الفصل السابع عشر

في السجن وحدك. لا يُزار من ليس له أهل. وإلهام تخطر كالحلم وهي تعرف الآن الحقيقة. شفيت ولا شك من الحب ولعنته. وها هي الجرائد تُعيد القصة، بل ها هي تكشف عما خفى عنك من أسرارها. والصور تملأ الصفحات. كريمة، وعم خليل، ومحمد رجب زوج كريمة الأول، وصورتك، والصورة الجامعة للأب والأم، حتى إلهام الملائكية، وبسيمة عمران، الجرائد لا تترك كبيرة ولا صغيرة. في سجن الموت تتحرر من علاقات الحياة كلها فلا تهمك الفضائح. أنت متحرر من الكبرياء والخجل كما كنت وأنت في الرحم. صابر يُقبَض عليه متلبسًا بقتل عشيقته. صابر له قصة. بسيمة عمران امبراطورة الليل بالإسكندرية. عللته عند اليأس والإفلاس بجاه أب مجهول. البحث عن سيد سيد الرحيمي المزعوم. الحب. القتل. صابر مثال فريد للجمال والرجولة. غزواتك في الإسكندرية. الحب الأعمى الذي رفعه إلى المشنقة. هو مثال أيضًا للقسوة والأنانية والدعارة. وكم عجبوا للجانب الخفي الذي كشف عنه حب إلهام. لم يفكر مرة في إغوائها. اعترافاته المتتابعة بين يديها. رفضه استغلالها على أي وجه، وتعففه عن أموالها وهو مختنق بأزمته الأخيرة. أمه أنشأته على مستوى رفيع من الجاه فلم يكن بد من أن يعثر على الأب الوجيه المزعوم، أو أن يرتكب أشنع الجرائم وهي القتل. وانظر كيف ارتاب المحقق في أمرك من أول الأمر. ورصدت حركاتك في الشوارع، وبقالة كلوت بك، وفتركوان. وكيف كلم عم محمد الساوي بأن يحدثك عن خيانة كريمة؟ أيها العجوز الماكر. يا لي من أحمق! والزوج الأول محمد رجب أنكر أي علاقة بالقتيل، ولكن العاشق وقع في الفخ. ترى أأنكر دفعًا للشبهات، أم أنه قرر الحقيقة بلا زيادة؟ ليس في الصحف ما يقطع باليقين في هذه المسألة التي ساقتك إلى الهلاك. هل يُمكن أن تعرف السر بعد الموت؟ وعم محمد الساوي أخطأ وهو ينسج أكاذيبه مما هدد التدبير كله بالفشل لولا ذهول العاشق فقد اعترف له بأنه شهد بخيانة الزوجة، وفي ذات الوقت أخبره بأنها تزوره فظن لحظة أن الشاب قد فطن إلى التناقض الواضح، ولكن صدمته بحكاية الخيانة أذهلته عن إدراك التناقض الواضح. آه … هذا حق ويا لي من أحمق! ووصف تسللك للذهاب إلى كريمة بإسهاب. كيف عبرت السور إلى العمارة المجاورة؟ وكيف ضبطك البواب وهو راجع من صلاة الفجر حتى اضطررت إلى ضربه حتى الإغماء؟ وكيف انتبه المخبر الذي يراقب الفندق تحت البواكي إليك عند اصطدامك بشحاذ ضرير وسماع صوتك وأنت تعتذر إليه؟ آه … ذلك الشحاذ الكريه البشع الأعمى.

الجرائد لا تترك كبيرة ولا صغيرة. إنها تشهر بحماقتك وعماك كما شهَّرت بأمك. وهذا البحث الذي قامت به مجلة الربيع مع نخبة من رجال الفكر. تحدث أستاذ في الجامعة عن الزواج غير المتكافئ بين عم خليل وكريمة باعتباره المسئول الأول عن الجريمة. وقال كاتب يوميات صحفية: أن المسئول الأول هو الفقر، هو الذي أغرى زوج كريمة الأول ببيعها إلى زوجها الثاني، وأن كريمة شهيدة لصراع الطبقات وفوارقها. وناقش أستاذ بالخدمة الاجتماعية نشأة صابر في أحضان تاجرة أعراض ورواسبها في نفسه. وقال أستاذ علم النفس أن صابر مصاب بعقدة حب الأم، وأنه يمكن تفسير اندفاعه الإجرامي بأمرين مهمين: فهو أولًا وجد في كريمة بديلًا عن أمه فأحبها، وأن لا شعوره أصرَّ على الانتقام لأمه فقتل صاحب الفندق كرمز للسلطة، وطمع في مصادرة أمواله كما صادرت الحكومة أموال أمه. وقال شيخ من رجال الدين أن المسألة في جوهرها مسألة إيمان مفقود، وأن صابر لو بذل في البحث عن الله عُشر ما بذله في البحث عن أبيه لكتب الله له جميع ما طمح إليه عند أبيه في الدارين.

قرأ صابر تلك التعليقات بفتور وحيرة، ثم هزَّ منكبيه استهانة وهو يقول: «لكن أحدًا لم يعرف إن كانت كريمة صادقة أم كاذبة، ولا إن كان الرحيمي موجودًا أم لا».

ويومًا دُعِيَ إلى مقابلة محام في حجرة المقابلات بالسجن. وقد خُيِّل إليه أنه رآه قبل ذلك، ولكنه لم يتذكر متى أو أين! وارتاح لوقار شيخوخته فصافحه وهو يتساءل: هل سيادتك المحامي الذي قيل أن الدولة ستختاره لي؟

– كلا.

ثم بصوت منخفض عن الأول تواضعًا منه: أنا محمد الطنطاوي.

ولكن صابر وضح جهله بالمحامي الكبير، فسأله بارتباك: من وكل سيادتك عني؟

– اعتبرني صديقًا متطوعًا.

فقال بنبرة اعتذار: لا تؤاخذني إن صارحتك بأنني لا أملك مالًا على الإطلاق!

فابتسم الأستاذ قائلًا: أنا الأخ الأكبر لإحسان الطنطاوي مدير إدارة الإعلان بجريدة أبو الهول.

– آه … أتعلم أنني سألت نفسي أين رأيتك من قبل!

ابتسم الأستاذ فسأله صابر بتأثر: هل سعى لديك لتتولى الدفاع عني؟

– أجل، إذا شئت.

هتف صابر بغتة: إلهام؟

ابتسم الأستاذ مرة أخرى دون أن ينبس بكلمة، فأغمض صابر عينيه مليًّا ثم فتحهما متسائلًا: والأتعاب؟

– المصروفات الضرورية للإجراءات فقط.

هل يمكن! كيف تتصور! نفقة جنازة الحب!

– لكنه جهد ضائع يا أستاذ محمد.

– مفهوم اليأس لا يوجد في قاموسنا.

– قتلت اثنين مع سبق الإصرار، واعترفت.

– ولو.

– وإلهام … لِمَ؟

– قيل أنه ليس لك أهل فليس بكثير أن تكون لك صديقة.

– حتى بعد أن عرفت؟

– تقبَّل ذلك دون مناقشة.

جفف عينيه بطرف كمه وهو يقول: الدمعة الثانية في عمري كله.

– لا عيب في ذلك، ولندخل في الموضوع.

– لقد اعترفت كما قلت لحضرتك.

– هنالك ظروف.

– أي ظروف يمكن أن تنفعني؟

– النشأة، الحب، الغيرة، سلوكك الأمين تجاه إلهام.

– لن أجني من ذلك إلا مزيدًا من التشهير.

– لن نسلم باليأس قبل أن يقع.

– الحكاية كلها كالحلم، جئت من الإسكندرية للبحث عن أبي فوقعت أحداث غريبة نسيت فيها مهمتي الأصلية حتى وجدت نفسي أخيرًا في السجن.

ثم وهو يتنهد: والآن أكاد أن أنسى كل شيء إلا المهمة الأصلية التي جئت من أجلها.

– ولكن لا جدوى من التفكير فيها الآن، ربما أشرت إليها في مرافعتي باعتبارها أول جناية كتبت عليك قبل أن تولد.

– ولكن إلهام دعتني بالتليفون ذات يوم لأمور تتعلق بأبي.

– وماذا قالت لك؟

– لم أذهب لمقابلتها إذ كنت محمومًا بالانتقام من الأخرى.

– أؤكد لك أنها لا تعلم عنه شيئًا.

هزَّ صابر رأسه في حيرة، ثم قال: إن نشر أخبار الجريمة في الصحف يعتبر إعلانًا ضخمًا من نوع غير معهود، ولعله يجيء بالنتيجة التي عجز عنها الإعلان المتواضع بجريدة أبو الهول.

– أنا على علم لا بأس به بأخبارك، ولكني على يقين من أنك لن تجني من الاهتمام بأبيك الآن إلا التعب الضائع، فإن مجيئه أو عدمه سواء في موقفك الأخير.

– لا يبعد إن جاء أن تحدث معجزة.

– كيف؟

– أعني إذا صح أنه وجيه حقًّا وذو نفوذ.

– فليكن أكبر الوجهاء، ولكن كيف يمكن أن يغير قوانين الدولة؟

– اسمع يا أستاذ، لقد كانت أمي ذات نفوذ يومًا ما، فاستطاعت بنفوذها أن تتحدى قوانين الدولة تحت سمع المسئولين وبصرهم.

– بالله خبرني عن الأمل الذي يراودك إذا جاء أبوك؟

تردد قليلًا ثم قال: ربما استطاع أن يسهل لي سبيل الهرب.

– تماديت في الخيال، ولن تجني من وراء ذلك إلا تعب القلب.

فنفخ قائلًا: على أي حال أنا شاكر فضلك، وأرجو أن تبلغ امتناني إلى الآنسة إلهام، وإلى الأستاذ إحسان، وسوف تجدني تحت أمرك في كل ما تريد، وأما عن أملي المضحك فإنني لن أيأس كما تقول أنت إلا إذا وقع اليأس.

•••

وقُدِّم صابر إلى المحاكمة. وأحيلت الأوراق إلى المفتي. ونطق بالحكم. وقد تابع المرافعات باهتمام، ولكنه تلقى الحكم بذهول رغم توقعه له من أول الأمر.

•••

وفي السجن دُعي إلى مقابلة الأستاذ محمد الطنطاوي. وقابله الأستاذ بعطف وشجعه بكلمات مناسبة، ثم قال له: لا يزال أمامنا الاستئناف ثم النقض.

فسأله بحزن: كيف حال إلهام؟

– ليست على ما يرام، والظاهر أن مأساتها التي تحدثت عنها الجرائد قد هزَّت أباها من الأعماق؛ فجاء من أسيوط لزيارتها وأصر على أخذها معه بعض الوقت تغييرًا للجو والتماسًا للصحة.

فارتفع صوت صابر وهو يقول: إذن استيقظ من جحوده، أما أبي …

ابتسم المحامي الشيخ قائلًا: بهذه المناسبة هل تُصَدِّق أنني أحمل لك أنباء عن أبيك؟

هتف ذاهلًا: لا!

– بلى.

ثم مستطردًا بعد وقفة قصيرة: ألم تسمع عن الصحفي الذي كان يوقع عموده اليومي بإمضاء «الصحفي المخضرم»؟ طبعًا لا، فلقد انقطع عن العمل منذ عشرين عامًا. وهو جار لي بمصر الجديدة، وكان قديمًا أستاذي بكلية الحقوق، ومن أفقه من عرفت في الشريعة، وقد جاءت سيرتك على لساني وأنا مجتمع به أول أمس، ولما قصصت عليه قصة أبيك قاطعني: أتقول سيد سيد الرحيمي! لكنني أعرفه!

فقلت له لعل المعني شخص آخر، فقال: سيد سيد الرحيمي، الوجيه الغني الجميل، وقد كان شابًّا في الخامسة والعشرين أو نحو ذلك منذ ثلاثين عامًا.

هتف صابر: ألم ير الصورة في الصحف؟

– إنه الآن لا يعرف الصحف وفضلًا عن ذلك فهو ضرير.

– يا للخسارة! ولكن لا يمكن تجاهل التشابه في الاسم، والصفات، والعمر.

– هذا ملحوظ بطبيعة الحال.

– وأين يقيم؟

– للأسف لا يدري شيئًا عن ذلك.

– ألم يحدثك عن زواجه الأول؟

قال المحامي مبتسمًا: قال أنه لم يكن له من هواية في هذه الدنيا إلا الحب.

– لكن أمي هجرته، وتلك حادثة لا يمكن أن تُنسَى.

– في حياة رجل كالرحيمي، تعد فيها النساء بعدد الأيام، لا يمكن أن تعرف من الهاجر ومن المهجور.

– أمي لم تحدثني عن ذلك الجانب من حياته.

– ربما لم تعرفه.

– ولكن الزواج علاقة لا تُخفى.

– قال علي برهان — أعني الصحفي المخضرم — أنه كان يتزوج كما كان يرافق، وكان يمارس الحب بشتى أنواعه، الجنسي والعذري، ولا يعتق ناضجة أو مراهقة، أرملة أو متزوجة أو مطلقة، فقيرة أو غنية، حتى الخادمات وجامعات الأعقاب والمتسولات!

– يا للعجب!

– نعم.

– ألم يوقعه ذلك في متاعب؟

– كان يقهر المتاعب.

تساءل صابر بعينين حائرتين: ومهنته، ماذا كانت مهنته؟

– كان وما زال مليونيرًا، لا عمل له إلا الحب، وكلما وقع في مأزق هاجر من مدينة إلى مدينة، مواصلًا ممارسته لهوايته.

– ولكن وثيقة زواج أمي ما زالت معي.

– وربما وجدت وثائق أخر لا حصر لها.

– ألم تُرفَع عليه قضايا شرعية؟

– من يدري، ولكنه طليق وفي هذا ما يكفي.

فقال صابر بسخرية مُرة: وقوانين الدولة؟

– لكنه لم يقع، وقال الأستاذ برهان أنه غوى مَرة عذراء من أسرة كبيرة محافظة، ولكنه غادر القطر في اللحظة المناسبة.

– ومتى رجع؟

– لم يرجع، تعلق فؤاده بالعالم الكبير، وراح ينتقل من بلد إلى بلد، بل من قارة إلى قارة، معتمدًا على ملايينه، جاريًا وراء النساء من كل شكل ولون.

– وكيف عرف صاحبك ذلك؟

– كانت تصله منه رسائل على فترات متباعدة جدًّا.

– وهل عنده فكرة الآن عن مكانه؟

– كلا، كانت الرسائل تجيئه بلا عنوان ليس عليها سوى اسم البلد؛ إذ أنه لا يُحب الاستقرار في مكان أكثر من أيام.

– لا شك أنه رجل مشهور في الخارج.

– ذلك هو الراجح بالنسبة لأي مليونير، وإن قضى الحذر في مثل حالته باتخاذ أسماء وشخصيات شتى.

– متى تَسَلَّم صاحبك آخر رسالة منه؟

– صاحبي لم يعد يذكر شيئًا على وجه التحديد، ولا تنس أنه جاوز التسعين عمرًا، ولكنه يذكر أنه تلقى رسائل منه من جميع القارات.

– لكنه يعرف بلا شك كل شيء عن أسرته.

– لا أسرة له في مصر، كان أبوه مهاجرًا من الهند، وقد عرفه صاحبي في نادي الصفوة، فتوطدت بينهما أسباب الصداقة، وعن سبيله عرف ابنه الوحيد سيد، وهو ابن وحيد لا أخ له ولا أخت، وقد مات الأب منذ أربعين عامًا تاركًا لوريثه ملايين الجنيهات التي اقتناها من تجارة المشروبات الروسية، فلا أحد له في مصر إلا الذرية التي يحتمل أن يكون أنجبها في مغامراته العديدة.

– مثلي أنا!

– مثلك أنت إذا كان هو أباك حقًّا.

– لا ينبغي أن أشك في ذلك بعد ما عرفت من خصاله.

ابتسم المحامي ملتزمًا الصمت.

– خصاله هي خصالي، ولكن بينا يلهو هو فوق الكرة أنزوي أنا في السجن منتظرًا حبل المشنقة.

– لكنه لم يقتل!

– صاحبك الضرير لا يعرف كل شيء.

– هو علي أي حال مليونير.

– الأهم من ذلك أن قوانين الدولة لا تهدده.

– لكنك كنت تعلم أنك فقير وخاضع لقوانين الدولة.

– وكنت أعرف أيضًا من يكون أبي.

– وماذا كانت النهاية؟

– أجل للأسف، أمي عرفته خيرًا من صاحبك المخضرم فاستطاعت أن تقتني ثروة طائلة وأن تتحدى القانون، ولولا سوء الحظ …

– لكنه لا يعرف سوء الحظ.

– ولم يكن من المعقول أن أرضى بأن أعمل قوادًا بعد أن عرفت أصلي.

– لم تحسن تقليد الأصل.

– بحثت عنه.

– وباعترافك نسيته.

– بسبب امرأة وهو عذر خليق بأن يقبله.

– لكن ليس هو حاكمك.

– لكنه هو الذي نسيني.

– ربما ظنك في براعته وأنك غير محتاج إليه.

– لو لم تهجره أمي لكان لي ذلك.

– لكنها هجرته.

– وما ذنبي أنا؟

– لا ذنب لك في ذلك.

– وذلك كان السبب الأول لجريمتي.

– سبب بعيدًا جدًّا لا يُعتد به عند تحديد المسئولية.

– ولكنه أخطر من سبب يعرض صدفة مثل مقابلة كريمة.

– سيظل القانون هو القانون.

تنهد بعمق، ثم قال: لعله من الخير ألا أقطع بأنه أبي.

– ذلك كان رأيي، ولكنني وجدتك متعطشًا لمعرفة أي شيء.

– وماذا عرفت؟ يُخيل إلي أنني لم أعرف شيئًا مجديًا.

– بلى للأسف.

وفضلًا عن عدم جدواه فما زال بعيدًا عن اليقين.

– للأسف.

– وبسبب هذه المعرفة الطارئة أصبح الرجل أعز منالًا من الأول.

– هذا راجح جدًّا.

– وقد ضاعت الحرية والكرامة والسلام وإلهام وكريمة.

فلاذ المحامي بالصمت مرة أخرى، فقال صابر: ولم يبق إلا حبل المشنقة.

فقال المحامي بنبرة عتاب: هنالك النقض.

وتردد مليًّا متفكرًا، ثم قال مبتسمًا: وثمة خبر آخر حدثني به الأستاذ برهان.

– ما هو؟

– ما يدري الأستاذ يومًا إلا والرحيمي يطرق بابه.

هتف صابر: حقًّا؟

– كان ذلك في أكتوبر الماضي.

صرخ صابر بلا وعي: أكتوبر!

– أجل.

– كنت في ذلك الوقت أبحث عنه في الإسكندرية.

– وقد أمضى في الإسكندرية ستة أيام.

– يا للجنون! كنت أسأل مشايخ الحارات ولكنني أجلت فكرة الإعلان في الصحف طالما كنت في الإسكندرية أن أتعرض لسخرية أعدائي وجهًا لوجه.

– ألم تكن المهمة أخطر من سخرية الأعداء؟

– بلى، وا حسرتاه!

– لا تحزن، لعله لم يكن يطلع على الصحف.

– هيهات أن يهون ذلك من حسرتي.

– لا تجعلني أندم على مكاشفتي لك.

وجعل ينظر إليه في حسرته، ثم قال محاولًا انتزاعه منها: كان في طريقه إلى الهند، وقد أهدى إلى صاحبي كتاب: «كيف تحتفظ بشبابك مائة عام؟» كما أهداه صندوقًا فاخرًا من الخمر المعتقة.

– لا يبعد أن يكون هو الذي رأيته في السيارة، وهل وقَّع على هديته بإمضائه؟

– أظن ذلك.

– ألا يمكن أن أرى الكتاب؟

– سآتيك به.

– وإذا أردت الاحتفاظ به المدة الباقية؟

– لا أظن صاحبي يرفض طلبك.

– شكرًا، وماذا أيضًا؟

– وقال صاحبي أنه ما زال محتفظًا بحيوية الشباب وأفكاره وضحكاته، وقال له: «إني أتجول بين قارة وأخرى كما يتجول أصبعك بين طرفي شاربك»، وقال له أيضًا: «لا تعد نفسك من الأحياء حتى تطوف بأربعة أركان المعمورة وتمارس فيها الحب».

– ألم يذكر في الحديث أحدًا من أبنائه؟

– محتمل أن يكون له في كل قارة أبناء، ولكنه لا يتحدث إلا عن الحب، وقد شرب حتى ثمل، ثم غنى أغنية غرامية سمعها في إحدى قبائل الكنغو.

– يسكر ويُغني ولا يخطر له أن يسأل عن أبنائه؟

– ربما تغير مفهوم الأبوة إذا امتدت فوق كثرة غير عادية.

– لكن الأبناء هم الأبناء قلوا أو كثروا!

– كثيرًا ما تقع متناقضات غريبة إذا تصور أب قوي أبناءه على مثاله.

– يا له من دفاع!

– نحن نغتفر لبعض الشواذ هفوات لا نغتفرها لغيرهم فما بالك بشخص غريب الأطوار كذلك الرجل!

– آه … رأسي يدور.

– لا تجعلني أندم.

– لعله ما زال بمصر.

– لقد أرسل إليه بطاقة تحية من الخارج.

– لعله يزورنا قبل الإعدام.

– لا شيء مستحيل.

– آه … كنت أزور إلهام وأخاك الأستاذ إحسان كل أسبوع، ولا أدري أنني بطريقة ما قريب منك، وأنك جار لبرهان صديق الرحيمي!

– هكذا تقع الأمور عادة.

– كانت هناك فرصة نادرة للبحث.

– الأمل مع ذلك لم ينعدم.

– كيف؟ أي أمل؟

– أن نستبدل المؤبد بالإعدام.

– أي أمل!

– ستجد عند ذاك فرصة مؤجلة لاستئناف البحث.

– وإذا تأيَّد الإعدام؟

بسط المحامي راحتيه في تسليم، ثم قبضهما في وجوم.

– في حالة الإعدام يبقى آن من الزمن ما يستنفده النقض، ثم الفترة السابقة للتنفيذ، ألا تستطيع أن تقدم لي في تلك المدة خدمة حقيقية بمحاولة الاتصال بالرجل؟

– يا بني، القانون هو القانون، والرحمة والواجب يقتضيانني ألا أضيع وقتي فيما لا طائل من وراءه، والأجدى أن أراجع ملف القضية والقانون الجنائي.

– بالرغم مما سمعت عنه لا تريد أن تقتنع بقوته؟

– أنا رجل قانون، وأعلم أن مصيرك بيد القانون وحده.

– قد يدركني في فترة الانتظار، أفلا تأخذني على قد عقلي؟

– إن يكن حقًّا كما تتصوره فأهلًا به وسهلًا، ولكن لا سبيل من ناحيتي إليه.

– إنك رجل ذو خبرة وعلم، وجارك يبدو أثيرًا لديه.

– الاتصال به إن لم يكن مستحيلًا فهو يستلزم وقتًا لن يتسع لك، ولا أملك وسيلته بحال، سوف يتطلب منا الاتصال بجميع سفاراتنا في الخارج كخطوة أولى، ولا يبعد أن ينتقل في أثناء الاتصالات إلى بلد لا تمثيل سياسي لنا فيه للأسباب التي تعرفها.

آه … الذكرى التي تموت وهي على طرف اللسان. وتشكيلات السحب التي تعبث بها الرياح. وعصارة الألم المنصهرة وراء القضبان. والسؤال الأعمى، والجواب الغشوم.

وقال: يبدو أنه لا جدوى من الاعتماد على الغير.

فابتسم المحامي في تسامح وهو يقول: بل هناك جدوى فيما هو معقول.

فهزَّ منكبيه قائلًا: فليكن ما يكون.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤