الفصل السادس عشر

لولا يقينه من أن عينًا من عيون الأمن تراقبه بطريقة ما لاندفع من فوره إلى الزيتون. لا بد إذن من التريث حتى يجد حيلة جهنمية. ولما نزل صباحًا من حجرته رأى ظهر الساوي وهو منحن فوق مكتبه، فخُيل إليه لحظة أنه يرى عم خليل أبو النجا. ودهمته الحقيقة الغريبة — وكأنها تدهمه لأول مرة — وهي أنه أزهق روحًا. وتساءل ترى هل يمكن أن يتذكره عم خليل الآن بطريقة ما؟ وتمهل قليلًا وهو يصبح على العجوز، ولكنه ردَّ تحيته بعجلة، وعاد إلى دفتر الحساب وكأنه نسى تمامًا حديث الأمس كله. نسى الأسرار الرهيبة التي كان سيمضي حياته كلها وهو يجهلها. وتناول فطوره في الاستراحة برأس ثقيل من أثر المنوم. كريمة … لن أسمح لقوة في الأرض بأن تجعل مني أبله. ستجدينني قريبًا فوق رأسك ضربة قاضية. افعلي ما تشائين، خوني أو تزوجي، فإن حبل المشنقة في يدي. لا تتوهمي أن حياتي أغلى من كبريائي. أما حديث المال والحرب فلا ينقطع في الاستراحة كإنشاد الشحاذ في الخارج. ودعته إلهام إلى التليفون. لشد ما يحنق عليها كلما سمع صوتها من أعماق دوامته.

– ألا تقابلني اليوم ولو بعض دقائق؟

– لا أستطيع.

– اذكر سببًا مقنعًا.

– لا أستطيع.

– حتى لو كان الأمر يتعلق بأبيك؟

تساءل بذهول: أبي؟

– نعم.

– ولكن كيف؟

– فلنتقابل اليوم.

حتى أبوه لا يمكن أن يستحوذ على انتباهه في هذه اللحظة النارية الدامية.

– لا أستطيع.

– لكنه أبوك الذي جئت للبحث عنه!

– ربما فيما بعد.

– هل أجيء إليك؟

فقال بضيق لم يخل من حدة: كلا.

أي جديد جَدَّ عن الرحيمي؟ وماذا يهمه الآن؟ الزيتون هي كل شيء. وربما لم يكن الأمر كله إلا حيلة لاستدراجه إلى اللقاء. الزيتون الآن هي كل شيء. وهام على وجهه معذبًا وهو يفكر بلا انقطاع. وشرب كثيرًا من النبيذ الرديء، ثم تخبط في الشوارع مواصلًا التفكير حتى آمن بأنه سينتصر على المخبر المجهول الذي يتعقبه. ها هو يصعد إلى حجرته لينام ولكنه لن ينام. المخبر هو الذي سينام. وعقب أذان الفجر بقليل غادر الحجرة في حذر شديد، ثم نزل على مهل إلى مدخل الفندق. رأى على ضوء المصباح السهاري خادمًا نائمًا وراء الباب المغلق فشعر بخيبة وغيظ. ولم يفكر في إيقاظ الخادم ليفتح له إذ لم يستبعد أن يكون هو المخبر. تراجع حائرًا وأنفاسه تتردد في الصمت العميق. وطرأت فكرة لم يدرسها من قبل؛ فبعثت حيويته من جديد، فرقى في السلم حتى السطح بلا توقف ولا تردد. وعندما وقع بصره على الشقة المغلقة تحت ضوء النجوم سرت في أطرافه رعدة حتى أغمض عينيه من التأثر. واندفع نحو السور الفاصل بين سطح الفندق وسطح العمارة الملاصقة فعبره كالمرة الأولى. آه … إنه يرتجف ولكن ما أحوجه إلى قوة أعصابه. ومضى إلى باب السطح، ثم نزل في ظلام دامس حتى مدخل العمارة المضاء بمصباح سهاري. رأى حجرة البواب مغلقة، والباب الخارجي مغلقًا كذلك والمفتاح في القفل. كل شيء معد كأنما بتدبير سابق. دلف من الباب وأدار المفتاح، ولكنه لم يطاوعه! لماذا؟ وشده بحذر فأخذ ينفتح فأدرك أنه كان مفتوحًا، ولماذا أيضًا؟ أراد أن يخرج ولكن اعترضه شبح رجل سد الفتحة سدًّا وهو يسأل بصوت جاف: من؟

بسرعة جذبه إلى الداخل مجازفًا بحياته. وفي اللحظة التالية طعنه بركبته في بطنه فتقوس وهو يئن، فهوى على رأسه بقبضته فسقط على وجهه. مرق إلى الخارج يخترق البرد والفجر والخلاء. عبر الطريق إلى بواكي الجانب الآخر، ثم اتجه نحو الميدان. ولم يكد يخطو بضع خطوات حتى اصطدم بشبح فكاد يسقطه على ظهره. وقد تأوه قائلًا: آه … أنا رجل ضرير.

قال متعجلًا: لا مؤاخذة، الظلام شديد تحت البواكي.

– ربنا ينور بصيرتك، دعوة مستجابة بإذن الله من سائل مسكين.

اقشعر من التقزز. هو الشحاذ دون غيره. حتى في هذه الساعة من الفجر يسعى. وواصل سيره وصوت الرجل يلاحقه: حسنة لله تنور طريقك.

واستقل تاكسي وهو يتنهد. سوف ينتظره المخبر طويلًا. وستعمى عيناه من التحديق هنا وهناك. وغادر التاكسي في شارع الساحل على بعد قريب من البيت المكون من دور واحد، والظلام ينزع آخر غلالة قبل الشروق. طرق الباب لا يدري عما سيفتح، ولكنه سلم نفسه للمقادر. انفتحت الشراعة عن وجه كريمة! وبسرعة واضطراب فتحت فدخل.

في قميص النوم، مشعثة الشعر، خاملة المفاتن، همست: جُننت؟

ومالت إلى حجرة على يمين الداخل معدة للاستقبال. وقفا وجهًا لوجه تحت ضوء مصباح عار: تصرف مخرب، جُننت؟

وهو يثقبها بعينيه اللتين لم يغمضا: ربما.

– ألم تفكر في خطورة الزيارة؟

– هي أهون من الانتظار بلا أمل.

– الانتظار ضرورة، ألا تدرك أن حالي أدق من حالك؟

– وأظل أنتظر حتى الموت؟

– حتى يصبح الاتصال مأمونًا.

– عندك التليفون.

– صوتي يعرفه عم محمد.

– أي صبي بقال كان يمكن أن ينوب عنك في طلبي.

– حققوا معي أكثر من مرة، ركبني الخوف ولم يعد في رأسي عقل!

– أنت تدبرين جرائم القتل في أثناء المضاجعة.

– لا ترفع صوتك فأمي نائمة.

– أليست شريكة لك في أسرارك؟

– مجنون! حالتك غريبة!

– يجب أن أرى حجرة نومك.

– حجرة كبقية حجرات البيت.

– لا تراوغي، يجب أن أرى من ينام فيها!

اتسعت عيناها وهي تقول: ماذا جرى لعقلك؟

– ابن خالتك، زوجك السابق، أليس هنالك؟

– من قال ذلك؟ لا أحد هنالك، ها هو الخراب يجيء بيدنا لا بيد الآخرين.

– ليكن، لا بدُّ أن أرى بعيني.

أزاحها من أمامه وغادر الحجرة. فتح أول باب فرأى العجوز مستغرقة في النوم. وفتح بابًا آخر فرأى حجرة نوم. حجرة نومها على الأرجح، وفراشًا ينفتح غطاءه عن الثغرة التي انزلقت منها. ودار بالحجرات والمرافق فلم يجد أثرًا لأحد. رجعا إلى موقفهما بحجرة الاستقبال وهو يقول بحنق: شتت عقلي، فالرجل يجب أن يتجنبك في فترة التحقيق.

– قلبي يحدثني بأن مخلوقًا لئيمًا أوقع بيننا.

– ألم يكن ابن خالتك زوجًا لك؟

– كان.

– وباعك للزوج الذي دبرت قتله؟

– سيقبض علينا اليوم يا مجنون.

– أجيبيني.

– أنتَ غبي، جازفت بحياتي لأني أحبك.

– في هذا الماخور كان يجيء للنوم معك.

– ألا تفرق بين الصدق والكذب؟ أنسيت ما كان بيننا؟

– أي امرأة لا تعجز عن إتقان التمثيل فوق الفراش.

– صدقني لصالحنا، كل ما في رأسك أكاذيب.

– تظنين أن خوفي من المشنقة سيضطرني إلى تركك للرجل.

– لا رجل في حياتي غيرك، صدقني، إن لم تصدقني في الحال سيأخذوننا قبل شروق الشمس.

– كذابة، ماكرة، حطمت حياتي كلها بكذبة قصيرة.

– صدقني، أنا أحبك، لم أدبر شيئًا إلا من أجلك، صدقني.

– حطمت حياتي بكذبة لتفوزي أنت وعشيقك بالثروة والحياة.

– صدقني قبل فوات الأوان، أنت حبيبي، ولا أحد غيرك، خرج الرجل من حياتي من زمان.

– دبرت قسمة جهنمية، فلي الجريمة ولك الرجل والثروة.

– لا فائدة، انتهينا، اللعنة، رأسك كالحجر، كلمة أخيرة ألا تريد أن تصدقني؟

– كلا.

– إذن ماذا تريد؟

– أن أقتلك.

– ثم تُشنَق؟

– في ألف داهية.

ودوى طرق على الباب كالقنابل. وطوقت البيت أصوات مهددة وأقدام ثقيلة. صرخت كريمة بيأس: جاء البوليس، ألم أقل لك؟

انقض عليها كالمجنون، وقبض على عنقها بيدين عصبيتين ثم ضغط بكل قواه، على حين اهتزَّ الجو من زلزلة دفع الباب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤