الفصل الرابع

بسط سلطان الولاية

القضاء على المماليك

تمهيد

أتم إقصاء المشايخ بعد تطويع الجند، القضاء على العناصر المناوئة، أو التي تخشى مناوأتها لحكومة محمد علي، فانفرد بالسلطة، وكان انفراده بها من عوامل دعم أركان باشويته، كما أنه جاء في الوقت نفسه نتيجة لاضطراد رسوخ قدمه في هذه الباشوية بعد أن اجتاز بسلام العقبات التي اعترضت سبيله، وذلل الصعوبات التي صادفته منذ توليته في عام ١٨٠٥، سواء ما تعلق منها بممارسته شئون الحكم الداخلية، أو كان متصلًا بتدبر علاقاته مع الباب العالي والدول الأجنبية (إنجلترة وفرنسا خصوصًا).

وواءم انفراده بالسلطة الهدف الذي جد في تحقيقه، تمكين الحكم الوراثي لأسرته في مصر، والشرط الأول لذلك — كما تبين — توطيد حكومته، فلم يكن من مقتضيات برنامجه إجازة مبدأ الشورى الذي طالب به فريق من المشايخ والمتصدرين؛ لأن مقصود هؤلاء من الشورى وقف إجراءاته المالية، ويستحيل عليه فعل ذلك؛ لأنه ما كان يرضى بوقفها على الرغم من شذوذها؛ لأنها السبيل الوحيد للحصول على المال من أسرع الطرق وأيسرها — المال الذي ظلت حاجته إليه ملحة طوال هذه السنوات للإنفاق منه في الوجوه التي تكفل دعم سلطانه الداخلي، وأهم هذه — كما شهدنا — ترويض الجند على الطاعة بدفع مرتباتهم إليهم، وتحصين القاهرة والثغور تهيؤًا لدفع غزو أجنبي قد يأتي من ناحية إنجلترة أو فرنسا، أو لصد حملة قد يبعث بها الباب العالي إلى مصر لإقصائه من الحكم، وأخيرًا لإعداد التجريدات المرسلة ضد البكوات المماليك، وكل أولئك أسباب لا معدَى عنها لتثبيت باشويته وتقوية أركانها.

على أن الانفراد بالسلطة، وتقرير سلطانه في القاهرة والثغور وأرجاء الدلتا كان وحده لا يكفي لتأمينه على باشويته، طالما بقي الصعيد بأسره تقريبًا — عدا بعض المراكز المبعثرة هنا وهناك — بأيدي البكوات المماليك، وخارجًا عن سلطان باشويته؛ ولذلك فقد اقتضى نفس الهدف الذي أشرنا إليه، وجد في تحقيقه، إخضاع الصعيد لحكومته، وكان واضحًا أن توطيد هذه الحكومة لن يتأتى إلا ببسط سلطانه في كل جوانب باشويته.

فالبكوات المماليك سوف يظلون شوكة في جانبه، ومصدر خطر ماثل على باشويته إذا ظلوا رافضين الاعتراف بسلطانه، وعجز عن تمكين سيطرته عليهم، وهو الذي عانى الكثير منهم خلال سنوات التجربة والاختبار السابقة بسبب عنادهم في مخاصمته وإصرارهم على مناوأته، فبسط سلطان الباشوية يعني أن يسرح هؤلاء حشودهم العسكرية، وكان فرسانهم قوة؛ لا جدال في أن محمد علي يخشى بأسهم، ويعني عدم لجوء الهاربين من جنده المتمردين إليهم حتى لا تظل معسكراتهم مواطن للتآمر على ملكه، وانفضاض العربان من حولهم، فتنكسر حدة أعمال السلب والنهب التي يشجعهم عليها تزاملهم مع المماليك والمنضوين تحت لوائهم في الإغارة على القرى والدساكر، ثم إنه يعني قبل كل شيء تحصيل الميري أو الضريبة على الأقاليم الواسعة التي في أيديهم، فكان لا مناص حينئذٍ من معالجة مسألة البكوات المماليك.

ولقد بدأ محمد علي يتدبر أمر البكوات منذ اعتلائه أريكة الولاية، وأجبرته شتى ملابسات الموقف، وكلما طرأ عليه تبدل، على ممارسة مختلف الطرائق معهم، حتى يخضد من شوكتهم، ويشتت من جموعهم، ويحول دون اتحادهم وتكتلهم ضده أو تعاونهم مع الغزاة الأجانب، أو مع الدول الطامعة في بسط نفوذها على البلاد، أو مع الباب العالي الذي يأبى إلا أن يسترجع سلطانه الشرعي عليها كاملًا، فيراوغهم ويخادعهم تارة، ويخرج التجريدات لمطاردتهم تارة أخرى، ويعمل دائمًا لإشاعة الفرقة والانقسام في صفوفهم، ويبغي في أثناء ذلك كله كسب الوقت، والتمهيل حتى يتسنى له الفراغ من مشكلات أجدر لخطورتها بعنايته العاجلة، ويقربه انحسامها من الاقتدار على مناجزتهم وإيجاد الحل القاطع لمشكلتهم هم كذلك في النهاية، وكانت مذبحة القلعة المروعة السلاح البتار الذي قُطعت به عقدتهم.

ولما كان محمد علي قد اختتم نضاله مع البكوات بالإيقاع بهم في هذه المجزرة، فقد أوحت هذه الفعلة لكثيرين أنه ما كان يسعى في كل علاقاته معهم إلا لتحقيق هذه الغاية، ينهض دليلًا على ذلك — في رأيهم — أن الانفراد بالسلطة بإقصاء المشايخ وتشريد عمر مكرم خصوصًا، لتأسيس حكم يقوم على الجبروت والطغيان، هو مبعث فتكه بالبكوات، في وقت لم يعُد فيه لهؤلاء أي شأن بعد أن هزمهم هزيمة ساحقة ماحقة في المعارك التي نشبت أخيرًا بينه وبينهم، ولم يفلت من يده حتى من استأمن منهم وعاش في كنفه وتحت حمايته، وقد رتَّب أصحاب هذا الرأي على ما أخذوا به، أن مذبحة القلعة كانت مؤامرة حُبكت خيوطها من زمن طويل، وأن البطش بالبكوات كان غرضًا يسعى إليه ولا يأنف من اللجوء إلى وسائل الغدر والخديعة لتحقيقه منذ أن ولي أمر مصر قبل ذلك بخمس سنوات.

ولا جدال في أن هذا اتهام جريء، قد يسوِّغه هول الفعلة التي وقعت، ووجه الجرأة فيه الزعم بأن الإجهاز على البكوات كان بيت القصيد من كل علاقات محمد علي معهم، والظن بأن مسعاه لتسوية صلاته بهم على أساس من الود والصفاء لم يكن إلا نفاقًا وختلًا ومخادعة، ولقد كفت هذه الجرأة وحدها؛ لأن تغدو واقعة المذبحة في حد ذاتها — وهي لا سبيل إلى نكران حدوثها — مثار جدل ونقاش، من حيث تعيين المسئول عنها ومرتكبها، وجلي أنه إذا صح انتفاء المسئولية عن محمد علي، وثبوت أن هناك مَن دبَّرها ونفَّذها غيره، ينفي عنه كذلك أنه بيَّت النية — ومن زمن طويل — على الفتك بالبكوات، أساس الاتهام كله، فزاد الخلط وتضاربت الآراء واختلفت في تعليلها؛ فالزعماء الألبانيون «هم الذين دبَّروا الغدر بالأمراء المصريين فلطَّخوا يديه — وهو الرجل الذي يمقت المذابح ويستنكر الوحشية والقوة في مظاهرها — بدمائهم في مذبحة القلعة في سنة ١٨١١، وهم الذين ألزموا محمد علي بالموافقة، ولو كان نصيب محمد علي في هذه الواقعة نصيب الآمر المنظم لما تم التنظيم بالدقة التي تم بها»، وهو قول لا نصيب له من الصحة، وطبيب الباشا الخاص «مندريشي» Mandrici هو الذي أشار عليه بتدبير المذبحة للفتك بهم، وصاحب هذا الرأي «دروفتي»، أخذ به لبواعث سوف يأتي توضيحها في حينه، والباب العالي هو الذي طلب من محمد علي ذبحهم، فلم يَسَعه إلا أن يمتثل أمر مولاه، وسوف نرى كذلك — في موضعه — مدى انطباق هذا القول على الحقيقة، وهكذا.

ولا بد أن يستقر في الأذهان أن الباشا نفسه صاحب مذبحة القلعة، ومدبِّر هذه المكيدة، والمسئول عنها وحده، ولكن يجب التسليم كذلك، بأنه كان خالص النية، صادق الرغبة في مسعاه للصلح مع البكوات المماليك، وأن هؤلاء نكثوا عهودهم دائمًا، وأنهم تآمروا على سلامتهم وسلامة ملكه فيما بينهم ومع أعدائه، فحفروا قبورهم بأيديهم، وأن ضرورة الخروج للحرب الوهابية، الثمن الذي كان لا محيص من دفعه إذا شاء الظفر بالباشوية الوراثية، ألجأه إلى الفتك بهم، وأن التفكير في المذبحة لم ينبت في ذهنه إلا قبل شهر أو شهرين على الأكثر من تنفيذها، فكانت قصة محمد علي مع البكوات، قصة إقبال من ناحيته، وإدبار من ناحيتهم، حتى إذا أعيته الحيل في أمرهم، وصار نجاح أضخم مشروع في مطلع باشويته — وهو الحرب الوهابية — عقد عليه آمالًا كبارًا، مرتهنًا بقدرته على التفرغ له ومباشرته، لم يعد هناك مجال لأي تردد أو إحجام من ناحيته عن ارتكاب الفعلة التي وإن أجازها برنامج سياسته، فلن تلقى سندًا شرعيًّا أو أخلاقيًّا لتبريرها.

فثمة حقائق إذًا لا سبيل إلى نكرانها، وهي؛ أولًا: أن النضال ضد المماليك إنما يدخل في نظام ذلك البرنامج الذي ارتسمت معالمه بصورة قاطعة في ذهن محمد علي منذ عام ١٨٠٧، والذي استهدف تقرير الباشوية الوراثية في أسرته في مصر منذ ذلك الوقت المبكر، والذي كانت دعامتاه، والمكملتان لبعضهما بعضًا توطيد حكومته، على النحو الذي شهدناه، ثم بسط سلطانه الداخلي على كل أنحاء باشويته، الأمر الذي استتبع حتمًا القضاء على المماليك. وثانيًا: أنه بالرغم من وضوح هذه الحقيقة لم يكن الغرض من الحرب التي خاض غمارها معهم إبادة المماليك وإفناءهم، بل لقد ظل محمد علي يرجو صادقًا في أثناء هذا النضال المرير أن يستطيع استمالة المماليك إلى الرضاء بسلطانه، والعيش في هدوء وسلام في ظل ما يُقطِعهم من أملاك، وما يغدقه عليهم من نعم وأرزاق، ويجعلهم على قدم المساواة في وضعهم الجديد المنتظر مع كبار قواده ورؤساء جنده — يدخلهم في صفوف جيشه، فيعزز بفرسانهم قوات مشاته، ويبعث بهم — كجزء من جيشه — إلى أرض الحجاز لاسترجاع الحرمين الشريفين من أيدي الوهابيين. وثالثًا: أنه طوال هذا النضال في مرحلته الأخيرة (١٨٠٧–١٨١١) ظل محمد علي أمينًا على عهده مع كل مستأمن من البكوات، ولم ينقُض اتفاقًا أبرمه معهم، ولم يغرِّر بهم أو يخدعهم، بل كان البكوات — كما ألمعنا — هم الذين نكثوا بعهودهم معه دائمًا، وأرادوا خديعته والفتك به، وتقويض عروش سلطانه، وتحطيم تلك الباشوية التي كانت نواة الدولة التي أنشأها في النهاية.

(١) مساعي الصلح مع البكوات

وتبدأ قصة العلاقات بين محمد علي والبكوات في مرحلتها الأخيرة هذه، من أيام «حملة فريزر»، ونجاح الباشا بفضل وساطة «مانجان» لدى البكوات في البرنبل وزاوية المصلوب في يونيو ١٨٠٧، في الوصول إلى إقناع هؤلاء بالوقوف موقف الحياد في أثناء الحرب بينه وبين الإنجليز.

ولم يقطع الباشا مساعيه من أجل الصلح معهم بعد انتهاء الحرب مع الإنجليز؛ لأنه لا يزال يخاف من أن يتحد البكوات ويزحفوا عليه من الصعيد، والجند في تمرد وعصيان، وخزانته خاوية من المال، والحكومة في القاهرة غير مستقرة، والأهلون يئنون من ثقل الضرائب والمغارم، والزرَّاع في ضنك، والأرض مهملة حتى لقد أجدب تقريبًا ثلث ما كان مزروعًا منها عند خروج الفرنسيين من مصر (١٨٠١)، ولقد كان في عزم محمد علي — على ما أكد «دروفتي» في تقريره إلى حكومته بعد ذلك في ٨ أبريل ١٨٠٨ — أن يخرج على رأس جيشه لقتال المماليك، بعد إبرام الصلح مع الإنجليز — لولا عصيان الجند في ٢٦ أكتوبر ١٨٠٧، الذي جعله يعدل عن ذلك.

بيد أن «دروفتي» يذكر في تقريره كذلك، أن غرض محمد علي من خروجه لقتال المماليك كان لإملاء شروط الصلح عليهم في الأقاليم التي يوافق الباشا اليوم على إعطائها لهم؛ أي إن محمد علي لم يكن في عزمه إثارة حرب فناء وإبادة ضدهم، ورضي بأن يظلوا في الأقاليم الواسعة التي كانت بأيديهم فعلًا في الصعيد، على شريطة الإذعان لحكومته ودفع الميري عنها، الشرط الذي اتخذه في هذه المرحلة وفي المراحل التالية أساسًا لعقد أي صلح معهم.

ووسَّط الباشا في هذا المسعى «روشتي» منذ أواخر أكتوبر، وكان شاهين بك الألفي أول مَن استجاب للصلح، وقال الوكلاء الفرنسيون في تقريرهم عن حوادث هذا الشهر: إن العروض التي عرضها عليه كانت سخية، شملت إقطاعه الفيوم التزامًا وكشوفية وفي عدة قرى في بني سويف والجيزة نفسها، فقبِل شاهين الخضوع للباشا، وأغرته هذه العروض بتناسي توصيات الألفي الكبير، فتُبودلت الرسائل بينهما. وفي ٥ نوفمبر حضر إلى القاهرة محمد كتخدا شاهين الألفي ليتباحث مع الباشا في شروط الصلح، وأسفرت المباحثة عن إعطاء شاهين إقليم الفيوم بتمامه التزامًا وكشوفية وإطلاق التصرف له فيها، إلى جانب ثلاثين بلدة من إقليم البهنسا مع كشوفيتها، وعشرة بلاد من بلاد الجيزة من البلاد التي ينتقيها ويختارها وتعجبه مع كشوفية الجيزة، وأن يكتب له بذلك تقاسيط نافذة في سائر البر الغربي، وعشرة بلاد من إقليم البحيرة مع كشوفية البحيرة بتمامها إلى حد الإسكندرية، وذلك لقاء خضوع شاهين واعترافه بسلطان محمد علي، وغادر محمد كخيا (كتخدا الألفي) القاهرة في ١٣ نوفمبر، وتهيأ الباشا لاستقباله وشرع يعد قصر الجيزة لنزوله — وكان العسكر قد خرَّبوه ضمن بيوت الجيزة الأخرى التي خرَّبوها — وأمر بإخلاء الجيزة من الجند والكاشف، فعدَّى الجميع إلى البر الشرقي وتسلم (في ٢٩ نوفمبر) علي كاشف الكبير الألفي القصر وما حوله وما به الجبخانة والمدافع وآلات الحرب وغيرها.

وأما شاهين فقد وصل يوم ٢١ نوفمبر إلى دهشور؛ حيث وجد بها في انتظاره ديوان أفندي طاهر وطوسون بن محمد علي؛ للترحيب به ولمرافقته حتى الجيزة، وأحضر شاهين معه هدية من إبراهيم بك ومحمد بك المنفوخ المرادي برسم الباشا نحو الثلاثين حصانًا ومائة قنطار بن قهوة، ومثلها سكر وأربع خصيان وعشرون جارية سوداء، قدَّم هذه الهدية لمحمد علي، محمد كتخدا وعلي كاشف، فأرسل هذا صحبتهما هدية ومعهما ولده وديوان أفندي، وخلع شاهين على طوسون فروة، وقدَّم له تقدمة وسلاحًا نفيسًا إنكليزيًّا، وكان قد بلغ شبرامنت في ٢٦ نوفمبر، فلما وصل شاهين إلى الجيزة في ٦ ديسمبر، أُطلقت مدافع كثيرة تحية لقدومه، وأولم له علي جربجي موسى الجيزاوي وليمة فاخرة، ولو أنه فرض مصروفها وكلفها على أهل البلدة، وذهب شاهين لزيارة الباشا يوم ٨ ديسمبر، في موكب عظيم، فعدَّى إلى البر الشرقي مع طائفة كبيرة من الكشاف والمماليك وعربان الهوارة، وكان الباشا قد أمر المشايخ والسيد عمر مكرم بانتظاره صحبة ابنه طوسون بك عند مصر القديمة، فتلقاه هؤلاء وسلَّموا عليه، وكان معهم طائفة من الدلاة، فتألف الموكب الذي قصد إلى القلعة من الدلاة بطبلاتهم وسفافيرهم يسيرون في الطليعة، يتلوهم الكشاف والمماليك وعمر مكرم والمشايخ، ثم شاهين الألفي وبجانبه طوسون بك، وخلفهم الطوائف والأتباع والخدم، وخلفهم النقانير، واستمر الموكب في سيره حتى وصلوا إلى ضريح الإمام الشافعي فزاروه، ثم ركبوا وساروا إلى القلعة، وطلعوا باب العزب إلى سراية الديوان، وانفصل عنهم المشايخ ونزلوا إلى دورهم، وقابل شاهين الباشا فخلع عليه فروة سمور مثمنة وسيفًا وخنجرًا مجوهرًا وتعابي، وقدم له خيولًا بسروجها، ثم تغدَّى عند طوسون في سرايه بالقلعة، ثم زار حسن باشا فأكرمه وخلع عليه أيضًا، وقدَّم له خيولًا وركب ثلاثتهم: شاهين وطوسون وحسن باشا وذهبوا عند طاهر باشا ابن أخت الباشا، فسلَّم عليه أيضًا وقدَّم له تقادم، ثم ركب شاهين عائدًا إلى الجيزة، وذهب إلى مخيمه بشبرامنت، واستمر مقيمًا بالمخيم حتى تمم عمارة القصر، وتردد كشافهم وأجنادهم إلى بيوتهم بالمدينة فيبيتون الليلة والليلتين ويرجعون إلى مخيمهم. وفي ١٠ ديسمبر، انتقل الألفية بعرضيهم وخيامهم إلى بحري الجيزة.

وجذب هذا الكرم والسخاء عددًا من كبار الألفية، الذين ملوا المنفى وتاقت نفوسهم لاستئناف حياتهم المترفة في القاهرة، فوصلها يوم ١٢ ديسمبر أربعة من صناجقهم، هم: أحمد بك الألفي، ونعمان بك وحسين بك الصغير، ومراد بك الألفي، طلعوا إلى القلعة وخلع عليهم الباشا فراوي، وقلَّدهم سيوفًا، وقدَّم لهم تقادم، ثم نزلوا إلى حسن باشا، فسلَّموا عليه، وخلع عليهم أيضًا خِلعًا، ثم ذهبوا إلى بيت صالح آغا السلحدار (سلحدار الباشا) فأقاموا عنده إلى أواخر النهار، ثم ذهبوا إلى بيوتهم التي بها حريمهم فباتوا بها، وذهبوا في الصباح إلى الجيزة.

وبالغ الباشا في إكرام الألفية، فدفع من عنده الصداق لعديلة هانم ابنة إبراهيم بك التي عقد لأحمد بك الألفي عليها في ١٦ ديسمبر، وقدر الصداق ثمانية آلاف ريال، وفي اليوم التالي نزل الباشا من القلعة، وذهب إلى مضرب النشاب واستدعى شاهين بك من الجيزة وعمل معه ميدانًا وترامحوا وتسابقوا ولعبوا بالرماح والسيوف، ثم طلع الجميع إلى القلعة، واستمر شاهين بك عند الباشا إلى بعد الظهر، ثم نزل مع نعمان بك إلى بيت عديلة هانم فمكثا إلى قبيل المغرب، ثم أرسل إليهما الباشا فطلعا إلى القلعة فباتا عنده، ونزلا في الصباح وعديا إلى الجيزة.

واعتزم شاهين الزواج من أرملة حسين بك الوشاش الألفي، الذي غدر به جماعة عثمان البرديسي وقتلوه في غضون عام ١٨٠٤ في ظروف سبق أن ذكرناها، واستأذن الباشا في ذلك، ولكن هذا قال: «إني أريد أن أزوجك ابنتي وتكون صهري، وهي واصلة عن قريب، أرسلت بحضورها من بلدي قولة، فإن تأخر حضورها جهزت لك سرية وزوجتك إياها.» وقد برَّ الباشا بوعده، فزوجه في منتصف مايو ١٨٠٨، عندما تأخر حضور ابنته، سرية انتقتها لشاهين زوجة الباشا، ونظمتها، وفرش له سبع مجالس بقصر الجيزة، وجمعوا لذلك المنجدين، وتقيد بتجهيز الشواز والأقمشة واللوازم الخواجا محمود حسن البزرجان، من كبار التجار وأصحاب الوجاهة، وكذلك زوَّج الباشا نعمان بك سرية أخرى، وعُمرت دار لسكناه وفُرشت على طرف الباشا، وكثرت الأفراح حينذاك فتزوَّج علي كاشف الكبير الألفي بزوجة أستاذه، وعمر بك الأرنئودي بجارية من جواري الست نفيسة المرادية.

وعندما شاع خبر الصلح بين محمد علي وشاهين الألفي، وما لقيه الألفية على يدي الباشا من ضروب التكريم، قرَّر أمين بك الألفي الرجوع إلى مصر، وكان هذا — كما عرفنا — قد غادر البلاد عند جلاء حملة «فريزر» عن الإسكندرية لتوسيط الإنجليز لدى الباب العالي في صالح البكوات، وقابل «السير آرثر باجيت» في ثيندوس، ثم «السير ألكسندر بول» في مالطة، ثم «الميجور مسيت» في مسينا، وقصد أخيرًا إلى طرابلس الغرب، رجاء أن تواتيه الفرصة للذهاب منها عبر الصحراء إلى مصر، فكتب «سانت مارسيل» من الإسكندرية في أول يونيو ١٨٠٨: «ينتظر حضور قافلة كبيرة من طرابلس الغرب وسائر الوجاقات تتألف من آلاف المغاربة في طريقها إلى مكة المكرمة للحج وسوف يحضر أمين بك الألفي إلى مصر مع هذه القافلة.» وفي ١٥ يونيو وصل أمين الألفي إلى القاهرة، وكتب الشيخ الجبرتي في حوادث هذا اليوم أن أمينًا قد حضر من غيبته وكان مسافرًا مع الإنكليز … فلم يزل غائبًا حتى بلغه صلح خشداشينه مع الباشا فرجع، وطلع على ردته، فأرسلوا له الملاقاة والخيول واللوازم، وحضر في التاريخ المذكور.

(٢) الصلح مع بكوات الصعيد

وأثمرت المعاملة الكريمة التي لقيها شاهين الألفي وسائر زملائه ثمرتها الطيبة، فاستطاع محمد علي الاستعانة بهم على تطويع العربان في إقليم البحيرة خصوصًا — وقد قدم ذكر ذلك — والأهم من هذا، أنه تمكَّن من توسيط شاهين الألفي في الصلح مع بكوات الصعيد من بيت مراد والبرديسي: إبراهيم بك الكبير، وعثمان بك حسن، وشاهين بك المرادي (خليفة البرديسي) وغيرهم.

ومنذ ١٦ ديسمبر ١٨٠٧ كان قد تم الاتفاق على إرسال نعمان بك ومحمد كتخدا الألفي وعلي كاشف الصابونجي إلى إبراهيم بك الكبير لإجراء الصلح، وغادر هؤلاء القاهرة في مهمتهم هذه في ذلك اليوم مزودين بمكاتبات من شاهين الألفي، وكان الغرض من مسعاهم إحضار بكوات الصعيد إلى القاهرة، يقدِّمون فروض الولاء لمحمد علي، ويعترفون بسلطانه ويعيشون في كنفه، وحتى يكونوا تحت رقابته وملاحظته، على غرار ما حدث مع شاهين وزملائه.

وكان بكوات الصعيد لا يُظهِرون نشاطًا كبيرًا في هذه الأيام بسبب انقساماتهم وخلافاتهم على مألوف عادتهم، وبسبب ما طرأ عليهم من ضعف مادي من حيث نقص أعدادهم، وما نجم عن اختلافاتهم واستئثار كل بك منهم بالنفوذ على عدد من المماليك يجمعهم حوله ويؤلف منهم حزبًا يدين بالطاعة له وحده، ثم بسبب بلوغ إبراهيم بك وعثمان بك حسن سن الشيخوخة، وهما كبيرا البكوات، بينما لم يكن شاهين بك المرادي — رئيس المرادية، وأحد المباشرين والضاربين لحسين بك الوشواش بالبر الغربي ليلة خروجهم وتعديتهم لملاقاة الألفي — يستمتع إلا بسلطة اسمية فحسب؛ وعلى ذلك فقد قبِل بكوات الصعيد المفاوضة في شروط الصلح بالرغم من معارضة إبراهيم بك وعثمان حسن اللذين انعدمت كل ثقة لهما في الباشا، وكانا لا يرضيان إلا بطرده من الباشوية، ولقد راح الوسطاء — نعمان بك ومحمد كخيا (كتخدا الألفي) والصابونجي، يبذلون قصارى جهدهم لاستمالة البكوات إلى نبذ نصيحة إبراهيم وعثمان حسن، وتقليل أنصارهما، بدعوى المعاملة — الطيبة التي سوف يلقاها بكوات الصعيد والشروط السخية التي سوف يمنحها الباشا لهم إذا قبلوا الصلح كالبكوات الألفية فنجحت مساعيهم، ولم يستمع أحد لتحذيرات إبراهيم وعثمان حسن، فقر الرأي على إيفاد مرزوق بك بن إبراهيم بك وسليم بك المحرمجي إلى القاهرة للمفاوضة في شروط الصلح.

وفي ٥ مارس ١٨٠٨ وصل مرزوق وسليم المحرمجي إلى القاهرة ومعهما علي كاشف الصابونجي، «فطلعوا إلى القلعة، وقابلوا الباشا، وخلع هذا على مرزوق بك والمحرمجي فروتين ونزلا إلى دورهما، وبدأت المفاوضة، وترددوا على الباشا وطلعوا ونزلوا إلى القلعة ومنها، وبلغوا رسائل الأمراء القبليين، وذكروا مطالبهم وشروطهم، وشروط الباشا عليهم والاتفاق في تقرير الصلح والمصالحة، واستمر ذلك عدة أيام.»

وعلَّق محمد علي آمالًا كبيرة على توفيقه في هذه الخطوة؛ لأن الصلح إذا تم مع البكوات المماليك سوف يضع حدًّا لشرورهم وغوائلهم، ويمكِّنه من بسط سلطانه على الصعيد، وكان لخضوع بكوات الصعيد في هذا الحين بالذات أهمية كبيرة؛ لأن الباب العالي قد صار يستعجله الآن — كما عرفنا — بإلحاح متزايد الخروج في جيشه إلى الحجاز، ويطلب إليه إرسال الإمدادات من مال ومؤن ومهمات لمساعدة الدولة، وحرم امتلاك البكوات للصعيد الباشا من إيرادات هذا الإقليم الغني بحاصلاته وغلاله الوفيرة، فهو يستطيع إذا قبِل هؤلاء الصلح معه على أساس الاعتراف بسلطانه — ومعنى الاعتراف بسلطانه كما أوضح الباشا نفسه في شتى المناسبات التي حصلت فيها مفاوضات الصلح أن يدفع البكوات المال أو الميري؛ أي الضرائب الحكومية لخزانة الولاية — أن يظفر بإيرادات الصعيد.

وتفاءل الباشا خيرًا من مجيء مرزوق بك وسليم المحرمجي، بعد أن تم تسليم شاهين الألفي وجماعته وصلحهم معه، فبادر بالكتابة إلى إستانبول في ١٠ مارس ١٨٠٨ «بأن نصف طائفة المماليك قد دخلوا تحت الطاعة، بينما النصف الآخر على وشك أن يحذو حذوهم في هذه الأيام، حتى صار من المتوقع بفضل خطة الباشا الحازمة والحكيمة إنهاء غوائلهم جميعًا ودفعها، وأن يستطيع سداد ما عليه من ديون — إن شاء الله — بفتح إقليم الصعيد»، ووعد بالخروج عندئذٍ إلى الحجاز ضد الوهابيين.

وقد توسَّط في هذه المفاوضة كذلك «كارلو روشتي»، ويكتب «دروفتي» إلى حكومته في ٨ أبريل ١٨٠٨ تعليقًا على هذه الوساطة، وعلى المفاوضات ذاتها: «أن البكوات في الصعيد كانوا قد رجوه التدخل في المفاوضات مع الباشا، كما طلب إليه ذلك محمد علي نفسه، ولكنه اعتذر لعدم وجود تعليمات لديه تتيح له التدخل، فاضطر الجانبان إلى توسيط «روشتي» قنصل النمسا العام، ورحَّب هذا بما عُرض عليه كل الترحيب؛ لأن هذا الدور سوف يمكِّنه من الاحتفاظ بما يتمتع به من نفوذ كبير وأكثر من اللازم في شئون مصر، وهناك ما يدعوه؛ أي «دروفتي» إلى توقيع عقد الصلح في النهاية، ولكنه يلحظ كثيرًا من التحرز من كلا الجانبين، مما يجعل المفاوضات تطول أكثر من الوقت الذي تستدعيه طبيعتها.»

واستطالت المفاوضات فعلًا، ومرد ذلك إلى تغالي بكوات الصعيد في مطالبهم؛ حيث تمسكوا ببقاء كل الأقاليم التي يملكونها فعلًا بالصعيد في حوزتهم — أي السيطرة على الصعيد بأسره ما عدا بعض المراكز القليلة — كما أنهم نفروا من الحضور إلى القاهرة، ولم يشأ محمد علي قطع المفاوضة، ولم يشأ في الوقت نفسه التسليم بمطالبهم المتطرفة، فراح يمد في أجلها ما استطاع إلى ذلك سبيلًا، لعل وكلاءه في المعسكر المملوكي يستطيعون إشاعة الانقسام والفرقة بينهم وزيادة الخلافات الناشئة بين مختلف أحزابهم حدة على حدتها، فيحملهم وهنهم واتضاح عدم جدوى المعارضة لهم على قبول شروطه، فصار يتعلل بضرورة إخضاع العربان وانشغاله بأمرهم، وقد استخدم في ذلك شاهين الألفي على نحو ما مر بنا، فظلت تتجدد الهدنة بين البكوات وبين محمد علي طوال الشهور التالية، حتى حدث أن تُوفي شاهين بك المرادي بمنفلوط في ١١ مايو ١٨٠٨.

فتهيأ بفضل هذا الحادث لمحمد علي إنهاء المفاوضة على شروطه، وذلك أنه بادر بمجرد ورود الخبر في ١٥ مايو بموت شاهين المرادي، بتعيين سليم بك المحرمجي رئيسًا للمرادية، وقبِل هذا شروط الباشا، فيقول «سانت مارسيل» في أول يونيو: إن الصلح قد عُقد على أساس أن يظل الصعيد ابتداءً من المنيا فقط في أيدي البكوات، وبشريطة أن يدفع هؤلاء الميري عن الأقاليم التي بقيت لهم، وذلك ابتداءً من العام المقبل، وأيَّد أخبار هذا الصلح على القواعد المذكورة «دروفتي» في تقريره الذي رفعه إلى حكومته وقتئذٍ، وغادر المحرمجي القاهرة إلى الصعيد، وانتظر الباشا تصديق البكوات على هذا الصلح، وقبِل البكوات في أول الأمر شروط الباشا وصدَّقوا على الصلح، وكان الباشا منذ ١٥ مايو قد قلَّد مرزوق بك ولاية جرجا وإدارة الصعيد، وألبسه الخِلع، وشرط عليه إرسال المال والغلال الميرية، وذلك كما رأى الباشا حتى يزول أي شك لديه في صدق نواياه. وذكر الشيخ الجبرتي الآثار التي ترتبت على عقد الصلح بين الباشا والبكوات، فقال: «وعند ذلك اطمأنت الناس، وسافرت السفار والمنتسبون، ووصل إلى السواحل مراكب الغلال والأشياء التي تُجلب من الجهة القبلية»، وذلك من أواخر يونيو إلى أواخر الشهر التالي. وقال «دروفتي»: إن مرزوق بك عند ذهابه إلى الصعيد كان يحمل إنذارًا من الباشا لإخوانه، أنه مصمم على شروط الصلح هذه ولا يقبل نقضها.

(٣) البكوات ينقضون الصلح

وكان الباعث على توجيه هذا الإنذار إلى البكوات، أن هؤلاء بعد موافقتهم الأولى على الصلح، ما لبثوا أن عملوا على نقضه، فقد نجحت مساعي وكلاء الباشا في معسكرهم، فغادره كثيرون من المماليك والأتباع الذين آثروا الاستمتاع بحياة الترف في القاهرة، وأغراهم سخاء الباشا على التسليم له، وعلاوة على ذلك، فقد كان تعيين سليم بك المحرمجي رئيسًا على المرادية (بيت مراد والبرديسي) عملًا جريئًا وخطوة خطيرة؛ لأن البكوات في الصعيد كانوا يسلكون مسلك المستغلين، ويتفاوضون كالأنداد مع الباشا، ولم يحدث قط أن الباشوات الذين تولوا بالقاهرة، أو الباب العالي نفسه في القسطنطينية، رأوا أن من حقهم التدخل في مسألة تعتبرها هذه الطائفة المملوكية العسكرية مسألة عائلية ومن شئونهم وحدهم، فكان معنى تدخل الباشا الآن في هذه المسألة، أنه قد صار لديه من القوة ما يجعله قادرًا على هذا التدخل، لا سيما وقد أشار الباشا نفسه إلى هذا المعنى عندما قال وقت تعيينه للمحرمجي رئيسًا للمرادية: إن باشويته على الديار المصرية تخوِّله هذا الحق، بفضل ما تعطيه له هذه الباشوية من سيادة كاملة على البلاد بأسرها، ثم جاء إعطاؤه الحكم في جرجا وإمارة الصعيد لمرزوق بك مؤيدًا لهذه السيادة الكاملة، ولم يَسَع المحرمجي ومرزوق بن إبراهيم الكبير إلا الرضوخ لإرادة الباشا.

وكان واضحًا أن غرض محمد علي من خطوته هذه أن يزيد في إشاعة الانقسام والخلاف في صفوف البكوات، وإثارة الأحقاد بينهم حتى يحملهم ضعفهم على قبول الاتفاق معه بشروطه المعروفة، كما أنه أراد أن يعوِّد أعداءه وخصومه، مثلما عوَّد أنصاره، على قبول الأمر الواقع والرضوخ لتلك السلطة التي يمارسها فعلًا، ولم يدهش تدخل الباشا في شئون المماليك القاهريين والأهالي عمومًا، وهم الذين صاروا — على نحو ما أشرنا سابقًا — يؤمنون الآن أكثر من أي وقت مضى بسلطان الباشا، وبأن لمصر سيدًا واحدًا فقط هو محمد علي.

ولكن هذا التدخل أدهش البكوات، بل وأثار في نفوسهم الخوف في الوقت نفسه؛ لأنه كان المرة الأولى التي يحدث فيها هذا التدخل من أجنبي عنهم في شئونهم؛ ولأنه كان يدل على أن السلطة الجديدة قد بلغت درجة عظيمة من الاستقرار والقوة جعلتها تجرؤ وتتجاسر، وهي في مكانها البعيد في القاهرة على اتخاذ هذه الخطوة، وأحدث هذا الخوف أثره، فقد ثار عديدون من البكوات ضد تعيين سليم المحرمجي رئيسًا للمرادية، ولكن لم يلبث أن تغلب فريق آخر رأى من الحكمة — تجنبًا لاتساع شقة الخلاف بينهم — تلافي الموقف باختيار سليم المحرمجي، والتصديق على تعيينه، ويقول المعاصرون: إن ما وقع بين البكوات يكفي وحده دليلًا على مبلغ الضعف الذي صاروا فيه وقتئذٍ.

ومع ذلك فقد امتنع البكوات عن دفع الميري المطلوب منهم بمقتضى شروط الصلح، لا نقدًا ولا عينًا؛ أي غلالًا، وفسَّر «دروفتي» عدم وفائهم بوعودهم بقوله في كتابه إلى حكومته في ١٢ يوليو ١٨٠٨: «إن شروط الاتفاق الذي تم بينهم وبين محمد علي تتطلب وجود ثقة متبادلة بين الطرفين من المتعذر إنشاؤها؛ لأنه لم يكن في مقدور المماليك البكوات أن يجمعوا أمرهم على دفع الميري المطلوب منهم، فبالرغم من ضعفهم والانحلال الذين هم فيه، والذي يمكن القول بأنه يتفاقم يومًا بعد يوم، فإنهم عاجزون عن التخلي عن فكرة التنازل عن امتلاك مصر لصالح العثمانلي.»

وكرَّر محمد علي مطالبتهم بدفع الميري، ولكن دون جدوى، وظل الحال على ذلك حتى شهر سبتمبر، فيذكر «سانت مارسيل» في ٢١ سبتمبر «أن الصلح مع البكوات لم يتم دعمه وتأييده، ومع ذلك فكل شيء هادئ في الصعيد، ولو أن البكوات يرفضون دفع الميري عن إقطاعاتهم، ودفع الميري كما هو معلوم الشرط الأساسي لهذا الصلح»، فلم يكن في وسع البكوات بالرغم من عدم إذعانهم أن يقاوموا حكومة محمد علي أو أن يجبروه على تركهم وشأنهم، والعلة في ذلك انقساماتهم وخلافاتهم، حتى إن المرادية طردوا سليمان كاشف البواب وأربعة من الكشاف من الصعيد، فحضر هؤلاء إلى القاهرة في ديسمبر لاجئين إلى الباشا، فرحَّب هذا بهم، وخلع على سليمان وأعد له دارًا لسكناه.

وكان واضحًا أن استمرار الحال على هذا المنوال متعذر، ولا معدَى عن لجوء الباشا إلى وسائل أخرى لإرغام البكوات على تنفيذ شروط الصلح الذي سبق أن وافقوا عليه ثم راحوا ينقضونه، وكان محمد علي قد أمهلهم مرة أخرى، وآخرها إبان جولته في الوجه البحري في رحلته التي سبق ذكرها، والتي استغرقت من أواخر أغسطس إلى أواخر سبتمبر ١٨٠٨، وكانت عودته منها يوم ٢٢ منه، فلما علم يوم وصوله أن البكوات لا يزالون ممتنعين عن دفع المال والغلال (الميري) بالرغم من تكرار الطلب عليهم أن يفعلوا، أمر بتجهيز حملة ضدهم، وشرع يستعد لها.

وسببُ إصرار الباشا على إلزام البكوات الوفاء بعهودهم ودفع الميري نقدًا أو عينًا أن الباب العالي استمر يطالبه بإنفاذ الإمدادات المطلوبة لحرب الوهابيين، وقد تقدم كيف أن محمد نجيب كتخدا الباشا في القسطنطينية كتب إليه منذ ١٧ ديسمبر ١٨٠٨، أن ترتيبات الحملة المرسلة ضد الوهابيين قد انتهت، وذلك بإسناد سر عسكرية الحجاز أو قيادة الحملة العامة مع إيالة الحبشة إلى الصدر الأعظم الأسبق يوسف ضيا باشا، وأنه عند تحرك محمد علي من مصر عندما يتحدد موعد تحرك يوسف ضيا المنتظر حدوثه قريبًا في السنة القادمة (١٨٠٩) يجري حينئذٍ ما يلزم اتخاذه من إجراءات لإحالة إيالة أو ولاية جدة إلى محمد علي، فكان لزامًا على الباشا أن يصر على تحصيل الميري من البكوات حتى يتسنى له الاستعداد للخروج إلى الحجاز.

(٤) البكوات يطلبون الصلح

ولكن حتى شهر مارس ١٨٠٩، لم يكن البكوات قد أوفوا بعهودهم، بل استمروا يسعون للتنصل من التزاماتهم، وخُيل إليهم أن في استطاعتهم التأثير على الباشا بالهدايا وبذل الوعود الطيبة فحسب حتى يعدل عن تشدده، فأوفدوا إليه رضوان كتخدا البرديسي، ومعه أجوبة وهدية وفيها خيول وجوارٍ وعبيد وسكر وخصيان، وكان الباشا حينئذٍ عند الترعة الفرعونية منهمكًا في سدها منذ منتصف شهر فبراير، فقابله رضوان كتخدا البرديسي هناك، ولكن بدلًا من نزوله عن عزمه «اغتاظ الباشا وقال: أنا لست أطلب إحسانهم وصدقاتهم، حتى إنهم يضحكون على ذقني بهذه الأمور، وحيث إنهم لا يرجعون عن الكامن في رءوسهم فلا بد من خروجي إليهم ومحاربتهم، وأرسل إلى مَن بمصر من الأكابر يأمرهم بالبراز والخروج، فخرج حسن باشا وصالح آغا قوج وطاهر باشا وأحمد بك والكثير من أعيانهم بعساكرهم، وعدوا إلى بر الجيزة ونصبوا وطاقهم وخيامهم، وحضر أيضًا نعمان سراج باشا من عند إبراهيم بك، وقابل الباشا على الترعة، فلم ينفع حضوره أيضًا، فلم يُسمع له قول، ورجع مزيفًا.

وعندئذٍ لم يزل رضوان كتخدا يلاطفه حتى توافق معه على وعد، مقدار مسافة ذهاب الجواب ورجوعه أيامًا معدودة.»

ورجع الباشا بعد ذلك إلى القاهرة، وفي ١٨ مارس ١٨٠٩، اهتم بإخراج التجريدة إلى الصعيد، «فأخذ في التشهيل والخروج، واستمر انتقال العساكر إلى البر الغربي، وأخذ يستحث في المطلوبات وخروج الخيام وجمع المراكب، وسافر قبودان بولاق إلى جهة بحري لجمع المراكب، وفرضوا على القرى غلالًا وجمالًا.»

وأزعجت هذه الاستعدادات بكوات الصعيد أيما إزعاج، وحاولوا إثناء الباشا عن عزمه على محاربتهم، وسؤاله أن يمهلهم بعض الوقت للوفاء بالتزاماتهم، فأوفدوا إليه علي بك أيوب ورضوان بك البرديسي (وهو غير رضوان كتخدا البرديسي) فحضرا إلى القاهرة يوم ٢٢ مارس، «وطلعا إلى القلعة، وتقابلا مع الباشا، وانخضع له علي بك أيوب، وقَبَّل رجله وترجَّى عنده في عدم خروج التجريدة، وكلَّمه في أمر الغلال المنكسرة والجديدة وعلى أنهم يقومون بدفع الغلال القديمة بالثمن، والجديدة بالكيل، وليس عندهم مخالفة والقصد الإمهال إلى حصاد الغلال، فقال الباشا: إنهم إذا حصدوا الغلال أخذوها وفروا إلى الجبال.»

واستمر المندوبان يتوسلان للصلح وعدم خروج الحملة إلى الصعيد، مدة أربعة أيام بتمامها، وراقب القاهريون باهتمام زائد سير المفاوضات وقد تاقت نفوسهم لنجاحها وإتمام الصلح؛ «لما يترتب على استمرار العداء بين الباشا والبكوات وما يحصل من الفساد وأكل الزروعات وخراب البلدان، فإن الجند أكلوا في الأربعة أيام التي ترددوا فيها بالجيزة نيفًا وخمسمائة فدان، ولما أُشيع بالجهة القبلية خروج العساكر للتجريدة انزعج الناس وألسوا من زروعاتهم، وخرجوا من أوطانهم على وجوههم لا يدرون أين يذهبون بأولادهم ونسائهم وقصاعهم، وتفرقوا في مصر (القاهرة والبلاد البحرية)؛ ولذلك فإنه عندما أُشيع الصلح في ٢٥ مارس فرح الناس واستبشروا بذلك، وعندما تبين لهم كذب ذلك في اليوم التالي وأُشيع خروج العساكر ثانيًا انقبضت النفوس ثانيًا وبات الناس في نكد، وطُلبت السلف من المساتير والملتزمين وكُتبت الدفاتر وحُولت الأكياس، وانبث المعنيون للطلب.»

على أن الطمأنينة عادت إلى النفوس عندما بطل أمر التجريدة يوم ٢٧ مارس، وتوصل المندوبان إلى عقد الصلح مع الباشا على شروط، وهي: أنهم؛ أي البكوات التزموا بتأدية ثلث ما عليهم من غلال الميري، وقدره مائة ألف إردب وسبعة آلاف إردب، بعد مناقشات ومحققات، والذي تولى المناقشات معهم مساعد الباشا: شاهين بك الألفي، وعلى أن يدفع البكوات الميري سنويًّا وقدره ثلاثمائة ألف قرش عثماني، وأعطوا مهلة واحدًا وثلاثين يومًا، وغادر القاهرة إلى الصعيد علي بك أيوب ورضوان بك البرديسي بعد أن أكرمهما الباشا وخلع عليهما، وكتب «سانت مارسيل» إلى حكومته من الإسكندرية في ١٣ أبريل، أن بكوات الصعيد وقد تفاوضوا من جديد مع الباشا، فإن التفاهم لا يزال قائمًا بين الطرفين.

ولكن منذ ٢٩ أبريل راح «دروفتي» يكتب من القاهرة: «أن موعد انتهاء الهدنة قد قرب ولم يبقَ سوى أيام قليلة على انتهائها، ومع أن كلا الطرفين (الباشا والبكوات) يجدان في التسلح، ففي وسع المرء الاعتقاد بأن تقرير الصلح لا يزال ممكنًا»، وأن «دروفتي» كان لا يؤمن في قرارة نفسه بأن السلام سوف يسود بين الفريقين، ولكن كان مبعث تفاؤله ما أظهره الباشا من تساهل، وموافقته على مد أجل الهدنة.

وحقيقة الأمر أن الباشا أمهل البكوات ثلاثة شهور، ودأب البكوات على المراوغة، ونفَّذوا من الاتفاق شطره المناسب لهم، فحضر في ٢٣ مايو إلى القاهرة مرزوق بك بن إبراهيم بك وقاسم بك سلحدار مراد بك وعلي بك أيوب، وحضر معهم سليما آغا مستحفظان، ولو أن هذا الأخير مذكور في الحضور، بل كان منجمعًا وممتنعًا عن التداخل في هذه الأحوال، وكان سبب حضوره أن زوجته تُوفيت وأراد أخذ تركتها ومتاعها ومتاعه الذي عندها وحصصها، ولكنه وجد الباشا استولى على ذلك وأخذ المتاع والمصاغ والجواهر والعقار وأخذ الحصص وحلوانها، وذلك بيد محمود بك الديودار، فلما حضر سليم آغا لم يجد شيئًا، لا دارًا ولا عقارًا ولا نافخ نار فحضر إليه محمود بك الديودار والترجمان وأخذا بخاطره وطمناه وأخبراه أن الباشا سيعوِّض عليه ما ذهب منه وزيادة وزرعًا له فوق السطوح، فلم يسعه إلا التسليم.

ومضى شهر يونيو، ولم يوفِّ البكوات بعهودهم، وفي ٢٨ يونيو غادر القاهرة إلى الصعيد علي بك أيوب وسليم آغا مستحفظان، وبقي مرزوق بك وقاسم بك المرادي.

(٥) البكوات ينقضون الصلح مرة ثانية

ثم انقضى شهر يوليو والنصف الأول من شهر أغسطس، دون أن يفي البكوات بعهودهم، فهم لم يدفعوا المطلوب منهم عن السنة التي تم الاتفاق عليها، وقاربت السنة التالية الانتهاء كذلك دون أن يبدو منهم ما يدل على رغبتهم في الدفع؛ ولذلك فقد قرَّر الباشا مناجزتهم، وكتب «دروفتي» إلى حكومته من القاهرة في ٢١ أغسطس أن المفاوضات بين محمد علي والبكوات لم تثمر الثمرة المنشودة، ويعتزم الباشا الآن إرسال جيش للاستيلاء على القرى والمدن الواقعة على ضفتي النيل، ولا يرى «دروفتي» في هذه العملية أية صعوبة؛ نظرًا لارتفاع مياه النهر الذي يحرم المماليك من استخدام فرسانهم، ويستعد كذلك البكوات للذهاب إلى القرى المجاورة للصحراء، وسوف يكون وقت اشتباك القوتين عند انخفاض مياه النهر وانحسارها عن الأراضي القريبة منه.

والواقع أن عديدين وقت إبرام الاتفاق اعتقدوا أن البكوات لن يوفوا بالتزاماتهم بالرغم من الاعتدال الذي أظهره الباشا وعدم تعنته معهم، فقد كتب «دروفتي» نفسه من القاهرة في ٩ أبريل: «إن هذا الاتفاق المبرم بين الباشا والبكوات شأنه — كما سبق أن أوضح ذلك في تقرير لحكومته بتاريخ ١٠ يناير ١٨٠٩ — شأن كل ترتيب مثالي لا يستند على أساس أو نظام معين، ولا يوجد أي ضمان لتنفيذه، وصفوة القول هو مثال لذلك الفشل الذريع الذي لا مناص من ترتبه على كل مفاوضات لا تقوم على شيء من المنطق والواقع؛ ولذلك فإن البكوات عند كتابة هذا التقرير قد خرقوا المعاهدة ولم يوفوا بأي عهد من عهودهم بدعاوى لا يرى من المفيد ذكرها.»

ولقد استطرد «دروفتي» وقتئذٍ فقال: «إن مفاوضات جديدة قد بدأت، وانتهت منذ شهر إلى تقرير هدنة مدتها شهر واحد، ويعتقد الباشا في احتمال الوصول إلى تفاهم مع البكوات، ومركزه يوجب عليه الرغبة في الوصول إلى هذا التفاهم، والباشا يرجو أن يقبل البكوات مقترحاته الأخيرة.» وسرد «دروفتي» تفاصيل هذه المقترحات فيما لا يختلف عما ذكرناه عنها، ثم أنشأ يقول: «وما طلبه الباشا من البكوات كان معقولًا وفي حدود الاعتدال تمامًا، ولكن البكوات إذا قبلوا هذه التضحية الصغيرة فعلًا، فإنهم يكونون قد فعلوا ذلك بأسى وألم بالغ؛ لأن هذا الاتفاق يضعهم موضع الخاضعين لسلطان الباشا، في الظاهر على الأقل، وزيادة على ذلك فإنهم لن يقبلوا هذا الاتفاق إلا بتحفظ ذهني دائمًا؛ أي مع التصميم على انتهاز أول فرصة سانحة لنبذه ظهريًّا والتحلل منه، ولكن أعداد المماليك — لسوء حظهم — لا تزال تقل وتنقص باضطراد يومًا بعد آخر، وليس لديهم زعماء في قدرتهم اتخاذ قرارات من النوع الحاسم الخطير، ويفقد إبراهيم بك باستمرار منزلته عند أتباعه وصغار البكوات بسبب شيخوخته، ويقل اعتباره في أعينهم بدرجة تقدمه في السن، وبيت مراد والبرديسي منقسم إلى أحزاب بدرجة عدد صناجقه — وهؤلاء الأخيرون كثيرون — حتى إن الواحد منهم لا يتجاوز عدد مماليكه الستة، وبمعسكر شاهين بك الألفي، خليفة الألفي الكبير حوالي الاثني عشر من البكوات، زد على ذلك ما يُشاع من أن المماليك في هذه الظروف يستمعون لنصح أشخاص يهمهم في واقع الأمر أن تشل حركتهم.»

ولقد أخطأ البكوات بعدم الوفاء بعهودهم خطأ كبيرًا، ليس فقط لأنهم كانوا بسبب انقساماتهم وخلافاتهم ضعافًا، ولا قدرة لهم في ظروفهم التي ذكرها «دروفتي» على مقاومة محمد علي، بل ولأن الباشا في أبريل ١٨٠٩ والشهور القليلة التالية، كان قد بسط سلطانه تمامًا على القاهرة، وعلى الوجه البحري بأجمعه، حتى إن ما حدث من ازدياد استقرار حكومته لم يلبث أن ظهر أثره في إنعامه بسلطته الخاصة على ولديه إبراهيم وطوسون برتبة الباشوية، وخصَّص لكل منهما عددًا من الجند والحرس يتناسب مع مركزه، واستقدم سائر أفراد أسرته من «قولة» وأسرات أعوانه — مما سبق تفصيله كله — الأمر الذي دل على اطمئنان محمد علي لنفوذه وسلطانه في باشويته من جهة، وحرصه على اتخاذ الوسائل التي تكفل تأكيد هذا النفوذ والسلطان من جهة أخرى، لما تنطوي عليه هذه الخطوات من إظهار أن أسرته صاحبة السلطة الفعلية في البلاد، وتعويد الأهلين على انتظار استقرار حكومته في مصر، وحتى يقتنع البكوات المماليك أنفسهم بأن الحكم باقٍ في يده.

وفضلًا عن ذلك، فقد فرغ الباب العالي أخيرًا من وضع الخطة اللازمة لمحاربة الوهابيين، وقد شاهدنا كيف أبلغ محمد علي في ٦ مايو ١٨٠٩ نبأ تعيين يوسف ضيا نهائيًّا قائدًا عامًّا لعسكر الحجاز، على أن يتحرك سليمان باشا والي بغداد من جهة الحسا والدرعية، وأن يتحرك محمد علي للهجوم على جدة وينبع، فيسرع يوسف ضيا بالزحف عند حركتهما، وأمام هذه التبليغات وخروج مشروع حملة الباب العالي ضد الوهابيين إلى حيز الوجود لم يعد هناك مناص من إرغام البكوات على الخضوع والوفاء بالتزاماتهم عندما توقع الباشا أنه سوف يضطر بدوره إلى إرسال جيشه إلى الحجاز عاجلًا أو آجلًا، وكان الباشا علاوة على ذلك يعتمد على استطاعته إذا تم الصلح مع البكوات أن يلحق فرسانهم بجيشه الخارج إلى الحجاز.

أضف إلى هذا أن محمد علي كان يتوقع انتهاء الحرب قريبًا بين فرنسا والنمسا في صالح فرنسا (وقد وقَّعت النمسا — كما عرفنا — صلحًا منفردًا مع الإمبراطور نابليون في شونبرون Schönbrünn — صلح فينا — في ١٤ أكتوبر ١٨٠٩)، فكان من رأي محمد علي أن خروج النمسا من الميدان وترك إنجلترة تتحمل العبء الأكبر من النضال وحدها ضد فرنسا سوف يزيد من مكانة ونفوذ فرنسا في القسطنطينية ويمكِّنها من استمالة الباب العالي لإعلان الحرب على إنجلترة، ومع أن هذه ظلت تبذل جهدها للحيلولة دون ذلك ولعقد محالفة بين تركيا والنمسا وإنجلترة ضد فرنسا على النحو الذي سبق لنا توضيحه، فقد ظل محمد علي في شهري أغسطس وسبتمبر ١٨٠٩ يتوقع فشل المفاوضات بين إنجلترة وتركيا لعقد المحالفة المنشودة بسبب انتصارات الإمبراطور في معركتي «إكموهل» Echmühl في ٢٢ أبريل ١٨٠٩، و«واجرام» Wagram في ٩ يوليو ١٨٠٩، بل توقع أن تعلن تركيا الحرب على إنجلترة، واعتقد أن الإنجليز عند قيام الحرب سوف يبادرون باحتلال مصر تأمينًا لممتلكاتهم في الهند ضد فرنسا، وكان من المنتظر في هذه الحالة أن يحاول الإنجليز الاعتماد على البكوات المماليك في تأييد حملتهم على مصر، وفي هذه المرة سوف يبذلون قصارى جهدهم لإقناع البكوات بالتعاون الفعلي معهم، وعدم الاكتفاء بموقف الحياد الذي وقفوه أيام حملة «فريزر»، ولما كان البكوات قد أخلوا بعهودهم مع الباشا ولم ينفذوا اتفاقهم معه، وظلوا معتصمين بالصعيد، فقد توقع محمد علي أن يتعاونوا في هذه المرة مع الإنجليز، ووجب عليه — لذلك — أن يفرغ من إخضاعهم لسلطانه قبل تحقق هذه الأخطار التي توقعها، وذلك إما سلمًا بالاتفاق معهم واستمالتهم إلى الحضور للقاهرة والإقامة بها تحت إشرافه ومراقبته، وإما حربًا بقتالهم وهزيمتهم وسحق قواتهم تمامًا، وإرغامهم بذلك إرغامًا على الخضوع له والإذعان لطاعته.

وعلى ذلك فقد شرع منذ منتصف شهر أغسطس ١٨٠٩ يرسل قواته إلى الصعيد، فخلع في ١٤ منه على ثلاثة من الأجناد المصرية (المماليك) المنسوبين لسليمان بك البواب، وقلَّدهم صناجق وأمراء وضم إليهم عساكر أتراك وأرنئود ليسافر الجميع إلى الجهة القبلية، ثم إنه عيَّن للسفر أيضًا أحمد آغا لاظ، وصالح قوج، وبونابرتة (الخازندار) وحسن باشا وعابدين بك، فارتجت البلد، وطلبوا المراكب، وفي ٢١ أغسطس غادر القاهرة أحمد آغا لاظ وصالح قوج، خرجوا بعساكرهم ونزلوا في المراكب، وذهبوا إلى قبلي، وفي ٣٠ أغسطس سافر مَن كان متأخرًا إلى الجهة القبلية، ولم يبقَ منهم أحد.

وتقدم الجيش الزاحف على الصعيد، في الأيام الأولى من شهر سبتمبر، وعجز البكوات عن المقاومة، فصار المماليك يفرون، في كل مكان يظهر فيه جنده، تاركين شاطئ النيل، ملتجئين إلى الجبال في جرجا وأسيوط للتحصن بها، ورأى الباشا في تقهقر البكوات المستمر دليلًا على ضعفهم وخوفهم، أو رغبتهم في حقن دمائهم، وتأكد لديه أن وجوده على رأس جيشه سوف يفضي إلى تسليمهم وخضوعهم السريع معتمدًا على قدرته أثناء وجوده بالصعيد على إشاعة الفوضى في صفوفهم، وزيادتها حدة على حدتها، فيتسنى له بفضل ذلك حملهم على الاتفاق معه، أو على الأقل إضعافهم بسبب زيادة هذا الانقسام والحيلولة دون تكتلهم ضده، فقرَّر اللحاق بجيشه، ثم إنه اعتزم أن يصحب معه في هذه الحملة الكبيرة ولديه إبراهيم وطوسون، ثم شاهين بك الألفي، حتى يوسطه في المفاوضة مع البكوات عندما يجد هؤلاء أن لا مناص لهم من قبول الاتفاق معه والوفاء بعهودهم.

وأطلع الباشا «دروفتي» على أسباب تجهيز هذه الحملة والغرض من إرسالها وذهابه لقيادتها بنفسه، فكتب القنصل الفرنسي إلى حكومته في ٩ سبتمبر ١٨٠٩: «أنه لما كان محمد علي يعتقد أن الحرب بين فرنسا والنمسا تقترب من نهايتها، ويتوقع أن يعلن الباب العالي الحرب على إنجلترة، فتعمد هذه حينئذٍ — كي تحول دون وقوع تهديد قد تتعرض له ممتلكاتها في الهند من جانب فرنسا — إلى محاولة الاستيلاء على مصر حتى تكون قريبة من ممتلكاتها هذه، فقد صار ضروريًّا أن يحطم الباشا قوة البكوات المماليك إذا أخفق في الوصول إلى اتفاق معهم، يضمن مؤازرة هؤلاء لجيشه ضد الإنجليز عند نزول حملتهم في مصر؛ وذلك لأن الباشا يخشى أن يترك البكوات في هذه المرة موقف الحياد الذي وقفوه أيام حملة «فريزر»، وأما الضمان لذلك فهو حضورهم للإقامة في القاهرة تحت ملاحظته.»

ولعل هذا الاهتمام البالغ الذي ظهر من ناحية الباشا بأمر هذه التجريدة، هو الذي حدا بالشيخ الجبرتي أن يعزو خروج الباشا نفسه وولديه وكبار قواده إلى «وصول أخبار عن التجريدة التي خرجت منذ أواخر أغسطس أزعجت الباشا فاهتم اهتمامًا عظيمًا وقصد الذهاب بنفسه، ونبَّه في جميع كبراء العساكر بالخروج، وألَّا يتخلف منهم أحد، حتى أولاده إبراهيم بك الدفتردار وطوسون بك، وأنه هو المتقدم عنهم في الخروج يوم الخميس (١٣ سبتمبر)، واستعجل التشهيل والطلب.»

وفي ١٣ سبتمبر سافر الباشا إلى الجهة القبلية فعلًا، وتبعه العساكر وأقام كتخدا بك محمد آغا لاظ، قائممقامه، واستقر هذا بالقلعة، وفي ٢٣ سبتمبر سافر حسن باشا وعساكر الأرنئود، وبعد يومين خرجت الدلاة والأرنئود وباقي الأجناد والعسكر وبلغ جيشه حوالي الستة آلاف مقاتل، فلم يلبث أن ظهر التردد والانقسام في صفوف البكوات.

وكان هؤلاء قد اعتقدوا أن الباشا لن يستطيع تجهيز هذه الحملة الكبيرة ضدهم، والخروج بنفسه لقيادتها؛ لما يعرفونه من حاجته الملحة إلى المال، ولتوالي فرار الجند من جيشه بسبب عدم دفع مرتباتهم المتأخرة لهم، ولكن سرعان ما تبينوا خطأهم وانقسموا في ترددهم إلى فريقين: أحدهما أراد الاتفاق، والآخر صمَّم على القتال، ولكن هذا التردد والانقسام كانا كافيين وحدهما لِأَنْ يجعلا إقدامهم على الحرب مستحيلًا.

(٦) البكوات يقبلون الصلح ويضمرون العداء

وعلى ذلك ما إن وصل الباشا إلى أسيوط، حتى عرض على كل واحد من البكوات مقترحات منفصلة للصلح، وتعذر على هؤلاء أن يجمعوا كلمتهم على أمر، فطلب عثمان بك حسن وإبراهيم بك — وهما أكبر مناوئي الباشا إصرارًا على عدم الصلح — الاتفاقَ معه، وكان عثمان حسن البادئ في توقيع اتفاق يوائم بين رغباته ومصلحة محمد علي وحذا حذوه آخرون، وقبل إبراهيم الصلح، وأوفد ابنه مرزوق إلى معسكر الباشا، وكان هذا تسليمًا سريعًا بلغت أخباره القاهرة حثيثًا، فتحدث الناس بروايات عن الباشا والأمراء المصريين وصلحه معهم، وأن عثمان بك حسن ومحمد بك المنفوخ ومحمد بك الإبراهيمي وصلوا عند الباشا وقابلوه، وأنه أرسل إلى إبراهيم بك الكبير ولده طوسون باشا، فتلقاه وأكرمه، وأرسل هو أيضًا ولده الصغير إلى الباشا فأكرمه.

وفي هذه المرة لم يعرض الباشا على البكوات اتفاقًا يترك لهم التمتع بإيرادات مديريات بأكملها كما كان يحدث في السابق، بل أصرَّ على مطالبتهم بدفع الميري، بل وكل الإتاوات والفرض الاستثنائية كذلك، شأنهم شأن سائر الرعايا في باشويته، وتشبث بوجوب تركهم الصعيد والحضور إلى القاهرة للإقامة بها، وظهر إلحاح محمد علي في التمسك بهذا الشرط الأخير؛ لأن بدونه لم تكن هناك فائدة ما من الاتفاق مع البكوات الذين أبوا وهم بعيدون عن القاهرة على نكث عهودهم معه — نقول ظهر إلحاحه هذا لدرجة أثارت معارضتهم له — ولكنهم أُرغموا في النهاية على قبوله كرهًا منهم (في ٥ نوفمبر ١٨٠٩) وطلبوا إمهالهم لتنفيذه ثلاثة شهور؛ لتسوية شئونهم في الصعيد فأجابهم الباشا إلى ما طلبوا.

وغادر محمد علي أسيوط فوصل القاهرة في ٢ ديسمبر، قال الشيخ الجبرتي إنه وصلها في تطريدة فقطع المسافة من أسيوط إلى ناحية مصر القديمة في ثلاثين ساعة، وصحبه في هذه التطريدة ابنه طوسون وبونابرتة الخازندار وسليمان آغا وكيل دار السعادة سابقًا، ثم بعد وصول الباشا بثلاثة أيام، وصلت طوائف العسكر وعظائمهم، وفي ٨ ديسمبر، وصل حسن باشا وطوائف الأرنئود وصالح قوج والدلاة والترك، ووصل القاهرة كذلك شاهين بك الألفي، وصحبته محمد بك المنفوخ المرادي ومحمد بك الإبراهيمي، وهما اللذان حضرا في هذه المرة من المخالفين وتناقل الناس أن البواقي أخذوا مهلة لبعد التحضير. وحضر إبراهيم بن محمد علي وباقي العسكر في اليوم التالي.

وارتاح محمد علي للاتفاق الذي عقده مع البكوات في الصعيد، فكان أمله عظيمًا في أن البكوات سوف يوفون بعهودهم هذه المرة وسوف يحضرون إلى القاهرة فتنتهي بفضل ذلك مشاغله من ناحيتهم، وبعد يومين من وصوله كتب «دروفتي» إلى حكومته من القاهرة في ٤ ديسمبر ١٨٠٩، «أن الباشا قد أطلعه بعد عودته على نتائج حملته في الصعيد، ويبدو له مما وقف عليه من الباشا نفسه أن القسم الأكبر من البكوات قد قبلوا الحضور للإقامة إما بالجيزة وإما بالقاهرة، وأنهم قد خضعوا لدفع الميري والإتاوات الأخرى الاستثنائية التي يريد الباشا أن يفرضها على أملاكهم بالصعيد، مما ينهض دليلًا على أن الباشا قد استطاع أن يحقق — على الأقل — جزءًا من أغراضه التي سعى إليها عندما أرسل جيشه ضدهم، فقد أحضر محمد علي معه محمد بك المنفوخ، وهو من أكبر بكوات بيت مراد نفوذًا، ويقول هذا الصنجق: إن إبراهيم بك وعثمان بك حسن وزملاءهما سوف يحضرون جميعًا إلى القاهرة بعد ثلاثة شهور، وهي المدة التي أمهلهم بها الباشا حتى ينظموا شئونهم في الصعيد.»

ولكن «دروفتي» في هذه المرة أيضًا كالمرات السابقة استمر يشك كثيرًا في إمكان نجاح هذا الاتفاق، فقال في نفس رسالته هذه: «ومن المتعذر على المرء التسليم بقيمة هذه الاتفاقات والاعتماد عليها، ولو أنه من المحقق أن الباشا لم ينجح في استمالة محمد بك المنفوخ إلا بعد أن بذل له الوعود السخية ومنَّاه الأماني العريضة؛ ولذلك فالوقت وحده كفيل بإعطاء فكرة صحيحة على هذا الترتيب (أو الاتفاق أو التسوية) الذي لا يجب أن ينظر إليه المرء على أنه معاهدة سلام أو عقود صفح شامل — على نحو ما يريد الباشا أن يصفه به — يفغر ما سلف بين الفريقين.»

ولقد صح ما توقعه «دروفتي».

ذلك أن البكوات عندما قبلوا صلح أسيوط لم يكونوا خالصي النية في قبوله، بل أُجبروا عليه إجبارًا لاقتناعهم بأنهم عاجزون عن معارضة الباشا ومقاومة جيشه، فوافقوا على شروط الباشا بنفس ذلك التحفظ الذهني الذي ألمع إليه «دروفتي» في رسالة ٩ أبريل السالفة الذكر، وعقدوا العزم على التنصل من التزاماتهم، وحملهم انشغال الباشا المستمر بمسألة الحرب الوهابية، وتدبير المال وإنجاز الاستعدادات اللازمة للحملة المزمع إرسالها إلى الحجاز عاجلًا أو آجلًا، على الظن بأنه وقد قفل جيشه راجعًا إلى القاهرة الآن، وتحمل الباشا نفقات جسيمة في إعداد التجريدة التي جاءتهم إلى الصعيد، لن يستطيع إرسال حملة جديدة عليهم، وأن بوسعهم في هذه الظروف المواتية إذًا أن ينكثوا بعهودهم، لا سيما وأنهم ما كانوا يريدون بتاتًا الحضور إلى القاهرة ووضع أنفسهم تحت رقابة الباشا وإشرافه.

فلم يحضر إلى القاهرة — بعد الفوج الأول الذي جاء مع محمد علي وقواده — إلا نفر قليل من المماليك، ولم يتحرك أحد من البكوات، بل ظلوا قابعين في أماكنهم، بينما شرع البكوات الذين جاءوا إلى القاهرة يتذمرون من شروط الصلح المجحفة — في نظرهم — ولو أنهم لم يجرءوا على إعلان تذمرهم وسخطهم، وتزايد تذمرهم وشعورهم بالسخط على الصلح الذي قبلوه مرغمين، حتى إنهم صاروا يتآمرون على حياة محمد علي، ولم يكن خافيًا على الباشا حالهم بفضل الأرصاد والعيون التي بثها حولهم، ولكنه آثر التريث والاصطبار عليهم، لعل زملاءهم الذين لا يزالون بالصعيد ينفذون ما التزموا به ويحضرون إلى القاهرة، ويلقون جميعًا من معاملة الباشا الطيبة ما يخمد أحقادهم، وينهي هذه المؤامرات.

وكان أثناء وجود الباشا بالسويس، التي سافر إليها في ٢٥ ديسمبر ١٨٠٩؛ ليكشف على قلاع القلزم أن نمى إليه أن البكوات المقيمين بالقاهرة والجيزة يكيدون له وينتوون القبض عليه واختطافه في طريق الصحراء عند عودته من السويس، فقطع زيارته فجأة وحمله هجين إلى القاهرة في سرعة كبيرة، ولا أحد معه غير خادم واحد، فبلغ القاهرة في ليلة ٣١ ديسمبر، وأفسد على المتآمرين بعودته المفاجئة والسريعة خطتهم، ولم يبُح الباشا بالسر الذي عرفه، ولم يغيِّر مسلكه مع البكوات بل ظل مبتسمًا، ثم تعرض لخطر مؤامراتهم مرة أخرى، فأُطلقت عليه ذات يوم رصاصة أخطأته وقضت على أحد ضباطه، ولكنه آثر الصمت على هذا الحادث أيضًا وأوصى بالسكوت وصار يحتاط لنفسه، وكان من ضروب الاحتياط أنه اهتم بشق طريق بين القلعة وجبل المقطم، اعتزم أن يقيم في نهايته حصنًا صغيرًا يستطيع منه عند الحاجة إبقاء المواصلات مفتوحة بينه وبين الأرض الممتدة في الصحراء خلفه، حتى يسهل عليه الانسحاب إلى السويس.

وكثرت المراسلات بينه وبين بكوات الصعيد، وأوفد إليهم ديوان أفندي وغيره يطلب منهم تنفيذ الاتفاق، والحضور إلى القاهرة، والبكوات يطلبون إمهالهم في الحضور فترة أخرى، واستمر الحال على ذلك طوال شهري يناير وفبراير من عام ١٨١٠، وفي ١٠ فبراير رجع ديوان أفندي من ناحية قبلي، وصحبته أحمد آغا شويكار، فأقاما بمصر أيامًا، ثم رجع «ديوان أفندي» بجواب إلى الأمراء القبالى، وحتى أواسط مارس، لم تسفر هذه المحاولات عن شيء، فأبلغ «دروفتي» حكومته في ١٢ مارس ١٨١٠ «أن البكوات لم ينزلوا بعد من الصعيد، بل طلبوا من الباشا مهلة جديدة بدعوى انشغالهم بالحصاد لوفرة المحصول وفرة كبيرة؛ ولأنهم لو تركوه وحضروا إلى القاهرة الآن لتلف»، الأمر الذي يدل في نظر «دروفتي» على أن المفاوضة الراهنة ليست أمينة وصادقة كسابقتها.

ولكن الباشا أجابهم إلى رغبتهم، فأعطاهم مهلة شهرًا آخر، ثم عاد البكوات يطلبون مهلة أخرى، ولكن في هذه المرة كانت قد عظمت شكوك الباشا في أمرهم، وكان لذلك أسباب عدة، منها حادث الرسول الفرنسي «كادر» الذي أبلغ الوكلاء الإنجليز الباشا عنه أنه يحمل خطابات من الحكومة الفرنسية إلى البكوات، وقد ذكرنا كيف وقعت مشادة عنيفة في ١٩ أبريل ١٨١٠ بسبب ذلك بين محمد علي و«دروفتي»، أضف إلى هذا أن العملاء الإنجليز جددوا الآن مسعاهم بنشاط زائد مع شاهين بك الألفي.

وقد بسط «دروفتي» قصة هذه المساعي، وتآمر شاهين مع عملاء الإنجليز منذ وصوله إلى القاهرة مستأمنًا، وذلك في رسالة له إلى حكومته في ١٢ مارس ١٨١٠، فكان مما قاله «دروفتي»: إنه بلغه من مصدر موثوق به، ومتصل بالباشا وشاهين الألفي، أن «بتروتشي» منذ أن حضر شاهين إلى القاهرة، صار يجد في المسعى لتستأنف العلاقات القديمة بين شاهين الألفي وبين الحكومة الإنجليزية وقد نجحت هذه المساعي لدى شاهين، فراح هذا في أواخر عام ١٨٠٨ يطلب من الإنجليز إنفاذ جيش إلى مصر يفوق في عدده وعدته جيش الجنرال فريزر السابق، ويعد بالانضمام فورًا إلى هذا الجيش بمجرد نزوله إلى الإسكندرية، جالبًا معه قبائل العربان وسائر أعوانه، وإذا تعذر مجيء حملة بريطانية فهو يطلب ثمانية ملايين قرش تركية يستخدمها في إغراء جند الباشا على تركه والانحياز إليه، ثم في تحريض الأهلين على الثورة، حتى إذا نجح في ذلك، استولى على حكومة القاهرة، وأبقوا على مظاهر الولاء والخضوع للباب العالي، بينما تصبح الحكومة تابعة فعلًا وحقيقة لإنجلترة وتحت إشرافها.

وانخدع شاهين بوعود «بتروتشي»، وكان تحت تأثيره أن كتب في ٩ أغسطس ١٨٠٩ رسالة إلى «كولنجوود» — أمير البحر الإنجليزي للقوات البريطانية في البحر الأبيض — وهي رسالة طويلة تدل على أن المستأمنين من البكوات، والذين كانوا في طليعة مَن اصطلحوا مع محمد علي، وقبلوا العيش في كنفه وتحت رعايته، وبالغ هذا في إكرامهم، كانوا يتآمرون على ملكه، ويعتمدون على مساعدة الأجنبي في تمكينهم من طرده من باشويته، وأن البكوات سواء منهم الذين تطلعوا لمؤازرة الإنجليز كشاهين والألفية، أو الذين صادقوا الفرنسيين ونشدوا مساعدتهم له، كانوا بعيدين كل البعد عن التفكير في إنشاء حكومة مصرية أو أن الاستقلال هو ما اعتزموا بلوغه وتأسيسه، بل إن كل ما دار في أذهانهم كان لا يعدو الاستئثار بالنفوذ المطلق في البلاد واسترجاع ذلك السلطان القديم الذي أتاح لهم في العهد الغابر الطغيان والاستبداد بالأهلين، واستنزاف موارد البلاد لإنفاقها على شئونهم ومتعهم الخاصة، الأمر الذي رسخ في أذهانهم أن لا سبيل إلى تحقيقه طالما بقي محمد علي في الولاية.

استهل شاهين كتابه إلى «كولنجوود» بذكر مظاهر الشرف والمزايا التي أغدقتها الحكومة الإنجليزية على سلفه محمد بك الألفي، ثم طفق يقول: إن الرغبة التي يُمني نفسه ببلوغها، والتي تجعله يرتسم خطوات الألفي الكبير، وتحدوه إلى تسطير رسالته هذه حتى ينقلها السيد «فرنسيسكو بتروتشي» الوكيل البريطاني إلى «كولنجوود»، إنما هي الظفر بحماية إنجلترة القوية، وأنه لذلك سوف يبسط عددًا من المقترحات التي يوائم العمل بها بين بسط هذه الحماية وتحقيق مصالحه، ثم أخذ يذكر مقترحاته قائلًا:

إنه لطبيعي أن يبغي كل إنسان استرجاع أملاكه التي نُهبت منه، وتعلمون أن المماليك يحكمون مصر من أزمان بعيدة، وأعتقد بوصفي خليفة شرعيًّا لهؤلاء أن من حقي طلب الحكم والاستيلاء على حكومة هذه البلاد، ولكني عاجز عن ذلك إلا إذا لقيت تأييدًا من حكومة بريطانيا التي أضع نفسي تحت حمايتها، وبالشروط التي تمليها إنجلترة نفسها، والشعب معي، وأما المماليك من حزب البرديسي المنحاز إلى فرنسا، فلا يقدرون منذ وفاة رئيسهم عثمان البرديسي على معارضتي، بل على العكس من ذلك هم مستعدون للانضمام إليَّ، وينطبق هذا — أي الاستعداد للانحياز إلى جانبي — على جميع الأرنئود تقريبًا والعثمانلي بشريطة أن أستطيع دفع ما لهم من مرتبات متأخرة، وهم الذين كانت أمنيتهم إشباع نهمهم المألوف، فوجدوا نهمًا أشد عنفًا وقوة يحطم هذه الأمنية، هو نهم الباشا الحالي محمد علي الذي يحظى بمعاضدة وحماية الفرنسيين.

وسوف يكون من الممكن جدًّا تنفيذ المشروع الذي تم وضعه بالاتفاق مع السيد البطروشي «بتروتشي» وكيل جلالة ملك بريطانيا في هذه الديار، عندما أتسلم مبلغًا من المال في حدود الخمسة عشر ألف كيس تقريبًا، ولا يجب الاعتقاد بأن هذا مبلغ جسيم، تستكثر إنفاقه بريطانيا العظمى، وإعطاءه لي؛ لأني ما تقدمت بطلب هذا المال الآن عن طريق سعادتكم، إلا وفي عزمي قطعًا وبكل تأكيد أن أقوم بسداده في صورة سلع من نتاج البلاد، وفي نظير أن أخضع خضوعًا تامًّا أنا وكل ما لدي من قوات لأوامر الحكومة البريطانية ونواهيها، حتى ولو اقتضى ذلك حياتي ثمنًا له، فلن أتردد ولن أتوانى لحظة في التضحية بها من أجل تأييد الحكومة البريطانية ومعاونتها على كل أعدائها مهما كانوا، وضد كل دولة مهما كانت، لا سيما ذلك العدو المنافس للإنجليز، والذي سوف يظهر بكل تأكيد عاجلًا أو آجلًا على شواطئ هذه البلاد بجحافله.

أما إذا لقيت تأييدًا من بريطانيا العظمى، فأعطتني النجدات التي أطلبها، فسوف يتسنى لي أن أصبح في وضع يمكنني من مقاومة أعدائي بالقوة والاقتدار المعروفين عن المماليك الذين يكونون عندئذٍ من جماعتي وحزبي، وفضلًا عن ذلك فإني سوف أستطيع جذب كل ما يمكن أن يجذبه المال من أجناد الأرنئود والعثمانلي، وجلب أجناد آخرين من الحبشة ودارفور وسنار، ثم جذب العربان الذين في مصر أيضًا.

أضف إلى هذا كله، أن الباب العالي سوف يسعده — ولا ريب — أن يرى مصر قد دانت لرجل سوف يدفع له الخراج المعروف بالميري، ثم إن هذا العمل سوف يكفل إعادة تسيير قوافل الحج إلى مكة المكرمة، ومن بواعث ارتياح الباب العالي — بلا شك — سوف يكون ذلك العطف الذي تخصني به بريطانيا العظمى، وحمايتها التي أتمتع بها، ثم إني متمتع بحماية ورعاية الوزراء العثمانيين جميعهم في ديوان القسطنطينية، ومن بين هؤلاء أحد صنائع سلفي محمد بك الألفي، الذي لدي ما يجعلني أشيد بمقدار الثقة التي يتمتع بها حاليًا في الديوان، وهذا الإنسان يشغل منصب الطواشي الأول (الآغا) في الحريم السلطاني.

وأجرؤ على القول بأن توفر المال لدي سوف يجعل سهلًا ميسرًا شراء مماليك جددًا يُعاد بواسطتهم تأسيس طائفتنا على القواعد القديمة.

ومع ما ذكرته كله، فإني أعود فأكرر أني قد اعتزمت قطعًا خدمة الحكومة البريطانية دائمًا، وبناء عليه، فإذا أرادت بريطانيا العظمى أن يظهر أسطولها وجيشها في بلادنا مرة أخرى، فلسعادتكم أن تؤكدوا لحكومتها أني قد قطعت على نفسي عهدًا من الآن في نظير إنفاقها هذا المبلغ المؤقت والمطلوب سلفًا، بأن أخف طائرًا بكل جماعتي وعربان القبائل المختلفة لنجدتها، وبأن أضع نفسي مع هؤلاء تحت أمر قائد القوات البريطانية، فنبذل دماءنا وأرواحنا، برضانا واختيارًا في سبيل إعلاء شأن الأمة البريطانية وزيادة مجدها.

وأنه لما يبدو لي ألا غنى — لتحقيق مصلحة إنجلترة ذاتها — عن الأخذ — على الأقل — بواحد من الاقتراحين اللذين عرضتهما، وأما إذا شاءت بريطانيا العظمى أن تسلك طريقًا آخر، أو أن تأتي عملًا غير ما ذكرت، فالواجب يقتضيها حينئذٍ أن تسلم بفقدان كل نفوذ لها نهائيًّا في هذه المملكة.

وإذا أُتيح لهؤلاء الظلمة (الفرنسيين) الذين أثقلوا بظلمهم كواهل العالم أن يضعوا أقدامهم في مصر، وأن يستولوا عليها، فلن يستعصي ذلك عليهم؛ لأن الشعب — وقد أنهكت قواه المظالم — سوف يخضع في يأسه لأي سلطان يُفرض عليه ما دام هذا السلطان أخف وطأة عليه من ذلك الذي يبهظ كاهله اليوم، والذي لا سبيل إلى الانفكاك منه …

هذه الرسالة الخطيرة، سلَّم شاهين الألفي صورة منها بعد الحوادث التي نحن بصددها بأكثر من عام إلى «دروفتي»، وفي مارس ١٨١٠، كان لا يزال «بتروتشي» وعملاء الإنجليز يترددون على شاهين، وصاروا يؤكدون له أن الباب العالي على وشك إعلان الحرب على بريطانيا، وأن هذه لديها حملة معدة للحضور إلى مصر، وكتب «دروفتي» في رسالته التي سبقت الإشارة إليها (في ١٢ مارس) «أن شاهين الألفي، إما لأنه لا يستطيع الاعتماد على وعود الإنجليز — التي هي دائمًا وعود عرقوبية ومزيفة — وإما لأنه يخشى أن يقع هو نفسه فريسة هذه المؤامرات ويذهب ضحية لها، عندما كان من المحتمل بلوغ أخبارها إلى محمد علي، لم يلبث أن أجاب هؤلاء الوكلاء الإنجليز، أنه عاجز في هذه اللحظة عن اتخاذ قرار بصدد ما يعرضونه عليه، وأنه يعد قطعًا بالوصول إلى القرار إذا تطورت الظروف، التي يُراد المفاوضة بشأنها بصورة حاسمة، لا سيما وأن ليس لديه ما يقوله عن محمد علي سوى الثناء عليه وإطرائه.»

فكان بسبب مخاوفه وبسبب الشكوك التي ساورته من ناحية البكوات أن بعث محمد علي إلى بكوات الصعيد يهدد بإرسال جيشه عليهم إذا هم امتنعوا عن الحضور فورًا إلى القاهرة، وكان هؤلاء حتى آخر مارس لا يزالون في الصعيد، وكتب «سانت مارسيل» إلى حكومته من الإسكندرية في ٣٠ مارس: «أن البكوات من جماعة محمد بك المنفوخ مقيمون دائمًا بالوجه القبلي، ولو أنهم ملتزمون الهدوء والسكينة رغم رفضهم الحضور إلى الجيزة بالقرب من القاهرة حسب اتفاقهم القديم مع محمد علي، فلا شيء بسبب هدوئهم هذا يعكر صفو السلام الآن.» وفي ٢٥ أبريل كتب «سانت مارسيل» مرة أخرى: «أن البكوات مقيمون دائمًا بالصعيد، والهدوء شامل في مصر والسلام مستتب، ولو أنه كان ينبغي عليهم أن يكونوا مقيمين الآن بالجيزة والجهات المجاورة لها حسب اتفاقهم مع محمد علي.»

ولم يجد البكوات بدًّا في النهاية من النزول من الصعيد إزاء تهديد محمد علي، ولا جدال في أنهم لم يمتثلوا لأمر محمد علي برضاء منهم، بل كانوا يضمرون الشر ويبغون الكيد له، وبدأت الأخبار تترا على القاهرة بأنه «قد تحركت همم الأمراء المصريين القبليين إلى الحضور إلى ناحية مصر (القاهرة) بعد ترداد الرسل والمكاتبات، وحضور ديوان أفندي ورجوعه، وحضور محمد بك المنفوخ أيضًا، وبعد أن صار الباشا ينعم على كل من حضر منهم ويلبسه الخِلع، ويقدم له التقادم ويعطيه المقادير العظيمة من الأكياس، حتى إنه كان أنعم على محمد بك المنفوخ بالتزام جمرك ديوان بولاق، ثم عوَّضه عنه ستمائة كيس، وغير ذلك.»

وفي ٦ أبريل عرفت القاهرة أن البكوات وصلوا إلى ناحية بني سويف، ووصل في هذا اليوم القاهرة ذاتها كثير من أجنادهم المماليك، ولكن البكوات أنفسهم ظلوا متباطئين، وترددت الرسل بينهم وبين الباشا وحضر ديوان أفندي (إلى القاهرة) ثم رجع ثانيًا إليهم، وذكر «دروفتي» في رسالته إلى حكومته من القاهرة في ٢٨ أبريل، «أنه عرف أن البكوات قد وصلوا إلى بني سويف، ومن المنتظر وصولهم إلى الجيزة حوالي منتصف شهر مايو، وقد جاءوا جميعهم، ما عدا عثمان بك حسن الذي بقي بالصعيد — كما يقولون — لمراقبة جيش يتألف من أربعة إلى خمسة آلاف رجل تركه الباشا من وقت رحلته الأخيرة، في قنا لتعزيز حاميتها وفي ميناء القصير.»

وأخيرًا وصل البكوات إلى ناحية الرقق في ٦ مايو، وأوائلهم وصلوا إلى دهشور، وخرج إليهم الأتباع بالملاقاة من بيوتهم وأحبابهم.

ولقي إبراهيم بك ترحيبًا كبيرًا، فذهب إليه مصطفى آغا الوكيل، وعلي كاشف الصابونجي وديوان أفندي، ثم الباشا، ثم في أثرهم طوسون ابن الباشا، وقدَّم له إبراهيم بك تقادم.

ولكن حتى هذا الوقت، لم يكن البكوات — وعلى رأسهم إبراهيم بك — قد رضوا بتنفيذ شروط الصلح الذي قبلوه في أسيوط، فبقي إبراهيم مقيمًا بوطاقه أيامًا وكثر ترداد المراسلات والاختلافات في الشروط. وفي ١٠ مايو حضر من قبله عثمان بك يوسف وصحبته صنجق آخر، فطلعا إلى القلعة وقابلا الباشا، ثم رجعا، وحضرا في ثاني يوم كذلك؛ ١١ مايو، وفي هذه المرة وافق البكوات على الحضور إلى الجيزة، فخلع الباشا على مندوبيهما هذين خِلعًا وأعطاهما أكياسًا، وأرسل إلى إبراهيم بك هدايا وإلى سليم بك المحرمجي المرادي أيضًا. وفي ١٦ مايو ١٨١٠ وصل الجميع إلى الجيزة، ونصبوا وطاقهم خارج الجيزة.

(٧) البكوات ينقضون الصلح مرة ثالثة

ولقد تبين للباشا، منذ وصول إبراهيم بك وزملائه إلى دهشور، وكثرت الاتصالات بينهم وبين ديوان أفندي وسائر رجال الباشا — على النحو الذي أشرنا إليه — أن البكوات يضمرون سوءًا، وأن لا ثقة لهم في محمد علي، وأنهم سوف يتحينون الفرص لنبذ التزاماتهم، فزاده هذا يقينًا بضرورة الاحتياط منهم، وكان من بواعث قلقه أن كان بصحبتهم عربان كثيرون من الهوارة، وأنهم يستخدمون نفرًا من هؤلاء عيونًا لهم وأرصادًا تتجسس على معسكر الباشا الذي كان منصوبًا وقتئذٍ في شبرا، وقد جمع الباشا في هذا المعسكر جيشًا من المشاة والفرسان، لم يلبث أن اضطر بسبب مخاوفه من البكوات إلى جلب قوات أخرى إليه، مما جعل بدوره البكوات — ولا سيما إبراهيم بك — يمعنون في عدم الثقة به، ويستولي عليهم القلق والانزعاج من احتياطاته هذه.

بل إن إبراهيم لم يلبث أن اتخذ من هذا القلق والانزعاج السائدين في معسكر البكوات، ذريعة لتحريك مخاوفهم من نوايا الباشا، وأخطر من ذلك، الكيد لمحمد علي، بمحاولة إغراء شاهين الألفي على نكث عهده مع محمد علي، وإغراء كبار رجال محمد علي نفسه بالتخلي عنه ومؤازرة البكوات ضده.

وكان الباشا منذ وصول البكوات إلى الجيزة قد استأنف سعيه لديهم وراح يبذل قصارى جهده لإقناعهم بالإقامة في القاهرة، وعرض عليهم أن يترك كل واحد منهم وكيلًا عنه في الأقاليم التي كانت للبكوات بالصعيد، وأن يدفعوا العوائد الأميرية في أوقاتها، ويقدموا الغلال المطلوبة منهم، وذلك عن البلاد التي في عهدتهم، كما اشترط الباشا أن ينضم فرسانهم إلى فرسان جيشه الذاهب إلى الحجاز لاستخلاص الحرمين الشريفين من أيدي الوهابيين، فكثرت الاتصالات بين البكوات وبين محمد علي، ولكن دون الوصول إلى نتيجة، وسبب هذا الفشل أن إبراهيم بك لم يكن يطمئن إلى أي اتفاق يُعقد مع محمد علي ولا يريد اتفاقًا معه.

وبدأ إبراهيم بك في إظهار مكنون نفسه، من اللحظة التي وصل فيها إلى الجيزة، فانتقد محمد علي، وشكا بمرارة من أنه لم يحتفل بإطلاق المدافع تحية لقدومهم، واعتبر ذلك تهوينًا لأمره وتحقيرًا لشأنه، فصار يقول: «سبحان الله! ما هذا الاحتقار؟ ألم أكن أمير مصر نيفًا وأربعين سنة، وتقلدت قائممقامية ولايتها ووزاراتها مرارًا وبأخرة صار محمد علي نفسه من أتباعي وأعطيه خرجه من كيلاري (مشيرًا إلى عهد الحكومة الثلاثية في غضون ١٨٠٣-١٨٠٤) ثم أحضر أنا وباقي الأمراء على صورة الصلح فلا يضرب لنا مدافع، كما يفعل لحضور بعض الإفرنج.»

وانتهز إبراهيم فرصة وجوده بالقرب من شاهين بك الألفي، وقصر الأخير بالجيزة، فصار يسعى للتأثير عليه حتى يترك الباشا وينقض عهده معه، واستخدم إبراهيم في هذا المسعى عبد الرحمن بك تابع عثمان بك المرادي المعروف بالطنبرجي، فزار شاهين الألفي، وأفلح المسعى عندما وعد إبراهيم بك شاهين بالرئاسة على بيت مراد مدى الحياة إذا هو انضم بفرسانه إلى فرسان البكوات الآخرين حتى يستطيعوا جميعًا مقاومة محمد علي، وكان الظفر بالرئاسة على البكوات جميعهم سواء من بيت الألفي، وهو البيت الذي ينتمي إليه شاهين، أم من بيت مراد الذي يتزعمه عثمان بك حسن وإبراهيم بك نفسه من قديم، ثم عيَّن محمد علي لرئاسته في الظروف التي ذكرناها سليم بك المحرمجي إغراءً قويًّا لم يستطع شاهين مقاومته، كما صار إبراهيم يؤكد له أن محمد علي لا يبغي سوى القضاء على كل سلطة لهم والكيد لهم جميعًا، ولا يسعى للصلح معهم إلا للغدر بهم، وهكذا أفلح رسول إبراهيم بك، عبد الرحمن الطنبرجي «وحوَّل دماغه، واتفق معه على الانضمام إليهم والخروج عن الباشا.» ولا يشك «دروفتي» في أنه كان للوكلاء الإنجليز يد في انشقاق شاهين على الباشا؛ فقد ثابر هؤلاء — كما ذكر في كتابه إلى حكومته في ١٩ مايو ١٨١٠ — على تحريض شاهين، لإثارة الحرب الأهلية في البلاد كما هو شأنهم دائمًا، والدليل على أن أحد وكلائهم أكَّد لشاهين منذ حوالي أسبوعين فقط أن «السير روبرت أدير» Adair السفير الإنجليزي في تركيا، على وشك مغادرة القسطنطينية، وأن إنجلترة عند انفصام علاقاتها مع الدولة سوف تبعث بجيشها إلى مصر، كما صار هؤلاء الوكلاء يروِّجون الإشاعات عن انتصار البحرية البريطانية في البحر الأحمر واستيلاء الإنجليز على إحدى الجزر الهامة تجاه الشاطئ الحبشي.

ونمى إلى الباشا خبر هذه المؤامرة، فعدل عن الذهاب إلى إبراهيم بك، وكان قد أُشيع في الناس يوم وصول إبراهيم بك إلى الجيزة في ١٦ مايو تعدية الباشا من الغد للسلام على إبراهيم بك، فلم يثبت، وظهر أنه لم يفعل، فقد أصبح مبكرًا (يوم ١٧ مايو) إلى شبرا وجلس في قصره، وحضر إليه شاهين بك الألفي في سفينته وتناقش معه محمد علي، ووقع بينهما مكالمات، ورجع من عنده شاهين عائدًا إلى الجيزة منفعل الخاطر، ثم إن الباشا عرض عساكره فاجتمع إليه الجميع، وبدأ اللغط وكثرت اللقلقة.

وما إن وصل شاهين إلى الجيزة، حتى «أزر حريمه وأركبهن وأرسلهن إلى الفيوم ونقل متاعه وفرشه من قصر الجيزة في بقية اليوم، وكسر المرايات وزجاج الشبابيك التي في مجالسه الخاصة، ثم ركب في طوائفه وأتباعه وخشداشينه ومماليكه، وذهب إلى عرضي إخوانه وقبيلته، ونصب خيامه ووطاقه بحذائهم، واجتمع بهم وتصافى معهم، ونال شاهين جزاءه، فنصَّبه إبراهيم بك وسائر البكوات رئيسًا على الأمراء المرادية»، وكان خروج شاهين الألفي من الجيزة بمثابة الإشارة للمماليك المقيمين بالقاهرة حتى يغادروها، وعدد هؤلاء حوالي الستين، فما لبثوا أن تركوها قاصدين إلى معسكر البكوات.

وكان هذا الحادث أمرًا خطيرًا؛ لأنه لم يسبق بتاتًا ومن زمن طويل — كما كتب «دروفتي» في رسالته السالفة الذكر — أن صار يضم جميع المماليك معسكر واحد.

وكان طبيعيًّا أن يتخوف الباشا من اجتماع كلمة المماليك بهذه الصورة، فبادر من فوره (في اليوم نفسه؛ أي في ١٧ مايو) بإيفاد حسن باشا وصالح آغا قوج إلى البكوات ببر الجيزة فقصدا إلى عرضي الأمراء وسلما عليهم، ثم اجتمعا بشاهين الألفي وتغديا عنده، وحاولا إثناءه عن موقفه ولكن دون طائل، ثم قصدا إلى إبراهيم بك، وجرى بينهما وبينه كلام كثير، حاول حسن باشا تذكير إبراهيم بعهده الذي قطعه على نفسه بقبوله الصلح في أسيوط، وحاول إبراهيم تحريض حسن باشا على الانتقاض على محمد علي، فنشأت بين الرجلين محاورة تكشف عن بواعث الحقد الذي كان يغلي في صدر إبراهيم على محمد علي، وعدم ثقته به، وإصراره على مناوأته، وإمعانه في العداوة له، وتقيم الدليل على أن إبراهيم بك وسائر البكوات من حزبه أو جماعته كانوا يضمرون غير ما يظهرون منذ أن بدأت مفاوضات الصلح معهم إطلاقًا من أواخر عام ١٨٠٧ وأوائل العام التالي إلى وقت قبولهم صلح أسيوط في سبتمبر وأكتوبر ١٨٠٩، وحضورهم إلى الجيزة في مايو ١٨١٠.

وقد سجَّل الشيخ الجبرتي وسائر المعاصرين الحديث الذي دار بين حسن باشا وإبراهيم بك في خيمة هذا الأخير أمام الجيزة، ولا خلاف فيما ذكره هؤلاء عن الكلام الذي دار بين الرجلين، ولو أن رواية الشيخ الجبرتي تحوي تفاصيل أدق وأوفى.

قال حسن باشا لإبراهيم: إنكم وصلتم إلى هنا لتمام الصلح على الشروط التي حصلت بينكم وبين الباشا، والاتفاق الذي جرى بأسيوط، ويكون تمامه عند وصولكم إلى الجيزة واجتماعكم، وقد حصل.

فقال له إبراهيم بك: وما هي الشروط؟

قال: هي أن تدخلوا تحت حكمه وطاعته، وهو يوليكم المناصب التي تريدونها بشرط أن تقوموا بدفع الفرض التي يقررها على النواحي، والغلال الميرية، والخراج، وتعيين من يريده منكم صحبة العساكر الموجهة إلى البلاد الحجازية لفتح الحرمين، وتكونوا معه أمراء مطيعين، وهو يعطيكم الأمريات والإنعامات الجزيلة، ويعمِّر لكم ما تريدون من الدور والقصور التي لكم ولأتباعكم على طرفه، ولا يكلفكم بشيء من الأشياء، وقد رأيتم وسمعتم ما فعله من الإكرام والإنعام على شاهين بك، وما أعطاه من المماليك والجواري الحسان، وشفعاته عنده لا تُرد، وأطلق له التصرف في البر الغربي من رشيد إلى بني سويف والبهنسا، مما هو تحت حكمه، ويراعي جانبه إلى الغاية.

فقال له إبراهيم بك: نعم إنه فعل مع شاهين بك ما لا تفعله الملوك، فضلًا عن الوزراء، وليس ذلك لسابق معروف فعله شاهين بك معه ليستحق به ذلك، بل هو لغرض سوء يكتمه في نفسه، وشبكة يصطاد بها غيره، فإننا سبرنا أحواله وخيانته، وشاهدنا ذلك في كثير ممن خدموه، ونصحوا معه حتى ملكوه هذه المملكة.

قال: ومن هم؟

قال: أولهم مخدومه محمد باشا خسرو، ثم كتخداه وخازنداره عثمان آغا جنج الذي خامر معه، وملك مع أخيه المرحوم طاهر باشا القلعة، وأحرق سرايته، ثم سلط الأتراك على طاهر باشا حتى قتلوه في داره، وأظهر موالاتنا وصداقتنا ومساعدتنا، وصيَّر نفسه من عسكرنا، واتحد بعثمان بك البرديسي، وأظهر له خلوص الصداقة والأخوة، وعاهده بالأيمان حتى أغراه على علي باشا الطرابلسي، وجرى ما جرى عليه من القتل، ونسب ذلك إلينا، ثم اشتغل معه على خيانته لأخيه الألفي وأتباعه، ثم سلط علينا العساكر بطلب العلوفة، وأشار على عثمان بك بطلب المال من الرعية، حتى وقع لنا ما وقع، وخرجنا من مصر على الصورة التي خرجنا عليها، ثم أحضر أحمد باشا خورشيد، وولَّاه وزيرًا، وخرج هو لمحاربتنا، ثم اتضح أمره لأحمد باشا، وأراد الإيقاع به، فعجل العود إلى مصر، وأوقع بينه وبين جنده حتى نفروا منه ونابذوه، وألقى إلى السيد عمر مكرم والقاضي والمشايخ أن أحمد باشا يريد الفتك بهم، فهيَّجوا العامة والخاصة، وجرى ما جرى من الحروب وحرق الدور، وبذل السيد عمر جهده في النصح معه بما يظهره له من الحب والصداقة، وراجت عليه أحواله، حتى تمكَّن أمره وبلغ مراده، وأوقع به ما أوقع، وأخرجه من مصر (القاهرة) وغرَّبه عن وطنه، ونقض العهود والمواثيق التي كانت بينه وبينه، كما فعل مع عمر بك (الأرنئودي) وغيره، وكل ذلك معلوم، ومُشاهد لكم ولغيركم، فمن يأمن لهذا ويعقد معه صلحًا؟

واعلم يا ولدي أننا كنا بمصر نحو العشرة آلاف أو أقل أو أكثر بين مقدمي ألوف وأمراء وكشاف وأكابر وجاقات ومماليك وأجناد وطوائف وخدم وأتباع، مرفهي المعاش بأنواع الملاذ، كل أمير مختص ومعتكف بإقطاعه، مع كثرة مصارفنا وإنعاماتنا على أتباعنا ومن ينتسب إلينا، وأسمطة الجميع ممدودة في الأوقات المعهودة، ولا نعرف عسكرًا ولا علوفة عسكر، والقرى والبلاد مطمئنة، والفلاحون ومشايخ البلاد مرتاحون في أوطانهم، ومضايفهم مفتوحة للواردين والضيفان، مع ما كان يلتزم علينا من المصارف الميرية، ومرتبات الفقراء، وخزينة السلطان، وصرة الحرمين، والحجاج، وعوائد العربان، وكلف الوزراء المتولين، والأغوات، والقبالجية المعينين، وخدمهم، والهدايا السلطانية، وغير ذلك، وأفندينا محمد علي ما كفاه إيراد الإقليم، وما أحدثه من الجمارك والمكوس، وما قرَّره على القرى والبلدان من فرض المال والغلال والجمال والخيول، والتعدي على الملتزمين، ومقاسمتهم في فائظهم ومعاشهم، وذلك خلاف مصادرات الناس والتجار في مصر وقراها، والدعاوى والشكاوى، والتزايد في الجمارك، وما أحدثه في الضربخانة من ضرب القروش النحاس، واستغراقها أموال الناس، بحيث صار إيراد كل قلم من أقلام المكوس بإيراد إقليم من الأقاليم، ويبخل علينا بما نتعيش به نحن وعيالنا، ومَن بقي معنا من أتباعنا ومماليكنا، وقصده صيدنا وهلاكنا عن آخرنا.

فقال حسن باشا: حاشا لله، لم يكن ذلك، ودائمًا يقول والدنا إبراهيم بك، ولكن لا يخفاكم أن الله أعطاه ولاية هذا القطر، وهو يؤتي الملك من يشاء، ولا ترضى نفسه من يخالف عليه، أو يشاركه بالقهر والاستيلاء، فإذا صار الصلح ووقع الصفا أعطاكم فوق مأمولكم.

فهز إبراهيم بك رأسه وقال: صحيح يكون خيرًا.

ويزيد غير الشيخ الجبرتي على هذا الحديث، أن إبراهيم بك اختتم كلامه متسائلًا بعد أن سرد خيانات الباشا وعدَّدها، وأوضح أن غرضه الفتك بالبكوات فحسب: والآن أية ثقة تلك التي تريد (مخاطبًا حسن باشا) أن تكون لنا في رجل كهذا الرجل؟ لقد كنا سادة البلاد، ولكنه أفقدنا كل شيء! ثم ماذا يعرض علينا في نظير ذلك؟ كلمته ووعوده؟ لا شك أن هذا قليل! وعقد محالفة صادقة مع محمد علي أمر غير ممكن؛ لأن ما جرى من دم بيننا كثير!

وهكذا انفض المجلس، ورجع حسن باشا وصالح قوج، وعديا إلى بر مصر.

وكان ما سمعه حسن باشا كلامًا خطيرًا ترك أثره العميق في نفسه، فخرج من عند إبراهيم وهو يعتقد تمامًا أن لا جدوى مطلقًا من أي اتفاق يبرمه الباشا مع المماليك، لا لأن محمد علي — كما يزعم إبراهيم — يريد الغدر بهم، ولكن لأن البكوات أنفسهم لا يريدون هذا الاتفاق الذي إذا حدث وأُرغموا على قبوله اليوم، فهم حتمًا سوف ينقضونه غدًا عند سنوح أول فرصة، واعتقد حسن باشا أن السيف وحده الكفيل بإنهاء هذا الخلاف المستحكم بين البكوات ومحمد علي، وأبلغ حسن باشا هذا الكلام لمحمد علي.

وفي تلك الليلة (١٧ مايو ١٨١٠) خرج جميع من كان بالقاهرة من البكوات والمماليك وهجنهم ومتاعهم، وعدوا إلى بر الجيزة، ولم يبقَ منهم إلا القليل، واجتمعوا مع بعضهم، وقسَّموا الأمر بينهم ثلاثة أقسام: قسم للمرادية وكبيرهم شاهين بك الألفي، وقسم للمحمدية وكبيرهم علي بك أيوب، وقسم للإبراهيمية وكبيرهم عثمان بك حسن، وكتبوا مكاتبات وأرسلوها إلى مشايخ العربان.

وتجمعت نذر الحرب.

فأُوقف الجند على أبواب القاهرة منذ ١٩ مايو يمنعون الخارجين من البلد حتى الخدم، ثم منعوا التعدية إلى البر الغربي، وجمعوا المراكب والمعادي إلى البر الشرقي، ونقلوا البضائع إلى مراكب التجار المعدة لسفر رشيد ودمياط، المعروفة بالرواحل، وأخذوها إليهم، وشرع الجند في التعدية طوال يومي ١٩، ٢٠ مايو، وعدى الباشا آخر النهار ودخل إلى قصر الجيزة الذي كان به شاهين بك واتخذه مقرًّا لقيادته العامة، وكذلك عدوا بالخيام والمدافع والعربان والأثقال، واجتمعت طوائف العسكر من الأتراك والأرنئود والدلاة والسجمان (أو السكبان: نوع من الفرق العسكرية يُقصد به على عهد الإنكشارية الفرق التي تتألف من القرويين وقت التجنيد العام) بالجيزة، وتحققت المفاقمة، والأمراء المصرية خلف السور في مقابلتهم، واستمروا على ذلك إلى ثاني يوم (٢١ مايو) والناس متوقعون حصول الحرب بين الفريقين، ولم يحصل، وانتقل المصرية وترفعوا إلى قبلي الجيزة بناحية دهشور وزنين. وفي يومي ٢٢ و٢٣ مايو دفع محمد علي للجند مرتباتهم المتأخرة وأنفق عليهم وكان لهم مدة شهور لم ينفق عليهم. وفي اليوم الأخير خرج ليلًا إلى ناحية كرداسة ليمنع بعض العربان الذين بلغه أنهم يريدون اللحاق بالبكوات، من الذهاب إليهم، ولكنه لم يعثر بأحد، فقفل راجعًا (٢٤ مايو). وفي ٢٧ مايو ارتحل المصرية وترفعوا إلى ناحية جزر الهوى بالقرب من الرقق، وفي اليوم التالي عدى الباشا إلى بر مصر وذهب إلى بيته بالأزبكية، فبات ليلتين به، ثم طلع (يوم ٣٠ مايو) إلى القلعة. ويعلِّق الشيخ الجبرتي على ما حصل بقوله: إن الباشا قد تكدر طبعه من هذه الحادثة بعد أن حصلوا؛ أي حضر البكوات إلى الجيزة، وكاد يتم قصده فيهم، وخصوصًا ما فعله شاهين بك الذي أنفق عليه ألوفًا من الأموال ذهبت جميعها في الفارغ البطال.

غير أن عدم وقوع الحرب آنئذٍ لم يكن معناه أن الباشا سوف يترك البكوات وشأنهم، فقد كتب «دروفتي» منذ ١٩ مايو: «أن البكوات على ما يبدو له يريدون الالتحام مع الباشا في معركة فاصلة، ولكن الخوض معهم في معركة من هذا القبيل لا تجيزه مصلحة محمد علي نفسه؛ لأن فرسان المماليك ولو كانوا أقل عددًا من فرسانه، إلا أنهم قوة مرعبة ولا شك إذا أُتيح لهم الاشتباك في معركة تدور رحاها في ميدان منبسط؛ ولذلك يعمل الباشا على كسب الوقت حتى مجيء الفيضان الذي سوف يرغم البكوات على ترك السهل»، فتضيع ميزة فرسانهم، وعندئذٍ تشتعل الحرب بين الفريقين، وأما الوسيلة التي سوف يلجأ إليها الباشا لكسب الوقت فهي استئناف المفاوضة معهم من جديد على أساس شروط تكون أكثر ملاءمة لهم، بغية تفرقهم ونشر الانقسامات بينهم وإنهاء تكتلهم ضده.

بيد أن الباشا وإن انتظر فيضان النيل قبل الالتحام مع البكوات في معركة حاسمة، فقد شرع من فوره يتهيأ لقتالهم، وأنفذ فعلًا لمطاردتهم حسن باشا، فكان في ذلك بداية تلك الحملة الكبيرة التي انتهت بإنزال الهزيمة الساحقة بالمماليك وتشتيت شملهم في معركتي اللاهون والبهنسا.

(٨) حملة ١٨١٠

ولقد كانت الصعوبات آنئذٍ تكتنف موقف محمد علي من كل جانب، فهو قد آلمه وحز في نفسه أن ينكث البكوات بعهودهم، وأن يخونه شاهين بك الألفي؛ لأن تلك كانت المرة الأولى التي صار يواجه فيها المماليك وقد اتحدت قواتهم، وصاروا يطيعون أوامر قيادة عسكرية واحدة، الأمر الذي أشاع كذلك التردد في صفوف الأهلين إلى جانب إزعاجه لجنده، فصار الفلاحون وأهل المدن في المناطق التي سادت فيها الفوضى خصوصًا بسبب العمليات العسكرية يتوقعون حدوث تغيير كبير عاجل في الموقف، فامتنعوا عن دفع الميري والضرائب الأخرى.

وقد نقض المماليك العهد في وقت كان الباشا يرجو فيه الوصول إلى اتفاق معهم يمكِّنه بفضل دفعهم الميري والغلال من تجهيز الحملة المنتظرة، والتي يلح الباب العالي في ضرورة خروجها إلى الحجاز سريعًا لحرب الوهابيين، ثم إرضاء الباب العالي بإرسال بعض الغلال التي كانت القسطنطينية في حاجة شديدة إليها وقتئذٍ، ويلح الباب العالي في إرسالها ولا يستطيع الباشا مرغمًا إرسال شيء من ذلك إلى القسطنطينية؛ لأن القاهرة ذاتها كانت تنقصها المؤن؛ لأن استكفاء القاهرة أولًا كان لا مناص منه، كما ذكر «سانت مارسيل» لحكومته في ٢٠ يونيو (١٨١٠)، والأمر المفضل على كل اعتبار آخر، زد على ذلك أن محمد علي ما كان يطمئن إلى خروج جيشه إلى الحجاز قبل أن يتم الاتفاق مع المماليك ويرضى هؤلاء بالحضور إلى القاهرة حتى يتمكن من مراقبتهم.

وفي يونيو ١٨١٠ كتب الباشا للباب العالي يعتذر عن تأخره في إنفاذ الجيش المطلوب إلى الحجاز، وحاول في الوقت نفسه أن يبرر مسلكه مع البكوات ومسعاه في مصالحتهم، وهو الذي يعلم مقدار بغض الباب العالي لهم ورغبته في التخلص منهم والقضاء عليهم، فاستند في تبرير ذلك إلى ما وصل إليه البكوات من مذلة وهوان، وما تحملوه من تعب ومشقة من زمن طويل جعله يشفق عليهم، حتى أسكنهم قصرًا بالجيزة وضمن لهم سبل الراحة والعيش في رفاهية لا يطلب منهم سوى دفع الميري والغلال، ومرافقة فرسانهم لفرسان جيشه الذاهب إلى الحجاز، ولكنهم ما لبثوا أن غدروا وخانوا العهد، ففروا من الجيزة، وصار لزامًا عليه الآن أن يدفع غوائلهم، ولكن الباب العالي الذي لم يدهشه غدر البكوات ونقضهم لعهودهم؛ لأن هؤلاء — كما كتب سليم ثابت قبو كتخدا محمد علي في الآستانة في ٢٨ يونيو — معلوم أنهم قوم خونة لم ينالوا رضاء الدولة العلية من زمن قديم، عاد فأصرَّ على خروج الجيش إلى الحجاز؛ لأنه لا ينبغي أن تتأخر مسألة تخليص الحرمين الشريفين بدعوى دفع غائلة البكوات المماليك، فكان لا مفر حينئذٍ من مناجزتهم.

ولم يجد محمد علي من الحكمة أن يشتبك في معركة فاصلة مع المماليك للانتهاء من أمرهم سريعًا قبل أن يصله فرسان الدلاة الذين بعث يطلبهم من الشام لتعزيز جيشه عقب انفصال شاهين بك الألفي والمماليك الذين أقاموا بالقاهرة، ثم إن البكوات عندما شاهدوا محمد علي ينقل جنوده إلى الجيزة ويجعل هذه مقر قيادته، اعتقدوا أن النصر لا بد من نصيبهم؛ لأن خطتهم كانت استدراج الباشا وجيشه للالتحام معهم في معركة ميدانها الأرض المنبسطة المغطاة بالرمال والمكشوفة حول الجيزة أو في جزء آخر من شاطئ النهر قريب منها، فيكفل لهم تفوق فرسانهم الانتصار في المعركة، ولكن هذا الاعتبار ذاته جعل محمد علي يمتنع عن الالتحام معهم، حتى انسحب البكوات يوم ٢٧ مايو من دهشور وزنين، ثم بعث بحسن باشا لمطاردتهم، وآثر التريث قبل الالتحام الجدي معهم حتى ترتفع مياه النهر، وكان للفيضان أهمية كبيرة في نظره؛ لأن الفيضان سوف يرغم البكوات على الانسحاب من مراكزهم الأمامية والابتعاد صوب الصعيد، ثم إن الفيضان يمكِّن الباشا من اتقاء شر المماليك، إذا حدث أن لحقت به الهزيمة في المعركة المقبلة، فيصبح النهر الممتلئ بمياه الفيضان بمثابة الحاجز الذي يحول دون مطاردة فرسان المماليك لجيشه، فكان هذا التريث مبعث ما صار الباشا يعرضه على البكوات من شروط للصلح جديدة كانت أكثر موافقة لمصالحهم، شفعها بتهديده، إذا رفضوها، بقتالهم في معركة كبيرة، وقصد الباشا كسب الوقت حتى تصله نجدات الدلاة، وحتى يبدأ فيضان النيل من جهة، وحتى يشيع الفرقة والانقسام في صفوف البكوات من جهة أخرى؛ ولذلك فقد كانت «حملة ١٨١٠» عسكرية وسياسية في وقت واحد.

وانحصرت خطة الحملة العسكرية، في محاولة تجميع حشود البكوات المماليك في مكان واحد للاشتباك معهم في معركة تكون الفاصلة، وذلك بأن يزحف قسم من جيش محمد علي على الصعيد للاستيلاء على المواقع الهامة، وإجلاء البكوات وقواتهم عنها، وإرغامهم على الارتداد والانسحاب إلى الشمال للانضمام إلى سائر إخوانهم، بينما يشغل قسم الجيش الآخر جماعة إبراهيم وشاهين الألفي، فلا يذهبون لنجدة البكوات والمماليك الذين هم ببني سويف أو الأقاليم التي تليها في أعلى الصعيد، فإذا انحصر البكوات عند حدود الصعيد في بني سويف أو الفيوم، وقطع الباشا عليهم خط رجعتهم إلى الجنوب، شنَّ عليهم هجومًا كبيرًا، في وقت تكون قد أخذت ترتفع فيه مياه النيل، فيتعذر عليهم إذا انهزموا الفرار، أو جمع شملهم من جديد، ولا يستطيعون إذا حلت الهزيمة بالباشا نفسه مطاردته.

وأما عن خطة الحملة السياسية، فقد استند الباشا على مهارة وكلائه الذين يوفدهم إلى معسكر البكوات يحملون عروضه الجديدة، في إيقاع الشقاق بينهم، وجذب فريق منهم إلى الصلح معه، ثم اعتمد على نجاح عملياته العسكرية — إذا قُدِّر لها النجاح — في تطويع فريق آخر منهم، وحملهم على الحضور إلى القاهرة مستأمنين تحت رعايته في هدوء وسلام.

ومنذ أواخر مايو ١٨١٠ بدأ وضع هذه الخطة المزدوجة موضع التنفيذ، فقد صدر الأمر للجند في ٤ يونيو بالخروج، فسعى هؤلاء بالجد والعجلة في قضاء أشغالهم ولوازمهم، وفي ٨ يونيو أقام حسن باشا معسكره بناحية الآثار (أثر النبي)، «وخرج أيضًا محو بك بعسكره وطوائفه ومعهم بيارق، وسافر جملة عساكر في المراكب ليرابطوا في البنادر، وكانت هذه خالية ليس بها أحد من أجناد البكوات، واستمر خروج الجند في الأيام التالية، وأشرف الباشا على الحركة، فصار يحضر من الجيزة إلى القاهرة لمراقبة خروج الجند، ولملاحظة الأمن بها؛ خوفًا من أن يتصل البكوات بأنصار لهم فيها، وللحيلولة دون تهريب الأسلحة والذخائر والعتاد إليهم، وكاد يقع تحت طائلة العقوبة بتهمة إمداد البكوات بالأسلحة وما إليها أحد تجار القاهرة المعروفين السيد سلامة البخاري وأخوه وابن أخيه، لولا اتضاح براءتهم للباشا مما نُسب إليهم.»

ولما استكمل حسن باشا استعداداته نزل مع جنده في النهر وبدأ زحفه صوب الصعيد، وانسحب البكوات من دهشور إلى الرقق، ثم إلى ناحية صول والبرنبل؛ حيث أقاموا أمام «صول» خطًّا طويلًا من التحصينات (أو المتاريس)، ونصبوا بطارية من ستة مدافع، لوقف تقدم الجيش الزاحف، وكان على قيادة هذا الجيش كذلك صالح قوج، وعابدين بك، وطبوز أوغلي، ولم يكن في تعليمات حسن باشا ما يجيز له الالتحام مع البكوات في معركة كبيرة، بل الاكتفاء بمناوشتهم ومطاردتهم، على ألَّا يصرفه هذا عن تحقيق الهدف الرئيسي من حملته، وهو الاستيلاء على المراكز المنيعة بالصعيد، ولكن مقاومة البكوات الشديدة لزحفه عند صول والبرنبل، اضطرته إلى إنزال جنده الأرنئود إلى البر لمناجزتهم، فكانت أول معركة كبيرة بين جيشي محمد علي والبكوات.

فقد شن عليهم حسن باشا هجومًا كبيرًا يوم ١٧ يونيو، وأجلى المماليك عن المتاريس، وملكها وانتصر عليهم، وقُتل رجل من الأجناد (في جيش البكوات) وهو الذي كان محافظًا على المتاريس، يُقال له إبراهيم آغا، سقط به الجرف إلى البحر، فأخذوه؛ أي جند حسن باشا إليهم، ومعه آخر وقتلوهما، وقطعوا رءوسهما وأرسلوهما صحبة المبشرين إلى محمد علي، فعلقوا الرأسين بباب زويلة.

ولكن لم يلبث أن انقلب هذا النصر إلى هزيمة، عندما باغت البكوات جند حسن باشا مكمنين وكاتمين أمرهم في أول الليل (١٧ يونيو)، فدهموا الأرنئود من كل ناحية، فوقع بينهم مقتلة عظيمة، وأخذوا منهم عدة بالحياة، وأخذوا منهم أشياء، فانسحب الأرنئود لاجئين إلى السفن مخلفين وراءهم جثث قتلاهم التي ألقاها المماليك في النيل فحملها التيار إلى القاهرة، منبئة بالهزيمة.

وساعدت الريح السفن، فاستأنف حسن باشا سيره إلى بني سويف، وأما البكوات، فقد عبر النهر منهم طائفة إلى شرق أطفيح، وانتقل بواقيهم راجعين إلى ناحية الجيزة قريبًا من عرضى الباشا.

وفي ٢٢ يونيو وصل طائفة من المماليك إلى المرابطين لخفارة عرضى الباشا، واحتاطوا بهم، وساقوهم إليهم، فانزعج العرضى، وحصل فيهم غاغة، وسادت الفوضى، وترك الجند خيامهم للتحصين بالجيزة (البلد)، ولكن المهاجمين لم يستطيعوا التقدم، وكان الذي أوقف هجومهم وأبطله حدوث الانقسام في صفوفهم.

فقد أخذ فريق من البكوات يشكون ويتذمرون من غطرسة شاهين بك الألفي الذي زاد صلفًا وغرورًا منذ أن صارت له الرئاسة على المماليك المرادية واقتسم السلطة مع إبراهيم بك، فأساء معاملة كثيرين من البكوات ومماليك بيت الألفي الذي ينتسب إليه شاهين نفسه، وأفلح وكلاء الباشا في تزكية هذا التذمر وزيادته اشتعالًا، وراح الباشا بواسطة هؤلاء الوكلاء — وكان أهمهم مصطفى كاشف المورلي، وهو معدود من طوائف المماليك سابقًا، وملتحق الآن بخدمة كتخدا بك محمد آغا لاظ — يبذل لهم الوعود السخية، فانشق ثلاثة من البكوات مع حوالي الستة عشر كاشفًا، ونحو المائتي مملوك من فرسانهم، على شاهين، وكان رفضهم الاشتراك في العمليات العسكرية المهيأة للهجوم على الجيزة السبب في إبطال هذا الهجوم (في ٢٢ يونيو)، ولم يلبث البكوات المنشقون أن غادروا معسكرهم في ليل ٢٢ يونيو، وعبروا النيل قاصدين تسليم أنفسهم إلى الباشا، وانتهى الأمر بصلحهم معه وانضمامهم إليه هم والكشاف والفرسان المماليك الذين ذكرناهم (في ٢٨ يونيو).

وقد صادف أثناء عبورهم النيل في سواد الليل إلى القاهرة، أن كان الباشا نفسه يعبر النهر في طريقه إلى الجيزة؛ لأن ولده طوسون عند هجوم المماليك الأول على مخافر معسكره الأمامية وتوقعه حدوث هجوم كبير على الجيزة، كان قد أرسل إلى والده بالقلعة يستدعيه على عجل إلى المعسكر، فنزل الباشا وعدى إلى البر الغربي، وسمع الباشا أثناء التعدية واحدًا يقول للآخر: قدم حتى نقتل المصريين (البكوات المماليك) ونبدد شملهم، ويكرر ذلك، فأرسل الباشا مركبًا، وأرسل بعض أتباعه لينظروا هذين الشخصين، ولأي شيء نزلا البحر في هذا الوقت، فلما ذهبوا إلى الجهة التي سمع منها الصوت لم يجدوا أحدًا، وتفحصوا عنهما فلم يجدوهما، فاعتقد من له اعتقاد منهم، أنهما من الأولياء، وأن الباشا مساعد بأهل الباطن.

ولكن اتضح ثاني يوم (٢٣ يونيو) أن الذين عدوا إلى البر الشرقي في الليل كانوا البكوات المنشقين، وهم ثلاثة من الأمراء الألفية: نعمان بك وأمين بك ويحيى بك.

وكان لانشقاق هؤلاء — ومن تبعهم من الكشاف والفرسان المماليك — آثار كبيرة، من حيث إن هذه الحركة، زيادة على إحباطها خطة الهجوم الذي كان البكوات قد اعتزموا القيام به، قد أضعفت مركز شاهين الألفي، الذي أخذ يفقد احترامه بين جماعته وبين سائر زملائه البكوات، وضاع نفوذه رويدًا رويدًا بينهم، وتشجع آخرون على مغادرة معسكر البكوات والانضمام إلى محمد علي، وأُتيحت الفرصة للباشا لإشاعة الانقسام مرة أخرى في صفوفهم، وهو على وشك الالتحام معهم في معركة اللاهون الفاصلة، وآثر شاهين الألفي نفسه في آخر الأمر التسليم لمحمد علي والصلح معه، على نحو ما سيأتي ذكره كله.

ولقد كان بسبب خطورة حادث الانشقاق هذا، وما يكشفه من مدى ما وصل إليه تخاذل البكوات وتفاشلهم من ناحية، وبراعة محمد علي في توسيع شقة الخلاف بينهم، أن سجل الشيخ الجبرتي تفاصيله، وغني عن البيان أن الشيخ وإن كان أمينًا في نقله ما حدث بدقة بالغة، وتتفق روايته جملة وتفصيلًا ما ذكره المعاصرون، وضمنه الوكلاء الفرنسيون تقاريرهم، فإنه كان بعيدًا كل البعد عن الاغتباط لما حدث، بل وآلمه أن يفشل البكوات في حزم أمرهم في ساعتهم العصيبة، وأن تغتر فئة منهم بوعود محمد علي الخلابة والكاذبة في نظر الشيخ، وهو الذي لم يكن قصده — كما اعتقد الشيخ أيضًا — من مسعى الصلح مع البكوات واستمالتهم إلى العيش في كنفه بالقاهرة إلا كسر شوكتهم ثم الإجهاز عليهم عند سنوح أول بادرة والفتك بهم، ويتفق الشيخ في عدم الثقة بمحمد علي أصلًا وإطلاقًا مع إبراهيم بك الكبير خصوصًا.

وها هي ذي روايته عن حادث انشقاق نعمان بك ويحيى بك وأمين بك الألفي.

«وفي عشرينه؛ أي ٢٠ جمادى الأولى ١٢٢٥ / ٢٣ يونيو ١٨١٠، ظهر التفاشل بين الأمراء المصريين، وتبيَّن أن الذين كانوا عدوا إلى البر الشرقي هم ثلاثة أمراء من الألفية وهم نعمان بك وأمين بك ويحيى بك، وذلك أنهم لما تصالحوا مع الباشا، وأميرهم شاهين بك وهو الرئيس المنظور إليه ومطلق التصرف في معظم البر الغربي والفيوم، ويتحكم فيهم وفي طوائف العربان وأهالي البلاد والفلاحين بما يريد، وكذلك أموال المعادي بناحية الأخصاص وإنبابة والخبيري (المعادي) وغير ذلك، وهو شيء له قدر كبير، زاد فيهم أيضًا أضعاف المعتاد، فيأخذ جميع ذلك ويختص به، وذلك خلاف إنعامات الباشا عليه بالمئين من الأكياس، ويشتري المماليك والجواري الحسان، ولا يدفع لهم ثمنًا، فيشكون إلى الباشا فيدفعه إلى اليسرجية من خزينته وهو منشرح الخاطر، وإخوانه يتأثرون لذلك، وتأخذهم الغيرة ويطمعون في جانبه، وهو يقصر في حقهم ولا يعطيهم إلا النزر من المن والتضجر، وفيهم من هو أقدم منه هجرة، ويرى في نفسه أنه أحق بالتقدم منه، ولما دنت وفاة أستاذهم (محمد الألفي الكبير) أحضر شاهين بك وسلَّمه خزينته، وأوصاه بأن يعطي لكل أمير من خشداشينه سبعة آلاف مشخص، ولم يعطهم، وطفق كلما أعطاهم شيئًا حسبه عليهم من الوصية، حتى إذا أعطى البلك والبنش لنعمان بك مثلًا يعطيه له أنقص من بنش أمين بك نصف ذراع، ويقول هو قصير القامة، ونحو ذلك، فيحقدون ذلك عليه، ويشتكون من خسته وتقصيره، ويعلم الباشا ذلك.

فلما نقض شاهين بك عهده، وانضم إلى المخالفين (وترك الباشا)، وخشداشينه المذكورون معه بالتنافر القلبي، راسلهم الباشا سرًّا ووعدهم ومنَّاهم بأنهم إذا حضروا إليه وفارقوا شاهين بك الخائن المقصر في حقهم، أنزلهم منزلة شاهين بك وزيادة، واختص بهم اختصاصًا كبيرًا، فمالت نفوسهم لذلك القول، واعتقدوا بخسافة عقولهم صحته، وأنهم إذا رجعوا إليه هذه المرة ونبذوا المخالفين، اعتقد صداقتهم وخلوصهم، وزاد قدرهم ومنزلتهم عنده.

وتذاكروا عند ذلك ما كانوا فيه مدة إقامتهم بمصر من التنعم والراحة في القصور التي عمروها بالجيزة، والبيوت التي اتخذوها بداخل المدينة (القاهرة)، والرفاهية والفرش الوطيئة، وتحركت غلمتهم للنساء والسراري التي أنعم عليهم الباشا بها، وقالوا: ما لنا والغربة وتعب الجسم والخاطر والانزعاج والحروب والإلقاء بنفوسنا في المهالك، وعدم الراحة في النوم واليقظة، فردوا الجواب بالإجابة، وتمنوا عليه أيضًا ما حاك في نفوسهم بشرط طرح المؤاخذة، والعفو الكامل بواسطة من يعتمد صدقه.

فأجابهم الباشا لكل ما سألوه وتمنوه بواسطة مصطفى كاشف المورلي، وهو معدود سابقًا منهم، وانفصل عنهم وانتمى إلى كتخدا بك وصار من أتباعه.

فعند ذلك شرعوا في مناكدة أخيهم شاهين بك ومفارقته، وعقدوا معه مجلسًا، وقالوا له: قاسمنا في ربع المملكة التي خصونا بها في القسمة التي شرطوها، فإننا شركاؤك، فإن إبراهيم بك قسَّم مع جماعته، وكذلك عثمان بك حسن وعلي بك أيوب، فقال لهم: وما هو الذي ملكناه حتى أقاسمكم فيه؟ فقالوا: أنت تجحف علينا، وتختص بالشيء دوننا، فإننا لما اصطلحنا معك مع الباشا، وصرفك في البر الغربي اختصيت بإيراده، وهو كذا وكذا دوننا، ولم تشركنا معك في شيء، ولولا أن الباشا كان يراعينا ويواسينا من عنده لمتنا جوعًا، فنحن لا نرافقك ولا نصحبك ولا نحارب معك حتى تظهر لنا ما نقاتل معك عليه، وتزايدوا معه في المكالمة والمعاتبة والمفاقمة، ثم انفصلوا عنه، ونقلوا خيامهم إلى ناحية البحر، واعتزلوه وفارقوا عرضى الجميع.

فلما علم بذلك إبراهيم بك الكبير تنكَّد خاطره وقال: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم؛ أي شيء هذا الفشل وخسافة العقل والتفرق بعد الالتئام والاجتماع! وذهب إليهم ليصالحهم، ويضمن لهم كل ما طلبوه وطمعوا فيه عند تملكهم، وقال لهم: إن كنتم محتاجين في هذا الوقت لمصرف، أنا أعطيكم من عندي عشرين ألف ريال، اقسموها بينكم وعودوا لمضربكم معنا، فامتنعوا من صلحهم مع شاهين بك، فرجع إبراهيم بك يريد أخذ شاهين بك إليهم، فامتنع من ذهابه إليهم، وقال: أنا لست محتاجًا إليهم، وإن ذهبوا قلَّدت أمراء خلافهم، وعندي مَن يصلح لذلك ويكون مطيعًا لي دونهم، فإن هؤلاء يرون أنهم أحق مني بالرياسة.

والجماعة شرعوا في التعدية، وانتقلوا إلى البر الشرقي، وحال البحر بين الفريقين، ووصل إليهم مصطفى كاشف المورلي بمرسوم الباشا، واجتمعوا معه عند عبد الله آغا المقيم بناحية بني سويف، وضرب لهم شنكًا ومدافع، ثم إنهم عزموا على الحضور إلى مصر (القاهرة)، فوصلوا في يوم الخميس (٢٥ جمادى الأولى و٢٨ يونيو) وخلع عليهم وأعطاهم تقادم، ورجعوا إلى مضربهم بناحية الآثار، وصحبتهم ستة عشر من كشافهم، والجميع يزيدون عن المائتين، وأنعم عليهم الباشا بمائتي كيس، لكل كبير من الأربعة (والمتواتر أنهم أربعة ولم نعرف هوية الرابع على وجه التحقيق) عشرون كيسًا، ومائة وعشرون كيسًا لبقيتهم.

واشتروا دورًا واسعة، وشرعوا في تعميرها وزخرفتها على طرف الباشا، فاشترى أمين بك دار عثمان كتخدا المنفوخ بدرب سعادة، من عتقائه، ودفع له الباشا ثمنها، وأمر لكل أمير منهم بسبعة آلاف ريال ليصرفها فيما يحتاج إليه في العمارة واللوازم، وحوَّلهم بذلك على المعلم غالي، ولما تحقق شاهين بك انفصالهم قلَّد أربعة من أتباعه أمرياتهم، وأعطاهم بيرقًا وخيولًا، وضم لهم مماليك وطوائف.

وتمت حيلة الباشا التي أحكمها بمكره.»

ثم ذكر الشيخ الجبرتي الآثار المباشرة التي ترتبت على نجاح هذه الحيلة، فقال:

«وعند ذلك أُشيع في الإقليم القبلي والبحري تفرقهم وتفاشلهم، ورجع مَن كان عازمًا من القبائل والعربان عن الانضمام إليهم، وطلبوا الأمان من الباشا، وحضروا إليه ودخلوا في طاعته، وأنعم عليهم وكساهم.

وكانت أهالي البلاد عندما حصلت هذه الحادثة عصت عن دفع الفرض والمغارم، وطردوا المعينين وتعطل الحال، خصوصًا عندما شاع غلبة المصريين على الأرنئود (في صول والبرنبل)، وتفرقت عنهم العربان الذين كانوا انضموا إليهم وأطاع المخالف والعاصي والممانع.

وكلها أسباب لبروز المقدور والمستور في غيبه سبحانه وتعالى.»

وكان لهذا الحادث نتائج أخرى خطيرة؛ فقد كتب كل من «دروفتي» من القاهرة و«سانت مارسيل» من الإسكندرية في ٤ يوليو: أن البكوات بسبب تخاذلهم وتفاشلهم بعد (حادث الجيزة) قد اضطروا إلى التقهقر منسحبين نحو مدخل الفيوم قريبًا من قنطرة أو جسر اللاهون، وأن أعداد المنفصلين من المماليك عن شاهين الألفي في زيادة مضطردة، حتى صار هذا يعض بنان الندم على إصغائه لتحريض إبراهيم بك، ويأسف عظيم الأسف لمغادرته القاهرة والخروج على سلطان الباشا، وأن محمد علي لا يزال يدأب على كسب الوقت حتى تصله نجدات الدلاة وحتى يأتي الفيضان، ويثابر لذلك على اتصالاته السرية بالمماليك لإغراء فريق آخر من بكواتهم وأجنادهم على الانفصال عنهم، حتى إنه ليعتمد على نجاح مؤامراته في الغلبة عليهم أكثر من اعتماده على قوة جيشه، والأهم من هذا كله أن قواده في الصعيد قد نجحوا في تنفيذ الخطة الموضوعة.

والواقع أن حسن باشا وسائر القواد في حملة الصعيد، استولوا على بني سويف والمنيا ومنفلوط وأسيوط، ومع أن الجيش الزاحف انهزم عند شطب، جنوب أسيوط، فقد كانت هذه هي الهزيمة الوحيدة التي لحقت به، فكتب «دروفتي» إلى حكومته من القاهرة في ٢٨ يوليو: إن حسن باشا قائد الأرنئود المرسلين لأخذ البلاد الواقعة على جانبي النيل، قد برر تمامًا الثقة التي وضعها الباشا فيه، فدانت له الأقاليم بين بني سويف وإسنا، ومنذ أواسط الشهر نفسه، كان صالح قوج صاحب الحكم والسلطة في أسيوط، وطبوز أوغلي في المنيا، وحسن باشا نفسه في جرجا، ولم يجد مماليك وبكوات الصعيد بدًّا من التقهقر والانسحاب صوب الفيوم للانضمام إلى إخوانهم، فنجحت خطة الباشا التي هدفت إلى تجمع البكوات في مكان واحد لمناجزتهم دفعة واحدة.

وعلاوة على ذلك فقد وصلت في أوائل يوليو قوات الدلاة التي طلبها الباشا، فحضر كثير (من هؤلاء الفرسان) من الجهة الشامية، وكذلك حضر أتراك من على ظهر البحر كثيرون، من قولة ومقدونيا. وكتب «سانت مارسيل» في ٢١ يوليو: إن النجدات لا تصله من الشام يوميًّا، ثم إن مياه النهر قد بدأت تعلو وترتفع، وقرب موعد الفيضان، فتهيأت الأسباب إذًا لخروج الباشا ومناجزة البكوات في معركة فاصلة، وكان هؤلاء محتشدين.

(٩) معارك اللاهون والبهنسا

وبدأ الاستعداد جديًّا للخروج لقتال البكوات يوم ٤ يوليو، فقلَّد الباشا في هذا اليوم ديوان أفندي نظر مهمات الحرمين الشريفين والتأهب لسفر الحجاز لمحاربة الوهابية. وفي ٧ يوليو ارتحل الباشا بعسكره من الجيزة وانتقل إلى جزيرة الذهب، ونُودي في المدينة بخروج العساكر المقيمين بمصر، ولا يتخلف منهم أحد، وعمد الباشا إلى جمع الدواب والسفن والرجال الفلاحين بكل الوسائل، فزاد تعدي رجاله وخطفهم الحمير والجمال والرجال الفلاحين وغيرهم، لتسخيرهم في خدمتهم، وفي المراكب عوضًا عن النوتية والملاحين الذين هربوا وتركوا سفائنهم، ثم انحدر قبطان بولاق وأعوانه في طلب المراكب من بحر النيل.

وفي ١٢ يوليو غادر الباشا جزيرة الذهب قاصدًا إلى مدخل الفيوم؛ حيث وقف البكوات بجيشهم، وكان جيش الباشا يتألف من ثلاثة آلاف فارس وألفين من المشاة، وحرص محمد علي في أثناء زحفه على توقي أي هجوم قد يأتيه من ناحية المماليك، فسار بمحاذاة النهر متنقلًا من قرية إلى أخرى بمهارة فائقة مكنته في النهاية من قطع خطوط مواصلات المماليك مع النهر، وارتد هؤلاء على قناة بحر يوسف واتخذوا مواقعهم عند قنطرة اللاهون، واتخذ الباشا مواقعه أمامهم.

وعبثًا حاول المماليك استفزاز جند الباشا للالتحام معهم، فقد قضت تعليمات محمد علي أن يقتصر جنده على مناوشتهم لإرهاقهم قبل تخير الوقت المناسب لشن هجومه عليهم؛ ولأن المماليك الذين لا يعرفون من فنون القتال إلا الهجوم الشديد، سوف تربكهم المناورات والمناوشات الجزئية، التي يجهلون فنونها، وقد أفاد الباشا فعلًا من خطته هذه، وأنزل في كل مرة ناوشهم فيها خسائر اضطرت المماليك إلى التقهقر والابتعاد عن النهر تدريجيًّا، حتى انقطعت مواصلاتهم مع النيل — كما ألمعنا — وتجمعوا عند قناة أو بحر يوسف فضربوا وطاقهم على جزء القناة؛ حيث توجد قنطرة أو جسر اللاهون، وهو جسر يقع بين الوادي والصحراء، وأنشئوا متاريس، كتحصينات أمامية لمعسكرهم.

وثمة سبب آخر منع الباشا من الاشتباك معهم في التو والساعة، فقد كان الباشا لا يزال يعمل لاستمالة عدد آخر من البكوات والمماليك، وإحداث انقسام جديد في صفوفهم يزيد من إضعافهم ووهن عزائمهم، وقد تم له ما أراد في هذه المرة أيضًا.

ذلك أن مساعيه لقيت نجاحًا لدى أحد البكوات الألفية، حسين بك تابع حسين بك المعروف بالوشاش الألفي، فحاول الهروب والمجيء إلى الباشا، ومع أن شاهين الألفي تنبه للأمر وقبض عليه وأهانه وسلب نعمته وكتفه وأركبه على جمل مغطى الرأس، وأرسله إلى الواحات، ولكن حسين بك لم يزل حتى احتال وهرب وحضر إلى عرضى الباشا، فأكرمه وأنعم عليه وأعطاه خمسين كيسًا، واستمر عنده، وحذا حذو حسين بك، عدد من الكشاف، وحوالي العشرين من المماليك، ففروا إلى معسكر الباشا، وراحوا يؤكدون له — على نحو ما ذكر «دروفتي» في رسالته من القاهرة بتاريخ ٢٨ يوليو — أن شاهين الألفي نفسه منذ أن تركه البكوات الأربعة، والكشاف والفرسان المماليك الذين سلَّموا إلى الباشا (في ٢٨ يونيو) قد فقد كل اعتبار له عند زملائه، حتى صار يشكو بمرارة من إبراهيم بك وعثمان بك حسن، والبكوات الآخرين من بيت مراد، ويلعن اليوم الذي انضم فيه إليهم، ويريد أن يتركهم إذا صفح الباشا عنه وأعطاه إيرادات مديرية الفيوم.

فكان لهذه الأخبار التي أظهرت انقسام البكوات وأكدت أنهم ما زالوا على منافساتهم وخلافاتهم القديمة ولا يخشى لذلك من بأسهم، أعظم الأثر في تقرير محمد علي التعجيل بالهجوم عليهم، فبعث أولًا برسله إلى شاهين بك يتفاوضون معه حتى يضمن شل حركته في المعركة المقبلة، وفي ليل ٢٠ يوليو ١٨١٠ شن محمد علي هجومًا عنيفًا مفاجئًا على المماليك في قنطرة اللاهون وانتصر عليهم.

وكان سبب هزيمة البكوات أنهم انخدعوا بما لاحظوه من حذر في عمليات الباشا منذ وصوله إلى الفيوم، فتهاونوا ولم يستعدوا الاستعداد اللازم، فعجزوا عن المقاومة عند مباغتتهم، وعقدوا العزم على إنقاذ عتادهم الحربي ومدافعهم، ولكنهم فشلوا حتى في هذا، فتقهقروا مسرعين إلى البهنسا — وهي قرية على بحر يوسف بالشاطئ الغربي — تاركين وراءهم عشر مدافع وقسمًا كبيرًا من عتادهم، فكانت هزيمة كبيرة، وصلت أخبارها إلى القاهرة في ٢٨ يوليو، فبادر «دروفتي» بالكتابة عن تفاصيلها إلى حكومته في اليوم نفسه، كما تحدث عن آثارها فقال: «إن معركة قنطرة اللاهون قد ملَّكت الباشا مديرية الفيوم بأسرها، الإقليم الغني بغلاته الوفيرة، فاستولى الباشا على كل ما وجده من مؤن بها، ثم إن هذا النصر قد حرم كذلك شاهين بك من الغلال وغيرها مما كان يأخذه من القرى بمديريتي الجيزة والفيوم، فزاد تذمره، وقوي سوء التفاهم بينه وبين إبراهيم بك، وفضلًا عن ذلك فقد أكسب هذا النصر جند الباشا ثقة في قوتهم لم تكن لديهم قبل هذه المعركة.»

ولم يفرح الشيخ الجبرتي لهذا النصر، ولم يستبشر به خيرًا، فاكتفى بأن سجل عن هذه المعركة الكبيرة في حوادث ٢٨ يوليو، أن الأخبار قد وصلت «بأن الباشا ملك قناطر اللاهون، وأن المصريين ارتحلوا إلى ناحية البهنسا، ولم يقع بينهم كبير محاربة، وأن الباشا استولى على الفيوم، وأرسل الباشا هدايا لمن في سرايته، ولكتخدا بك، من ظرائف الفيوم مثل ماء الورد والعنب والفاكهة وغير ذلك، واستولى على ما كان مودعًا للمصريين من غلال بالفيوم.»

وأما البكوات فقد ادعوا أنهم لم ينهزموا في معركة قنطرة اللاهون، وراحوا يذيعون أنهم لم ينهزموا، ولم يكن تقهقرهم إلا عن خطة موضوعة؛ لأنهم لم يشاءوا التعرض لنيران مدفعية الباشا دون فائدة؛ حيث إنهم قد قرروا أن يتخيروا هم الظرف المناسب حتى يكون سبق المبادأة في أيديهم، وأنهم قصدوا بتقهقرهم المتعمد، استدراج الباشا إلى حافة الصحراء؛ حيث يستطيعون في الأرض المنبسطة إطلاق فرسانهم على جيش الباشا وإنزال هزيمة ساحقة به في مكان بعيد عن النهر، ويتعذر على فلول جيشه التقهقر إلى النيل، على أن هذه الدعاوى، كانت إيهامات كاذبة.

وانتشى محمد علي بخمرة هذا الانتصار، فبادر بالكتابة إلى الباب العالي في آخر يوليو يزف إليه بشرى هذا الانتصار على البكوات، وهو الانتصار الذي تفاءل به محمد علي واعتبره مبشرًا بقرب زوال غوائلهم.

وفي الواقع استمر البكوات في تقهقرهم بعد هذه المعركة حتى وصلوا إلى كفر بهنسا، قرية على مسافة أربع عشرة مرحلة فوق جسر اللاهون، وتقع على حافة الصحراء الليبية، بدا للبكوات أنها أصلح مكان للصمود في وجه المشاة الأرنئود وقتالهم؛ حيث إن انبساط الأرض وخلوها من العقبات التي قد يجد فيها الأرنئود درعًا لحمايتهم سوف يعرضهم لهجوم فرسان المماليك المتصل عليهم، ثم لنيران مدفعيتهم التي اعتمدوا عليها في المعركة المقبلة.

وعلى ذلك، فإنه ما إن ظهرت طلائع جيش محمد علي — وكان قد استأنف الزحف بعد راحة قصيرة، والجنود مشتعلون حماسًا بسبب انتصارهم الأخير — حتى بادرهم المماليك بالهجوم عليهم، فدارت رحى الحرب في معارك متصلة، كل يوم تقريبًا، أبدى فيها الفريقان بسالة فائقة، ووقعت أشد هذه المعارك وأحماها وطيسًا في أيام ١١، ١٨، ٢٤ أغسطس ١٨١٠، ولكن كان لدى الباشا مدفعية متفوقة على مدفعية البكوات، ومشاته أكثر مرانًا على فنون القتال من مشاتهم، وقبل كل شيء محمد علي نفسه هو الذي يختار ميدان هذه المعارك بما يكفل له تجريد خصومه من الميزة التي لهم في دربة فرسانهم وتفوقهم، فخاب فأل البكوات في هذه المرة كسابقتها، وحلت بهم الهزيمة، فقُتل وأُسر منهم كثيرون، وتشتت شمل جيشهم، وكان يوم ٢٤ أغسطس هو يوم (معركة البهنسا) الفاصلة، ولاذ إبراهيم بك وعثمان بك وفلول المماليك بالفرار إلى أعالي الصعيد صوب الشلالات.

وللمرة الأولى في تاريخ جيش محمد علي، صدر بلاغ عسكري سجل هذا النصر، نقل «دروفتي» ترجمته في رسالته إلى حكومته في أول سبتمبر ١٨١٠، كما أثبت هذه الترجمة غيره من المعاصرين، ونص البلاغ ما يأتي:

من المعسكر بين بني عدي ومنفلوط في ٢٥ رجب ١٢٢٥/٢٤ أغسطس ١٨١٠

ما كدنا نرى طلائع فرسان المماليك حتى هاجمناهم على رأس فرساننا تعزز المدفعية هجومنا، وكان معنا (ومحمد علي هو المتحدث) ولدنا العزيز إبراهيم بك دفتردار مصر، فحملنا على العدو، وقد أطلقنا العنان لخيولنا حتى اخترقنا صفوفه من أول هجمة عليه، فشتتنا صفوفه وألحقنا به الهزيمة الساحقة، ثم طاردنا بعنف أولئك الذين لجئوا (من العدو) إلى الجبال في هذا المكان، حتى عقبة بني عدي، فبلغ عدد القتلى والأسرى أكثر من ستمائة، بينما طلب النجاة حوالي الألف في الفرار، فانسحبوا إلى منفلوط وأسيوط وأماكن أخرى، وعقب المعركة دخل ثلاثة من بكوات عثمان بك حسن، وآخر من بكوات الجماعة الأخرى إلى منفلوط مستسلمين، ثم طلب الأمان ستة من البكوات وعدد من الكشاف وفرسان المماليك العاديين، وأما إبراهيم بك العجوز وسليم بك الأعور (المحرمجي) وعثمان بك حسن وشاهين بك الألفي — وهم الذين جُبلوا على الهرب والفرار — فقد اتجهوا بعد أن أثخنتهم الجراح صوب إبريم وبلاد السودان، ومعهم فلول جيشهم المحطَّم، فحمدًا لله وشكرًا على نعمائه، الذي أنهى طغيان البكوات وحطمهم تحطيمًا.

ثم بادر محمد علي بالكتابة إلى القسطنطينية ينقل إليها خبر تمكنه من حرق طوائف البكوات الأشقياء الذين شقُّوا عصا الطاعة من جديد، ورفعوا راية الثورة والعصيان.

وأما الشيخ الجبرتي الذي لم يسجل هذا (البلاغ العسكري) في تاريخه، فقد اكتفى بأن ذكر في حوادث يوم ٣١ أغسطس: «وردت أخبار بوقوع حرابة بين الباشا والمصريين، وقتل بين الفريقين مقتلة عظيمة عند دلجة والبدرمان، وكانت الغلبة للباشا على المصريين، وأخذوا منهم أسرى، وحضر إلى الباشا جماعة من الأمراء الألفية بأمان، وهرب الباقون وصعدوا إلى قبلي، فعملوا؛ أي حكومة القاهرة، بذلك شنكًا ومدافع ثلاثة أيام، كل يوم ثلاث مرات.»

وفي أول سبتمبر وصل محمد علي القاهرة، وفي ١٣ سبتمبر ١٨١٠ «حضرت العساكر والتجريدة إلى نواحي الآثار والبساتين، ودخلوا (القاهرة) في صبيحة (١٤ سبتمبر) بطموشهم وحملاتهم، حتى ضاقت بهم الأرض، وحضر صحبتهم الكثير من الأجناد المصرية أسرى ومستأمنين.»

وبذلك اختتمت حملة ١٨١٠.

(١٠) شاهين الألفي … مستأمنًا

وتحدث «سانت مارسيل» — في كتابه إلى الوزير «شامباني» من الإسكندرية في ١١ أكتوبر ١٨١٠ — عن نتائج معركة البهنسا، فقال: «إن عددًا كبيرًا من المماليك قُتلوا أو أُسروا، وإن آخرين فرُّوا من جيش البكوات، لينضموا إلى الباشا، وإن من بين الجرحى شاهين بك الألفي وإبراهيم بك، وإن هناك بكوات آخرين يريدون الوصول إلى اتفاق جديد مع الباشا، يبدو من الصعب أن يقبله الباشا، والبكوات المنهزمون يضربون صوب إسنا ومن المنتظر أن يستأنفوا زحفهم منها (ضد قوات الباشا المرابطة في جهات الصعيد) عند انخفاض الماء في النيل، لا ريب في ذلك.

ولم يكن شاهين الألفي من بين البكوات الضاربين صوب إسنا.

فقد اتسعت شقة الخلاف بينه وبين إبراهيم وعثمان بك حسن، بعد الهزيمة الأخيرة خصوصًا، ورسخ في ذهنه أن المطاولة في معاداة الباشا لا جدوى منها ولا طائل تحتها غير تحمل مشاق التشريد والحرمان، وتاقت نفسه لاستئناف حياة الرخاء والدعة التي عاشها سابقًا في كنف محمد علي، مغمورًا بنعمائه، وأبلغ رغبته في الصلح مع الباشا، والاعتراف بسيادته وسلطانه، وأمل الباشا خيرًا من رغبة شاهين في الخضوع والاستسلام، ونسى غدره وخيانته السابقة، فأوفد إليه منذ أواخر سبتمبر، سليمان بك البواب لمصالحته على يد حسن باشا الذي تولَّى القيادة العامة الآن على الجند الباقين بالصعيد لتعقب فلول جيش المماليك.

فحضر شاهين بك ومَن معه إلى مصر مستأمنًا في ٨ نوفمبر ١٨١٠، ونصب وطاقه بناحية البساتين، فلما استقر بخيامه وعرضيه ببر مصر، حضر مع رفقائه، وقابل الباشا وهو ببيت الأزبكية، فبشَّ في وجهه، فقال شاهين بك: نرجو سماح أفندينا وعفوه عما أذنبناه، فقال الباشا: نعم، من قبل مجيئكم بزمان، وأخلى له بيت محمد كتخدا الأشقر بجوار طاهر باشا بالأزبكية، وفرشوه، ونظَّموه، ووعده برجوعه إلى الجيزة في مناصبه كما كان، حتى يتحول منها محرم بك صهر الباشا؛ لأنه عند انتقال شاهين بك من الجيزة عدى إليها محرم بك بحريمه، وهي ابنة الباشا، وسكن القصر بعسكره، وكذلك أسكن كبار أتباعه وخواصه القصور التي يسكنها الألفية وكذلك البيوت والدور، فوعدوا شاهين بك بالرجوع إلى محله.»

ووجد الشيخ الجبرتي في استئمان شاهين وتصديقه لوعود الباشا، دليلًا على خسافة عقله؛ لأن الباشا وهو يبش في وجهه ووجوه أتباعه إنما كان يفعل ذلك وهو مصر لهم على كل كريهة، ولم يكن من المعقول في نظر الشيخ — أن يخلي محمد علي قصر الجيزة من صهره، زوج ابنته، ليسكنه شاهين.

بيد أنه وقت استئمان شاهين، كان لم يطرأ أي تغيير على موقف محمد علي من البكوات المماليك، فهو لا يزال يرحِّب بالذين ينفصلون عن إخوانهم، ويقبلون الحضور إلى القاهرة معترفين بسلطان باشويته، فيعيشون بها في هدوء وسلام تحت إشرافه ومراقبته، يعاملهم نفس المعاملة التي يلقاها قواده منها، ويلحقون فرسانهم بجيشه المزمع إرساله إلى الحجاز، وهو لا يزال عاقدًا العزم على تعقب البكوات المخالفين والإمعان في تشريدهم، فموقف محمد علي إذًا من البكوات بعد انتصارات اللاهون والبهنسا هو نفس موقفهم منهم عندما بدأت حملة ١٨١٠.

ولقد كان ترحيبه بالبكوات الذين انشقوا على إخوانهم أثناء هذه الحملة وإسكانهم الدور وإغداق العطايا عليهم، مبعث اعتقاد كثيرين بأن الباب العالي نفسه يريد من الباشا إنهاء خصومته مع البكوات، والتقرب منهم والصلح معهم بدلًا من قتالهم؛ حتى يمكنه التفرغ لمسألة الحرمين الشريفين، وإنفاذ جيشه إلى الحجاز لاستنقاذهما، عبَّر عن هذا الرأي القنصل الفرنسي بالإسكندرية «سانت مارسيل» في كتابه إلى حكومته في ٢٤ أغسطس ١٨١٠.

وأما إصراره على مناجزة البكوات المخالفين الذين تشردوا في أعالي الصعيد عقب معارك البهنسا، فلأن هؤلاء لم يرضوا بالهزيمة، فراحوا يجمعون فلولهم، وتقدموا من أسوان وإسنا، ثم اتخذوا من جهات قنا وقوص قاعدة يغيرون منها على الإقليم الممتد من قنا إلى أسيوط وما بعدها، فالتحم قواد الباشا معهم مرات عدة، حتى انتصر عليهم أحمد آغا لاظ وأرغمهم على الارتداد إلى قنا وقوص (يناير وفبراير ١٨١١).

وعمد بكوات الصعيد، وقد حلت بهم الهزيمة، وضاع كل أمل لديهم بتاتًا منذ معارك اللاهون والبهنسا في مقاومة الباشا دون الاستعانة بحليف قوي، وعمدوا إلى التآمر ضد باشويته مع ألد خصومه وأعدائه، سليمان باشا الكرجي، ولقد تقدم في فصل سابق عند الكلام عن سياسة محمد علي أنه كان بين البكوات وسليمان باشا صداقة مشهورة معروفة، كما تبادل الفريقان المكاتبات، وشكا محمد علي مر الشكوى من هذه العلاقات للباب العالي؛ لأن وجود هذه العلاقات إلى جانب أنه يمنع الباشا من الخروج لحرب الوهابيين — وكان قد صح عزمه على تلبية رغبات الباب العالي لمواءمة ذلك لمصلحته، للأسباب التي سبق أن عرفناها — فقد كانت لُحمتها وسداها التآمر على باشويته وتقويض ملكه، بل ويتهم محمد علي سليمان باشا بأنه مدبر الفتنة ومحرض البكوات على العصيان والثورة، ولقد سبق أن ذكرنا رسالة محمد علي إلى الباب العالي في ٣ نوفمبر ١٨١٠، التي بسط فيها مشاريع البكوات الذين بالصعيد، وهدَّد في الوقت نفسه بأنهم إذا اعتزموا الذهاب إلى سليمان باشا، ليبعثن بجيشه إلى العريش وغزة لقطع السبيل على المماليك بما في ذلك من اعتداء على أقاليم من باشوية سليمان الكرجي، وظل محمد علي يطلب بإلحاح تنحية سليمان باشا عن ولاية الشام، حتى يتسنى له إرسال الجيش إلى الحجاز، بل وطالب محمد علي — كما عرفنا — بإسناد ولاية الشام ذاتها إلى ابنه طوسون، وراح «دروفتي» يعلل هذه المطالب — في رسالته إلى حكومته في ١١ نوفمبر ١٨١٠ — بأن الباشا يسوِّغ هذه (المشروعات الاستقلالية) بالأثر الذي أحدثه في نفسه مصادرته لكتاب كان قد بعث به سليمان باشا والي الشام حاليًا إلى البكوات المماليك وقت محاربة هؤلاء لمحمد علي، واستمر محمد علي مصرًّا على مطالبته بعزل سليمان الكرجي حتى الشهور الأولى من عام ١٨١١.

وأما المستأمنون من البكوات الذين يعيشون في القاهرة، وعلى رأسهم شاهين الألفي، فإنهم بالرغم من استئمانهم، وتمتعهم بالعيش الرغيد في القاهرة، فقد اختاروا في هذه المرة أيضًا نقض عهودهم، فاستأنفوا مؤامرتهم ضد الباشا، وصاروا يتراسلون مع إبراهيم بك وعثمان بك حسن وسائر البكوات بالصعيد، واستطاعوا بواسطة هؤلاء إنشاء الصلات مع سليمان باشا، وعلاوة على ذلك، فقد استأنف شاهين صلاته مع «بتروتشي» وعملاء الإنجليز، وبلغت به الحماقة أن أطلع «دروفتي» على صورة من كتابه إلى «كولنجوود» بتاريخ ٩ أغسطس ١٨٠٩، وهو الكتاب الذي سطَّره له تحت تأثير «بتروتشي»، وقد بعث «دروفتي» بصورة هذا الكتاب إلى حكومته طي رسالة مؤرخة في ١١ نوفمبر ١٨١١، تحدث فيها عن حسن المعاملة التي لقيها من محمد علي، الذي أعاد إليه قسمًا كبيرًا من الأملاك التي كان قد أعطاها له قبل خروجه على سلطانه في حادث ١٧ مايو ١٨١٠، وخشي محمد علي عندما شاهد تردد «بتروتشي» على شاهين، عودة هذا إلى التآمر عليه، لا سيما وأن الوكلاء الإنجليز عظم نشاطهم منذ عودة «بريجز» إلى الإسكندرية منذ مارس ١٨١٠، بعد أن كان قد غادرها — كما تقدم — وقت انسحاب حملة فريزر فعادت المؤامرات والمكائد إلى مصر بعودته، كما أكد «دروفتي» لحكومته منذ ١٢ مارس من العام نفسه.

وسواء أكان الوكلاء الإنجليز يتآمرون على محمد علي بالتعاون مع شاهين الألفي وزملائه، أم إنهم ما كانوا يبغون شيئًا من ذلك، فقد كفت زيارات «بتروتشي» الكثيرة لشاهين؛ لإثارة شكوك محمد علي ومخاوفه من ناحية شاهين، وبخاصة عندما تبين له أن شاهين وزملاءه متصلون عن طريق بكوات الصعيد المخالفين بسليمان باشا، بل وصادر بعض المكاتبات المتبادلة بين سليمان باشا وبين هؤلاء، والتي تدين شاهين الألفي بتهمة الاشتراك في هذا التآمر.

(١١) مذبحة القلعة

وتضافرت عوامل عدة خلال شهري يناير وفبراير ١٨١١ خصوصًا، لإقناع محمد علي بضرورة إنهاء مشاغله من ناحية البكوات المماليك، بإنزال ضربة ساحقة ماحقة بهم، لا تقوم لهم قيامة بعدها، وكان أهم هذه العوامل — بلا شك — عدا اتضاح غدر مستأمني البكوات، ومثابرتهم مع سائر إخوانهم على الكيد له لهدم سلطانه، بل والقضاء على حياته هو نفسه، أن الباب العالي وعد بجعل باشوية مصر وراثية في أسرته في وضع مشابه لوضع وجاقات الغرب، إذا أنفذ محمد علي جيشه إلى الحجاز لقتال الوهابيين، أي إن الباشا صار يرى قاب قوسين أو أدنى، تحقيق ذلك المشروع الكبير الذي أخذ يعمل جادًّا لإخراجه إلى حيز الوجود، من أيام حملة «فريزر»، ودل وعد الباب العالي هذا على أن سياسة الباشا التي ارتكزت في تطورها الأخير، وعند رفض كل من إنجلترة وفرنسا لمشروع استقلاله، على الاتجاه صوب تركيا، مع ما يستتبع ذلك حتمًا — كما سبق أن أوضحنا — من الخروج إلى حرب الوهابيين — دل هذا الوعد على أن هذه السياسة قد أثمرت ثمرتها النافعة، وأن الجهود المضنية التي بذلها محمد علي لإنجاح هذه السياسة لم تذهب سدى؛ ولذلك فقد صار لزامًا عليه اتخاذ كل إجراء يكفل انتصار جيشه في الحملة المقبلة في بلاد العرب، ومن أولى الإجراءات اللازمة، اطمئنانه إلى باشويته ذاتها، وعدم تعريضها لخطر هجوم أعدائه عليها أثناء وجود جيشه بالحجاز، ومعنى هذا الاطمئنان أن تكون حكومته موطدة الدعائم داخليًّا، وهذا ما كفله انفراده بالسلطة، وأن ينبسط سلطانها على أرجاء الباشوية، وهذا ما جعله يشن الحرب على المماليك عندما أعيته الحيل في إلزامهم الوفاء بعهودهم المتكررة معه، ثم ما صار يعتزمه من الفتك بهم للتخلص من شرهم نهائيًّا، حينما ثبت لديه تآمرهم عليه، واتضح له أن المستأمنين منهم أنفسهم ضالعون في هذه المؤامرة.

وكان أول ما لفت انتباهه إلى ضرورة اتخاذ إجراء حاسم مع البكوات، إلحاح قبو كتخداه في الآستانة وسائر وكلائه بها في ضرورة إنفاذ جيشه إلى الحجاز، ثم تأكيدهم له بأن الباشوية الوراثية موعود بها إذا حقَّق رجاء الباب العالي فيه، وتعتبر رسالة محمد نجيب أفندي المؤرخة في ٢٠ ديسمبر ١٨١٠ — وقد سبق إثباتها بنصها — من أهم الكتب في هذا الصدد.

ومنذ ذلك التاريخ، ظلت تترى في هذا المعنى رسائل وكلائه لدى الباب العالي، كما حُلت مشكلة هامة أخرى ارتبطت بمسألة الخروج إلى حرب الوهابيين، هي مشكلة يوسف باشا كنج، من ذلك كتاب محمد نجيب في ٩ يناير ١٨١١، وكتابا أحمد شاكر في ٢٧، ٢٨ يناير، ومحمد نجيب مرة أخرى في ٢٨ يناير، وهي التي تتضمن جعل إيالة مصر منحصرة في أولاد محمد علي وسلالته الطاهرة، مع توجيه رتبة الخان الرفيعة له.

هذه الرسالة وصلت محمد علي في أوائل فبراير ١٨١١، وفي أوائل الشهر التالي وصلته من القسطنطينية رسالة أخرى من محمد عارف أفندي الذي قال: إنه يعمل يدًا واحدة مع محمد نجيب أفندي، وفي هذه الرسالة المؤرخة في ٢٤ فبراير ١٨١١، ألحَّ محمد عارف أفندي في ضرورة إنفاذ الجيش إلى الحجاز، وراح يؤكد للباشا أنه ما إن يصل القسطنطينية الخبر بقيام طوسون باشا، حتى تُجاب جميع مطالب محمد علي من الباب العالي.

وكان أن راح البكوات يسعون لتضليل محمد علي من ناحية، ثم للفتك بحياته من ناحية أخرى، فمع أن بكوات الصعيد كانوا يتراسلون مع سليمان باشا — كما كان يتراسل معه كذلك شاهين الألفي — فقد بعثوا بمندوب عنهم لمفاوضة الباشا حتى يشغلوه عن أغراضهم الحقيقية، فطلبوا الاستئثار بالصعيد بأسره؛ أي العودة إلى ما كانوا عليه قبل هزيمتهم بقنطرة اللاهون والبهنسا، وهم يعرفون جيد المعرفة أن الباشا الذي اضطر إلى خوض غمار الحرب معهم وألحق بهم الهزيمة الساحقة، لم يقبل بحال هذه العروض، ولن يتم أي صلح بينه وبينهم إلا على أساس الاعتراف — دون التواء — بسيادته وسلطانه الكامل على باشويته، وأن لا مفر من حضورهم إلى القاهرة والإقامة بها، فكتب «دروفتي» إلى حكومته في ١٦ يناير ١٨١١ «أن البكوات يريدون عقد الصلح مع الباشا على أساس الاعتراف بسيادته، في نظير إعطائهم الصعيد إقطاعية لهم، فلم تسفر المفاوضة عن أية نتيجة؛ لأن الباشا ظل مصممًا على حضورهم إلى القاهرة والإقامة بها، ووعد إذا هم فعلوا ذلك أن يعطيهم من الأملاك ما يكفيهم إيرادها أن يعيشوا حسب مراتبهم، كما يفعل الباشا مع رؤساء جيشه.»

على أن الذي أقنع الباشا نهائيًّا أنه لا يمكن أمن جانب البكوات إطلاقًا أن راح البكوات المستأمنون بالقاهرة يتآمرون على الغدر به، ذلك أن محمد علي كان قد ذهب إلى السويس في أول فبراير ١٨١١، للإشراف على إعداد السفن اللازمة لنقل جيشه إلى الحجاز، فبلغه وهو هناك أن البكوات قد بيتوا النية على خطفه والفتك به أثناء عودته بطريق الصحراء إلى القاهرة، على غرار ما كانوا دبَّروه في ديسمبر ١٨٠٩، فبادر بالعودة سريعًا من السويس، وكتب الشيخ الجبرتي أن الباشا وصل القاهرة يوم ٢٦ فبراير ١٨١١ من السويس في سادس ساعة من الليل وقد حضر على هجين بمفرده، ولم يصحبه إلا رجل بدوي على هجين أيضًا ليدله على الطريق، وقطع المسافة في إحدى عشر ساعة، وهي المسافة التي تُقطع عادة في ثلاثة أيام.

فكانت هذه المؤامرة من العوامل الحاسمة في تعجيل الباشا الإجهاز على البكوات المماليك.

وفي اليوم نفسه وصل صالح قوج حاكم أسيوط إلى القاهرة، وكان موجودًا بها قبله حسن باشا، فبدأ من ثم تدبير تفاصيل المكيدة التي أودت بالبكوات في مذبحة القلعة، اشترك في تدبيرها رجال محمد علي الذين وثق بهم، عدا حسن باشا وصالح قوش، كتخدا بك محمد آغا لاظ (لاظ أوغلي)، وسليمان آغا السلحدار، وفي صباح اليوم المتفق عليه لتنفيذ المذبحة اطلع على السر إبراهيم آغا المكلف بحراسة باب العزب، وكان قد تم الاتفاق على اتخاذ الاحتفال بتقليد طوسون قيادة حملة الحجاز ذريعة لدعوة البكوات وأتباعهم إلى القلعة للاشتراك في الموكب الذي رُتب خروجه من القلعة، من باب العزب إلى ميدان الرميلة.

ففي يوم ٢٦ فبراير قلَّد الباشا ابنه طوسون باشا صاري عسكر الركب الموجه إلى الحجاز، وأخرجوا جيشهم إلى ناحية قبة العزب (القبة)، ونصبوا عرضيًّا وخيامًا، وأظهر الباشا الاجتهاد الزائد والعجلة وعدم التواني في إنفاذ جيشه إلى الحجاز، ونوَّه بتسفير عساكر لناحية الشام لتمليك يوسف باشا (كنج) لمحله، وصاري عسكرهم شاهين بك الألفي.

وسبك الباشا الحيلة، فطلب من المنجمين أن يختاروا وقتًا صالحًا لإلباس ابنه خلعة السفر، فاختاروا له الساعة الرابعة من يوم الجمعة، أول مارس ١٨١١.

وفي ٢٨ فبراير، وزِّعت التنابيه أو أوراق الدعوة لحضور الاحتفال على كبار العسكر والأعيان، وكل ذي حيثية، وبطبيعة الحال الأمراء المصرية الألفية وغيرهم يطلبونهم جميعًا للحضور في باكر النهار إلى القلعة ليركب الجميع بتجملاتهم وزينتهم أمام الموكب، وجرى توزيع رقاع الدعوة هذه بصورة لفتت أنظار العامة وسائر الناس، عرف الجميع أن موكبًا فخمًا سوف يخرج بصورة رائعة من القلعة صبيحة اليوم التالي، وكان الغرض من هذه الجلبة أن يرسخ الاعتقاد في أذهان البكوات وأتباعهم أن دعوتهم للاشتراك في الاحتفال المزمع بريئة، فلا يحتاطون ولا يأخذون حذرهم.

وفي اليوم التالي — أول مارس — وقعت المذبحة.

وتتفق روايات المعاصرين عن هذه المذبحة وما تلاها، ولو أن رواية الشيخ الجبرتي أوفى في تفاصيلها عن سواها، ليس لاهتمامه بتسجيل ما يجري في إسهاب دائمًا — وهو الذي لزم في المدة الأخيرة الإيجاز في أكثر ما يكتب، إلا فيما اتصل بأخبار البكوات وأساليب الباشا المالية والغلاء، واعتداءات الجند على الأهلين — ولكن لأن ما جرى في ذلك اليوم كان حدثًا مدويًّا حقًّا، ولأن المذبحة أجهزت على البكوات الذين اعتبرهم الشيخ دائمًا مصريين، وكان يود لو أنهم استطاعوا الانتصار على الباشا وزحزحة الطاغية — في نظره — عن عرشه، فقضت خاتمتهم المروعة هذه على كل أمل لدى الشيخ في إنهاء حكم محمد علي.

ورواية الشيخ الجبرتي إلى جانب أنها وافية، فهي ترسم صورة تبرز وقائع هذا اليوم الرهيب، وكأنها تجري متلاحقة في أثر بعضها بعضًا أمام أعيننا، قال:

«فلما كان يوم الخميس رابعه (٤ صفر ١٢٢٦ / ٢٨ فبراير ١٨١١) طاف ألاي جاويش بالأسواق على صورة الهيئة القديمة في المناداة على المواكب العظيمة، وهو لابس الضلمة والطبق على رأسه، وراكبًا حمارًا عاليًا، وأمامه مقدم بعكاز، وحوله قابجية ينادون بقولهم: يارن ألاي، ويكررون ذلك في أخطاط المدينة، وطافوا بأوراق التنابيه على كبار العسكر والبينيات والأمراء المصرية الألفية وغيرهم، يطلبونهم للحضور في باكر النهار إلى القلعة؛ ليركب الجميع بتجملاتهم وزينتهم أمام الموكب.

فلما أصبح يوم الجمعة (٥ صفر/أول مارس)، ركب الجميع وطلعوا إلى القلعة، وطلع المصرية بمماليكهم وأتباعهم وأجنادهم، فدخل الأمراء عند الباشا، وصبَّحوا عليه، وجلسوا معه حصة وشربوا القهوة، وتضاحك معهم، ثم انجر الموكب على الوضع الذي رتَّبوه.

فانجر طائفة الدلاة وأميرهم أزون علي، ومن خلفهم الوالي والمحتسب والآغا والوجاقلية والألدشات المصرية ومن تزيَّا بزيهم، ومن خلفهم طوائف العسكر الرجالة والخيالة والبيكباشيات وأرباب المناصب منهم، وإبراهيم آغا آغات الباب، وسليمان بك البواب يذهب ويجيء ويرتب الموكب.

وكان الباشا قد بيَّت مع حسن باشا وصالح قوج والكتخدا فقط غدر المصرية وقتلهم، وأسرَّ بذلك في صبحها إبراهيم آغا آغات الباب.

فلما انجر الموكب وفرغ طائفة الدلاة، ومن خلفهم من الوجاقلية والألداشات المصرية، وانفصلوا من باب العزب، فعند ذلك أمر صالح قوج بغلق الباب، وعرَّف طائفته بالمراد، فالتفتوا ضاربين بالمصرية، وقد انحصروا بأجمعهم في المضيق المنحدر المقطوع في أعلى باب العزب، مسافة ما بين الباب الأعلى الذي يُتوصل منه إلى رحبة سوى القلعة، إلى الباب الأسفل، وقد أعدوا عدة من العساكر أوقفوهم على علاوي النقر والحجر والحيطان التي به، فلما حصل الضرب من التحتانيين، أراد الأمراء الرجوع القهقرى، فلم يمكنهم ذلك لانتظام الخيول في مضيق النقر، وأخذهم ضرب البنادق والقرابين من خلفهم أيضًا، وعلم العساكر الواقفون بالأعالي المراد، فضربوا أيضًا.

فلما نظروا؛ أي المماليك، ما حل بهم سقط في أيديهم، وارتبكوا في أنفسهم، وتحيروا في أمرهم، ووقع منهم أشخاص كثيرة، فنزلوا عن الخيول، واقتحم شاهين بك الألفي وسليمان بك البواب وآخرون في عدة من مماليكهم راجعين إلى فوق، والرصاص نازل عليهم من كل ناحية، ونزعوا ما كان عليهم من الفراوي والثياب الثقيلة، ولم يزالوا سائرين وشاهرين سيوفهم، حتى وصلوا إلى الرحبة الوسطى المواجهة لقاعدة الأعمدة، وقد سقط أكثرهم، وأُصيب شاهين بك وسقط إلى الأرض، فقطعوا رأسه وأسرعوا بها إلى الباشا ليأخذوا عليها البقشيش.

وكان الباشا عندما ساروا بالموكب ركب من ديوان السراية، وذهب إلى البيت الذي به الحريم، وهو بيت إسماعيل أفندي الضربخانة.

وأما سليمان بك البواب فهرب من حلاوة الروح وصعد إلى حائط البرج الكبير، فتابعوه بالضرب حتى سقط وقطعوا رأسه أيضًا، وهرب كثير إلى بيت طوسون باشا يظن الالتجاء به والاحتماء فيه، فقتلوهم.

وأسرف العسكر في قتل المصريين وسلب ما عليهم من الثياب ولم يرحموا أحدًا، وأظهروا كامن حقدهم، وضبعوا فيهم وفيمن رافقهم متجملًا معهم من أولاد الناس وأهالي البلد الذين تزيوا بزيهم لزينة الموكب، وهم يصرخون ويستغيثون، ومنهم من يقول: أنا لست جنديًّا ولا مملوكًا، وآخر يقول: أنا لست من قبيلتهم، فلم يرقُّوا لصارخ ولا شاكٍ ولا مستغيث، وتتبعوا المشتتين والهربانين في نواحي القلعة وزواياها والذين فروا ودخلوا في البيوت والأماكن، وقبضوا على مَن أمسك حيًّا ولم يمت من الرصاص، أو متخلفًا عن الموكب، وجالسًا مع الكتخدا بك كأحمد بك الكيلارجي ويحيى بك الألفي وعلي كاشف الكبير، فسلبوا ثيابهم وجمعوهم إلى السجن، تحت مجلس كتخدا بك، ثم أحضروا أيضًا المشاعلي ليرمي أعناقهم في حوش الديوان واحدًا بعد واحد، من ضحوة النهار إلى أن مضى حصة من الليل في المشاعل، حتى امتلأ الحوش من القتلى، ومن مات من المشهورين المعروفين وانصرع في طريق القلعة، قطعوا رأسه، وسحبوا جثته إلى باقي الجثث، حتى إنهم ربطوا في رجلي شاهين بك الألفي ويديه حبالًا وسحبوه على الأرض مثل الحمار الميت إلى حوش الديوان، هذا ما حصل بالقلعة.»

هذا، ويذكر المعاصرون أن اختيار طريق باب العزب لنزول الموكب منه، كان أحد العوامل الحاسمة في نجاح المكيدة؛ لأنه طريق علاوة على انحداره وضيقه الشديدين كان كثير التعاريج، عميق الغور، بحيث صار جانباه من الصخر كحيطان عالية، فتعذر على المماليك ملاحظة ما بدا من نشاط الجند الواقفين على الصخور على جانبي الطريق عندما جاءت الإشارة بإطلاق النار، ثم إن السائرين في الموكب لم يكن في مقدورهم بسبب منعرجات الطريق رؤية زملائهم الأماميين أو الخلفيين؛ ولذلك بينما كان يدق المتقدمون على باب القلعة الضخم المصفح بالحديد (باب العزب) بعد إغلاقه المحكم، وتوقف طليعة أجناد المماليك وبكواتهم عند الباب وقد استولى عليهم الذهول، لم يدرِ سائر إخوانهم في المؤخرة بشيء مما وقع حتى وجدوا أنفسهم بغتة والرصاص ينهال عليهم.

زد على ذلك أن اطمئنانهم إلى طبيعة الاجتماع — للاحتفال بتقليد طوسون القيادة العامة لحملة الحجاز — جعلهم يغفلون التسلح بالقرابين والبنادق، فلم يكن معهم رصاصة واحدة، ولما كانوا قد تزينوا وتدثروا بأغلى الفراء والملابس الثقيلة، فقد زادت هذه من ارتباكهم، ثم كان من عوامل زيادة الفوضى في صفوفهم أن المتقدمين منهم عندما شاهدوا الضرب عليهم، حاولوا أن يلووا أعنة خيولهم للصعود إلى القلعة، بينما كان إخوانهم نازلين عليهم بخيولهم في المنحدر الشديد ولا يكادون يقدرون على كبح خيولهم.

ويزيد المعاصرون، أن سليمان بك البواب، الذي هرب من حلاوة الروح استطاع الوصول، وهو يكاد يكون عاريًا وقد أثخنته الجراح، إلى عتبة باب الحريم، وصار يستغيث قائلًا: أنا في عرض الحريم، وكانت هذه الاستغاثة حسب التقاليد، تكفي في ظروف غير هذه الظروف، لإنقاذه من الموت، ولكنهم قطعوا رأسه عند عتبة باب الحريم هذه، وأما طوسون عندما لجأ إليه آخرون، فكان واقفًا على باب داره ممتطيًا حصانه، وألقى المستنجدون به بأنفسهم على الأرض ركوعًا يتوسلون إليه أن يرحمهم، ولكن هذا ظل جامدًا ولم تختلج عضلة واحدة في وجهه وهو يرى الجند يقطعون رءوس الراكعين الذين مكَّنوهم بسبب ركوعهم هذا من أن ينفذوا فيهم القتل في سهولة ويسر.

ومع أن طريق باب العزب، وساحة (أو رحبة) القلعة الداخلية، وسائر أفنيتها عند الحريم والسراي (قلعة الباشا) وقلعة الإنكشارية، وقلعة الوجاقلية، وثكنات (أو قسم) العزب، كانت مغطاة بجثث القتلى، وأرديتهم ومجوهراتهم وأسلحتهم (سيوفهم وخناجرهم ذات المقابض الثمينة) وفرائهم، وسروج خيولهم، فإن أحدًا من الجند لم يغادر مكانه من أعلى الصخور، أو أغراه الطمع في هذه الأسلاب؛ لينصرف عن مهمته، فلم يبدأ سلب هذه الغنائم إلا بعد الفراغ من إبادة هؤلاء المماليك.

وكان الباشا عند بدء تنفيذ المذبحة وذهاب صالح قوج، مجتمعًا (بقاعة الاستقبال) مع شركائه الآخرين في تدبيرها: حسن باشا وكتخدا بك محمد آغا لاظ وسليمان آغا السلحدار، وقد لاذوا جميعًا بالصمت، والباشا يذرع القاعة جيئة وذهابًا، وقد استبد به وبزملائه القلق الجسيم، والسكون الرهيب يخيم عليهم، ويُفزِع حسن باشا وزميليه أقل بادرة أو إشارة مبهمة تبدر من الباشا الذي صار يزداد اصفرار وجهه كلما دنت ساعة التنفيذ، حتى إذا دوَّت أول رصاصة، علامة بدء المذبحة، وأعقب ذلك على الفور إطلاق الرصاص، توقف الباشا فجأة، ثم جلس على ديوانه، وبهت لونه، ولم يفتح أحد فاه بكلمة واحدة حتى إذا خفَّ دوي الرصاص، وانقطع إطلاقه رويدًا رويدًا، هدأت نفوس الباشا وزملائه كذلك وزايلهم الفزع رويدًا رويدًا، ولو أن السكون العميق ظل مخيمًا عليهم، حتى انفتح باب القاعة فجأة، فإذا بطبيب الباشا الخاص (مندريشي) يدخل عليهم متهللًا وهو يقول: «لقد قضي الأمر، واليوم يوم سعيد لسموكم»، فلمع بريق خاطف في عيني الباشا الذي وقف وطلب ماء ليشرب.

وأما في المدينة، فقد بدأ يوم الجمعة — وهو يوم عطلة — والقاهريون في بشر ومرح وسرور، ذلك أن طواف «الألاي جاويش» بالأمس في أسواق المدينة وأخطاطها، جعلهم يعتقدون أن اليوم يوم عيد و«فُرْجَة»، فبكر القاهريون بالخروج من منازلهم، وازدحموا في الميادين والشوارع التي توقعوا مرور الموكب منها، ثم طال انتظارهم حتى بدأ ينفد صبرهم، وراح بعضهم يصيح غاضبًا لتأخر الموكب، وراح آخرون يتبادلون النكات في تهكم على أسباب هذا التأخير، ولكن ما إن بدأت تخرج طليعة الموكب من باب العزب، حتى بادر الواقفون باتخاذ أماكنهم (للفُرْجَةِ) على طول الشوارع والأزقة وفي الحوانيت، وفي ميدان الرميلة خصوصًا، فشاهدوا الدلاة والوجاقلية والألداشات المصرية، ثم انقطع الموكب، وطال انتظار الجماهير في داخل المدينة لرؤية بقيته، وصار الناس يؤولون ما حدث تأويلات شتى، فمنهم من التمس عذرًا في أن موكبًا كبيرًا مثل هذا لا بد أن تعوقه بعض الصعوبات، وهؤلاء هم المتفائلون، ومنهم من صار قلقًا جزعًا، وخاف أن يكون في الأمر شيء، وهؤلاء هم المتشائمون، والوقت يمر، ويطول الانتظار وإذا بصيحات تدوي فجأة في هذه الشوارع الضيقة والمزدحمة بداخل المدينة: «لقد قُتل شاهين بك!» فكان هرج ومرج، وهلع وخوف، وتسابق الناس وهم مفزعون إلى بيوتهم، وأُغلقت الحوانيت، وبين طرفة عين وانتباهتها خلت الشوارع والميادين والأسواق من الناس، وتحولت في لحظة إلى مكان قفر، يخيم عليه السكون، بعد أن كانت تموج بالناس، وتسود فيها الحركة والنشاط العظيمان.

ولكن مآسي ذلك اليوم الرهيب لم يكن مقدرًا لها أن تنتهي بعد، وقد صوَّر الشيخ عبد الرحمن الجبرتي هذه المآسي في قوله وهو يسرد ما حدث بالمدينة:

«وأما أسفل المدينة، فإنه عندما أُغلق باب القلعة وسمع مَن بالرميلة صوت الرصاص، وقعت الكرشة في الناس، وهرب من كان واقفًا بالرميلة من الأجناد في انتظار الموكب، وكذلك المتفرجون، واتصلت الكرشة بأسواق المدينة، فانزعجوا وهرب مَن كان بالحوانيت لانتظار الفرجة، وأغلق الناس حوانيتهم، وليس لأحد علم بما حصل، وظنوا ظنونًا.

وعندما تحقق العسكر حصول الواقعة وقتل الأمراء، انبثوا كالجراد المنتشر إلى بيوت الأمراء المصريين ومَن جاورهم طالبين النهب والغنيمة، فولجوها بغتة، ونهبوها نهبًا ذريعًا، وهتكوا الحرائر والحريم، وسحبوا النساء والجواري والخوندات والستات، وسلبوا ما عليهن من الحلي والجواهر والثياب، وأظهروا الكامن في نفوسهم، ولم يجدوا مانعًا ولا رادعًا، وبعضهم قبض على يد امرأة ليأخذ منها السوار فلم يتمكن من نزعها بسهولة، فقطع يد المرأة.

وحلَّ بالناس في بقية ذلك اليوم من الفزع والخوف وتوقُّع المكروه ما لا يُوصف؛ لأن المماليك والأجناد تداخلوا وسكنوا في جميع الحارات والنواحي، وكل أمير (بك من المماليك) له دار كبيرة فيها عياله وأتباعه ومماليكه وخيوله وجماله، وله دار وداران صغار في داخل العطف، ونواحي الأزهر والمشهد الحسيني يوزعون فيها ما يخافون عليه لظنهم بُعدها وحمايتها بحرمة الخطة، وصونها عند وقوع الحوادث، وكثير من كبار العساكر مجاورون لهم في جميع النواحي، ويرمقون أحوالهم، ويطلعون على أكثر حركاتهم وسكناتهم، ويتداخلون فيهم ويباشرونهم ويسامرونهم بالليل، ويُظهِرون لهم الصداقة والمحبة، وقلوبهم محشوة من الحقد عليهم والكراهة لهم، بل ولجميع أبناء العرب.

فلما حصلت هذه الحادثة، بادروا لتحصيل مأمولهم، وأظهروا جميع ما كان مخفيًّا في صدورهم، وخصوصًا من التشفي في النساء، فإن العظيم منهم كان إذا خطب أدنى امرأة ليتزوج بها فلا ترضى به وتعافه وتأنف قربه، وإن ألح عليها استجارت بمن يحميها منه، وإلا هربت من بيتها واختفت شهورًا، وذلك بخلاف إذا ما خطبها أسفل شخص من جيش المماليك، أجابته في الحال.

واتفق أنه لما اصطلح الباشا مع الألفية، وطلبوا البيوت، ظهر كثير من النساء المستترات المخفيات، وتنافسوا في زواجهم وعملوا لهم الكساوي، وقدموا لهم التقادم وصرفوا عليهم لوازم البيوت التي تلزم الأزواج لزوجاتهم، كل ذلك بمرأى من الأتراك، يحقدونه في قلوبهم، وفيهم من حمى جاره وصان دياره ومانع أعلاهم أدناهم، وقليل ما هم، وذلك لغرض يبتغيه، وأمر يرتجيه، فإنه بعد ارتفاع النهب كانوا يقبضون عليهم من البيوت، فيستولي الذي حماه ودافع عنه، على داره وما فيها.

وانتُهبت دور كثيرة من المجاورين لهم أو لدور أتباعهم بأدنى شبهة وبغير شبهة، أو يدخلون بحجة التفتيش ويقولون: عندكم مملوك، أو سمعنا أن عندكم وديعة لمملوك، وبات الناس وأصبحوا على ذلك.

ونُهب في هذه الحادثة من الأموال والأمتعة ما لا يقدِّر قدره ويحصيه إلا الله سبحانه وتعالى.

ونُهبت دور كثيرة من دور الأعيان الذين ليسوا من الأمراء المقصودين، ومن المتقيدين بخدمة الباشا، مثل ذي الفقار كتخدا المتولي خوليًّا على بساتين الباشا التي أنشأها بشبرا، وبيت الأمير عثمان آغا الورداني، ومصطفى كاشف المورلي، والأفندية الكتبة، وغيرهم.

وأصبح يوم السبت (٢ مارس) والنهب والقتل والقبض على المتوارين والمختفين مستمر، ويدل البعض على البعض أو يغمز عليه.»

فكان بلاء عظيمًا.

ولكن الباشا لم يلبث أن نزل من القلعة في ضحوة هذا النهار (٢ مارس)، لوقف السلب والنهب، وإنزال العقوبة الرادعة بالمعتدين، وإعادة الأمن والنظام في المدينة، كما نزل ابنه طوسون باشا، وقُطعت رءوس كثيرين من العسكر الذين ضُبطوا متلبسين، وكانوا كما ذكر «دروفتي» حوالي العشرين، وقال الشيخ الجبرتي: «ولولا نزول الباشا وابنه في صبح ذلك اليوم لنهب العسكر بقية المدينة وحصل منهم غاية الضرر»، وقد قُدِّر عدد الدور التي نُهبت هذا اليوم بنيف وخمسمائة بيت، ولو أن «سانت مارسيل» قدَّر عددها بحوالي عشرين ومائة فحسب، كما أنه قدَّر قيمة المنهوبات بعشرة ملايين قرش تركي، وكان في أثناء طواف الباشا أن لاقاه مَن أخبره بأن المشايخ مجتمعون ونيتهم الركوب لملاقاته والسلام عليه والتهنئة بالظفر، فقال: أنا أذهب إليهم، ولم يزل في سيره حتى دخل إلى بيت الشيخ الشرقاوي، وجلس عنده ساعة لطيفة، فعادت الطمأنينة إلى النفوس، ولو أن القبض على المماليك والفتك استمر طوال هذا اليوم وفي الأيام التالية، وساهم حسن باشا (الأرنئودي) وكتخدا بك بقسط وافر في هذه المقتلة.

وجرى في النواحي والأقاليم مثل ما جرى في القاهرة، وفوَّض الباشا الأمر لكتخدا بك محمد آغا لاظ، وهو يعلم منه شدة الكراهة لجنس المماليك، فقُتل عديدون من المماليك في الوجهين البحري والقبلي، وأرسل طبوز أوغلي وحده — حاكم المنيا — خمسة وثلاثين رأسًا، وقدَّر الوكلاء الفرنسيون عدد من قضى من المماليك في مذبحة القلعة وسائر المذابح في الأقاليم، بحوالي الخمسمائة من بينهم ٢٥ بيكًا، ٦٠ كاشفًا، وقال «دروفتي»: «إن بيت الألفي قد اندثر تمامًا.»

وكان ممن قُتلوا: شاهين بك الألفي، ويحيى بك ونعمان بك وحسين بك الصغير ومراد بك وعلي بك، وكلهم من الألفية، وقُتل من كشاف الألفية كذلك: علي كاشف الكبير، وأما من قضي من غير الألفية، فكان منهم مرزوق بك بن إبراهيم بك الكبير، وسليمان بك البواب، ويوسف بك أبو دياب، وقد ورد ذكر كل هؤلاء والأدوار التي قاموا بها في سياق هذه الدراسة.

وأما من نجا من البكوات الألفية، فكانا أحمد بك الألفي زوج عديلة هانم بنت إبراهيم بك الكبير، وكان متغيبًا بناحية بوش، فإنه ما إن وصله النذير حتى غادر بوش وذهب عند الأمراء القبالى، ثم أمين بك الألفي، ويذكر الشيخ الجبرتي أنه تسلَّق القلعة، وهرب إلى ناحية الشام، وفي رواية أخرى أنه لم يدخل القلعة أصلًا في ذلك اليوم؛ حيث انشغل ببعض الأعمال الهامة في صبيحة ذلك اليوم فتأخر، ولم يصل القلعة إلا بعد أن كان الدلاة قد بدءوا خروجهم من باب الغرب، فاضطر إلى الانتظار، حتى إذا رأى الباب يُغلق وسمع دوي الرصاص أطلق لحصانه العنان، ميممًا شطر البساتين، وعاونه أحد مشايخ عربان الشرقية على الفرار إلى الشام، فأقام بطرابلس، ثم دخل في خدمة السلطان العثماني برتبة عسكرية.

ثم إن عددًا من الكشاف والمماليك استطاع الإفلات والنجاة بنفسه، فقد توارى البعض والتجأ إلى طائفة الدلاة، وتزيَّا بشكلهم ولبس طرطورًا، وأجاروه، وهرب كثير في ذلك اليوم (٢ مارس) وخرجوا إلى قبلي، وبعضهم تزيا بزي نساء الفلاحين، وخرج في ضمن الفلاحات اللاتي يبعن الجلة والجبنة، وذهبوا في ضمنهم، وفرَّ مَن نجا منهم إلى الشام وغيرها.

(١٢) الرأي في مذبحة القلعة

ولقد بُوغت المعاصرون مباغتة مذهلة بهذا الحادث المروِّع الذي استأصل شأفة طغمة المماليك من مصر إلى الأبد، فانبروا يستقصون أسباب المذبحة ويفسرون العوامل التي دفعت الباشا إلى إفنائهم بهذه الصورة.

فكتب «دروفتي» إلى حكومته في ٤ مارس ١٨١١، «لقد سبق أن ذكرت في تقريري بتاريخ ١٦ يناير ١٨١١ أن محمد علي يريد الذهاب إلى السويس، وقد ذهب فعلًا إليها منذ بضعة أيام ولم يعد منها إلا يوم ٢٤ فبراير، وفي أثناء غيابه يقول رجال حكومته إنه صادر خطابات جعلته يشك في مسلك البكوات والمماليك المقيمين بالقاهرة، والاعتقاد السائد أن هؤلاء يتراسلون مع البكوات والمماليك الموجودين بالصعيد، ثم بواسطة هؤلاء مع سليمان باشا والي الشام الذي لا يوجد أي تفاهم بينه وبين الباشا ولا يقوم بينهما أية علاقات أو صلات طيبة، وهذه الكارثة التي أدهشت كل الناس وألقت الرعب في قلوب أعداء الباشا، قد سلبت الإنجليز القليل الباقي لهم من أنصارهم في مصر والذين كان في وسعهم أن يعتمدوا عليهم عند وقوع أي حادث في المستقبل.»

وفي ١٥ مارس ١٨١١، كتب «سانت مارسيل» من الإسكندرية: «والمعتقد أن الباشا لم يعمد إلى إبادة المماليك إلا بعد أن صُودرت خطابات منهم إلى البكوات في الصعيد وإلى سليمان باشا حاكم دمشق حاليًا وعدو محمد علي باشا بعد أن لاذ به ولجأ إليه يوسف باشا كنج حاكم دمشق السابق.»

وفي أول مايو ١٨١١، كتب «ستراتفورد كاننج» Stratford Canning السفير الإنجليزي في القسطنطينية إلى حكومته: أن الريس أفندي اعترف له بأن هذه المذبحة قد وقعت بناء على أمر من السلطان لمحمد علي.

وفي ٨ مايو ١٨١١، كتب «دروفتي» إلى حكومته: «وسوف تُدهشون كثيرًا — ولا ريب — إذا عرفتم أن الباشا قرَّر مذبحة البكوات والمماليك الذين كانوا قد حضروا ليضعوا أنفسهم تحت رحمته بإيعاز من الوكلاء الإنجليز، وقد بلغت وقاحة هؤلاء حدًّا جعلهم يجرءون على المباهاة بفعلتهم هذه قائلين إن محمد علي قد أحرز بفضل هذا النجاح على أعدائه الداخليين نصرًا سبق فيه الجيش الفرنسي الحاضر لغزو مصر»، ثم استطرد «دروفتي» يقول: «وفي مقابلة لي مع الباشا للمباحثة في بعض الشئون قبل رحيله إلى الإسكندرية (في أبريل) بدرت من الباشا عبارة تمس هذا الموضوع، عجزت وقتذاك عن إدراك معناها، ولكنه يبدو لي اليوم أنه يجب تفسيرها بنفس هذا المعنى، ومهما يكن من شأن هذه الأمور المنطوية على التهكم والسخرية — ويشير «دروفتي» هنا إلى كلام الوكلاء الإنجليز ومباهاتهم — فقد ثبت على ما يظهر لي أن الإنجليز عندما لم يعودوا يرون في المماليك تلك الأداة الطيعة التي في وسعها تأييد مكائدهم وترويج دسائسهم بالدرجة المنشودة، ولما كان الإنجليز يحقدون عليهم دائمًا سكونهم وخمود حركتهم وقت نزول جيوشهم بالإسكندرية في عام ١٨٠٧، فقد اعتقدوا أنهم إذا ضحوا بحلفائهم القدماء استطاعوا أن يدفعوا عن أنفسهم الاتهامات التي كان الباشا على حق في توجيهها لهم عن تواطئهم السابق أو عن علاقاتهم الماضية مع المماليك، كما اعتقدوا أن بوسعهم كذلك توثيق عرى الصداقة التي أنشئوها أخيرًا مع الباشا.»

وفي ١٤ يوليو ١٨١١، راح «مسيت» يؤكد لحكومته أن سبب المذبحة كان اكتشاف مراسلات بين البكوات وبين باشا عكا (سليمان باشا).

وبعد حوالي العام، كتب الوكلاء الفرنسيون في نشرتهم الإخبارية إلى حكومتهم بتاريخ مايو ١٨١٢: «أن الذي عرف الآن عن هذه المذبحة أن طبيب الباشا الخاص (مندريشي) — وهو دعامة من الدعائم التي يستند عليها الإنجليز في تأييد نفوذهم في البلاد — هو الذي أشار على محمد علي بقتل المماليك بدعوى أنهم متصلون بالفرنسيين، بينما الدافع لهذا الطبيب على ذلك في الحقيقة لم يكن سوى الانتقام من البكوات لعدم نجدتهم للحملة الإنجليزية في عام ١٨٠٧.»

وقال «مانجان» وهو معاصر آخر لهذه الحوادث: «ومع أنه أبعد ما يكون شخصيًّا عن تبرير الفتك بالمماليك، فإنه يعتبر الفتك بهم من بعض النواحي في صالح مصر ذاتها؛ لأن بقاء المماليك يثير حربًا أهلية تؤذي البلاد إيذاء بالغًا يتضاءل بجانبه حادث الفتك بهم، وفضلًا عن ذلك فإن الضربة الجريئة التي أنزلها بهم محمد علي تنفيذًا لأوامر الباب العالي السرية قد قضت على وضع أو نظام كانت تركيا تعمل على التخلص منه تدريجيًّا، ومن جهة أخرى فإن الدفاع عن سلامته كان يقتضي الباشا أخذ الأمور بوسائل حازمة؛ لأنه كان محاطًا بجند فُطروا على الشغب والفوضى، وكان مضطرًّا في الوقت نفسه إلى إنفاذ قسم كبير من قواته إلى بلاد العرب، فوجب عليه حينئذٍ أن يفكر في إضعاف خصومه الذين سوف يزيدون في هذه الحالة قوة ونفوذًا»، ثم استطرد «مانجان» فذكر ما بلغ محمد علي من تآمر المماليك على اختطافه في أثناء عودته من السويس واغتياله، وقال: إنه عندما صار السياح الإفرنج يلومون الباشا في كتب رحلاتهم ومؤلفاتهم على قتله للمماليك ويعدون ذلك عملًا منافيًا للإنسانية، كان جواب الباشا أنه ينبغي أن ترسم صورة لفتك بونابرت القنصل الأول بالدوق «دانجيان» D’Enghien في مارس ١٨٠٤ بجانب مذبحة المماليك حتى يحكم الناس على الحادثين.
ومن المعروف أن الدوق «دانجيان» لم يشترك إطلاقًا في المؤامرات التي دُبرت وقتذاك لاغتيال القنصل الأول، بل كانت كل جريمته أنه الرجل الذي رفض الرضوخ لسلطان بونابرت، والذي كان له من الكفاءة وبُعد الصيت كسليل لأمراء كونديه Condé ما يجعل منه المنافس الخطر الوحيد الذي يخشى بأسه نابليون في وقت اعتزم فيه إنشاء الإمبراطورية.

ويرى المستنكرون لمذبحة القلعة أن محمد علي بفتكه بالمماليك في هذه المجزرة التي لم تُبقِ ولم تذر قد أخذ البريء بجريرة المذنب فأهلك المستأمنين الذين جاءوا القاهرة ليعيشوا فيها وفي القرى المجاورة في هدوء وسلام، ويتمتعون بلذائذ الحياة ونعمها تحت مراقبة الباشا وفي كنفه وتحت رعايته، وأنه كان في وسعه أن يقابل أعداءه وخصومه وجهًا لوجه في ميدان الحرب والسياسة بدلًا وخيرًا من الغدر بهم، وأنه كان في وسعه استخدامهم في حربه ضد الوهابيين بدلًا من الإجهاز عليهم وسفك دمائهم، كما أن فريقًا من هؤلاء المستنكرين صاروا يرون فيما بدا من نشاط ضئيل من جانب بكوات أقاصي الصعيد بعد هذه المذبحة خطرًا قد يستفحل شره تدريجيًّا نتيجة لها حتى لا يلبث أن يُفضي إلى اشتعال الحرب الأهلية في البلاد، وكان «دروفتي» نفسه من أصحاب هذا الرأي.

ومع ذلك، فقد ناقض كل هؤلاء أنفسهم بأنفسهم عندما قالوا إن القضاء على المماليك كان لخير مصر وصالحها، وأنه لم تكن هناك وسيلة أخرى يمكن بها التخلص من هؤلاء الفسدة أحسن من ذلك، وأنه يُشك كثيرًا في صحة الوعود والعهود التي يقطعونها على أنفسهم في اتفاقاتهم مع الباشا، وأنه كان من المتعذر — بسبب توزيع قواتهم في جهات مختلفة وفي أقاصي الصعيد — على الباشا أن يشتبك معهم في معارك أخرى فاصلة، وأنه من المتعذر كذلك عمليًّا على الباشا أن يجمع في جيشه بين فريقي المماليك والأرنئود (الألبانيين) بسبب ما جرى من دم كثير بينهما في معارك عديدة، وأنه وإن كان في وسع الباشا التغلب على المماليك في معركة فاصلة قاضية وإنقاذ البلاد من شرور الحرب الأهلية فإن ذلك يتطلب تضحية قسم لا يُستهان به من جيشه عند مواجهته للمماليك وللوهابيين معًا وفي وقت واحد، كما أن ذلك سوف يصرفه عن التفرغ لتدبير شئون الحكم، ومن شأنه أن يعطِّل مشروعاته الكبرى الداخلية والخارجية معًا، وأن محمد علي منذ أن أجهز عليهم قد أصبح مرهوب الجانب ويخشاه أعداؤه، حتى إن الباب العالي لم يلبث أن وجد نفسه من ذلك الحين مرغمًا على النظر إليه كنظره إلى حليف مستقل، ولا يعامله كتابع قوي فحسب، وأن محمد علي أسدى بفتكه بالمماليك خدمة جليلة للباب العالي ولأمته.

واعتقد آخرون من مستنكري مذبحة القلعة أن هذه المذبحة كانت من الناحية القومية ذات أضرار بليغة؛ لأنها ألقت الرعب والفزع في قلوب الأهلين، حتى قضت على كل نزعة ديمقراطية، فتعذَّرت عودة الطمأنينة والشجاعة إلى النفوس أزمانًا طويلة بسببها، حتى إن أحدًا من أفراد الشعب ما عاد يتصدى لمعارضة الباشا ومحاسبته ونقد تصرفاته طوال المدة التي قضاها في حكم البلاد بعد ذلك؛ أي حوالي سبع وثلاثين سنة.

ومع ذلك، فقد فات أصحاب هذا الرأي أن هؤلاء المماليك طائفة لا تربطهم بالبلاد وأهلها أية روابط من الجنس واللغة، ولا يعرفون من الدين سوى مظهره، ويعيشون في انفصال طبقتهم العسكرية الأرستقراطية بمعزل عن سائر الناس، لا هم لهم إلا استنزاف موارد البلاد وتسخير أهلها في خدمتهم، وفاتهم كذلك أنه لم يكن للقومية أي أثر بينهم، فهم يطلبون إما حماية الإنجليز وإما حماية الفرنسيين، ولا يدخل الاستقلال في نطاق تفكيرهم، فكان كل ما سعى إليه الألفي والبرديسي وزملاؤهما الاستعانة بالدول الأجنبية لاسترجاع سيطرتهم المفقودة، وقد أوضح ذلك في عبارات لا لبس فيها ولا إبهام، شاهين بك الألفي في كتابه الذي أشرنا إليه مرارًا إلى الأميرال «كولنجوود» في أغسطس ١٨٠٩، فكان ركن الزاوية في مقترحاته على الإنجليز أن يمده هؤلاء بالمال حتى يستطيع البكوات جلب عدد من المماليك من الخارج يكفي لسد الثغرة التي حدثت في صفوفهم حتى يتمكنوا بذلك من الاستيلاء على السلطة الكاملة في مصر، فلا يبقى للباب العالي سوى السيادة الاسمية التي ترمز لها الجزية السنوية فحسب، ويتعهدون في نظير ذلك بأن يمكنوا للإنجليز بسط حمايتهم الفعلية على مصر.

وأما ذلك الرعب والفزع الذي قيل إنه حطَّم شجاعة الأهلين، فإن أحدًا لا يمكنه التسليم بحدوثه، فقد كان للأهلين من الشجاعة ما جعلهم يشقُّون عصا الطاعة على حكومة محمد علي وهي في أوجها، عندما أثقلتهم الضرائب (مع ضرورتها لتوفير المال)، وأرهقهم التجنيد (مع ضرورته لتعزيز الجيش)، وكان المال والجيش الدعامتين اللتين قام عليهما نظام محمد علي من أجل تحديد وضع البلاد السياسي بالنسبة للباب العالي وبالنسبة للدول الأوروبية، فوقعت سلسلة من الاضطرابات وكان بعضها خطيرًا حقًّا، نذكر منها ما حدث بالقاهرة ذاتها في مارس ١٨٢٢، وهي الاضطرابات التي اعتقد الباشا أن للسيد عمر مكرم يدًا فيها فنفاه إلى طنطا، ثم في منوف في مايو ١٨٢٣، ثم في منفلوط في مارس ١٨٣٨، ثم في أسيوط في فبراير ومارس ١٨٣٩.

وقد قضى الباشا على كل هذه الاضطرابات بسهولة؛ لأنه لم يكن هناك أية زعامة شعبية لا أيام المناداة بولاية محمد علي في سنة ١٨٠٥ ولا بعدها، ولم يكن السبب في ذلك أن محمد علي قد قضى عليها عامدًا كما يذهب أصحاب هذا الرأي، بل للأسباب التي سبق ذكرها عند الكلام عن مسألة إقصاء المشايخ، ولأن أحدًا من الأهلين ما كان يهدف إطلاقًا إلى مشاركة محمد علي في تدبير شئون الحكم، وذلك في عصر كان لا يزال فيه الشرق يخضع لسلطان المستبد الطاغية أو لسلطان المستبد المستنير، وقد كان محمد علي من الطراز الثاني قطعًا، وفي عصر كان فيه الغرب لا يزال يمر في مراحل تجاربه الدستورية الأولى.

وعلى كل الأحوال فالثابت أن البكوات المماليك قد نكثوا بالعهد دائمًا، وأنهم ظلوا يتآمرون ضد حكومة محمد علي سواء مع الوكلاء الإنجليز أو مع سليمان باشا عدو محمد علي، ويتآمرون كذلك لاغتياله والفتك به، وفعل ذلك أيضًا المستأمنون منهم، والثابت أن محمد علي كان يريد حقًّا وصدقًا الاتفاق معهم، وبذل قصارى جهده لتحقيق هذه الغاية حتى أعجزته الحيلة معهم، والثابت أن الفتك بالمماليك لم يكن نتيجة خطة مدبرة أو مرسومة من سنوات عدة سابقة، فقد رأينا أن هذه الفكرة لم تنبت في ذهنه إلا في فبراير أو في يناير ١٨١١ على الأكثر.

وقد كتب محمد علي نفسه إلى الباب العالي في ٩ صفر ١٧٢٢ (الموافق ٤ مارس ١٨١١) — أي بعد واقعة المذبحة بثلاثة أيام فحسب — يذكر للباب العالي ما حدث ويرسل إلى مقر سياسة السلطنة العثمانية رءوس المماليك المقطوعة، ويبلغ الباب العالي كذلك خروج ولده طوسون أحمد باشا بالجيش إلى الحجاز، ويجيب على الخط الشريف الصادر إليه بشأن سليمان باشا والي الشام.

في هذه الرسالة قال محمد علي:

إن المصلحة (المأمورية) الخيرية الحجازية كانت قد أُحيلت إليه منذ أربع أو خمس سنوات، وقد بذل قصارى جهده للتهيؤ لهذه المهمة وإنجاز ما يلزم من استعدادات لها، ولكن أشقياء المماليك هم الذين حالوا دون حركته وسفره في السنين المذكورة بممانعتهم ومقاومتهم، وكان محمد علي قد أكرم واحترم كل واحد من هؤلاء فوق ما يستحقه من تكريم واحترام، وذلك لمصالحتهم ومداراتهم؛ حيث إنهم كانوا فرسانًا مدربين، إذا انحازوا إليه استطاعوا جميعًا الخدمة متفقين لإنهاء مصلحة الحرمين الشريفين، وصفوة القول أنه لم يقع أي تقصير منه في جذب قلوبهم واستمالتهم وتأمين إخلاصهم في الخضوع له صورة ومعنى، وقد كتب محمد علي مفصلًا إلى الباب العالي عدة مرات في الماضي، يذكر كيف أنهم أبرزوا خصالهم الفرعونية المتركزة في طباعهم وفطرتهم الأصلية، بالرغم من مساعيه في الصلح معهم، ثم كيف هرب منهم مئات عراة مشتتين ناقمين إلى بلاد السودان وهم يقولون: «ليكن ما يكون»، قانطين يائسين من أرواحهم وحياتهم عندما زحف الجيش عليهم ونالوا جزاءهم العادل على خياناتهم السابقة بما حل بهم من هزائم في تلك المعارك التي خاضها جيشه ضدهم، ثم كيف أن من عجزوا عن الفرار واللحاق بهؤلاء قد جاءوا مستأمنين يطلبون الأمان، وكيف استقر هؤلاء في خدمته، وقام هو بالواجب في حقهم وأوفاهم ما يستحقونه، ثم عامل مَن ألقى القبض عليهم أحياء في أثناء المحاربة واستسلموا من تلقاء أنفسهم بالرفق الزائد حتى يُدخِل الطمأنينة إلى نفوسهم، ثم صبر محمد علي طويلًا يحاول استمالة من كان بالسودان من المماليك الفارين حتى يحضروا إلى مصر وحتى يجمعهم بها بحكمة، ولكنه عندما اقتنع بأن هؤلاء الهاربين يفضلون الهلاك جوعًا وعطشًا في مأزقهم الحرج الذين هم فيه على الانجذاب إلى خيراته المصطنعة ولا يقعون في الفخ الذي نصبه لهم، فقد تذرَّع بحجة الموكب الذي أعده بمناسبة إخراج جيش ولده طوسون أحمد باشا إلى بركة الحاج، فجلب جميع من في خدمته ظاهرًا حسب الضرورة من البكوات الذين لقنوا آراءهم من زملائهم والبالغ عددهم أربعًا وعشرين أميرًا، وجميع الكشاف وأعوانهم المعبَّر عنهم بغلمان الداخل، وأتباع هؤلاء الأمراء أو البكوات الذين كانوا قد جاءوا القاهرة أخيرًا وأدخلهم جميعًا القلعة وأغلق أبوابها، فقُتل عقب ذلك الأشقياء المذكورون بأجمعهم دون أن ينجو واحد منهم، وانتقلوا إلى دار الفناء والعدم، وقد ترك رءوسهم المقطوعة وأجسامهم المنجوسة معرضة ليشهدها أولئك الذين قد يطمعون في التدخل في ميدان السياسة في مصر، وأجاز ثلاثة أيام لقطع رءوس البكوات والمماليك الآخرين، ثم ها هو ذا يبعث بهذه الرءوس عبرة وعظة إلى مقر السلطنة، وبهذه الصورة تم الخلاص والانتهاء من أمر المماليك ولله الحمد، ودفع غوائلهم والتحرر من تكاليفهم.

ثم انتقل محمد علي من ذلك إلى الكلام عن تجهيز السفن اللازمة لنقل جنده من السويس، ثم استطرد بعد ذلك للكلام عن مسألة سليمان باشا والرد على ما نسبه الباب العالي إليه من أنه يتخذ من هذه المسألة ذريعة لتأجيل خروج جيشه إلى الحجاز، فقال:

«ولم يكن مغزى شكواه من سليمان باشا ومطالبته بعزله من ولاية الشام التحاشي من المُشار إليه أو الحسد، بل إن حضرة المذكور يتظاهر بالطيبة والتوكل على الله في المكان الذي ينام فيه، بينما هو يعمل على إيقاظ الفتن والشرور، لا سيما وأن محمد علي قد صادر الرسائل التي بعث بها كتخداه سليمان باشا بإذنه إلى حشرات المماليك الذين نجوا من القتل، وهي مكاتبات شبيهة بتلك التي أرسلها محمد علي إلى كتخداه محمد نجيب أفندي بالباب العالي، ومع ذلك يقول الباب العالي إن هذه الرسائل لا تنم عن شيء اللهم إلا إظهار الصداقة والإخلاص والود المتبادل بين سليمان باشا والمماليك ولا يُستنتج من ذلك حكم! لا شك في أن الباب العالي صادق فيما ذهب إليه، ولكن العبارات المدونة في هذه الرسائل الأخيرة بعد ذكر الود والصداقة والإخلاص تقول بطريق الإضمار والمعاني المستترة ما نصه: «والشأن يكون معلومًا لكم أي للبكوات من أمر المرسل سابقًا»، مما يُستدل منه على مدلولات أخرى خفية، ولو فُرض أن ذلك لا يستتبع حكمًا ولا ينطوي على تعليمات، ألا يكون إظهار الإخلاص بإرسال كتب ورسائل خاصة إلى ولاية السودان لجماعة هم خائنون للسلطان، ومن المسلم بخيانتهم وغدرهم عند العالم أجمع، معناه أن كمال المحبة ليس سوى إسداء المعونة لهم، وعدا ذلك فإن أقرب ما يلاحظه المرء أن حامل هذه الرسائل لا بد أن يكون مزودًا كذلك بتقارير خفية لتبليغها إلى البكوات، وعلى كل الأحوال فسواء دافع الباب العالي عن سليمان باشا أو عزا التقصير إلى محمد علي، فها هو ذا؛ أي محمد علي، قد قام متوكلًا على الله بإخراج جيشه إلى بركة الحاج، فأوفى بذلك عهده ووعده، وسوف يثبت — إن شاء الله — عند توجه الجيش قريبًا إذا كان صادقًا حقًّا أو غير صادق فيما يعد ويفعل.»

ذلك إذا كان تفسير محمد علي نفسه للعوامل التي أدت إلى مذبحة القلعة، وهي عوامل تتلخص في أمرين: نكث المماليك لعهودهم معه، وتآمرهم مع أعدائه على سلامة ملكه أو باشويته.

(١٣) خاتمة المطاف بالمماليك

وأما النتيجة المباشرة لمذبحة القلعة فهي أن أقاليم مصر الوسطى والصعيد قد دخلت الآن في حوزة محمد علي نهائيًّا.

فقد تبقى من المماليك، بعد مذبحة القلعة، والفتك بهم في الأقاليم حوالي الخمسمائة أو الستمائة فحسب، اجتمعوا حول إبراهيم بك وعثمان بك حسن في أعالي الصعيد، ومع أن هؤلاء ظلوا مثابرين على مناوأتهم للباشا ورجاله الذين تسلموا الحكم في الصعيد، فقد سهل على الباشا إخماد حركتهم تمامًا وتشتيت ما بقي من فلولهم، ثم إرغامهم في النهاية على التشرد إلى بلاد السودان، وكان مما ساعد على تشريدهم أن الاختلافات ظلت قائمة بينهم، فلم يستطيعوا حزم أمرهم على شيء، فهناك فئة لا تزال لديها بقية من شجاعة، تبغي النزوح إلى أرض الحجاز والانضمام إلى الوهابيين، والاشتراك معهم في قتال محمد علي في ميدان غير الذي انهزموا فيه، وهناك إبراهيم بك وعثمان بك حسن، وهما شيخان فانيان، ولا قدرة لهما على احتمال مشاق السفر والقتال، ويبغيان البقاء إلى جوار النيل، ويؤثران الانسحاب إذا لزم الأمر إلى بلاد النوبة في السودان، ويتذرعان بأن أسبابًا دينية تمنعهما، ويجب أن تمنع سائر البكوات والمماليك من الانضمام إلى الوهابيين، وهناك فريق ثالث لا يرضى بهذا الرأي أو ذاك، ويؤثر التسليم والخضوع لسلطان السيد الجديد، محمد علي، لا يزال يحدوهم الأمل في أن الباشا في هذه المرة، وبالرغم من الدماء التي أُريقت، سوف يقبل توبتهم ويصفح عنهم، فلا حاجة للذهاب إلى الحجاز، ولا حاجة للذهاب إلى النوبة، وتغلب رأي هؤلاء بعض الوقت على رأي سائر زملائهم، فأوفد بكوات الصعيد مندوبًا، أحد كشافهم، إلى القاهرة لمقابلة الباشا وطلب العفو والصفح عنهم، وأن يعطيهم جهة يتعيشون منها، وقد وصل هذا فعلًا ثاني يوم المذبحة (٢ مارس)، ولكن الباشا وعده برد الجواب في غير الوقت، فأهمله، ثم انقطعت أخباره، وكتب الشيخ الجبرتي: «وما أدري ما تم له.»

فكان هذا الاختلاف والانقسام منشأ ما حل بهم من نكبات جديدة.

ذلك أن الباشا — وقد كاد للمماليك وأجهز على صفوتهم في مذبحة القلعة — ما كان ليطمئن باله، إلا إذا أعمل السيف في البقية الباقية منهم كذلك، واستأصل شأفتهم تمامًا.

ولذلك، فقد بادر في ثاني يوم الواقعة — أي في ٢ مارس ١٨١١ — بتقليد مصطفى بك ابن أخته قيادة الدلاتية؛ لإنفاذهم معه إلى الصعيد، وقد انتقى محمد علي هؤلاء من بين إخوانهم، بينما ارتحل الباقون الذين كان قد طلبهم للاستعانة بهم في حرب المماليك، فخرج حوالي الخمسمائة من الدلاة في ١٣ مارس إلى قبة العرب ليسافروا إلى بلادهم، ثم سافروا، وبعد خمسة أيام قصد مصطفى بك بمن معه إلى الصعيد، وفي ٤ نوفمبر ١٨١١، أنفذ الباشا جيشًا إلى الصعيد لقتال المماليك، وكان هؤلاء مقيمين في إبريم.

وفي أبريل ١٨١٢ كتب الوكلاء الفرنسيون: «أن إبراهيم بن محمد علي قد عُين حاكمًا على الصعيد، وأنه اتخذ مقره العام في إسنا، وأن حوالي المائتي مملوك قد جاءوه يريدون العيش في كنفه، وتحت رحمة الظافر المنتصر، ولقد آثروا هذه المجازفة على ما فيها من أخطار جسيمة، على الذهاب إلى النوبة كما يبغي رؤساؤهم، فيعيشون في النوبة في بؤس وتعاسة»، وأضاف هؤلاء الوكلاء: «أن بكوات الصعيد — كما هو مألوف عادتهم — لا يزالون يتناقشون ويتباحثون فيما يجب عليهم أن يفعلوه في ظروفهم السيئة الراهنة»، ففريق يبغي الذهاب إلى الوهابيين، وآخر يريد البقاء على ضفاف النيل وعدم مغادرة البلاد التي خضعت لسلطانهم أزمانًا طويلة.

وكان القتل نصيب الذين سلَّموا لإبراهيم، فكتب الوكلاء الفرنسيون ثانية في نشرتهم الإخبارية بتاريخ مايو ١٨١٢ «أن كل المماليك الذين حضروا مستأمنين قد قُتلوا جميعهم في إسنا بأمر أصدره الباشا، بينما كان إبراهيم متغيبًا عنها ومقيمًا بالقاهرة بالقرب منه، ومن بين الذين قُتلوا جماعة كان إبراهيم نفسه قد أمَّنهم على حياتهم، ولم ينجُ من هذه المذبحة حتى الرقيق السود أو الأحباش الذين لا يتجاوز سنهم الخامسة عشرة أو الثامنة عشرة.»

فكان بعد هذه المذبحة الثانية أن جلا البكوات نهائيًّا إلى السودان، ومن بينهم إبراهيم بك الكبير، وعبد الرحمن بك تابع عثمان بك المرادي، وأحمد بك الألفي، وعلي بك أيوب ومحمد بك المنفوخ وعثمان بك حسن وأحمد آغا شويكار وعثمان بك يوسف، ومات إبراهيم بك الكبير في دنقلة في فبراير ١٨١٦، ثم أُحضرت جثته في يوليو ١٨١٧ إلى القاهرة؛ حيث دُفن بها بالقرافة الصغرى عند ابنه مرزوق بك، وقد ساعد الباشا في إحضارها من دنقلة.

وكان بعد كارثة المماليك بعشر سنوات تقريبًا أن كتب «دروفتي» إلى حكومته في ١٠ يوليو ١٨٢٢، وهو يستعرض ما مر بمصر من حوادث خلال السنوات العشرين التي قضاها بها، معلقًا على ما بلغته مصر من تقدم على يد محمد علي، فقال: «ومن اللحظة التي كان من واجب محمد علي أن يختار فيها بين هلاكه هو نفسه وهلاك المماليك استطاع محمد علي وبقدر ما سمحت به الظروف، أن يقيم بمصر حكومة طيبة، ومن ذلك الحين؛ أي منذ ١٨١٢، أصبح لمصر نظام سياسي ثابت المعالم وصار لها مالية وجيش، ومن ذلك الحين استطاع الباشا أن يقهر وأن يقمع العربان البدو، وهو نجاح لم يدركه بتاتًا من قبل أي غازٍ أو فاتح لهذه البلاد، ومن ذلك الحين استطاع محمد علي أن يسترد الحرمين الشريفين، الأماكن الإسلامية المقدسة من يد الوهابيين، وأن يفرض على هؤلاء الخضوع للقانون، كما استطاع أن يحكم أرستقراطية الوجاقلية والمشايخ، وأن يُدخل الإصلاحات الواسعة والكثيرة في البلاد.»

وصفوة القول أن القضاء على المماليك، ثم تحطيم أرستقراطية المشايخ الذين تطلعوا — دون استحقاق — إلى الزعامة والتدخل في شئون الحكم عن أنانية ولا غرض لهم سوى رعاية مصالحهم الخاصة وإشباع شهوة فريق منهم في النفوذ على حساب الشعب، ثم ترويض الجند على الطاعة وإخضاعهم لمشيئة الباشا، كل تلك كانت مسائل لا مفر من مجابهتها إذا شاء محمد علي أن يدعم أركان ولايته في مصر.

ولا جدال في أن انفراده بالسلطة وبسط سلطانه الكامل على جميع أنحاء القطر الذي دخل في نطاق باشويته، كان الدعامة الأساسية التي يرتكز عليها استقرار حكومته، والتي يرتكز عليها — لهذا السبب نفسه — برنامج الباشوية الوراثية، أو مشروع ذلك الاستقلال الذي برز إلى عالم الوجود في صورته المحددة المعالم منذ عام ١٨٠٧، وكان من الممكن — في نظره — تحقيقه، سواء بإحراز الاستقلال التام والانفصال عن جثمان الإمبراطورية العثمانية، أو بالبقاء في نطاق هذه الإمبراطورية في وضع يكفل استقرار الحكم الذاتي أو استقلال البلاد في شئونها الداخلية إذا تعذر الانفصال عن جثمان الإمبراطورية العثمانية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤