موقف الشعراني من المتصوفة العاطلين

وقد جر هذا اللون من التصوف الكاذب على الحياة الاجتماعية في مصر نكبات نالت من اقتصادياتها وعزائم بنيها، وأثرت في مكانتها الدولية.

فلقد كانت البطالة والتعطل من المبادئ العامة المحترمة المعترف بها في بيئات متصوفة هذا العصر.

فكل من تزيَّا بزي المتصوفة ترك العمل وانقطع إلى الزاوية أو التكية الخاصة بشيخه، ورأى أن من حقه على الناس أن يطعموه، وأن يقوموا بمعاشه، بل وبمعاش أسرته أيضًا.

وقبلت الجماهير المصرية من هؤلاء الدراويش هذا الوضع، بل اعتبروا تقديم الطعام والملبس، وما إلى الطعام والملبس، إليهم واجبًا يُحتِّمه الدين عليهم.

وللكسب والعمل في الإسلام مكانة لا يضارعها إلا الجهاد في سبيل الله. مرَّ على النبي — صلوات الله وسلامه عليه — رجل، فرأى أصحاب الرسول من جَلَده ونشاطه في الكسب والارتزاق ما جعلهم يتحدثون فيه قالوا: يا رسول الله، لو كان هذا في سبيل الله، فقال صلوات الله عليه: «إن كان خرج يسعى على نفسه يُعفُّها فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على ولده صغارًا فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على أبوين كبيرين فهو في سبيل الله.»

وعاد بعض صحابة رسول الله — صلوات الله وسلامه عليه — من سفر، فأخذوا يُحدِّثون الرسول عن رجل كان معهم كثير العبادة، كثير الصلاة، كثير الصوم، متفرغًا أبدًا لتقواه، فقال لهم النبي: من كان يقوم به في معيشته؟ قالوا: أخوه، قال: أخوه أعبد منه.

ذلك هو منطق الإسلام، ولكن أدعياء التصوف أبدلوه ونقضوه كما أبدلوا ونقضوا كل عرى الإسلام.

وأدرك الشعراني خطورة هذا الأمر على الفكرة الإسلامية، وعلى الناحية الاقتصادية في الأمة الإسلامية، فخصص جانبًا كبيرًا من حملته على أدعياء التصوف لتلك النقطة الخطيرة.

دعا الشعراني إلى الجمع بين العبادة والعمل باعتبارهما دعامة الحياة، وساق الأدلة التاريخية على حرص كبار الصالحين من أهل التصوف على تجنُّب العيش على صدقات المحسنين.

وفضَّل الشعراني الصناع على العباد؛ لأن هؤلاء يُساهمون في نفع الناس بينما العبادة يقتصر نفعها على صاحبها، وكان يقول: ما أجمل أن يجعل الخياط مثلًا إبرته سبحته، وأن يجعل النجار منشاره سبحته! ذلك هو التسبيح النافع المقبول.

بل لقد آثر الشعراني في دعوته حياة البدن على حياة الروح؛ لأن هذه قد تفرعت عن حياة الجسم، وهي تتأثر بما يعتريه من وجوه العسر واليسر؛ حتى ليفضي الضنك إلى تشتت الفكر وبلبلة الخاطر؛ ولذلك كان أبو حنيفة يقول: لا تستشر من ليس في بيته دقيق.

ويصرح الشعراني بأن ترك الكسب بالعمل المشروع والتماس الرزق عند المحسنين كدأب متصوفة عصره جهل بمقام التوكل الصحيح.١

ومن الجهالة — كما يقول الشعراني — ذمُّ الدنيا إطلاقًا، وآفة الدنيا النساء والمال والجاه والولد، ولكن الكامل لا يهرب من هذه الآفات، بل يستوعب حبها جميعًا؛ لأن دنيا العارف في يده وليست في قلبه.

ومن هنا كان النكاح — كما يقول الشعراني — عبادة، بل النكاح عنده أعظم النوافل التي تُدني الإنسان من ربه، وتُهيِّئه لتلقي العلم اللدني.

والزهد عند الكمل — كما يقول الشعراني — لا يكون عن خلو اليد من متاع الدنيا، وإنما يكون بخلو القلب مع امتلاء اليد، وكمال المقام في زهد القلب لا يتحقق بغير الزهد فيما يملك الإنسان التصرف فيه من غير مانع. أما الزهد مع خلو اليد، فربما كان مصدره الإملاق؛ ولهذا قيل شرط الداعي إلى الله ألا يكون كامل التجرد من دنياه.

وهذا بالإضافة إلى أن مثل هذا الإملاق يحوج صاحبه إلى سؤال الناس بالحال أو بالمقال، وبهذا يهون في نفوسهم أمره، ويضعف عندهم تأثير تعاليمه، وعلى الضد من ذلك إن كان صاحب مال يفيض عن حياته، فينفق منه على مريديه وغيرهم من المحتاجين.٢

وتلك رحابة أفق من الشعراني في فهم الدنيا، وتصور رسالة العابد الزاهد فيها قلما نجد لها مثيلًا في تفكير رجال الدين.

ذلك موقف الشعراني من أدعياء التصوف، وليس معنى هذا أن هؤلاء الأدعياء وهم قوة ضخمة فعالة في المجتمع المصري قد استكانوا لحملة الشعراني، وألقوا السلاح أمامها بغير حرب ولا قتال.

لقد هاجموا الشعراني بكل سلاح، واعتدوا عليه، وتربصوا به الدوائر، وملئوا الدنيا هتافًا وصياحًا بالتشهير به، والحملة عليه، بل أرصدوا له من يقتله غيلة وغدرًا.

وقد أشار المناوي والشبلي إلى التعاون الذي قام سرًّا بين هؤلاء المتصوفة وبين الفقهاء ضد الشعراني، في مؤامرة الأزهر الكبرى، التي اتُّهم فيها الشعراني بالكفر، كما سيأتي بيانه عند الحديث عن صراعه مع الفقهاء.

ولقد تحطمت حملات أدعياء التصوف على الشعراني؛ لأنها صادفت لدى الشعراني قوة إيمانية لا تُغالب، وقوة علمية لا تُصاول، وقوة نفسية لا تسمو إليها الأحداث، حتى ليهتف الشعراني واثقًا بنفسه: «اللهم افضحنا ولا تسترنا حتى يتميز الخبيث من الطيب.» وهي كلمة لا يجرؤ على قولها إلا رجل أي رجل.

رجل يعلم ما هو عمله، وما هي مكانته. وإنه عمل لا تلحق به الشوائب، وإنها مكانة لا تدنو منها الشبهات.

بينما أدت حملة الشعراني إلى القضاء على نفوذ هؤلاء الشيوخ الجهلة الأدعياء، كما أثمرت حركة صوفية صالحة صادقة عالمة مبصرة.

حركة تصفها كتب التاريخ والمناقب بأنها عادت بالتصوف إلى عصوره الأولى، إيمانًا وزهدًا، ومعرفة وعلمًا ونورًا يرشد المسلمين إلى أنبل ما في الحياة من أخلاقيات ومثاليات.

وحَسْبُ الشعراني هذه الرسالة وحدها، فبمثلها يخلد العلماء المجاهدون مع أنها كانت جزءًا من حياته، ولم تكن كل رسالته.

١  العهود المحمدية، ص٣٠٦.
٢  العهود المحمدية، ص٦٥.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤