الفصل الخامس عشر

إلهام … لستِ إلا عذابًا. أما كريمة فقد جمعت بينكما الجريمة برباط لن ينفصم حتى الموت. وحاجتك إليها كالجوع الكافر وإن قذف بك في أعماق الجحيم. والوقت يمر مقطرًا العذاب، ولكن مروره بلا حدث يهب شيئًا من الطمأنينة. وسوف تجد وسيلة أو أخرى للاتصال بكريمة. وخير ما تفعلان فيما بعد أن تبيعا الفندق، ثم تعيشا في مدينة غريبة. وسوف تعيشان عيشة فطرية تلقائية، فهي ليست كإلهام التي تلهبك بسوط التغيير والتعذيب. ولكن متى تنوي كريمة الاتصال بك؟ وما العمل إذا نفدت النقود الباقية! حتى عمل علي سريقوس يقبله إذا أبقى له على الأمل في الاتصال بكريمة يومًا ما. تُرى هل يُشنق الرجل؟ لقد قتلت رجلًا بيدك فما يضيرك أن تقتل الآخر بيد غيرك؟ لكن متى تستيقظ من الكابوس؟

وقبل أن يغادر الفندق صباحًا طلبته إلهام بالتليفون وسألته: هل ستجدد الإعلان؟

فأجاب في ضجر: كلا.

فقالت بتودد: رجوت شخصًا مهمًّا أن يبحث عن الرقم السري للرحيمي إن كان له رقم سري.

– ولم يجد شيئًا طبعًا؟

– لا للأسف.

– لا تشغلي بالك.

– لنا مراسلون في الأقاليم وهم يقومون الآن بتحريات هامة.

– لساني يعجز عن شكرك!

ثم سألت بصوت ينم على الحياء: ألا تفكر في زيارتنا؟

فقال بحزم: كلا، مراعاة لصالحك قبل كل شيء.

– تُرى أتبكي أم تُغالب البكاء.

– قلت لك لا يهمني.

– ولكنه يهمني جدًّا.

انقطع الاتصال بعد ذاك. تألم من جديد حتى حنق عليها من شدة تألمه. ما قيمة الجمال في هذا العالم الدامي؟ ألا تريد عيناها أن تريا إلا هذا الجمال الملعون؟ وقبل أن يغادر موقفه رأى عم محمد الساوي يتطلع إليه بابتسام، فابتسم إليه متوددًا فدعاه إلى الجلوس. قَبِلَ الدعوة بامتنان خفي. وسأله العجوز: مستعجل؟

– أبدًا، لا غاية لي وراء الذهاب.

فقال بارتياح: إذن فاجلس قليلًا، الحق أني أشعر بوحشة منذ موت المرحوم. ولا أجد من أحادثه.

– وأبناؤك؟

– لا أحد منهم في القاهرة.

– كان الله في عونك.

لم يبق في الاستراحة سوى رجلين، وفي الخارج غطت أصوات العمال والعربات على مديح الشحاذ.

– أليس هنالك من جديد؟

– لي صديق من المخبرين ولعله يدَّعي من العلم ما ليس له.

– ماذا قال؟

– علي سريقوس، لم يجدوا أحدًا غيره.

– لعله اعترف.

– لا أدري.

– أغرته سرقة حقيرة.

– لقد أنكر السرقة.

– ألم يعترف بها من قبل؟

– بلى، ثم عاد فأنكرها.

– ولكن النقود ضبطت عنده.

– قال أن الزوجة جادت بها عليه.

خفق قلبه خفقة مؤلمة جدًّا: زوجة المرحوم؟

– نعم.

– ولكن، لماذا؟

– على سبيل الإحسان.

– وهل كانت تحسن إلى الخدم الآخرين؟

– سئل في ذلك جميع الخدم ولكن ثبت أنه كان الوحيد.

وهو يزدرد ريقه: هذا غريب.

– الأغرب من ذلك أنه رجع فاعترف بالسرقة.

– والإحسان المزعوم؟

– قال أنها كانت تجود عليه ببعض النفحات عندما يؤدي لها خدمات في شقتها، ثم عرف من وراء ظهرها مكان النقود فسولت له نفسه السرقة.

– وذهب ليسرق فقتل!

– أظن هذا.

– ورأي المحقق؟

– من يدري؟ ولكنهم مقتنعون فيما يبدو بأنه القاتل.

– وربما يكون قد اعترف.

– ربما.

– لا شك أن الزوجة كانت تهبه قروشًا.

– ربما.

– ولكن لماذا أنكر السرقة، ثم عاد فاعترف بها؟

– من يدري؟

– هل للمسألة وجه آخر؟

– آه … من يقطع بذلك؟

اكتشف لأول مرة — وهو ينظر من قريب في وجه العجوز — أن لون عينيه أخضر باهت، وكلما أمعن فيه النظر خُيِّل إليه أنه يرى صورة جديدة لدرجة أنه تعذر عليه استحضار الأولى.

– أتظن أن للمسألة وجهًا آخر؟

– من أين لي أن أعلم؟

آه … هكذا سيشعر البشر وهم يقتربون من الجحيم في الآخرة.

– أنت تعلم الكثير ولا تقول إلا القليل.

– أخشى أن يكون العكس هو الصحيح.

– ألم يسألوا الزوجة من جديد؟

– استدعوها للتحقيق أكثر من مرة.

– ألم يكن لأقوال سريقوس دخل في ذلك؟

– بلى.

– أتثق بالمخبر كل الثقة؟

– لكنها هي التي قالت لي بنفسها.

– الزوجة!

– نعم، جاءت مساء أمس.

اختارت الوقت الذي لا يوجد فيه بالفندق. وعندما يدك زلزال الأرض دكًّا فماذا يهم التحقيق أو المحقق! وقد يستشف العجوز وراء أسئلتك دافعًا أهم من حب الاستطلاع، ولكن كيف تحذر الحَر والنيران تشتعل في ملابسك؟

– هل تكلمت عن الإحسان إلى سريقوس.

– مجرد إحسان طبعًا.

– هذا هو المعقول.

– لماذا؟

– علي سريقوس غير مقنع كرجل.

– أتحيط علمًا بهذه الأسرار؟

– ليس كل رجل يصلح.

– لكنني عشت أضعاف أضعاف حياتك.

– لعلك تشك في سلوك المرأة؟

– لم أقل ذلك.

– أنت إذن واثق من أمانتها؟

غضَّ العجوز بصره في حزن. وصمت مليًّا. ثم قال: أنا لا أشك في سلوك المرأة، ولكنني متأكد من ذلك.

انظر كيف تتكشف عوالم من الفزع تحت سطح أملس من التراب: إذن فهي امرأة آثمة؟

– نعم، ويا للأسف!

– وعرفت ذلك من قبل مصرع صديقك؟

– نعم، راحة باله كانت أهم عندي من الحقيقة.

– ألم تصرح بآرائك في التحقيق؟

– طبعًا.

– صرحت بالعلاقة الآثمة التي بينها وبين علي سريقوس.

– علي سريقوس! أنا لا أفكر في علي سريقوس.

آه … هل وقع في مصيدة؟

– كنا نناقش موقفه.

– لكننا تحدثنا بعد ذلك عن المرأة.

– باعتبارها الطرف الآخر.

– كلا، هنالك رجل آخر.

تعال. الجحيم يسع أكثر من رجل!

– رجل آخر؟

– زوجها السابق.

وهو يسترد روحه: الرجل الذي باعها؟

– كانت مجرد صفقة لها ما بعدها.

– ولكن كيف عرفت ذلك؟

– رأيته أكثر من مرة يتسلل إلى بيت أمها وهي هنالك.

ها هو الجحيم يعود أفتك نيرانًا.

– وأخفيت الأمر؟

– لو أبلغته المرحوم لقتلته.

– وقد قُتِلَ رغم ذلك.

– نعم ويا للأسف!

– كيف سمح لها بتلك الزيارات؟

– إيغاله في الشيخوخة أنساه كل شيء حتى سوء الظن.

– وقلت ذلك في التحقيق؟

– قلته.

– حققوا معهما؟

– ثبت أن الرجل كان خارج القاهرة ليلة الجريمة.

– هذا لا يمنع من أن يكون مدبرها.

– بلى، ولكن التحقيق انتهى بإطلاق سراحهما.

– كيف؟

– عندهم الأسباب.

– لعلهما استغلا الخادم بمكر فائق؟

– أو أي أحمق سواه.

وهو يزدرد ريقه: وربما كانت مجرد ظنون لا تقوم على أساس.

– ربما.

– لكنك قلت أنك متأكد.

– مغالاة بعض الشيء في التعبير.

– عدنا من حيث بدأنا.

وهو يهزُّ رأسه في حزن: قلبي يحدثني بأن ظنوني صادقة.

– ولعله لا توجد علاقة بين الخيانة وبين الجريمة؟

– ربما، وإلا كيف أطلق سراحهما؟

– على أي حال فقد أدى علي سريقوس لهما خدمة لا تقدر بثمن.

– إذا كان هو القاتل.

– ألا تعتقد أنه القاتل؟

– كل شيء محتمل.

– أحيانًا يخيل إلي أنك لا تصدق ذلك؟

– لم لا، ألا تذكر حديثي عن صبي البقال؟

– لعله القاتل إذن؟

تنهد قائلًا: أعتقد أن القاتل سيقتل ولو بعد حين.

لن تذوق النوم حتى تُحقق معها بنفسك. امرأة جهنمية لكن ما أغباها إذا حسبت أنها يمكن أن تعبث بك. ألم تقتنع بأنك قادر على القتل إذا أردته! ولكن كيف تعرف عنوانها؟ وعاد العجوز يقول: زوجها القديم لم يدبر الجريمة وإلا لما أُطلق سراحه بتلك السهولة، أما الجريمة الأخرى …

– إنه ابن خالتها وليس من الشاذ أن يزور خالته.

– الحق أنني شككت في الأمر من قديم، كانت أمها تقيم في الفجالة غير بعيدة من هنا، وكان المرحوم يصطحب زوجته إلى بيتها كلما اشتاقت إلى رؤيتها، وإذا بالأم تقرر أن تنتقل إلى شارع الساحل رقم ٢٠ بالزيتون، لماذا؟ لم أجد لذلك تعليلًا إلا أن تتخذه الزوجة عذرًا للإقامة أيامًا عند أمها كل شهر، ورغم معارضة المرحوم بادئ الأمر فقد انطلت عليه الحيلة فسلم بالواقع.

آه … لم يتخيل أن يظفر بطلبته بذلك اليسر، ودون بذل أي مجهود من ناحيته، لكن الجنون كان يعصف به عصفًا. أجل كان الجنون يعصف به عصفًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤