الفصل الثانى

ليبق الأمر سرًّا، وإذا خاب مسعاه فليستعن بمعارفه. وليبدأ بالإسكندرية فهذا طبيعي جدًّا، وإن يكن من المستبعد أن يقيم بها شخص كأبيه ولا تدري به أمه. واتخذ من دليل التليفون دليله. حرف السين، سيد، سيد سيد، حتى استقرت عيناه على: سيد سيد الرحيمي. آه لو يدلِّله الحظ، ويعفيه من متاعب لا يدري مداها أحد. سيد سيد الرحيمي صاحب مكتبة المنشية. أين هذا من جاه أبيه؟ والمنشية كانت معبرًا لأمه طيلة ربع قرن من الزمان، ولكن لعله يجد في الاسم مفتاحًا لِلُغْزِه. ووجد صاحب المكتبة في الخمسين من عمره، وذا سحنة لا تمت بسبب إلى صورة أبيه. وأخبره أنه يبحث عن سمي له، وأطلعه على صورته مُخْفِيًا صورة أمه بكفه، وقال الرجل: لا أعرف صاحب هذه الصورة.

ولما أوضح له أنها صورة التقطت منذ ثلاثين عامًا، قال: ولا أذكر أني رأيته.

– ألا يمكن أن يكون قريبًا من بعيد؟

– نحن في الأصل من الإسكندرية، وجميع أهلي يقيمون هنا عدا بعض أقارب في الريف من ناحية الأم، ولكن ما سبب بحثك عنه؟

وارتبك لحظة ولكن سرعان ما أجاب: إنه صديق قديم للمرحوم أبي، أليس للرحيمي فروع في بلاد أخر؟

وتفحصه بنظرة لم تخل من ريبة، وقال: الرحيمي هو جدي، ولا ينتسب إليه في أسرتنا إلَّا أنا وأختي، وليس لنا فروع من ناحيته خارج الإسكندرية.

ولا سبيل إلى الصبر أو الطمأنينة لمن لم يعد يملك سوى مائتين من الجنيهات. وهي تتناقص بمرور الساعات، ولا أمل بعدها في حياة كريمة. ومرضت عيناه من التفحص المركَّز للوجوه، وأعياه القلق. ولجأ إلى محام من معارفه يشاوره، فقال له: لعل له رقم تليفون سري.

وتطوع لمعاونته في الكشف عنه دون نتيجة، ثم قال له: اسأل مشايخ الحارات.

فقال صابر بإنكارٍ: إنه وجيه بكل معنى الكلمة.

– إن ثلاثين عامًا خليقة بأن تفعل الأعاجيب، بل في نيتي أن أكلف صديقًا من ضباط البوليس ليتحرَّى لك عنه في السجون.

– السجون؟

– لم لا؟ السجن كالجامع مفتوح للجميع، وأحيانًا يدخله إنسان لنبل في أخلاقه لا لاعوجاج.

وضحك المحامي ضحكة مقتضبة، ثم قال: ولكن لنبدأ بالشهر العقاري فلعله من الأعيان المتخفين.

ولم يكن في كشف السجون اسمه، ولا في سجلات الملاك، فلم يجد مفرًّا من اللجوء إلى مشايخ الحارات. واستبعد إلى حين اقتراحًا للمحامي بالإعلان في الصحف؛ إذ أن ذلك يذيع مشكلته العجيبة على الملأ، ويُمَكِّن أعداءه الكثيرين في الإسكندرية من العبث به، فأجَّل تنفيذ الفكرة إلى ما بعد مغادرة المدينة. ودار على مشايخ الحارات من العطارين إلى كرموس، ومن رأس التين إلى محرم بك. وكلما ذكر اسم سيد سيد الرحيمي سُئل: ما عمله؟

– لا أدري عنه شيئًا إلا أنه من الوجهاء وهذه صورته منذ ثلاثين عامًا.

– ولِمَ تبحث عنه؟

– إنه صديق قديم لأبي وقد كلفت بالبحث عنه.

وتحدق فيه الأعين باستغراب: وهل أنت متأكد من أنه حيٌّ؟

– لست متأكدًا من شيء.

– وكيف عرفت أنه في الإسكندرية؟

– مجرد أمل ليس إلَّا.

ثم يجيئه الجواب النهائي كجدار السجن: غير معروف لدينا.

ولم ترتح عيناه لحظة واحدة من التهام الوجوه. ولم يشعر في دوامة الاستطلاع بخطى الخريف حتى أيقظه مطرٌ مباغتٌ عند لسان الكورنيش الموغل في البحر فانسحب مسرعًا إلى الميريمار، ورفع عينيه إلى سماء أظلت جو الظهيرة بقطع من الليل. وسمع صوتًا يقول مرحبًا: تعال.

صافحها وجلس.

– لم أتمكن من تعزيتك ولكني انتظرت أن تزور «الكنار».

– ألست في حداد؟

– الكنار مكان مناسب للمحزونين، والجميع يتساءلون أين أنت؟

وتوقف المطر فوقف من فوره معتذرًا بمشاغل؛ فقامت بدورها هامسة: خبرني هل أنت في ضائقة مالية؟

آه هل بدءوا يتقوَّلون؟ وقالت بإغراء: مثلك لن يعز عليه المال إذا أراده.

فصافحها مرة أخرى ببرود ثم ذهب. مثلك لن يعز عليه المال! أجل فأذعن لنداء القوادة. ذلك ما يتمناه أعداؤك ولكن دونه الموت. وتساءل ماذا بقى في الإسكندرية؟

وبسط راحتيه أمام قارئ الكف ولكنه لم يقل جديدًا. وزار العارف بالله سيدي الشيخ زندي بعطفة الفراشة. تربع بين يديه في حجرة تحتانية مغلقة الشيش دوامًا فهي تعيش في مغيب متصل، وتتلوى في جوها سحائب البخور. وشمَّ الشيخ منديله، ثم أحنى رأسه مستغرقًا، ثم قال: من جَدَّ وصل.

وترامى إليه هدير الموج من الأنفوشي، فقال بأمل: «بداية حسنة»، وقال الشيخ: وتعب كليالي الشتاء.

اليوم بسنة وكم أنه باهظ التكاليف.

– وستنال مطلوبك.

وفي جزع سأله: ما مطلوبي؟

– إنه ينتظرك بفارغ الصبر.

– هل يدري بي؟

– إنه ينتظرك.

لعل أمه لم تقل له كل شيء.

– إذن هو حيٌّ.

– الحمد لله.

– وأين أجده فهذا ما يعنيني حقًّا؟

– الصبر.

– لا يمكن الصبر إلى ما لا نهاية.

– أنت في البدء.

– في الإسكندرية؟

أغمض الرجل جفنيه، ثم تمتم: أبشرك بالصبر.

وقطب مغتاظًا، ثم قال: لم تقل شيئًا.

فقال الشيخ محولًا عنه رأسه: قلت كل شيء.

وخرج إلى جو عاصف تركض فيه السُّحب مثقلة بالظلمات. وقال: دجَّالون وعاهرات، والنقود تبعثر بلا حساب. وعزم على بيع أثاث شقته تمهيدًا للسفر إلى القاهرة.

وكان قد باع التحف الرشيقة في محنته ليواجه بثمنها نفقات معيشته الخيالية. وكره دعوة السماسرة إلى شقته، فقصد المعلمة نبوية صديقة أمه الحميمة، والشخصية الوحيدة التي لم يكرهها في ذلك الوسط. وقالت وهي تقدم له خرطوم النارجيلة: سأشتري أثاثك على العين والرأس، ولكن لماذا تهجر بلدك؟

– سأشق لي طريقًا في القاهرة بعيدًا عن الخلق.

– الله يرحم أمك، أحبتك ودللتك فسدَّت في وجهك سبل الرزق.

وأدرك ما تعنيه فقال: لم أعد أصلح لهذه المهن.

– وماذا تفعل في القاهرة؟

– صديق هناك وعدني خيرًا.

قالت باسمة عن ثغر ذهبي: أعمالنا لا تُشين إلا المغرورين، طاوعني.

فبصق في موقد كبير ينفث بخور الهند.

وتعلَّق بصره بالإسكندرية والقطار يرج الأرض مبتعدًا. رآها مدينة من الأطياف مغروسة في حلم الخريف تحت مظلة هائلة من السحب، وهواء بارد معبق بمطلع نوفمبر يجوب شوارعها الأنيقة شبه الخالية. وودعها هي وأمه، وذكريات ربع قرن من الزمان بزفرة طويلة ساخنة. وكيف يكون الحال لو أن من تبحث عنه قد خلفته وأنت لا تدري في ركن من الإسكندرية لم يبلغه مسعاك؟ ومن ضمن لك أن يكون حظك في القاهرة خيرًا منه في الإسكندرية؟ وكم في البحر من أمواج! وكم في السماء من نجوم! وعجيب أن يكون بعيدًا هذا البعد كله من تحمل روحه وجسده بين جنبيك. وما أبعدك عنه إلا شهوة عمياء انتزعتك من أحضانه لتلدك في ماخور. وكان يسألها عن أبيه فتجيبه: «كان موظفًا محترمًا، ورجلًا طيبًا، ولكنه مات في ريعان الشباب». وأهله أليس له أهل؟ فتجيبه: «لا أعرف له أهلًا». لذلك ظن طويلًا أنه ابن رجل من البلطجية، وأنه ابن زنا. وأنت اليوم وحيد بلا أهل ولا أصدقاء كأنك من جنس غريب. وهاله الزحام في محطة مصر فألحَّ عليه شعوره بالوحدة.

ونازعته نفسه إلى العودة في أول قطار، ولكنه أودع حقيبته الأمانات، ثم خرج إلى الميدان والشمس تميل ميلة العصر. ودار رأسه مع السيارات والبصات والعابرين. وترامى الميدان في غاية من الاتساع وبلا شخصية، وتقابل فوق أديمه متناقضات من أشعة حامية وهواء لطيف، وشوارع مزدهرة وأخرى خربة. وقضى ساعة وهو يبحث عن فندق رخيص في الميدان وما حوله حتى وجد نفسه في شارع الفسقية ذي البواكي أمام فندق «القاهرة». وقف على الطوار المسقوف المقابل للفندق على كثب من شحاذ مستلق لصق الجدار يتغنى بمديح نبوي. وانعكس عليه من الشارع طابع عمل ودمامة وضجر لكثرة الدكاكين على الصفين، وعربات النقل، وأكوام البضائع، ولكنه أمل أن يجده أرخص فندق في الناحية. وهو مبنى قديم، ترابي الجدران، مكون من أربعة أدوار وعليَّة فوق السطح، وذو باب مرتفع مقوس الرأس كوجه باك، يفتح على مدخل مستطيل ينتهي إلى السلم، ويتوسطه مكتب جلس إليه رجل إلى جانبه امرأة. الرجل طاعن في السن أما المرأة … رباه إنها فتاة في عز الشباب تشد عينيه بقوة ليست بلا سبب؛ إنها توقظ مشاعر نائمة، وتنبه ذكريات مدفونة في الضباب. العطفة المبلطة الصاعدة من الأنفوشي المشبعة بهواء البحر، ورطوبته المالحة، وانفعالات الجنون الملفعة بالظلام. وسرعان ما توثقت علاقات خفية بينه وبين الفندق كأنما جاءه على ميعاد. ووجد نفسه يعبر الطريق نحوه مدفوعًا برغبة في الاستطلاع والكشف وإن يكن غير مصدق لظنونه تمامًا، وصوت الشحاذ يتردد عاليًا في نبرة أعجبته:

طه زينة مديحي
صاحب الوجه المليحي
النصارى واليهود
أسلموا على يديه

السمرة الرائقة النقية، والعينان اللوزيتان الدعجاوان، وبريقهما المضيء المفعم بالنبض والاقتحام. أين من هذا القطة المهزولة ذات الثوب الباهت الواحد وأظافرها الجارحة؟ إنها تذكره بها بعنف تاركة له تخيل ما صنع الزمن في عشر سنوات أو يزيد. والاسم القديم ضائع كأبيه، ولكن رائحة البحر تملأ خياشيه، وها هو يرتجف لتذكر الليل البهيم، ورغم ذلك كله فقد ظل أبعد ما يكون عن اليقين. وبنت العطفة ذكرى عابرة لا قيمة لها، ولكنها تبعث الآن في صورة فريدة ذات سطوة خطيرة الشأن كبعث أبيه من الموت الذي جاء به من البحر إلى هذه المدينة المثيرة. استقبلت الفتاة القادم بنظرة قصيرة، ولكنها متغلغلة، ثم أدارت وجهها نحو استراحة الفندق إلى يمينها. ووقف صابر أمام المكتب والعجوز عاكف على دفتر يطالعه من خلال عدسة مكبرة يمسك مقبضها المعدني الصغير بيد مرتعشة.

ولم ينتبه العجوز إلى القادم لشيخوخة حواسه فيما بدا، فأدام الشاب النظر إلى عارض الوجه الذي شغله، مكتشفًا آيات تؤكد ظنونه، وآيات تبددها، ثم تحول الوجه إليه بنظرة ناقدة لانتهازيته، فربتت على ساعد الرجل لتنبهه، وعند ذاك بادره صابر قائلًا: مساء الخير يا والدي.

رفع الرجل إليه وجهه ويده لا تكف عن الارتعاش. وهو وجه من الصعب التنبؤ عن صورته الأصلية إذ اختفى أديمه تحت قناع من الأخاديد والتجاعيد، وبرز أنفه مقوسًا، حادًّا، مجدورًا، واحتارت في عينيه الناضبتين نظرة باهتة ممصوصة كأنما لم تعد تعني برؤية العالم. وقال صابر: إني أسأل عن سعر الحجرة.

– ريال في الليلة.

– ولمن يقيم أكثر من أسبوعين؟

– الريال عملة لا قيمة لها اليوم.

– قد أقيم شهرًا أو أكثر تبعًا لمشيئة الله.

فأمسك الرجل عن الكلام إعراضًا عن المساومة، وهنا رأى صابر طربوشه الطويل الغامق لأول مرة، وتمتم: كما تشاء.

وراح يملي عليه الاسم والمكان الذي جاء منه، ولما سُئل عن عمله أجاب: من الأعيان!

وقدم له بطاقته الشخصية. وجعل يسترق النظر إلى الفتاة طوال انشغال العجوز بالبطاقة.

والتقت عيناهما مرة، ولكنه لم يقرأ فيهما المعنى الذي يتلهف عليه. وبسبب انفعاله وحده راح يقنع نفسه بأنها هي هي. ولفحه هواء البحر في الركن المظلم وهو نصف عار، وملأت أنفه رائحة القرنفل المنبعثة من الشعر المبعثر. وثمل بشعور تفاؤل عجيب، فقال أنه على نحو ذاك سيعثر على أبيه. والمؤكد بلا أدنى شك أن هذه الفتاة على استعداد. استعداد لشيء ما. إنها تقف منه موقفًا حياديًّا في الظاهر، ولكنها تخاطب ماضيه وأعماقه بألف لسان. ولا شك أن وراء هذه القشرة الناعمة الصامتة اللامبالية مدينة مسحورة. ولو كان الظرف غير الظرف لدعاها إلى الرقص، واحتواها بين ذراعيه، وقال لها بكل جرأة كيف يرضى بالعيش تحت هذا القبو من ترطب جسده بهواء البحر في عطفة القرشي. وردَّ العجوز إليه البطاقة قائلًا: إذن فأنت من الإسكندرية؟

فهزَّ رأسه بالإيجاب مبتسمًا، فغمغم الرجل بكلمات مبهمة، فقال بمكر راميًا الفتاة بنظرة سريعة: أراهن على أنك تحب الإسكندرية.

وابتسم جانب فم العجوز وحده، وعلى خلاف توقعه أضربت الفتاة عن متابعته فشعر بخيبة، ثم خطر له أن يسأله: هل عرفت يومًا سيد سيد الرحيمي؟

فضيق الرجل عينيه، ثم قال: غير مستبعد أنني سمعت عنه.

تركز صابر في اهتمام أنساه كل شيء حتى الفتاة نفسها: متى وأين؟

– لا أذكر، لست متأكدًا.

– لكنه من كبار الوجهاء.

– عرفت كثيرين منهم، ولكني لم أعد أذكر أحدًا.

ومع أنه آثر ألا يزيد إلا أنه تمادى في التفاؤل، وقال أنه غير بعيد أن يهتدي إلى مكان أبيه اليوم أو غدًا. والتقط في اللحظة المناسبة نظرة من عيني الفتاة قبل أن تستردها. قرأ فيها شكًّا وما يشبه السخرية، وكأنها تتساءل عما دعا هذا الوجيه إلى النزول بفندقها المتواضع. ولم يضايقه ذلك وقال أن الحقيقة ستنجلي عندما تعرف مهمته، وسوف تعرف عاجلًا أو آجلًا. ترى هل تذكرته؟ وشعر بغرز الأظافر في ساعده عقب المطاردة البارعة التي بدأت من ساحل الصيادين بالأنفوشي واستقرت في الركن المظلم بعطفة القرشي، ولفح هواء البحر بدعابته القاسية نصفه العاري. ولكن أين كان أبوها في ذلك الوقت؟ ومتى انتقل بها إلى إدارة هذا الفندق؟ ونادت المرأة قائلة: عم محمد يا ساوي.

فجاء عجوز من مجلسه عند الباب، عميق السمرة، مائل للقصر، دقيق الجسم. تتكون ملابسه من طاقية بيضاء، وجلباب رمادي مقلم، ومركوب، فأشارت المرأة إلى صابر قائلة: حجرة رقم ١٣.

ابتسم صابر لدى سماعه الرقم، ثم استأذن في الذهاب لإحضار حقيبته. ولما عاد تبع عم محمد الساوي إلى الحجرة في الدور الثالث. وغادرها الرجل، ثم دخل خادم يحمل الحقيبة. خادم بين الشباب والكهولة، سريع الحركة بدرجة لا تتناسب مع العمل الذي يؤديه، ضيق العينين جدًّا مستديرهما، صغير الرأس، يوحي منظره بالسذاجة. وسأله صابر عن اسمه فأجاب: علي سريقوس.

وآنس في نبرته امتنانًا بدرجة أشعرته بالقدرة على امتلاكه وقتما يشاء. وسأله: هل العجوز الجالس إلى المكتب هو صاحب الفندق؟

– نعم. عم خليل أبو النجا.

وهمَّ بسؤاله عن الفتاة، ولكنه كبح رغبته عن حكمة إلى حين، وحذر نفسه قائلًا: إن السذاجة سلاح ذو حدين! ولما خلا له المكان شمله بنظرة سريعة فتركت في نفسه انطباعًا بالقِدَم. السقف العالي والسرير ذو الأعمدة والكنصول، وقال أن أباه كان يعجب بهذا المنظر حينما أحب أمه. ودلف من نافذة عالية، وأطل على ميدان صغير في الطرف الشمالي من الشارع، تتوسطه فسقية تمج نافورتها رذاذًا على غلمان مهللين. وأضاء المصباح ثم جلس على كنبة تركية قديمة. وراودته أخيلة جنسية. وتخللتها أحلام بالعثور على أبيه. أما نداء العينين اللوزيتين المضيئتين فعجيب كل العجب. ولعلها الآن تفكر في أمره وتتساءل. ولكن ليس ثمة ما يقطع بأنها هي هي. في زحمة المولد نهرته قائلة لا تقترب مني هكذا، فقال متظاهرًا بالكبرياء لم تقلها بنت قبلك، فأجابت بكبرياء أشد: ولكني أقولها وأعيدها. وذهبت في صحبة امرأة شرسة والهواء يلعب بضفيرتها، فأين كان عم خليل؟ وعيناك اليوم التقت بعينيها أكثر من مرة وتجلت معان، ولكن لم يلتمع بينها ما يوحي بذكريات مشتركة. لم تقل عيناها أنها تذكر المجلس فوق سور الكورنيش عند قوارب الصيد المقلوبة. والأحاديث المفتعلة للتستر على الرغبات الجامحة. وقبلة خطفت أعقبتها معركة غير حامية. وعندما أعيتك الحيل صحت سأقتلع يومًا أظافرك. أما يوم المطاردة الرائعة، وصراع الركن المظلم، وشذا القرنفل، والهواء المشبع برائحة البحر فكانت نصرًا صريحًا، ثم تلاه اختفاء وصمت، لا هي ولا الأم الشرسة، وأسف دام طويلًا، حتى انتقلت أمك من حال إلى حال، واستقر بك المقام في الشقة الأنيقة بالنبي دنيال. من أدراك أن لهذا الفندق علاقة بعطفة القرشي؟ وأن هذه الفتاة المثيرة هي تلك البنت القرنفلية؟ على أي حال فهذه الفتاة تثير عاصفة في دمك. وفي سواد مقلتيها ترى الليالي المعربدة بأنغامها الجنونية. وما أحوجك إلى دفء الشهوة المعزِّبة في فترات الراحة من البحث. وقيمة ذلك تتضاعف للوحيد الذي لا أهل ولا صاحب له. وعندما تجيء المعجزة ستقول له: أنا صابر، صابر سيد سيد رحيمي، هاك شهادة الميلاد، وهاك شهادة الزواج، وانظر جيدًا في هذه الصورة.

عند ذاك سيفتح لك ذراعيه، وتنجاب عنك الوساوس إلى الأبد. وصرت امرأة أنيقة بكل معنى الكلمة. أين البنت المغطاة بملح البحر؟ أين رائحة غفلة العذراء؟

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤