الفصل الثالث

استيقظ مبكرًا بعد ليلة لم ينم فيها سوى ثلاث ساعات. ووجد رغم ذلك نشاطًا لم يحلم به من قبل. وفتح النافذة فلم ير المنظر الذي في غفلة توقعه، منظر عمارات النبي دنيال وسعد زغلول، وزرقة البحر على مرمى البصر، وهواء الإسكندرية العامر بالفتن. رأى سماء ملفعة بالسحب السمراء، وفي الأفق الشرقي نضح الستار ببياض ناصع، وعلى الأرض الخالية سعى فوج من العمال والباعة. وفي لمحة واحدة تجلت لمخيلته صورة أبيه، والوجه الدافئ المفعم بالإثارة. وجاءه علي سريقوس بالفطور إلى حجرته فأكل بشهوة عظيمة، ولما رجع الخادم ليحمل الصينية الفارغة، سأله: من الفتاة التي كانت تجلس إلى جانب عم خليل أمس؟

– زوجته.

ليعترف بأن هذا لم يجر له في بال، وكم بدا له مزعجًا: من الإسكندرية؟

– لا أدري.

– متى امتلك عم خليل هذا الفندق؟

– لا أدري، إني أعمل هنا منذ خمس سنوات فقط.

– وهل كان وقتذاك متزوجًا؟

– نعم.

هي بنت عطفة القرشي. اشتراها العجوز هناك من المرأة الشرسة. وصنع منها امرأة حسناء طاغية، ولكن عليه هو أن يتفرغ لمهمته قبل أن ينفد آخر ما يملك من نقود. ووجد عم خليل أبو النجا بمجلسه وراء المكتب وهو يحادث عم محمد الساوي الجالس إلى يمينه. ولمح في طريقه إليهما نفرًا من النزلاء يجلسون في الاستراحة ما بين متناول لفطوره وقارئ لجريدة. جاء بكرسي أمام المكتب، ثم جلس رافعًا يده بالتحية وهو يقول: عن إذنك دليل التليفون.

وفرَّ الصفحات حتى عثر على حرف السين. سيد. سيد سيد. وسيد سيد الرحيمي. وخفق قلبه بقوة. هذا هو في مدينته. ليس كصاحب مكتبة المنشية. والمهنة؟ طبيب بميدان الأزهار وأستاذ بكلية الطب. كما يحدث للوجهاء وأبناء الوجهاء. واستخفه فرح فتمتم: الظاهر أن ربنا سيرضى عني.

فنظر عم خليل بعينيه المذكرتين بالآخرة، فقال: الظاهر أني سأنجح في المهمة التي جئت من أجلها من الإسكندرية.

فغمغم العجوز: جميل أن ينجح الإنسان.

كما نجحت في شراء الفاتنة! ورآه ما زال ينظر إليه مستطلعًا فقال: إني أبحث عن رجل هو كل شيء في حياتي.

فدعا له عم محمد الساوي قائلًا: ربنا يحقق مقاصدك.

وقال عم خليل أبو النجا: لا يجيء أحد إلى هذا الفندق للإقامة، ولكن لمهمة تستغرق ليلة، أو أسبوعًا، أو شهرًا، ثم يمضي إلى حال سبيله.

– هذا طبيعي جدًّا.

– ولذلك فهم يتجاورون في الغرف والموائد والاستراحة، ويندر أن يعرف أحد منهم الآخر.

– يخيل إلي أن عملك مُسلٍّ جدًّا.

– لا شيء مُسلٍّ على الإطلاق.

ومغالطة الزمن أليست مسلية؟ وسمع وقع حذاء نسائي فأجل قيامه الذي همَّ به. وجائت الزوجة مدملجة الجسم في جونلا سوداء، وبلوزة حمراء، مطوقة الرأس والخدين بإشارب أبيض منمنم. ووشى خطرانها باكتناز سوي هو الوسط المثالي بين النحافة والبدانة، فسرعان ما ثمل أنفه بعبير أنثوي مسكي عصف بعقله وقلبه. وهي وإن لم تبتسم إلا أن عينيها عكستا نظرة راضية موحية كأرض خصبة لم تُزرع بعد. ونهض عم محمد الساوي وهو يحبك معطفًا رماديًّا قديمًا، أما عم خليل فقد رفع إليها وجهه متمتمًا: نويت بالسلامة؟

فقالت بصوت حلقي دسم: فتك بعافية.

ومضت إلى الخارج يتبعها عم محمد الساوي. أنت سر من الأسرار يا عم خليل. ووجهك يصلح رمزًا للموت كعلم القرصان. ولم يرتكب أناس الأخطاء بلا تبصر؟ وقام متظاهرًا بالهدوء فحيا الرجل وغادر الفندق. وسبقته عيناه إلى كافة أنحاء الطريق حتى رأى المرأة والعجوز يميلان مع ميدان الفسقية فأسرع في مشيه حتى لحق بهما. والتفت عم محمد نحوه فابتسم كالمعتذر، وقال: لا تؤاخذني يا عم محمد، أودُّ أن أعرف الطريق إلى ميدان الأزهار؟

والتفتت نحوه المرأة في شيء من الدهشة. ووقف عم محمد ليصف له طريق الوصول؛ فاضطرت المرأة إلى الانتظار. وتظاهر بالإنصات إلى كلام عم محمد دون أن يعي منه كلمة. وكلما وجد فرصة آمنة حدج المرأة بنظرة فتتلقاها بالرضى الهادئ المثير للطموح بلا دليل. ودَّ أن يسألها عن القرنفل وملح البحر والظلام العاري، ولكن الساوي انتهى من شرحه، فشكره ثم ذهب. ترى أين هي ذاهبة مع كلب الحراسة؟ وألم تكن جرأته سابقة للأوان؟ إنه دائمًا جريء غير أن الجرأة هذه المرة قد تُفسد عليه البحث أو تُعرقله. وبلغ ميدان الأزهار مستعينًا بالمارة، ولم يجد في العيادة سوى التمرجي. وأخبره الرجل أن الطبيب يحضر عادة حوالي الثانية عشرة فجلس لينتظر. هل ترددت أنفاس أبيه في هذه الشقة؟ ها هو القلق يساوره والجزع. والأمل واليأس. وكلما تقدمت الساعة قل صبره. وإن وجد أباه حقًّا فكيف يكون موقفه منه؟ كيف يتصرف إن أنكره أو طرده؟ ولكنه سيستميت في الدفاع عن حقوقه. ولذلك تبدَّى في أحسن مظهر، ولم يخف عليه أن التمرجي رمقه باحترام وإعجاب. ولكنه تذكر أنه لعجلته واضطرابه لم يعرف اختصاص الدكتور. وخرج من حجرة الانتظار إلى الصالة فجلس في قبالة التمرجي وسأله: من فضلك ما اختصاص الدكتور؟

– القلب حضرتك طبعًا.

– أردت أن أتأكد، أصلي من الإسكندرية.

وشعر بسخافة أسئلته ولكنه لم يبال، بل عاد يسأله: هل عندك فكرة عن عمره؟

فأجاب الرجل مندهشًا: لا أدري عن ذلك شيئًا!

– ولكنك تفرق ولا شك بين الشباب والكهولة؟

– إنه أستاذ بالكلية.

– وهل هو متزوج؟

أعلن التمرجي عن مدى استغرابه بضحكة، ثم قال: متزوج وأب، وله ابن طالب بالكلية.

عقبة وأي عقبة تعترض أمله في القبول. وسيكون للأسرة رأي في العضو الجديد القادم من ماخور، ولا مؤهل له غير جماله المبذول للفجور. ولكن إصراره بلغ المنتهى. وجاء المرضى تباعًا حتى امتلأت الحجرات. ثم دعاه التمرجي إلى حجرة الكشف. ونفخ سحب القلق والوساوس ودخل. رأى وجهًا لا يمكن أن يرجع بحال إلى أصل الصورة التي يحملها، ولكن من يتصور أن أمه — في آخر ليلة لها — يمكن أن ترجع إليها؟ وجلس أمام مكتب الدكتور وراح يجيب على أسئلته التي شرع في تدوينها في دفتر كبير: اسمي صابر سيد سيد الرحيمي.

ضحك الدكتور قائلًا: عال، أنت إذن ابني، وما عمرك؟

– الواقع أنني لا أشكو مرضًا على الإطلاق.

فحدجه بنظرة متسائلة، فقال: إني أبحث عن سيد سيد الرحيمي.

– عني أنا؟

– لا أدري ولكن تفضل بالنظر في هذه الصورة.

تفحصها الدكتور، ثم هزَّ رأسه بالنفي.

– ليست صورة حضرتك؟

ضحك قائلًا: بالتأكيد لا، ومن هذه الفتاة الجميلة؟

– أليس بأحد من أقربائك؟ لاحظ أن تاريخها يرجع إلى ثلاثين عامًا مضت.

– ولا هي لأحد أقربائي.

– حضرتك من أسرة الرحيمي؟

– والدي سيد الرحيمي، كان موظفًا بالبريد.

– أليس للأسرة فروع لم تعرفها؟

– أسرتي محدودة أصلًا وفرعًا.

قام يائسًا وهو يقول: آسف على إزعاجك، ولكنك ربما سمعت عن أحد الوجهاء بهذا الاسم؟

– لا أعرف وجيهًا بهذا الاسم، ولكن ما الحكاية بالضبط؟

– الحكاية أني أبحث عن وجيه يُدعى سيد سيد الرحيمي، صاحب هذه الصورة منذ ثلاثين عامًا.

– لعله هنا أو هناك، وأنا على أي حال لست مرجعًا في هذه الشئون.

وقضت نبراته بإنهاء الحديث؛ فحياه وانصرف. دخل أول قهوة صادفته فجلس إلى البار، ثم طلب براندي. ها هو يبدأ من جديد. وما إغراء دليل التليفون إلا خدعة سخيفة. وتبدد التفاؤل الوهمي الذي اجتاحه منذ رأى زوجة عم خليل. وتذكر سلسلة الأبحاث التي قام بها في الإسكندرية من الشهر العقاري، ومشايخ الحارات، وأولياء الله، ولكنه يحتاج لإعادة ذلك إلى مرشد ولا أحد له في القاهرة. لذلك استحسن أن يبدأ بالإعلان، ولعله أرخصها، وأسهلها، وأجداها. ونظر إلى الساقي العجوز وسأله: ألم تسمع عن سيد سيد الرحيمي؟

– دكتور في العمارة التالية.

– كلا، أعني الوجيه سيد سيد الرحيمي؟

ردَّد الخواجا الاسم كأنه يلوكه في ذاكرته، ثم قال: لا أذكر زبونًا بهذا الاسم.

– ألم يحدث لك أن بحثت عن شخص وأنت تجهل مقامه؟

أجاب وهو يمد بصره إلى لا شيء: ابن مفقود من أيام الحرب.

هزَّ صابر معلنًا عن أسفه، ثم قال: لكن الحرب انتهت وعُرِفَ مصير كل من اشترك فيها.

– أن أعتبره مفقودًا خير من التسليم بموته.

وسأل الخواجا عن موقع جريدة أبو الهول فوصفه له بميدان التحرير. ذكَّره مبناها الأبيض المربع، والفناء الذي تتوسطه فسقية بفيللا ثري يوناني بالأزاريطة. ومضى نحو الباب الداخلي فرأى فتاة واقفة على عتبته، وما لبثت أن أشارت إليه. دهش صابر وأحدَّ إليها بصره، ولكن ساعيًا مرق من جانبه متجهًا نحوها، فأدرك أن الإشارة لم تكن له. وسلمها الساعي شيئًا ثم اختفى وراء الباب، ووجد صابر نفسه أمامها. رشيقة، نحيلة، لفت انتباهه في وجهها تناقض محبوب جمع بين سمرة البشرة وزرقة العينين، وتكوين الرأس والوجه غاية في الأناقة والبداعة، انبعث إليه منه شعور بالجذب والطمأنينة، ثم استعاد نشوة نبيذ بتافرنا وهو يسمع عزف كمان. وحياها باسمًا، ثم سألها عن قسم الإعلانات، فقالت بصوت موحي بالثقة بالنفس: أنا ذاهبة إليه.

ولحظها منقبًا عن موضع للإثارة ولكن طرفه رد ممتلئًا بالإعجاب وحده. ودخلا الإدارة فأشارت إلى رجل في الصدر حملت لافتة مكتبه اسم «إحسان الطنطاوي» فحياه، ثم دعاه الرجل إلى الجلوس على كرسي يقع بين مكتبه ومكتب الفتاة التي جاءت به. وأبان صابر عن مقصده قائلًا أنه يرغب في الاهتداء إلى شخص يُدْعَى سيد سيد الرحيمي، فتساءل الرجل: دكتور القلب؟

فأجاب بالنفي، وتوقع أن يسمع منه مزيدًا عن الشخصيات التي تحمل هذا الاسم ولكنه لم يفعل، فقال: في الحق أنني لا أعرف سوى اسمه.

– أليس لديك فكرة عن عمله أو مكانه؟

– كلا ألبتة، كل ما أعلمه عنه أنه من الوجهاء، ومحتمل أن تكون له مهنة تناسبه، ولكني لم أجد في الدليل إلا الدكتور.

– قد يكون رقمه سريًّا، وقد يكون من أعيان الريف، وعلى أي حال فالإعلان أوجز سبيل إليه.

– ليكن إعلانًا صغيرًا بقدر الإمكان، ويوميًا لمدة أسبوع، في شكل دعوة للاتصال بي بفندق القاهرة سواء بالمراسلة أو بالتليفون.

– لا بدَّ من ذكر اسمك في الإعلان.

وفكر بسرعة وقلق، ثم تمتم: صابر سيد.

ولم تتحقق مخاوفه فراح الرجل يخطط صورة للإعلان، فلاحظ صابر أن الفتاة تتابع حديثه فلم يشك في أن غرابة الإعلان هي التي أغرتها بذلك. ورأى ثمة مكاتب أخر يجلس إليها موظفون وموظفات، وعرف اسم الفتاة «إلهام» وهي تُخَاطَب به، وسمع إحسان الطنطاوي يسأله: ألا تشير إلى الغرض من إعلانك؟

– كلا.

ثم بعد هنيهة صمت: المؤسف أنني ظننت أن الذين يعرفونه في القاهرة لا حصر لهم، ولكني لم أجد حتى الآن أحدًا يعرفه.

– موضوعك غريب، الاسم وحده! وكيف تتأكد من هوية من يتقدم إليك مدعيًّا أنه سيد سيد الرحيمي؟

– لدي ما أستدل به على ذلك.

وقالت إلهام وقد غلبها حب الاستطلاع: في المسألة سر عجيب، كأسرار السينما.

فقال صابر باسمًا وهو يرحب في أعماقه بتدخلها في الحديث: أودُّ أن يكشف بالسهولة التي تكشف بها أسرار السينما.

– على الأقل أنت تعلم أنه وجيه من الوجهاء، فكيف عرفت ذلك؟

سكت صابر مليًّا، فقال إحسان الطنطاوي بلهجة جديَّة: هذا سؤال على مستوى التحقيق.

آه، هذه الطفلة الكبيرة، لعلها على استعداد للميل إليه، وهي طاقة من عبير لطيف يدعو إلى استباحة الأسرار، ليست كالنار التي صهرته بالفندق، وقال: يا آنسة إلهام أنا رجل غريب في بلدكم.

– غريب؟

– أجل، أنا في الأصل من الإسكندرية وجئت القاهرة أمس، فأنا غريب في بلدكم، ويهمني جدًّا العثور على ذلك الرجل، وإني أستبشر خيرًا بوجهك.

ابتسمت بشجاعة الفتاة العاملة. ومرة أخرى تذكَّر نشوة النبيذ بتافرنا على أنغام الكمان.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤