الفصل السادس

وتعددت أحلامه لدرجة أثارت انزعاجه وامتعاضه. ويستيقظ فيلازمه شعور بالتعب والكدر، وأحيانًا يخيل إليه أن الصمت يخنق العالم. وكثيرًا ما يذكره ذلك الصمت بالصمت المصاحب لارتفاع الموجة وتجمعها قبل أن تنفجر مرعدة مزبدة. وفي الحلم يطل عليه وجه أبيه بالرغم من أن العشق أصبح المحور الذي تدور حوله حياته، العشق الذائب في أحضان الظلمة. وهو يكره الأحلام لأنها ترجعه إلى فترة ماضية من حياته ألح فيها عليه الصرع حتى أوشك أن يهلكه. وطاردته ذكريات المرض طويلًا بعد شفائه منه فكان الصرع من أسباب اندفاعه في طريق البأس والقوة كسمعة أمه سواء بسواء. أما الصراع الذي يخوضه في الأحلام فيورثه عقب اليقظة انهاكًا وحزنًا فيمتلئ بأفكار الفناء، وإذا ترامى إليه الأذان من الجامع القريب وهو على تلك الحال تضاعف حزنه.

وعندما دخل إدارة الإعلانات بجريدة أبو الهول تطلع إليه نفر من الموظفين في فضول، ولكن تطلع إلهام إليه أفعمه بنشوة أحلى من بسمة الفجر الأولى فوق البحر الأبيض. وصافحها بحرارة كما ينبغي لصديق، فسألته: أما من جديد؟

فأجاب وهو يملأ من وجهها عينيه: جئت لأجدد الإعلان ولو أنني ترددت طويلًا هذه المرة.

– هل تفكر في وسائل أخرى؟

ابتسم ولكنه لم يخبرها بأن اهتمامه بالعثور على الرحيمي لم يعد في مكانته الأولى. وقال له الأستاذ إحسان طنطاوي: عندنا لك مفاجأة.

فجلس وهو يتسائل فقال الرجل: سألت عليك امرأة بالتليفون.

– امرأة؟

– سألت عن سر الإعلان.

– حقًّا؟ ومن هي؟

– لم تكشف لنا عن هويتها ولم نشف لها غليلًا بطبيعة الحال.

– أليس من المحتمل أن تكون من طرف الرحيمي؟

فقالت إلهام: قد وقد؟

– وما قد الأخرى؟

فقال الطنطاوي ضاحكًا: قد تكون من طرفك أنت.

استعذب هذا التحقيق الذي أخذ بمجامع قلبه، وقال: أو عابثة من العابثين، لقد لعب معي أحدهم لعبة سخيفة.

تُرى هل المرأة من طرف الرحيمي؟ زوجته أو أرملته؟ أو لعلها كريمة دفعت إلى ذلك بحب الاستطلاع، إنها امرأة مجربة لا تصدق شيئًا بسهولة. هي داهية بقدر ما هي فتَّاكة، بقدر ما هي لذة طاغية. وجلس إلى المائدة بفتركوان فتذكر لحظات الحلم العجيب. وجاءت إلهام فاتخذت مجلسها، وطلب الغداء، وتبادلا ابتسامًا ودودًا، وقالت: لست على حماسك الأول للإعلان وهذا أحسن.

أنت لا تدرين شيئًا عما خفض درجة حماسي.

– أحسن؟

– نعم فهذا البحث يجب أن يترك للزمن الطويل.

– ولكن ألا تسمحين لي بأن أدفع ثمن الغداء ولو مرة؟

– أنت الضيف لا أنا.

– ما ألطفك يا آنسة إلهام، ألا يمكن أن أذكر الاسم مجردًا؟

– بكل سرور.

– ما ألطفك!

ومضيا يتناولان الطعام في ارتياح وسرور. وقرأ في عينيها الزرقاوين اهتمامًا بموضوع ما لن يلبث أن يُترجَم إلى كلمات، فانتظر الكلام بشغف مؤملًا أن يكشف فيه عن حقيقة مشاعرها. وتذكر ظلمة النصف الثاني من الليل وذوبانه في فتنة رائعة، فعجب لانقسامه الحاد بين المرأتين. وقالت: يخيل إليَّ أنك في إجازة خاصة لإنجاز هذه المهمة؟

تجس النبض للتعرف عليه. وساوره قلق ولكنه قال: لست موظفًا بأي معنى لهذه الكلمة، أنا من الأعيان.

– تزرع أرضك؟

– أبي من ذوي الأملاك.

واضح أنها تتستر على شعور بعدم الارتياح. قال: وأنا أدير أملاكه العقارية وهو عمل أثقل من أي وظيفة.

ثاني كذبة يكذبها عليها وهو كاره رغم أنه لم يكذب بعد على المرأة الأخرى.

– المهم أنك لا تعيش في فراغ فهو عدو البشر.

– هو كذلك، عانيته أسبوعين، ولكن كيف عرفت ذلك؟

– ليس عسيرًا أن أتصوره، ثم إني قرأت عنه.

– التجربة لا تكون حقيقية إلا حين أمارسها.

– رأي وجيه.

– في سنك هذه لا يتاح لك معرفة الحقائق بطريقتي إلا فيما ندر.

– إن كنت تتصورني طفلة فاقلع عن تصورك.

يا ربي كم أحبها، وكم يسعدني الوجود بقربها. وتقدم خطوة جديدة فقال: أنت تعرفين كل شيء عني تقريبًا، فهل تعرفينني بك؟

– وماذا أعرف عنك؟

– اسمي، عملي، أبي، مهمتي في القاهرة، إعجابي بك.

وهي تضحك ضحكة صامتة: لا تخلط الحقائق بالخيال.

وقال لنفسه بل هو الحقيقة الوحيدة التي عرفتها. وتجهم الجو في المحل كأن نوافذه أُغلِقَت، وغاب إشراق الظهيرة السابح وراء الحاجز الزجاجي في الخارج فتخيلا جسامة السحابة التي أخفت الشمس.

وقال مستدرجًا إياها إلى الاعتراف: وبدوري فأنا أعرف اسمك ووظيفتك.

– وماذا تريد أن تعرف أكثر؟

– ما تجودين به، متى توظفت؟

– منذ ثلاثة أعوام، وهو تاريخ تخرجي في التجارة الثانوية، ولكني مستمرة في التعلم.

وقلق. لا تسألي عن مؤهلاتي فالكذب هنا لا يُجدي. ولكنك لبقة مهذبة.

– وأسرتك بالجيزة هه؟

– أعيش مع أمي فقط، أسرتنا من قليوب، وخالي بمصر الجديدة، المهم أن في أسرتنا مفقودًا مُهِّما كما في أسرتك.

فقال بدهشة: من هو؟

أجابت وهي تكتم ضحكة: أبي.

اتسعت عيناه الجميلتان في ذهول. وتذكر الحلم العجيب. وقَصَّهُ عليها مُحَوِّرًا فيه بما يتمشى مع كذبته الأولى. الآباء المفقودون أكثر مما تتصور. ولعلهما يبحثان عن أب واحد.

– لكن كيف فُقِدَ أبوك؟

– لا كأخيك، ألا ترى أنني أبيح أسرار أسرتي بغير حساب؟

فرمقها بعتاب ما لبث أن اختفى وراء نظرة متألقة بحب الاستطلاع في ذروته، فقالت: الحقيقة أن أبي انفصل عن أمي وأنا في المهد.

– هرب؟

ضحكت ضحكة عالية فتنبه إلى هفوته قائلًا: أعني اختفى؟

– إنه محام معروف في أسيوط، ولعلك سمعت عنه فهو الأستاذ عمرو زايد.

زال عنه توتر التوقع، فقال في دعابة: ظننته سيد سيد الرحيمي.

فتساءلت ضاحكة: أيسعدك أن تكون عمي؟

فأجاب بقوة: كلا.

تورد وجهها الأسمر وهي تقول: صممت أمي من بادئ الأمر على الاحتفاظ بي إلى النهاية، وجاراها أبي إذ كان شارعًا في الزواج من أخرى، فاتفقا على نفقة، ثم عادت إلى بيت جدي بالقاهرة، وبعد وفاته عشنا وحيدين.

تابع القصة بقلب لم يخل من سوء الظن. كحاله مع جميع النساء والأمهات خاصة. بيد أن إلهام لم تسمع قطعًا عن القوادين والبلطجية والبرمجية. هل تستطيع أن تحكي قصتك في مثل هذا التفصيل؟ وغيمت روحه كالسماء.

– ويومًا قال خالي أن عليَّ أن أعرف أبي، فقالت أمي أنه لا يستحق ذلك، وأنه لم يسع إلى رؤيتها مرة واحدة، وكنت أشعر طوال الوقت أنني بلا أب، وقال خالي أنني أكبر يومًا بعد يوم، وأنه لا غنى لي عن أبي بحال.

فغمغم وهو لا يدري تقريبًا: الحرية والكرامة والسلام!

فهزت منكبيها في استهانة، وقالت: أصرت أمي على الرفض خشية أن يفكر في استردادي، وانضممت إليها بلا تحفظ، واتفق رأينا على أن العمل أهم من الأب وأبقى.

آه كيف تتكلم الجميلة؟ أي عمل يغني عن الحرية والكرامة والسلام؟

– واجتهدت حتى أكملت تعليمي، وحصلت على الوظيفة في امتحان أعلنت عنه الجريدة، وانتسبت بعد ذلك إلى معهد تجاري عال.

– وأبوك ألا تفكرين فيه؟

– كأنه غير موجود، وهو الذي اختار ذلك.

– لأنك في غير حاجة إليه؟

– كلا، فأنا في غير حاجة إلى أمي كذلك، ولكني أحبها ولا أتصور الدنيا من غيرها.

ليست على شفا هاوية مثلك. وليست جائعة إلى الحرية والكرامة والسلام. ولا يهددها ماض ملوث قد ينقلب في أي لحظة فيصير لها المستقبل الوحيد.

– إني سعيدة بعملي رغم أنني لست مثلك من الأغنياء.

طعنته وهي لا تدري. ولكن الهيام غلب على جميع مشاعره. ولولا خوفه لاعترف لها بحقيقة حاله. ولما ذهبت شعر بقلق في وحدته. إن سمو عواطفه نحوها يغريه بأن يجرب معها حيوانيته. وهو إغراء يقترحه عقله لا إحساسه. وهو إذ يتخيل ذلك فإنما يتخيلها مذعورة من المباغتة، ثم يتخيل نفسه مخذولًا منهزمًا. وليس عقله وحده الذي يغريه بذلك، ولكن تقاليده في معاملة النساء، ورغبته الثابتة في العبث بما يسمى بالأخلاق الفاضلة. وكما يغطي تلوثه بالقوة فهو يغطيه أيضًا بالاعتداء على الفضائل ليجعل من ماضيه قاعدة لا استثناء معيبًا. ولذلك فإن إلهام وإن قامت في حياته كالمنار إلا أنها أقلقت مخاوفه وعقده، وزعزعت أركان العالم الذي بناه لنفسه واطمأن إليه، وفي الحقيقة هو لا ينسى عذابه إلا في نار كريمة التي تشتعل في ظلام النصف الثاني من الليل.

ومشى في الشوارع مستسلمًا لجو نوفمبر اللطيف المنشط، حتى بلغ فندق القاهرة حوالي العصر. رأى عم خليل مهوم الرأس تحت طربوشه الطويل، وعم محمد الساوي مقتعدًا كرسيه من خلاف عاقدًا ذراعيه فوق مسنده. جلس في الاستراحة ساعة، ثم قام إلى التليفون فطلب إلهام، وقال لها: سأقابلك غدًا في فتركوان فهل تأذنين؟

– بكل سرور، ولكن خيرًا إن شاء الله؟

– كله خير، ولكني سأقابلك كلما أمكنني ذلك.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤