الفصل الثامن

قال صابر يخاطب الأستاذ إحسان الطنطاوي: أظن أن الاستمرار في الإعلان عبث.

فأجاب الرجل بتسليم: أظن ذلك.

– لا شك أنه اطلع على الإعلان، هو أو أحد من ذويه.

– هذا هو اعتقادي.

وتدخلت إلهام في الحديث قائلة: إذن فهو يرفض العودة.

فقال صابر: أو لعله يقيم في جهة نائية، أو خارج القطر.

– على أي حال فالاستمرار في الإعلان كما قلت عبث.

ثم وهي تزداد حماسًا لفكرتها: كل شيء يتوقف عليه وحده، والزمن هو الذي يعالج مشكلة من هذا النوع، وسوف يعود إليكم عندما يريد ذلك، كما نقرأ أحيانًا عن عودة الغائبين.

إنها لا تدري أنه هو المحتاج إلى الغائب وليس العكس. وأنه لا يحتاج إليه حبًّا في الحرية والكرامة والسلام فحسب، وإنما خوفًا من التردي في الجريمة. إنها لا تدري شيئًا عن الجريمة التي تتعقبه. ولا المأزق الذي سيجد نفسه فيه عندما تنفد نقوده في القريب. ولم يعد في الطاقة الاستعانة بالمحامين، ومشايخ الحارات، وغير هؤلاء من المرشدين. وأنه يفكر كثيرًا في نفض يده من الأمر، ولكن لا يهون عليه الكف النهائي عن البحث. وإذا قرر يومًا الكف عن البحث فسوف يندفع في طريق آخر كثور أعمى. قال: فلنجدد الإعلان للمرة الأخيرة.

وانتظر في فتركوان. لا يكاد يمر يوم دون لقاء. صار اللقاء عادة جميلة للطرفين. أجل في النصف الثاني من الليل ينسى كل شيء، ولكن ما أن ينبلج الصبح حتى تنزع نفسه شوقًا وحنانًا إلى إلهام. وفي محضرها ترتفع به مشاعره إلى آفاق من السعادة، والأنس، والصفاء، ولكن رغبته الغشوم في كريمة لا تموت، تغفو إلى حين ولكن لا تموت. جاذبية إلهام لا تخمد، ولكن سيطرة الأخرى لا مهرب منها كالقضاء. ولشدة وطأة هذه السيطرة يمقتها أحيانًا بقدر ما يعشقها، وكم نادى باطنه إلهام لكي تنقذه، ولكنه نداء اليأس. وشدَّ ما يهرب من هذا السؤال المزعج «من تختار إذا خُيرت؟» ولكنه يدأب على جسه كدمل كامن. أحيانًا يمقت الليل وهو ينتظر كالأسير. وإلهام سماء صافية يجري تحتها الأمان، وكريمة سماء ملبدة بالغيوم تُنذر بالرعد والبرق والمطر، ولكنها أيضًا سماء الإسكندرية المحبوبة. وكان يحتسي الشراب على صوت الرعد بالنبي دنيال، ويدفئ قلبه بالقبل. وهي تأبى أن تعترف بأنها فتاة عطفة القرشي، لماذا تخفين الأسرار؟ لأنك العذاب والشيطنة. وقد التحمت في خياله بهدير البحر، ورائحة الماء المالح واليود، وحنين الوطن، ومغامرات الليالي المفعمة بالشهوات، والمعارك البهيمية. وهي مثله تغلي في شرايينها دواعي الفطرة، والغريزة، والعمى، والقحة، لا كإلهام نسمة تستقر في ذروة لا يرقى إليها حد. ونظر إلى عينيها ترنوان إليه وهي تتخذ مجلسها قبالته. وأبدت ملاحظة عن انشغاله فقال: عندما استنفد وسائل البحث فلن أجد عذرًا للبقاء في القاهرة.

فأسبلت جفنيها وهي تسأله: أقررت متى تسافر؟

– لا أتصور أي حياة خارج القاهرة.

فقالت بصراحة فاتنة: كلام جميل أرجو أن تحققه.

– هذا ما أفكر فيه بلا انقطاع.

– وأهلك وعملك؟

– لكل مشكلة حل، يُخيل إليَّ …

ثم واصل حديثه بعد انقطاعة قصيرة: يُخيل إليَّ أنني لم أجيء إلى القاهرة للبحث عن سيد سيد الرحيمي، ولكن لكي أجدك أنتِ، أحيانًا نجري وراء غاية معينة ثم نعثر في الطريق على شيء ما نلبث أن نؤمن بأنه الغاية الحقيقية.

فقالت بصراحة افتن من الأولى ولكن بوجه مورد: من ناحيتي فأنا مدينة لسيد سيد الرحيمي.

قال بنشوة عجيبة: ما أجملك! ما أجمل الحب، هو الحب الذي يشدني إليك يومًا بعد يوم، وهو الذي يكمن وراء كل كلمة من كلماتي إليك مهما يكن موضوعها الظاهري، واسمه لم يجر على لسان قبل الساعة، ولكن لولاه ما كان ثمة مبرر أو معنى لأي كلمة قلتها.

فغمغمت شفتاها بكلمات لم تُسمَع، فتساءل: أليس كذلك؟

– فقالت مستردة شجاعتها: بلى، وأكثر.

وانتشى لحد الطرب. وأعرب عن نشوته بضغطة رقيقة من راحته فوق ظهر كفها. ثم تذكر أنه سيلقى كريمة بين ذراعيه بعد ساعات فساوره القلق، وخاف العينين الزرقاوين السعيدتين، ثم تراءت له أخيلة مظلمة نفثت في أعصابه بهيمية خفية. آه، كثيرًا ما عشق أكثر من امرأة في وقت واحد بلا عذاب ولا قلق. ولكنه مع إلهام تعذبه كريمة، ومع كريمة تعذبه إلهام، والتوحيد بينهما أمنية لا يجرؤ على تمنيها.

وسألها هاربًا من أفكاره: خبريني ألم تعرفي الحب من قبل؟

فقالت بلا تردد وهي تبتسم: لا، لا أظن، عواطف الصبا وهمية، وأين هي؟ لا أثر هناك لها، وهي كانت موجهة إلى ممثل كبير قد مات من زمن، لا، لم أحب قبل هذه المرة، ولكني خطبت مرة وفسخت الخطبة عندما طالبني بالاستقالة من وظيفتي، وبعض الزملاء في الجريدة يكلمونني عن الحب بأسلوب الصفحة الأخيرة من الجريدة، كل ذلك لهو لطيف بلا غاية، سأحدثك عن ذلك كله فيما بعد، على شرط ألا تسافر، أو على الأقل ألا تنسى القاهرة.

– قد أسافر إلى آخر الدنيا ولكني لن أنسى القاهرة.

– حسن أن أسمع ذلك، ولكن ما شأنك أنت مع الحب؟

– ما عرفته ينبغي أن يكون له اسم آخر.

– إذن فلنمر عليه بسلام، وأنا أفهم الحياة بدرجة لا بأس بها، وعندما أنظر في وجهك لا أشك في أنني أرى وجه رجل صالح.

سيطر بسرعة على دهشته، ثم تساءل باهتمام: ماذا تعنين؟

– لا أدري، أنت … أنت … أعفني من التعاريف، شيء يشع من عينيك أقنعني … هو المسئول … هو المسئول عن عواطفي الصادقة، الأفضل أن تتكلم أنت.

العينان الصافيتان لا تريان، أيدل وجهه حقًّا على أنه رجل صالح؟ وأين ذهبت عربدة الحياة، والدعارة، والبهيمية؟ وأمه، وأساطيرها، ونزوات الليالي المرعبة؟ يجب أن يجيء الأب لينتشله من مأزقه ويطرد الأكاذيب. قال: لا أودُّ أن أمدح نفسي، ولكن حبي دليل على أني إنسان خير مما كنت أظن.

– أكثر من ذاك، انظر كيف تشقى بالبحث عن أخيك، أعرفته يومًا ما؟

– كلا.

– ومع ذلك فأنت تجدُّ وراءه كما لو كنت عاشرته العمر كله، أليس ذلك نبلًا؟

لعنة الله على الكذب. لذلك يفقد حديث إلهام معناه كأنه الصمت.

– ما هي إلا مهمة كُلفت بها.

– ولو، ثم إن تحقيقها ليس في صالحك من الناحية المادية فلا تُنكر نبلك.

كريمة مثله تمرغت في التراب طويلًا، وهما يتفاهمان حتى على البعد. وفي أعمق لحظات الحب الحارة تتمالك أنفاسها لتهمس في أذنه «متى تختفي العقبة التي تهدد حبنا» فيمسه رعب الوعي كصفعة مباغتة، وتهمس تضاعيف الظلام بالجريمة. أما إلهام فلا تقرأ في وجهه سطرًا واحدًا من الجريمة. ولا يجري لها في بال أنه قد يقتل للاستئثار بامرأة أخرى. وأنه بات يشم رائحة دم مسفوك. وأنه لا معنى لتشبث عم خليل بالحياة إلا أن يدفعه إلى مصير محتوم. ولأنك يا إلهام لم تنقذيني من الهاوية أحببت وأنت لا تدرين مجرمًا. وإذا مضيت في الكذب عليك فسوف أُجن. ولم تضعف أنت أمام الحقيقة بالرغم من أنك قاتلت حتى أوشكت أن تقتل، وأنك تفكر طويلًا في القتل؟ قل أنا فقير مُعْدَم، والرحيمي أبي لا أخي، وأنه إن لم يعترف بي فلن أساوي حفنة من تراب. وماضيَّ غارق في الدعارة والفضيحة. آه، ستصرخ من الفزع. وينطفئ شعاع عينيك الذي يلهم الحب. ثم ترى هي الوجه الصالح على حقيقته. لو أنشأتك أمك نشأة مناسبة لكنت اليوم قوادًا سعيدًا. لكنها صانتك في النبي دنيال لتتعذب أبد الدهر. ثم أحيت أباك لتحرمك نعمة اليأس.

– ماما لها رأي، هي تعرف عنك الكثير، وقالت لم لا يُنشئ عملًا في القاهرة؟

ماما! إنه يخاف الأمهات. كأمه تستطيع أن ترى حقيقته بنظرة واحدة. لن يعميها الإشعاع المزعوم الذي يشع من عينيه.

– أي عمل؟

بعد تردد: هذا يتوقف على استعدادك؟

قل لها أنك تُتقن السُكْرَ والرقصَ والعراكَ والحُبَّ.

– إدارة الأملاك هي خبرتي الوحيدة.

– لا مؤاخذة، ليس عندي فكرة عن دراستك؟

تذكَّر المدارس الوطنية والأجنبية التي عبرها عبور المتفرج.

– والدي لم يتركني أكمل أي نوع من التعليم لحاجته إلي وبخاصة عقب مرضه.

– فكِّر في مشروع تجاري، وأنا أعرف من الزملاء أناسًا متنوعي الخبرة.

– حسن، سأفكر في ذلك ولكن بعد مشاورة أبي.

وقال لها وهو يودعها: من المؤسف أن هذا المكان لا يسمح لي بأن أقبلك.

العقل ينصحه بأن يهجر إلهام ولكنه لا يستطيع. هي كأبيه فيما تعده به، وفي أنها حلم عسير التحقيق، أما كريمة فامتداد حي لأمه فيما تهبه من متعة وجريمة. ارجع إلى الإسكندرية واعمل قوادًا لأعدائك. اقتل واغنم كريمة ومالها. استخرج الرحيمي من الظلمات وتزوج إلهام. آه، وشتاء القاهرة قاس، ولا يضمر المفاجأت، ولا يعزف موسيقى السماء. وما أزحم شوارعها ومحالها فهي سوق تتلاصق فيه الأجساد والسيارات. وأكثر من امرأة تجد فيك ما تبحث عنه بنظرة واحدة، على حين تشقى أنت عبثًا في البحث عن الرحيمي. لعله هلفوت ضحك على أمك فأوهمها بأنه من الوجهاء. وكثيرًا ما يجد لمحة من صورة أبيه المتخيلة في هذا الرجل أو ذاك بين مئات الوجوه المتتابعة. إنه يرفضه أو لعله يخافه أو لعله ميت. وفي الشتاء سرعان ما تجنح الشمس للمغيب وترتفع أمواج الظلام. ولدي رؤيته عم محمد الساوي سأله عمن يعرف من رجال الله القارئين للغيب فدله على رجل بالدرب الأحمر يُدعَى الشيخة زهرة. ولما بلغ مسكنه وجده مغلقًا مختومًا بالشمع الأحمر، وقيل له أن البوليس قبض عليه بتهمة الدجل. وتساءل صابر متى كان الدجل تهمة. وعندما رأى الفندق وهو راجع إليه آثار فيه شعورًا برتابة البيت وكآبة السجن. وجلس في الاستراحة وهي آهلة تضج بالأصوات وتختنق بالدخان. ومن عجب أن الأحاديث هنا لا تكاد تتغير رغم أن الوجوه تتغير كل يوم. وسمع رجل وهو يتساءل: ألا يعني هذا فناء العالم؟

فقال بلا وعي: في ألف داهية.

وتعالت ضحكات فأيقظته. وسأله سائل: حضرتك مع الشرق أم الغرب؟

فقال وهو آسف على تورطه في حديث لا يهمه: لا هذا ولا ذاك.

ثم تذكر جملة متاعبه، فقال بتأفف: أنا مع الحرب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤