الفصل السابع

العزاء الحقيقي تجود به ظلمة النصف الثاني من الليل. عندما تعزف الأنفاس المترددة ألحانًا من الغابات. عندما يسود النسيان المطلق الأرض والأفلاك. غذاء دسم وراحة أبدية لا كالقلق النشوان وعذاب الوحدة التي تخلفها وراءها إلهام. ولم تنقطع عنه ليلة واحدة. مذ أيقظه طرقها الحذر من نومه السكران. ومضت سيطرتها تزحف عليه كالزمن لا مهرب منه. وهو بفضل تجاربه السابقة يمثل دور المسيطر المتحفظ ولكن كم تخونه اللحظات. وبهذه القوة لم تتمكن منه امرأة من قبل، ولم تشده بمثل هذه الأغلال. وهو لم يجد عندها استجابة واحدة فلم يدر إلا الظن ما حقيقتها. فليلة ذابت في أحضانه وهمست في أذنه: لا حياة لي بدونك.

كذكريات الكنار الليلي على أنغام البحر، وتلك الليالي الظافرة في كل شيء. وربت على خدها بحنان وسيادة وهو يسبح بعزم ضد موجة تشده نحو أعماق الخضوع. هي كل شيء. الحب، والآمال التي بعثته يجري وراء الأب الضائع. وفي ليلة أخرى آنس منها تحفظًا شاردًا. واستسلامًا خامدًا. لا تعليق، ولا حماس، ولا نفور. عند ذاك سهد متفكرًا حتى مطلع الفجر. ومن شدة ضيقة ناجى إلهام داعيًا الروح الرقيق المنبثق منها كعبير فاتن لا اسم له. ويقول لنفسه إذا أرادت أن تتخذ مني أسيرًا فعلى الدنيا السلام. أنت الجحيم إذا سيطرت. وعن مآسي السيطرة تستطيع أن تحكي عشرات القصص. ولكن الحياة من غيرها لا طعم لها، غثيان، وفتور كالرماد، ودون ذلك الجنون والدم. وكم كانت بسيطة عند ساحل الصيادين وإن لم تخل من مشاكسة. كموهبة كامنة لم تنضج بعد. ها أنت تسلكها في ذكريات الأنفوشي بعناد لا مبرر له. وتلك حقيقة ضاعت كموجة في بحر. وهي ليست الحب وحده، ولكنها نسيان سحري لعذاب البحث العقيم عن الأب ويأسه، وهرب من دوامة القلق التي تخلقها إلهام، وهي في ذات الوقت لا تخلو من مزية أو أكثر اختصت بها إلهام أو الأب. وقال لها وهو يتعذب من تغيرها: لست كعادتك.

فسألته بسذاجة: هل تجدني أحيانًا مختلفة؟

أماكرة هي أم ذاهلة؟ أنسيت لحن الاعتراف المعربد بالجنون؟ وأمك تكشفت لك مرة عن وجهين. حين طمع صديق في زيارتها بمسكن النبي دانيال. طردته من شراعة الباب بقسوة وحشية. ثم خلت إلى نفسها وهي تسب وتلعن. ثم أغمضت عينيها إعياء، وتهاوت بلا حول، وأجهشت في البكاء.

وقال بلا اكتراث في الظاهر: حسبتك متوعكة.

فقالت ببساطة ولكن خُيِّل إليه أنها تتحداه: إني على خير حال.

– يسُرُّني أن أسمع ذلك.

فداعبت خدَّه براحتها قائلة في هدوء: ألا ترى أنك أعز عندي من الحياة نفسها؟

أنتَ لا تتعامل بالألفاظ. وجميع ما يحيط بك ينذرك بالمتاعب. ولن يكون هذا بلا ثمن. قال بمكر: وأنتِ عندي كذلك وأكثر، ولذلك فكلما اقترب الرحيل حزنت بلا حدود.

– أنتَ تتكلم عن الرحيل؟

– السكوت لن يبعده.

– سنبعده بقدر ما نستطيع، ولكن حيلتنا محدودة فغريزة النقود هي الغريزة الوحيدة التي حافظت على قوتها عند الرجل.

– وفضلًا عن ذلك فليس هو بالحل.

– هو جرعة إسعاف عند الضرورة.

– والرجل يقظ في هذا الجانب؟

– جدًّا، ولا تهمه النقود بقدر ما يهمه كيف أنفقها.

– غيور؟

– فوق ما تتصور، وبيننا اتفاق يجب أن أحترمه وإلا ضاع كل شيء، ولكن ماذا تفعل أنت؟ ألا عمل لك إلا انتظار مكالمة تليفونية؟

– لو جاءت لاختفت متاعب الحياة.

– كان أبي شيئًا على هامش الحياة.

– وليس كذلك أبي.

– وكيف فقدته؟

– تاريخ قديم سأحدثك عنه في ظرف آخر.

– ولم لا يريد أن يتصل بك؟

آه هذا هو العذاب الغامض المليء باحتمالات لا حصر لها، وعادت تسأله: خبرني عن حالك إذا لم يظهر الرجل؟

– تصوري حال رجل بلا مال، ولا أهل، ولا عمل!

– وكيف عشت فيما مضى؟

– ملكت الألوف ولكن لم يبق إلا عشرات.

– ماذا كنت تعمل؟

– لا شيء.

– لم لا تبحث عن عمل؟

– لا قيمة لأي عمل يجيء عن غير طريق أبي.

– لا أفهم.

– ولكن صدقيني.

– اشتغل بتجارة.

– لا رأسمال ولا خبرة.

– وظيفة؟

– لا مؤهل ولا واسطة.

ثم بعد هنيهة صمت: الواقع أنني لا أصلح لشيء.

فتخللت غابة صدره بأصابعها وهي تهمس: إلا الحب.

فابتسم في الظلام، ثم سأل: تُرى كيف تمضي بنا الحياة؟

– الأمور معقدة، وزوجي غير مأمون الجانب.

– كم أنه طاعن في السن!

– هو كذلك، وأضيف أنه من صلب معمرين عاشوا حتى قيل أن الموت نسيهم!

– وعمره على أي حال أطول من عمر البقية الباقية من نقودي.

– وقد يشم رائحة غريبة في الهواء فلا نلتقي بعد ذلك.

فشد على راحتها فوق صدره، وقال: عند اليأس نهرب.

– مستعدة لذلك، ولكن ماذا نصنع بعد الهرب؟

فقال بحدة: حتى حبنا لا قيمة له بدون أبي.

– فكر ولا تحلم.

– أيعني هذا أنه يجب أن ننتظر؟

– وكم نتحمل الانتظار؟ وماذا بعد الانتظار؟

– الموت!

– ربما سبقناه إليه، يخيل إلي أحيانًا أنه سيدفنني، لا مرض به ألبتة، وبي أنا مرض في الكبد واللوزتين.

– شيء مضحك!

– هو في الواقع مُبك، وعند أول بادرة شك سأمتنع عن الزيارة.

– عند ذاك أُجن.

– وأُجن أنا أيضًا، ولكن ما الفائدة؟

– الانتظار غير مجد، والهرب عقيم، والتليفون حلم، ما العمل؟

– أجل ما العمل؟

– أظن الهرب أنسب الحلول.

– أبدًا.

– إذن فهو الانتظار.

– ولا الانتظار.

– إذن ما العمل؟

– آه، ما دمنا عاجزين فلنقطع ما بيننا.

سدَّ فاها براحته لحظة وهو يقول: أهون من ذلك الموت.

فتنهدت قائلة: الموت.

ثم وهي تناجي نفسها: أجل، الموت.

هزَّت نبرتها أعماقه فأرهف حواسه وقلبه يخفق. وطال صمت لدرجة أرهقته، فقال: ماذا أسكتك؟

– تعبت، لا تسألني عن شيء.

– ولكن مشكلتنا ما زالت عند نقطة البدء.

– دعها حيث هي.

– ولكن يوجد بلا شك حل.

– ما هو؟

– إني أسأل.

– وأنا أسأل.

– لكنني توقعت في لحظة أن تقولي شيئًا هامًّا.

– لا رأي عندي، ولكنه حلم، كالتليفون، أن أرث سريعًا الفندق والمال المودع باسمي، وأن نعيش معًا إلى الأبد.

– آه.

– عيبنا أننا عند العجز نحلم.

– ولكن الحلم قد يتحقق فجأة.

– كيف؟

– يتحقق وحده.

– صوتك ضعيف يقطع بأنك لا تصدق نفسك.

– نعم، وإذن؟

– وإذن سيطلع الفجر ونحن لا ندري، وقد قلنا ما يمكن أن يُقال.

ارتدت ثيابها في الظلام وهو يتطلع إلى شبحها المتحرك. وتبادلا قبلة وراء الباب، ثم ذهبت.

اندس تحت الغطاء فغشيته كآبة مقبضة. الظلام لون الموت. وظلمة القبر تشهد الآن صورة لأمك لم يشهدها أحد. وعندما نطق القاضي بالحكم ودَّت أن تخنقه. وفي السجن قالت لك: «أنا عارفة الوغد الذي وشى بي، سأقتله». كنت جميلة وقوية. وما اعترى صحتك في السجن لا يُنسَى. وحبك لي لا يُنسَى كذلك. أما صورتك الآن فلا يمكن تخيلها. كم من هموم تتلاشى لو اعترفت لإلهام بكل شيء. هي تعطيك كل شيء صادق، وأنت لم تعطها إلا حزمة من الأكاذيب. أبي، لم تصر على الاختفاء؟ قال: «أمك تظن أنها قتلتني وفي الحقيقة أنا الذي قتلتها». إذن فأنت مختف لأنك قاتل «ولكنني سأعرف كيف أهتدي إليك». وإلهام أنت تغتصبها وهي تقاوم بشدة. وتصيح وهي تداري ثوبها الممزق: «سأقتلك». سأقتلك أنا لأخفي جريمتي. وارتفع صوت المؤذن عند الفجر فهاله أنه لم ينم دقيقة واحدة، ولكنه تذكر الاغتصاب والقتل فهدأت نفسه قليلًا، وأدرك أن النوم سرقه وهو لا يدري بعض الوقت. ولعله حلم بالسهاد فيما حلم. واستيقظ مرة أخرى في السابعة، وفتح النافذة فرأى الضباب يزفر على الآفاق، والسماء طبقات من الألوان القاتمة. وترامى إليه صوت الشحاذ:

طه زينة مديحي
صاحب الوجه المليح

وما كاد يبلغ باب الاستراحة حتى رأى عم خليل نازلًا متكئًا على ذراع علي سريقوس، متلفعًا بالعباءة. جلس ينظر إليه من بعيد، إلى يده المعروقة المرتعشة، والكوفية السوداء التي أخفت عنقه النحيل. خير ما تفعل يا عم خليل هو أن تموت. أنا أعرف عنك أكثر مما تتصور. أنت لا تنام إلا بالمنوم وبعد أن تدلكك كريمة طويلًا. وسعادتك تمارسها في الحنان العقيم. ولذتك الوهمية عندما تجردها من ثيابها فتذهب أمامك وتجيء، ثم تحبها براحتيك. يستوي لدي أن يجيء أبي أو أن تذهب أنت. مرة أوشك أن يقتل في الكنار الليلي. في طرقة المرحاض اعترضه ضابط بحري، وقال له: «أترك علية فنار وإلا …» واشتبكا في صراع مخيف. تلقى منه ضربات وكيل له ضربات وحشية. ولم يكف حتى حين استلقى غريمه بلا حراك. لم تعد مجرد خطة للتغلب على الخصم، ولكن اندفاعًا جنونيًّا للقضاء عليه. لولا أن رمى النادل بنفسه عليَّ صائحًا «هل تحب المشنقة»؟ وعند الفجر قالت أمه: «يا حسرتي لما أسمع أنني كنت سأفقدك! » وقالت: «إذا ضايقك وغد فخبرني، وأنا قادرة على إرساله إلى القبر»، كما فعلت مع منافسة لها فقتلها رجل من أعوانها ثم فرَّ إلى ليبيا. وقالت الإسكندرية أن بسيمة عمران هي الفاعلة الأصلية. ولكن أين الدليل؟ أما أنت يا عم خليل فلن تتغير تغيرًا يُذكَر بعد الموت.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤