الفصل التاسع

في تلك الليلة لم تأت كريمة في ميعادها. انتظر في الظلام عامر الرأس بخيالات الشراب. ومن الفراغ جسد صورًا يصبر بها شهوته. ومرت ساعة كاملة بعد منتصف الليل ولم تأت. هو لا يدري شيئًا عما يحدث فوق السطح، ولكن كريمة لم تتخلف ليلة واحدة مذ طرقت بابه لأول مرة. وتقدم الوقت ساعة أخرى ساحقًا أعصابه فيئس من ليلته، وأيقن أن مجيئها بعد ذلك سيكون عبثًا. وجعل ينظر صوب الباب مرهف السمع، ولكن اليأس كثف الظلمة. وظل مسهدًا حتى انطلق صوت المؤذن فقال أنه ينادي بفناء هذه الليلة. واستيقظ حوالي العاشرة، فسخر من نفسه قائلًا: «ليكن حساب عسير»، ونزل إلى الاستراحة فتناول فطورًا خفيفًا، وراح يراقب من بعيد علاقة المودة التي تؤاخي بين عم خليل ومساعده الساوي. وتساءل متى ينزل فيجد مكان عم خليل خاليًا؟ وكيف يسأل كريمة عن أسباب تخلفها؟ وفجأة قامت معركة كلامية بين اثنين من النزلاء لم يدرك سببها، ولكنه تابع باهتمام حركات أيديهما العصبية، وكلماتهما الحادة، وتهديداتهما التي لم يتحقق منها شيء، ثم شعر بضجر غير محتمل.

وقرأ في وجه إلهام — في أثناء تناول الغداء — اهتمامًا أضفى على فتنته جدية ملحوظة. انجابت عنه هموم كثيرة وعاوده شيء من المرح، فقال: أعترف لك بأنني لا أجد لحياتي معنى إلا عند اللقاء.

فحدجته بنظرة إرادية، وقالت: الحق أني لا أنقطع عن التفكير في حياتنا.

عاتبها في باطنه على توانيها في امتلاكه والسيطرة عليه، وعلى هزائمها غير العادلة أمام عدوتها الطاغية. أنت مسئولة عما سيقع. قال: يسعدني أن أسمع ذلك، وأنا بدوري لا أنقطع عن التفكير.

– هات ما عندك.

قال وهو يلعن نفسه وأكاذيبها: أفكر في أمرين: العمل والزواج.

– هل اقتنعت نهائيًّا باقتراحي؟

– أجل، ولكن علي أن أتم مهمتي على أي وجه أولًا، ثم أسافر للاتفاق مع أبي.

كره نفسه لحد الموت. وتمنى أن يمحق أكاذيبه دفعة واحدة وليكن ما يكون. وقال أنه لم يعرف هذا النوع من الألم المحير قبل ذلك. وبدافع كالاستغاثة قال: لنذهب إلى سينما هذا المساء.

في ظلمة السينما أخذ راحتها في يده. الظلمة دائمًا. ورفع يدها إلى فمه فلثمها في سعادة عجيبة. وتشمم منها عبيرًا طيبًا في سرحة طائرة. وقال أنه يستريح من الاحتراق والجريمة، أما العذاب الذي يخشى أن يعذبه في النصف الثاني من الليل فيطرده عن باله. وهمست إلهام متسائلة: أليس هذا ظلمًا بينًا؟

ولم يكن يتابع الفيلم بحال، فهمس مداعبًا: افتراقنا ساعة واحدة ظلم أفظع!

وتركز في الشاشة لأول مرة فرأى رجلًا يضطهد فتاة، وسمع حوارًا عنيفًا، ولأنه لم يتابع القصة من أولها بدا له المنظر حركات وكلمات لا معنى لها. كما نشاهد أجزاء من حياة الناس منقطعة عن ملابساتها فنمر بها دون اكتراث، وأحيانًا ضاحكين مما يستحق الرثاء. وكم يبدو بحثك عن أبيك من خلال الإعلان مضحكًا ومغريًا بالمزاح. وهل تجيء كريمة الليلة في ميعادها؟ أو يتعذب حتى الفجر؟ وكيف تنجلي هذه المتاعب كلها في البحث والحب؟ ولحظ إلهام في لحظات المناظر الشديدة الإضاءة فرأى استغراقها، فأحنقه ذلك، وأوقف مداعباته لراحتها، وأراد أن يسحب يده ولكنها شدت على أصابعه فشد على راحتها ممتنًّا. وغادرا السينما ليتلقيا ليلة باردة تحت سماء صافية تومض بها آلاف النجوم فأوصلها إلى محطة الباص، ومضى إلى بقالة الحرية بكلوت بك، فأكل بسطرمة وسردين، وشرب نصف كونياك. ورجع إلى حجرته عند منتصف الليل فلبث في الظلام ينتظر. ولم يعد الغيب بأي أمل، واشتد الصمت خارج الحجرة كالصمم.

وتتابعت الدقائق في عذاب وحنق. لا، لم يعرف هذا الذل من قبل. ذل الرغبة الجائعة. ذل البحث الخائب. ذل الخوف من الذل. ولحقت الليلة بسابقتها مسهدة ملعونة مصدعة. ورسم أن يوجد بالفندق في عصر اليوم التالي، فشهد نزول كريمة إلى مجلسها بجانب زوجها كما رآها أول مرة. تفشى عذاب الرغبة في كيانه فهاله أن تستأسره المرأة لهذا الحد. وتجنبت أن تنظر ناحيته وهو في ركن الاستراحة يتصيد. لا تعرف جنوني فهي لا تخشى عواقبه. ولما قامت لتصعد إلى شقتها التقت عيناهما لحظة عند استدارتها فرمته بنظرة محذرة ثم ذهبت. ما معنى هذا التحذير؟ العجوز لم تتغير معاملته لها، وهو في سن لا يملك معها قوة أعصاب لمداراة ما في نفسه. وفكر أن يلحق بها في الدور الثاني أو الثالث، ولكنه لمس سرعة صعودها كأنما حسبت حساب أفكاره، فأعادت التحذير بصورة أخرى. الأيام تمر والنقود تتناقص، وحكاية الأب أمست أسطورة سخيفة لا يركن إليها بحال. ولا غنى له عن هذه المرأة فهي حياته والأمل الباقي له في الحياة. وتكرر التسكع بالليل في كلوت بك والسكر والانتظار في الظلام ليلة، وليلة، وليلة. وهو راجع عند منتصف الليل قال محمد الساوي بصوت نعسان: سأل التليفون عنك عصر اليوم.

آه، لم تعد أنباء التليفون تهز أعماقه، ولكن آه لو يخلف ظنه ويجيئه بالمعجزة في هذه اللحظة من اليأس والعذاب. قال الرجل: صوت امرأة.

– بخصوص الإعلان؟

– كلا، سألت هل أنت موجود فقلت لها أنك لم تعد بعد، فأغلقت السكة.

إلهام! من شدة نكده لم يقابلها في اليومين الأخيرين. ولما خلع بدلته وأطفأ المصباح سمع نقرة على الباب. وثب وثبة مجنون وفتح. شد على ساعديها بقوة وهتف بغضب وشى رغم زمجرته بالراحة السعيدة: أنت!

وجذبها صوب الفراش وهو يقول: أنت! الويل لك.

– أنت تمزق لحمي!

– كما مزقت أعصابي!

– وماذا تعرف عن عذابي أنا؟

أراد أن ينزع عنها الروب ولكنها أمسكت بساعديه: كلا، البقاء مجازفة غير مأمونة، سأقول كلمة ثم أذهب.

– ادعي الشيطان ليدافع عنك.

– أنت سكران ولكن اضبط نفسك، حركة بسيطة قد تهدم كل ما بنيناه.

أجلسها إلى جانبه على حافة السرير وهو يسأل: ماذا حصل؟

– عند رجوعي آخر مرة من عندك استيقظ على غير عادة، وسألني هل كنت طوال الوقت إلى جانبه فاعتذرت بالعذر المألوف، وخُيِّل إليَّ أن علي سريقوس لمحني، لست متأكدة ولكني خفت خوفًا شديدًا.

– لعلها أوهام!

– لعلها ولعلها، لا يجوز أن نجازف بكل شيء، سنخسر الحب والأمل، كلمة واحدة منه تقضي عليَّ بالفقر الأبدي، لا تنس ذلك.

وتنهدت ثم استطردت: لذلك امتنعت عن المجيء، ولم أستطع بطبيعة الحال أن أفسر سلوكي، وقدرت وأنا في غاية من العذاب حالك وأفكارك، ولكن الرجل لم يكتب كل شيء باسمي إلا بعد أن أخذ عليَّ عهدًا بالوفاء، قال لي أنت يدي، وعيني، وابنتي، وزوجتي، لا تنغصي عليَّ صفو الأيام الباقية.

– إذن؟

– وإذن فيجب أن أمتنع عن الحضور بتاتًا، هذا هو الأسلم.

– هذا جنون!

– هذا هو العقل.

– كيف أنتظر؟ إلى متى أنتظر؟

وهي تتنهد: لا أعرف الجواب كما تعلم.

– وسوف تنفد نقودي وأضطر إلى السفر.

– يمكن أن أمدك بالقليل منها لإطالة بقائك أكبر مدة ممكنة.

– لن يغير هذا من المصير المحتوم.

– أعرف هذا ولكن ما الحيلة؟ أنا معذبة مثلك.

– أنا أشَد، أنا مهدد بالعذاب والإفلاس معًا.

– وأنا أتعذب لنفسي ولك، كيف لا تدرك هذا؟

تساءل وكأنما يخاطب نفسه: متى يموت الرجل؟

– أنتَ تسألني كأنني مطلعة على الغيب!

– وماذا أنتِ إذن؟

– امرأة تعيسة، أتعس مما تتصور.

– قد يسخر من مخاوفنا ويموت فجأة.

– هذا محتمل.

– رجل طاعن في السن ولا يمكن أن يعيش إلى الأبد.

– قد يموت الليلة، وقد يموت بعد عشرين عامًا في سن أخت له ماتت منذ عامين.

– اللعنة.

– لا حيلة لنا، ويجب أن أذهب الآن.

– ولا أراك إلا بعد موته؟

– قلت لك لا حيلة لنا.

– بل هنالك حيلة.

وصمتا في الظلام حتى سمعا هسيس الصمت، وإذا به يقول: أنتِ تذكرينني طيلة الوقت بحديث قديم، حديث إشارات متقطعة يشهد عليها هذا الظلام، فلنتكلم بالصراحة هذه المرة، علي أن أقتله؟

قالت بنبرة مضطربة: أنتَ لا ترتاح إلى هذا الحديث، لذلك نبذته، لست قاسية ولا متوحشة، عيبي الوحيد أنني أحبك بجنون، الأفضل أن ننتظر.

– حتى يموت في سن أخته!

– حتى يأمر الله بما يشاء.

وركبه تصميم جنوني فنهض في الظلام، يائسًا كل اليأس، ثم جلس مرة أخرى شاعرًا بالتهاب رغم برودة الجو. تساءل: ماذا بعد الجريمة؟

لم تنبس بكلمة. وأحس الظلام دخانًا كثيفًا: لا تضيعي الوقت هباء، ماذا بعد الجريمة؟

سمع همسًا غير مبين كأنما تريد أن تتكلم فتمنعها شرقة. ثم جاء صوتها كأنما يزحف من جحر: ننتظر فترة، ولكن في أمان، ويمكن أن نلتقي في خفاء. ثم أكون لك أنا والثروة.

قال وهو يُكور يده في الظلام: اليأس لا يدع لنا سبيلًا ولا وقتًا للاختيار.

– للأسف.

– ولكن ماذا ينبغي أن أفعل؟

قالت بعد صمت أقصر بكثير مما قدر: ادرس العمارة الملاصقة للفندق.

آه … هي مبيتة كل شيء. الجريمة جاهزة في رأسها الرشيق. مغفور لها كل شيء ما دام قد دُبِّرَ في سبيل حبه.

– شقة مأجورة لخياطين وبياعين بدل نصف عمر، فهي تخلو ليلًا، ولا يصعب الدخول إليها أو الخروج منها.

– هذه هي العمارة.

– سطحها ملتصق بسطحنا.

– يعني الانتقال سهل.

– تجيء إلى سطحنا، يجب أن تنتظره في الشقة.

– أظنه يصعد إلى شقته بين الثامنة والتاسعة؟

– وليكن في اليوم الذي أذهب فيه إلى زيارة أمي، وهو ميعاد معروف من كل شهر.

قال بدهشة: لا أصدق أنني لم أكد أتم شهرًا في الفندق!

– ومن السهل بعد ذلك أن تنتقل إلى العمارة التي جئت منها.

قال بارتياب: كثيرًا ما نسمع عن جرائم من هذا النوع عند اكتشافها!

فقالت ببرود: لأننا لا نسمع إلا عن الجرائم التي تُكْتَشَف.

جبارة كأمك أو أكثر.

– أهذا هو كل شيء؟

– كلا، يجب أن تقع سرقة لتبرر القتل.

– وماذا أسرق؟

– دع ذلك لي، احذر أن تترك أثرًا، إن الكلاب تجري وراء الأثر.

– يبدو أن التنفيذ سيكون في غاية من الإحكام.

– حياتنا حياة واحدة، فإذا قضي عليك قضي عليَّ، ولا حيلة لنا في البحث عن طريقة للخلاص من الألم والجنون.

وهزَّ رأسه قائلًا في حيرة: جنون، جنون، هل تصدقين أن شيئًا من ذلك سيقع حقًّا؟

فقالت ببرود: ادرس العمارة جيدًا، أمامك أيام، احذر أن يراك أحد وأنت تنتقل من سطح إلى سطح، أنت جريء وإلا فلا يجوز أن أدعي أن أفهم شيئًا في الدنيا.

ومضى يفكر، أما هي فقالت: لنبدأ من الأول من جديد، خطوة فخطوة حتى لا يفوتنا شيء.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤