الفصل الرابع عشر

قهوة مضاعفة لتفيق من الأرق. ونظر إلى التليفون خلال سحب الدخان المتصاعدة من سجائر النزلاء وتساءل متى تتكلم كريمة؟ وهطلت السماء في الخارج بغزارة دقائق معدودة، ثم أشرقت السماء ولكن الطريق غشاه الوحل. كريمة صامتة كالموت كأنها لا تدري عذابه. وأنت تشرب أردأ أنواع الأنبذة، وتسهد فوق فراشك حتى الفجر، وتحلم حتى يُخيل إليك أن النزلاء يسمعون صراخك، وإذا تدهورت صحتك فلن يخفى ذلك عن عين الرقيب، أما كريمة فلا يهمها شيء.

واستأذن في الجلوس إلى ترابيزته — لازدحام الاستراحة — قادم لعله الوحيد الذي بقى من النزلاء الذين عاصروا يوم الجريمة، فأذن له وهو كاره يتوجس ثرثرة مزعجة. وصدق توجسه إذ قال الرجل: قبضوا على القاتل.

فقال صابر مخفيًا انزعاجه بابتسامة: سمعت ذلك.

– علي سيرقوس؟

– نعم.

حبك العباءة حول جسده، وقال: مجرد سرقة لا كما ظننت.

– وماذا ظننت؟

– الحق أني سيء الظن بالنساء.

حدجه بنظرة مستطلعة، فقال الرجل: زوجة جميلة وشابة، وسوف ترث تركة لا بأس بها.

قال صابر وهو يشد على أعصابه: دار برأسي نفس الخاطر.

فضحك الرجل قائلًا: بعض الظن إثم.

ألم يدر برأس المحقق؟ ولكن كريمة صامتة كالموت. وهذا التليفون لا يحقق رجاء قط. والبرد والمطر والوحل لم تُسكت صوت الشحاذ. وناداه محمد الساوي وهو يشير إلى السماعة، فهرع إلى التليفون بتوسل معذب: آلو.

– صابر؟

لم يتخيل يومًا أن يتلقى صوتها بهذه الخيبة: إلهام، كيف حالك؟

– هل أضايقك؟

– أبدًا، سترين أنه المرض وسوف أنتظرك اليوم.

إن قطعها بلا تمهيد لفوق الطاقة، ولكن ما أيسر أن يجعلها هي القاطعة. يجب أن يبعدها عن وحل طريقه ولو بجراحة أليمة. وها هي لا تدري شيئًا عن أفكاره فتبتسم في عتاب، وتطالعه بصفاء لا يكدره شيء. آه، كيف أمكن أن يحبها ذلك الحب العميق الصادق! وتصافحا بقوة وهي تقول: ألا تشعر بالذنب؟

وتوقفت عن الكلام وهي تنزع قفازها وتجلس قائلة بقلق: شد ما أثَّر فيك الزكام.

– بل انفلونزا خبيثة.

– ولا أحد يعني بك؟

– لا أحد ألبتة.

– ألم تستشر طبيبًا؟

– كلا، وقد شفيت من المرض ولم يبق إلا ظله.

– يسرني أن أسمع ذلك، ستشرب مزيدًا من العصير.

ومضيا يتناولان الطعام وهي تنظر إليه أكثر الوقت.

– فكرت أكثر من مرة أن أزورك.

– أحمد الله أنك لم تفعلي.

هزَّت منكبيها ولكنها لم تناقشه، ثم قالت بابتهاج: أما أنا فلم أضيع دقيقة واحدة.

ستُسمعك لحنًا جميلًا بعد أن أصابك الصمم.

– أنتِ ملاك.

– ألا تصدقني! إذن فاعلم بأنك ستبدأ حياة جديدة، أو أننا سنبدأ حياة جديدة، ما رأيك؟

طارد فتوره إكرامًا لها، وقال: رأيي أنكِ ملاك، وأنني حيوان كسيح.

لمعت عيناها وهي تقول: رأس المال الذي تحتاجه تحت أمرك.

– رأس المال!

– نعم، هو ما اقتصدته للمستقبل، وثمن بعض حُلي لا أستعملها، ليس ضخمًا ولكنه يكفي، وقد استشرت زملاء خبيرين، أُؤكد لك أننا سنبدأ فوق أرض ثابتة.

آه ليس لحنًا جميلًا فحسب. معجزة أيضًا. هل كنت تحلم بذلك! رأس مال بلا سرقة ولا جريمة. ومعه الحب الحقيقي. إذن رد الحياة إلى عم خليل، واستيقظ من الكابوس! وتأوه بلا صوت: إلهام، كلما غمرتني بنبلك زاد اقتناعي بأنني غير أهل لك.

– لا وقت للشِعر.

هي في غاية من السعادة والحماس. وإطفاء شعلتها سيكون جريمتك الثانية. لكنها تمد يدها لتقطف ثمرة غير موجودة. ولم يجر لك في بال أنه يمكن حل مشكلتك بهذه السهولة. ها هو الحب والحرية والكرامة والسلام، فأين أنت! ولماذا لم تقع المعجزة قبل الجريمة؟

– فيم تفكر؟ توقعت أن تفرح! أن تفرح كثيرًا!

لم يبق إلا أن تصدمها بالحقائق لتُشفى، قال متنهدًا: قلت لك أنني لست أهلًا لنبلك، فلم لا تصدقينني؟

– توقعت أن تفرح.

– فات الوقت.

– يا ربي! أنت لا تحبني.

– إلهام، الأمور معقدة جدًّا، أنا أحببتك من أول نظرة، ولكن من أنا؟

– لا تحدثني عن أبيك، ولا فقرك، ولا عدم صلاحيتك.

أنتِ تعذبينني لأنك تشطرينني شطرين. والوسيلة الوحيدة لشفائك أن أصدمك بالحقائق.

– لعلك ما زلت مريضًا. إنك أمامي ولكني أتساءل أين صابر؟

– أودُّ ألا تتساءلي بعد اليوم وألا تتكدري.

– أن كنت مريضًا …

– كلا، ليس المرض.

– إذن فما هو؟ لماذا قلت فات الوقت؟

– أقلت ذلك؟

– منذ ثوان!

– أنا أعني شيئًا واحدًا بكل إصرار وهو أنني غير أهل لك.

– أرفض هذا السخف، أنت تعلم أنني أحبك.

– وهذه هي جريمتي، نحن للأسف لا نفكر أمام الحب إلا في الحب فقط.

– ولماذا هي جريمة؟

– لأنه كان يجب أن أقدم لك نفسي على حقيقتها.

– فعلت ذلك وقبلتك.

– حدثتك عن أبي ولكنني …

ثم واصل بمرارة: ولكنني لم أحدثك عن أمي!

رمقته بنظرة مستنكرة وهي تقول: أنا أحبك أنت ولا دخل للماضي في ذلك.

– يجب أن تصغي إلي.

– بالله دعها ترقد في سلام.

– الإسكندرية كلها تعرف ما سأحدثك عنه.

– لنحذف الإسكندرية من خريطتنا.

قال وحلقه يغص بالمرارة: لقد ختمت حياتها في السجن.

حملقت في وجهه كأنما تنظر إلى مجنون، فقال: أرأيت؟

ثم وهو يزدرد ريقه: ولذلك صادرت الحكومة أموالها، وهذا هو سر فقري بعد الغنى، ولم تترك لي إلا وهمًا هلكت وأنا أبحث عنه.

صدمة قاسية يئن لها قلبك ولكنها ستفيق.

– لا يحق لي أن أحب امرأة إلا من النوع الذي كانت تعاشره، كان يجب أن أتجنبك، ولكن سحرني الحب كما قلت لك.

إنها لا تستطيع أن تتكلم وهذا حسن، أو لا يبقى أمامك إلا أن تعترف بما هو أدهى.

– هذا ما يعزيني عن خسارة الفرصة التي تهبينها لي، وقد عشت حياتي الماضية عيشة العبث بفضل مالها الحرام، ولم يكن بيني وبين الاتجار في الأعراض إلا خطوة، ولعله العمل الوحيد الذي يليق بي.

اجتزت أشد العقبات. كأنك سعيد! ويا ليت الليل لا يوجد. ولعل المحقق يعلم الآن بتفاصيل هذه القصة المخزية.

وحنى رأسه لها تحية، ثم ذهب.

وفي عصر اليوم التالي دُعي إلى التليفون. وشد ما انزعج عندما سمع صوت إلهام.

– أهلًا إلهام؟

قالت بصوت متهدج: صابر، أردت … أريد … أريد أن أقول أن كل ما قلت لي أمس لا يهمني.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤