريمة.

– الله يرحمك يا عم خليل، لقد عرفته منذ ستين عامًا.

– وكم بلغ عمره؟

– جاوز الثمانين.

– ومتى تزوج؟

– منذ عشرة أعوام.

– لكنه زواج عجيب، أليس كذلك؟

– لقد تزوج في شبابه وأنجب، ثم ماتت أسرته جميعًا، ولبث أرمل عمرًا، حتى تمت مشيئة الله، وكان يحبها كأب قبل كل شيء.

– هذا هو المعقول.

– كان رجل جد وعمل، وكان محسنًا، ساعدني في تربية أولادي الله يرحمه.

– وكيف تزوج منها؟

– كان يسافر إلى الإسكندرية لبعض الأعمال.

– فقاطعه: أهي من الإسكندرية؟

– كلا، كان عند كل رحلة يقيم أيامًا عند صاحب له في طنطا، وكانت هي متزوجة.

– متزوجة؟

– من ابن خالتها، شاب بلطجي وضيع، وقد رآهما عند صاحبه، آه، لقد تكلمت أكثر مما ينبغي.

– ولكن كيف تزوجها؟

– طلقت من ابن خالتها فتزوجها.

– وتزوجت من رجل فوق السبعين!

– لم لا؟ لقد وفر لها الاحترام والطمأنينة.

فقال بذهول: والسلام!

وجعل يتذكر كلمات أمه الأخيرة، ثم تساءل: ولكن البلطجي لا يطلق زوجة حسناء، فكيف طلقها ابن خالتها؟

– لكل شيء ثمنه.

ورمش الرجل كالنادم على تسرعه فقال صابر: ذلك ماضٍ قد مضى.

– لكني أتكلم أكثر مما ينبغي، والحق أنني كثيرًا ما أهذي مذ رأيت دمه، أستغفر الله العظيم.

ربيبة بلطجي، جارية سوقية، زوجة رجل فان، مدبرة جريمة رهيبة، خالقة لذات جنونية، معذبتك إلى الأبد. ومجرد وهم لا أساس له ساقك إلى فندقها الدامي، ثم رمى بك إلى براثن هذه الحيرة القاتلة. كالوهم الذي دفعك تجري وراء سيارة كالمجنون.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤