الرجل الشفاف

١

بينما كنت أنعطفُ مُسرعًا نحو الجادة الخامسة، قادمًا من أحد الشوارع المتقاطِعة معها، قبل الخزان القديم، في تمام الساعة الحادية عشرة والربع من مساء يوم السادس من نوفمبر عام ١٨٧٩، اصطدمتُ بشخص قادم من الاتجاه المعاكس.

كانت الظلمة حالكة في ذلك المنعطَف، لم يتسنَّ لي أن أرى شيئًا من الشخص الذي كان لي شرفُ الاصطدام به. ومع ذلك، فإن ممارسةً سريعة لما اعتاده عقلي من تفكير استقرائي أمدَّتْني بعدد من الحقائق الواضحة المعالم بشأن الرجل، قبل أن أُفيق تمامًا من صدمة المواجهة.

من بين تلك الحقائق أن الرجل كان أسمنَ مني، وذا ساقين أكثر صلابة، لكنه أقصر مني بثلاث بوصات ونصف البوصة بالضبط. كان يرتدي قبعة من الحرير، ورداءً أو عباءة مصنوعة من صوفٍ ثقيل، وجرموقًا أو حذاءً واقيًا من المطاط. كان في حوالي الخامسة والثلاثين من عمره، مولودًا في أمريكا، متعلِّمًا في جامعةٍ ألمانية، إما هايدلبيرج وإما فرايبورج، سريع الغضب بطبعه، لكنه مهذَّب ويُراعي مشاعر الآخرين عند تعامله معهم. لم يكن على وئامٍ تامٍّ مع المجتمع؛ ثمة شيء في حياته، أو في مسعاه الحالي، كان راغبًا في إخفائه.

كيف عرفتُ كل ذلك وأنا لم أرَ الغريب، ولم يُفلتْ من بين شفتَيه إلا كلمة واحدة من مقطع واحد؟ حسنٌ، عرفتُ أنه أسمنُ مني وذو ساقين أكثر صلابة لأنني أنا من نكص على عقبيه، لا هو. وعرفتُ أنني أَطوَل منه بثلاث بوصات ونصف البوصة فقط لأن طرف أنفي كان ما يزال مقشعرًّا من جراء ملامسته حافةَ قبعته الصلبة الحادة. وقد رفعتُ يدي دون قصد، فدخلتْ تحت حافة ردائه. عرفتُ أنه كان يرتدي حذاءً مطاطيًّا لأنني لم أسمع وقْع خطواته. وبالنسبة إلى أُذن متنبهة؛ فإن المؤشِّرات الدالة على العمر تتَّضح في نغمة الصوت، كمثل اتضاحها للعين في خطوط الوجه. وفي لحظة غضبه الأولى من حماقتي، دمدم بكلمة «أُوكس!» (أي ثور) وهو تعبير لم يكن ليَصدُر في مثل هذا العصر إلا من ألماني. ومع ذلك، فإن نطق الحرف الحلْقي نبَّأني بأن المتحدث ألماني من أصل أمريكي وليس أمريكيًّا من أصل ألماني، وأنه استقى تعليمه الألماني في جنوب نهر الماين. علاوةً على ذلك، فإن النبرة الدالة على أنه رجل محترم ومتعلِّم كانت جَليَّة، حتى في تعبيره عن غضبه. لم يكن الرجل المحترم متعجِّلًا، ولكنه لسببٍ ما كان حريصًا على أن يظلَّ مجهولًا؛ هذا ما استنتجتُه من واقع أنه بعد إصغائه صامتًا إلى اعتذاري المهذَّب انحنى ليلتقط مظلتي ويُعيدها إليَّ، ومضى مثلما أتى، بلا ضجة.

من المهم بالنسبة لي أن أتحقق من صحة استنتاجاتي كلما أمكنني ذلك؛ لذا عدتُ إلى مَفرق الطرق لأتبع الغريب باتجاه مكانٍ مُضاء بمصباح داخل المربع السكني. يقينًا، لم أكن متخلِّفًا عنه بأكثر من خمس ثوانٍ، ولم يكن هناك طريق آخر يُحتمل أن يكون قد سلكه، ولم يُفتح بابُ منزلٍ أو يُغلق على امتداد الطريق. ومع ذلك، حينما دخلنا في دائرة الضوء، لم يظهر الكيان الذي كان مفترضًا أن يكون أمامي مباشرة. لا الرجل ولا ظله كان مرئيًّا.

ركضتُ بأقصى سرعة ممكنة نحو مصباح الغاز التالي، وتوقَّفت لبرهة تحت المصباح وأصغَيت. كان من الواضح أن الشارع خالٍ، وكانت الأشعة الصادرة من الشعلة الصفراء لا تضيء إلا جزءًا يسيرًا من الظلام. وعلى الرغم من ذلك، فإن المنزل المبني بالحجر البُنِّي المواجه لمصباح الشارع، كانت بوابته ودرجات سُلَّمه مُضاءةً على نحوٍ كافٍ. كانت الأرقام المُذهَّبة أعلى الباب واضحة. عرفتُ المنزل؛ إذ كان الرقم مألوفًا. وبينما وقفتُ منتظرًا تحت مصباح الغاز، سمعتُ صوتًا خافتًا على درجات السلَّم، وصوت إدارة مفتاح في قفل. فُتح الباب الخارجي للمنزل ببطء، ثم صُفقَ بعنف مُثيرًا ضجة تردَّد صداها في الشارع. وعلى الفور تقريبًا، تبع ذلك صوتُ فتح الباب الداخلي وغَلْقه. لم يخرج أحد. وحسبما رأت عيناي اللتان أثق في قدرتهما على رصد حدثٍ على بُعد عشر أقدام فقط وفي إضاءة كافية، فإن أحدًا لم يدخل.

انطلاقًا من فكرة أنه كان ثمة مادة شحيحة تصلُح لتطبيقٍ دقيق لعملية الاستقراء، وقفتُ ردحًا من الزمن أُخمِّن بتهوُّرٍ الفلسفةَ الكامنة وراء ذلك الحدث العجيب. راوَدَني ذلك الشعور الغامض بأن الحدَث عصيٌّ على التفسير، بما يصل إلى حدِّ إثارة الفزع. وكان من المريح أن أسمع وقْع أقدامٍ على الجانب المقابل من الطريق، فالتفتُّ لأرى شرطيًّا يهزُّ هراوته السوداء الطويلة وينظر إليَّ.

٢

هذا المنزل ذو اللون البُنِّي الشبيه بالشوكولاتة، الذي انفتح بابه الأمامي وانغلق في منتصف الليل دون علامات تدلُّ على فاعل بشري، كان — كما قلتُ آنفًا — معروفًا بالنسبة لي. كنتُ قد غادرته منذ ما لا يزيد عن عشر دقائق، بعد تمضيَة المساء مع صديقي بليس وابنته باندورا. كان ذلك النوع من المنازل الذي يُعَد كل طابق فيه بيتًا كاملًا في ذاته. سكن بليس الطابق الثاني، أو بالأحرى الشقة الثانية، منذ عودته من الخارج؛ أي منذ اثني عشر شهرًا. كنتُ أحمل تقديرًا لبليس، لخصاله الطيبة، غير أن تفكيره غير المنطقي وغير العلمي، على نحوٍ مؤسف، يستدعي عميق أسفي، وكنتُ مغرمًا بباندورا.

افهموا من فضلكم أن إعجابي بباندورا بليس كان يائسًا، وليس يائسًا فقط، بل كان مستسلمًا ليأسه. في دائرة معارفنا، كان هناك اتفاق ضمني على أن الوضع الاستثنائي للمرأة الشابَّة، بصفتها مرتبطة بذكرى حُبِّها، يجب احترامه في كل وقت وحين؛ لذا فقد كنا نحبُّ باندورا حبًّا هادئًا، بلا شغف، بل بما يكفي لإرواء شعورها بجاذبيتها ودلالها، من غير أن نُزيل الذبول الذي يُغلِّف قلبها المحروم. ومن جانبها، فقد ألْزمتْ نفسها بآدابٍ سلوكية؛ فلم تكن تتنهَّد تنهُّدًا عميقًا حين تتحدَّث بدلال، ولطالما أبقت تغنُّجها تحت السيطرة؛ بحيث تستطيع أن تضع حدًّا له كلما تداعت ذكريات الغرام الحزينة.

كان يَجدر بنا أن نقول لباندورا إنها مَدينة لشبابها ولجمالها بأن تطوي صفحة الماضي، وأن نحثَّها باحترام على أن تمضيَ قُدُمًا في عيش الحاضر. أمَّا ما لم يكن يجدر بنا، فهو أن نلحَّ في الأمر بعدما أجابتْنا مرةً بأن ذلك من المستحيلات.

لم يكن من المعروف تمامًا بالنسبة لنا تفاصيل الحدث المأساوي الذي اختبرته الآنسة باندورا في أوروبا. كان من المفهوم، بصورة ضبابية، أنها وقعَت في الحب وهي في الخارج، وأفسدت الأمور مع حبيبها؛ مما جعله يختفي، تاركًا إياها جاهلةً بمصيره، ودائمة الندم على تصرفاتها المتقلِّبة. بالرجوع إلى بليس، جمعتُ بضع معلومات متفرِّقة، لكنها ليست متماسكة بما يكفي لتكوين فكرة عن تاريخ الحالة. لم يكن هناك سبب يدعو إلى الاعتقاد بأن عشيق باندورا قد أقدم على الانتحار. كان اسمه فلاك، وكان رجلَ علمٍ، وكان — حسب رأي بليس — أحمق. وحسب رأيه أيضًا، كانت باندورا حمقاء لتَذوي بسببه. حسب رأي بليس، كان العلماء كلهم حمقى بطريقة أو بأخرى.

٣

في ذلك العام، تناولتُ عشاء عيد الشكر مع عائلة بليس، وفي المساء أردتُ إثارة دهشة الرفاق بسردِ الأحداث الغامضة التي وقعت ليلة اصطدامي بالغريب، لكنَّ القصة فشلت في إثارة الشعور الذي توقعتُه. تبادل اثنان أو ثلاثة، من الأشخاص البغيضين، النظرات. باندورا التي عادةً ما كانت تستغرق في التفكير استمعتْ بعدم اكتراث بادٍ، أما أبوها، بعجزه الغبي عن استيعاب أي شيء غير مألوف، فقد انفجَرَ في الضحك، بل وذهب بعيدًا إلى حدِّ التشكيك في مصداقيتي في رصد الظواهر.

اختلقتُ عذرًا للمغادرة مبكرًا، شاعرًا بالغيظ بعض الشيء، وقد تزعزع تصديقي للحدث العجيب قليلًا. رافقتْني باندورا إلى الباب، وقالت لي: «قصتك أثارت اهتمامي على نحو غريب، أنا أيضًا يُمكنني الحديث عن حوادث وقعت في هذا المنزل وحوله، مما قد يُثير دهشتك. أعتقد أنني لستُ مغيَّبة تمامًا؛ فالماضي الحزين يمنحني بعض الدراية، لكن دعنا لا نكن متسرِّعين. من أجلي، تَقَصَّ هذه المسألة حتى جذورها.»

تنهَّدت السيدة الشابة بينما تمنَّت لي ليلة سعيدة. وظننتُ أنني سمعت تنهيدةً أخرى، لها نغمة أعمق من تنهيدتها، وأكثر تمايزًا من أن تكون صدًى لها.

شرعتُ أهبط الدَّرَج، وقبل أن أنزل حوالي ست درجات، شعرتُ من خلفي بيد إنسانٍ تُوضَع على كتفي بثقلٍ شديد. أول ما خطر لي أن بليس لَحِق بي إلى البهو ليعتذر لي عن صفاقته. التفتُّ لأستقبل بادرته الطيبة، لكن أحدًا لم يكن في مجال بصري.

ومرة أخرى، لمسَت اليدُ ذراعي؛ ارتعدتُ على الرغم من رباطة جأشي.

وهذه المرة، جذبَتِ اليدُ كُمَّ معطفي بلطف، وكأنها تدعوني إلى صعود الدرج. نزلتُ درجتين أو ثلاثًا، وخفَّ الضغط على ذراعي. توقَّفتُ لبرهة، وتكرَّرت الدعوة الصامتة، بإلحاحٍ لم يدع مجالًا للشك بشأن ما تريده.

صعدنا الدرجات معًا، الشبح يتقدمني وأنا أتبعه. يا لها من رحلة استثنائية! كانت الردهات مُضاءة بمصابيح الغاز. بشهادة عينيَّ، لم يكن هناك أحد غيري أعلى الدرج، أما عند إغماض عينيَّ، فكان الوهم — إن أمكن تسميتُه وهمًا — مكتملًا. أمكنني سماع صرير السلالم أمامي؛ سماع وقع الأقدام الخفيض، لكن المسموع بوضوح، بالتزامن مع وقع قدميَّ، هو صوت أنفاس مُرافقي ومرشدي المنتظمة. وعند مدِّ ذراعِي، أمكنني أن ألمس وأتحسَّس بأصابعي طرف ثوبه، وهو عبارة عن عباءة صوفية ثقيلة مبطَّنة بالحرير.

فتحتُ عينيَّ بغتةً، فأخبرتاني مجدَّدًا بأني كنتُ وحيدًا تمامًا.

حينئذ طرحتُ هذه المسألة نفسها على عقلي: كيف لي أن أجزم بما إذا كان بصري يخدعني، بينما حاستا السمع واللمس تخبرانِني بالحقيقة، أو أن أذنِي ويدِي كانتا تكذبان، بينما عيناي تُخبرانِ بالحقيقة. لمن تكون الكلمة الفصل حين تتعارَض الحواس؟ لملَكة التفكير المنطقي؟ المنطق كان ميَّالًا إلى الاعتراف بوجود كائن ذكي؛ ذلك الوجود الذي كانت تنفيه على نحوٍ قاطع الحاسةُ الموثوقُ بها أكثر من غيرها.

وصلنا إلى الطابق الأخير من المنزل، فُتح لي الباب المؤدِّي إلى الصالة الرئيسية من تلقاء نفسه على ما يبدو، كما بدا أن ستارًا في الداخل أزاح نفسه إلى أحد جانبَيه، وأمسك نفسه لمدة تسمح لي بالدخول إلى غرفةٍ ما، كلُّ ما فيها من أثاث ينطق بالذوق الرفيع والثقافة. كانت نار الحطب تشتعل في المدفأة، وكانت الجدران مُغطاة بالكتب والصور، والأرائك رحبة ومُغرية. ولم يكن في الغرفة شيء غريب، لا شيء مثير للعجب، لا شيء يختلف عن الأثاث الذي يستخدمه أيُّ كائنٍ عادي من لحمٍ ودمٍ.

وفي ذلك الحين، كنتُ قد نفضتُ عن عقلي آخر ما علق به من شكوكٍ حول الشيء الخارق للطبيعة. ربما لم تكن تلك الظواهر عصيَّةً على التفسير؛ وكل ما افتقرتُ إليه كان مفتاح الحل. كان سلوك مُضيفي غيرِ المرئي يدلُّ على أنه مُسالم. استطعتُ أن أراقب بهدوءٍ بالغ أشياء غير حية تتحرَّك من تلقاء نفسها.

في البداية، حرَّك كرسيٌّ تركيٌّ مريح وضخمٌ عجلاتِه مبتعدًا عن موضعه في أحد أركان الغرفة واقترب من المدفأة. ثم بدأ يتحرك من ركنٍ آخر كرسيٌّ ذو ظهر مربع من طراز الملكة آن، حتى استقر مباشرةً في مواجهة الكرسيِّ الأول. وحَملتْ طاولةٌ صغيرة ثلاثيةُ القوائمِ نفسَها لبضع بوصات فوق الأرض، واتخذت موقعًا بين الكرسيين. وأخرج مجلدٌ سميكٌ نفسَه من مكانه على الرف، وأبحر بهدوء عبر الهواء، على ارتفاع ثلاث أو أربع أقدام، حتى رسا على نحوٍ منظَّمٍ على سطح الطاولة. وغادر غليون من البورسلين المزخرف خُطافًا على الحائط، وانضمَّ إلى الكتاب. وقفزتْ علبة تبغٍ من على رفِّ المدفأة. وتأرجح باب إحدى الخزائن منفتحًا، وقامت قنينةٌ وكأسُ نبيذٍ برحلةٍ مشتركة، حتى وصلا معًا في الوقت نفسه إلى البقعة عينها. بدا كلُّ ما في الحجرة مفطورًا على حُسن الضيافة.

أجلستُ نفسي على المقعد المريح، وملأتُ كأس النبيذ، وأشعلت الغليون، وتصفَّحتُ الكتاب. كان يحمل عنوان «دليل علم الأنسجة» لمؤلفه بوسيس من فيينا. وحينما أعدته إلى الطاولة، فتح نفسه عمدًا على الصفحة رقم أربعمائة وثلاثِ وأربعين.

«هل أنت متوتِّر؟» سألني صوتٌ لا يبعد أكثر من أربع أقدام عن طبلة أذني.

٤

كان الصوت ذا نغمة مألوفة، تعرَّفتُ عليها باعتبارها نغمة الصوت الذي سمعتُه في الشارع، ليلة السادس من نوفمبر، حينما دعاني ثورًا.

قلتُ: «كلَّا، لستُ متوتِّرًا. إنني رجلُ علم، معتادٌ على النظر إلى جميع الظواهر باعتبارها قابلة للتفسير باستخدام القوانين الطبيعية، شريطة أن نستطيع اكتشاف تلك القوانين. لا، لستُ خائفًا.»

قال: «ذلك أفضل كثيرًا. أنت رجلُ علم، مثلي» — وهنا تأوَّه الصوت — «رجلٌ جريء، وصديقٌ لباندورا.»

قاطعتُه قائلًا: «اعذرني، ما دام اسم سيدةٍ قد ذُكر، فسيكون من الجيد أن أعرف مع مَن، أو مع أي شيء أتحدَّث؟»

ردَّ الصوت: «هذا بالتحديد ما أرغب في التحدُّث بشأنه، قبل أن أطلب منك أن تُسْديَ إليَّ خدمة عظيمة. اسمي هو، أَو كان، ستيفن فلاك. إنني، أَو كنتُ، من مواطني الولايات المتحدة. أما حالتي الدقيقة في الوقت الحالي، فهي على قدرٍ كبير من الغموض بالنسبة إليَّ، مثلما قد تكون بالنسبة إليك. لكنني رجلٌ صادقٌ ونبيل، أو كنتُ كذلك. وأنا أمدُّ لك يدِي.»

لم أرَ أي يد، ومع ذلك مددتُ يدي إلى الأمام، فلاقت ضغطة من أصابعَ حيةٍ دافئة.

تابعَ الصوتُ بعد اتفاقية الصداقة الصامتة تلك: «الآن، تكرَّمْ بقراءة المقطع الذي فتحتُ عنده الكتاب الموضوع على الطاولة.»

وإليكم ترجمة تقريبية لما قرأتُه بالألمانية:

بما أن لون الأنسجة العُضوية، التي يتكوَّن منها الجسم، يعتمد على وجود عناصر تقريبية معينة من الدرجة الثالثة، جميعها يحتوي على الحديد بصفته أحد العناصر الأساسية؛ فإن اللون قد يتدرَّج تبعًا لتغيرات كيميائية-فسيولوجية محدَّدة؛ فزيادة نسبة الهيماتين في كريات الدم، تمنح جميع الأنسجة لونًا أكثر حُمرة، والميلانين الذي يُلوِّن الغلاف المشيمي للعين، والقزحية، والشعر، يمكن زيادته أو تقليله تبعًا لقوانينَ وضَعَها حديثًا شارت من بازل. وفي البشرة، زيادة الميلانين تُسبِّب السُّمرة، وقِلَّته تسبب المَهَق. فالهيماتين والميلانين، بالإضافة إلى البيليفيردين الأصفرِ المُخضرِّ، واليوروكاسين الأصفر المُحمرِّ، هي المواد المُلوِّنة، التي تمنح الأنسجة خصائصها اللونية، ومن دونها تكون الأنسجة شفافةً أو شبه شفافة. يؤسفني بشدة عدم قدرتي على تسجيل النتائج الخاصة بإحدى أكثر التجارب النسيجية إثارةً للاهتمام، التي أجراها ذلك الباحث الدءوب فرولِكر، الذي نجح في إيجاد طريقة لفصل التلوُّن الوردي في الجسم البشري، بوسائل كيميائية.

حين انتهيتُ من القراءة، أكمل مرافقي غير المرئي قائلًا: «لمدة خمس سنوات، تتلمذتُ على يد فرولِكر، وعملتُ مساعدًا له في المختبَر في فرايبورج. بالكاد خمَّن بوسيس أهمية تجاربنا. وقد توصلنا إلى نتائج مُدهشة للغاية، إلى حدِّ أن السياسة العامة اقتضَت ضرورة عدم نشرها، حتى داخل المجتمع العلمي. وتُوفِّي فرولِكر منذ عام، في أغسطس الماضي.

كنتُ واثقًا في عبقرية هذا المفكِّر العظيم والرجل المُثير للإعجاب. لو أنه كافأ ولائي غير المشروط بإيلائي الثِّقة الكاملة، لَمَا كنتُ الآن تعِسًا بائسًا. لكنَّ تحفُّظه الفطري، والحرص الذي يَحمي به العلماءُ كلهم نتائجَهم غير المثبتة، أبقياني جاهلًا بالمعادلات الأساسية التي تحكم تجاربنا. وبصفتي تلميذه، فقد كانت التفاصيل المختبرية الخاصة بالعمل مألوفة بالنسبة إليَّ، لكنَّ المعلِّم وحده من استحوذ على السر الجوهري. وكان عاقبة ذلك أن حَلَّت بي بليَّة أكثر فظاعةً مما حل بأي إنسان، منذ اللعنة الأولى التي أصابت قابيل.

في البداية كانت جهودنا موجَّهة إلى زيادة وتنويع كميات المواد الصبغية في الجسم البشري. فمثلًا، بزيادة نسبة الميلانين المنقولة عبر الغذاء إلى الدم، أمكنَنا تحويلُ رجل أبيض إلى أسمر، ورجل أسمر إلى شديد السواد كالأفارقة. لم يكن تقريبًا ثمة تدرجات لونية لا نستطيع منحها للبشرة عبر تعديل وتنويع تركيباتنا. عادةً ما كانت التجارب تُختبَر عليَّ. في أوقات مختلفة كنتُ نحاسيَّ اللون، وبنفسجيًّا، وقرمزيًّا، وأصفر كروميًّا. وفي أحد الأسابيع المشهودة كان جسدي يعرض كل ألوان الطيف. وما زال يوجد شاهدٌ على الطبيعة المثيرة التي تميَّز بها عملنا في خلال تلك الفترة.»

توقَّف الصوت قليلًا، وبعد بضع ثوانٍ قُرع جرس يَدوي، فوق رف المدفأة. وفي الحال دلف إلى الغرفة رجل كبير السن، ذو قلنسوة مُحكَمة على رأسه.

قال الصوت بالألمانية: «كاسبر، أرِ السيد المحترم شعرك.»

دون إبداء أي اندهاش، وكما لو أنه معتاد على تلقي أوامر موجَّهة إليه من الفراغ، انحنى الرجل العجوز، ونزع قبعته. كانت خصلات شعره المتناثرة التي كشف عنها ذات لون أخضر زُمرُّديٍّ لامع؛ عبَّرتُ عن ذهولي.

قال الصوت بالألمانية أيضًا: «السيد المحترم يرى أن شعرك جميل جدًّا. هذا كل شيء يا كاسبر.»

انصرف الرجل، وهو يعيد ارتداء قُبَّعته وقد ارتسمت على وجهه نظرة خُيلاء وامتنان.

«كاسبر العجوز كان يخدم فرولِكر، وهو الآن يخدمني. تم إخضاعه لواحد من أوائل تطبيقاتنا العملية. كان الرجل الفاضل فرحًا للغاية بالنتيجة، إلى حدِّ أنه لم يسمح لنا قطُّ بإعادة شعره إلى لونه الأحمر الأصلي. إنه شخص أمين، وهو وسيطي وممثلي الوحيد في العالم المرئي.

والآن، إلى قصة كارثتي. عالِمُ الأنسجة العظيم الذي شرَّفني التعامل معه، حوَّل محور اهتمامه التالي إلى فرع بحثي آخر، لكنه أكثر إثارة للاهتمام. حتى ذلك الحين، كان سعيه مقتصرًا على زيادة المواد الصبغية في الأنسجة، أو تعديلها. أما بعد ذلك فقد شرع في سلسلة من التجارب التي تخص إمكانية إزالة هذه المواد نهائيًّا من الجسم، عن طريق الامتصاص، والترشيح، واستخدام الكلوريدات والعوامل الكيميائية الأخرى التي تؤثر على المواد العضوية. واستطاع أن يحقِّق نجاحًا ساحقًا!

ومرةً أخرى خضعتُ لتجارب أشرف عليها فرولِكر، الأمر الذي جعلني على دراية بالكثير من أسرار هذه العملية؛ إذ كان ذلك حتميًّا. لأسابيع متواصلة، بقيتُ في مختبره الخاص، لا أرى أحدًا ولا يراني أحد، ما عدا البروفيسور وكاسبر المأمون الجانب. تابع السيد فرولِكر عمله بحذر، وهو يُراقب عن كثب أثر كل اختبار جديد، ويتقدم درجات. ولم يحدث قط أن ذهب بعيدًا في تجربةٍ ما إلى الحد الذي لم يستطع معه الانسحاب عندما يقرر ذلك؛ إذ كان دائمًا يُبقي الباب مفتوحًا للتراجع بسهولة؛ ولهذا السبب، شعرتُ بالاطمئنان التام بين يدَيه، وأذعنتُ لأوامره أيًّا ما كانت.

وتحت تأثير العقاقير المبيِّضة، التي منَحها لي البروفيسور إلى جانب بعض المطهِّرات القوية، أصبحت في البدء شاحب اللون، ثم أبيض، ثم عديم اللون كالأمهق، لكن دون أن تُصاب صحتي العامة بسوء. بدا شعر رأسي ولحيتي شبيهًا بخيوط الزجاج، وبدا جلدي كالرخام. كان البروفيسور راضيًا عن النتائج التي حصل عليها، ولم يذهب حينئذٍ إلى أبعد من ذلك. وأعادني إلى لوني العادي.

في التجربة التالية وما تلاها من تجارب، سمح للعوامل الكيميائية بإحكام سيطرتها بقدرٍ أكبر على أنسجة جسمي. لم أُصبح أبيض كرجلٍ منزوع اللون فقط، بل أصبحتُ شبه شفاف بعض الشيء، كشخص من البورسلين. ومرةً أخرى، توقَّف لبعض الوقت، معيدًا لي لوني ومفسحًا المجال لي للاندماج في العالم. وبعد شهرين، أصبحتُ أكثر من شِبْه شفاف. تعرف تلك الشعاعيات البحرية؛ الميدوسا أو قنديل البحر، التي تكاد خطوطها تكون غير مرئية للعين؟ حسنٌ، أصبحتُ في الهواء كما القنديل في الماء. أصبحتُ شفافًا تمامًا، حتى إن كاسبر العجوز لم يستطع اكتشاف مكاني في الغرفة حينما أتى ليُحضِر لي الطعام، إلا بالتحري الوثيق. كان كاسبر هو من يُلبِّي لي احتياجاتي في الأوقات التي كنت معزولًا فيها.»

قاطعتُ حديث فلاك متسائلًا: «ولكن ملابسك؟ لا بد أنها تتعارَض بشدة مع الهيئة الباهتة لجسدك.»

قال فلاك: «آه! لا، إن مرأى طقم فارغ من الملابس يتحرَّك في محيط المختبر، كان غريبًا للغاية، حتى بالنسبة إلى البروفيسور الوقور. ومن أجل حماية وقارِه، اضطُرَّ إلى ابتكار طريقة لتطبيق الأمر نفسه على المواد العضوية غير الحية، مثل الصوف المُكوِّن لعباءتي، والقطن الخاص بقمصاني، وجلد أحذيتي. وهكذا أصبحتُ مجهَّزًا بالملابس الملائمة لي.

كانت هذه المرحلة من التطور الذي أحرزناه، حينما كدنا نتوصَّل إلى الشفافية التامة، ومن ثم الخفاء التام، هي المرحلة التي قابلتُ فيها باندورا بليس.

قبل عام، في يوليو الماضي، وفي إحدى فترات الراحة في تجاربنا، وفي وقتٍ كنتُ أظهر فيه بمظهري الطبيعي، ذهبتُ إلى منطقة الغابة السوداء لاستعادة عافيتي. رأيتُ باندورا للمرة الأولى وأُعجبتُ بها، في بلدة زانكت بلازين الصغيرة. كانوا قد أتوا من شلالات الراين، وكانوا مسافرين باتجاه الشمال؛ لذا غيَّرتُ وجهتي وسافرتُ شمالًا. في نُزُل ستيرن أحببتُ باندورا، وعند قمة فيلدبيرج تُيِّمتُ بحبِّها بجنون. وفي وادي هولينباس كنتُ على استعداد للتضحية بحياتي من أجل كلمة عطف تَنطِق بها. وعلى جبل هورنسجرايند سألتها السماح لي بأن أقذف نفسي من فوق قمة الجبل إلى مياه بحيرة موملزيه العميقة، لكي أُثبِتَ لها إخلاصي. أنت تعرف باندورا، وبما أنك تعرفها فلا حاجة لي إلى الاعتذار عن التنامي السريع لافتِتاني بها. لقد غازلَتْني، وضحكتْ معي، وضحكتْ مني، وركبتْ معي، ومشت معي في شعاب الغابات الخضراء، وتسلقتْ معي مُنحدَرات شديدة الانحدار؛ ما جعل التسلق معًا بمثابة احتضان لذيذ ممتد، وتحدثتْ معي بشأن العلم، والعواطف، وأصغت إلى آمالي وشغفي، وانتهرتْني، وعامَلتْني ببرود، وجنَّنتْني، وكل ذلك حسب مزاجها الحلو، وكل ذلك بينما كان والدها ذو الشخصية العملية غافلًا في مقاهي الفنادق وهو يقرأ أعمدة المال في أحدث صحف نيويورك. أما ما إذا كانت قد أحبَّتني أم لا، فهو ما لا أعرفه حتى اليوم.

حين علم والد باندورا بحقيقة مساعيَّ وآمالي، ساق ملحمتنا الشعرية القصيرة إلى نهاية مفاجئة. أعتقد أنه صنَّفني في مرتبةٍ ما بين المشعوذين المُحترِفين والأطباء الدجالين. شرحتُ له بزهوٍ أنني سأصير — ولا بد — مشهورًا، وعلى الأرجح ثريًّا. علَّق بابتسامة واسعة: «حينما تُصبح مشهورًا وثريًّا، سيسرُّني أن أراك في مكتبي في شارع برود.» ورحل بباندورا إلى باريس، وعدتُ أنا إلى فرايبورج.

وبعد مُضيِّ بضعة أسابيع، وفي عصر يومٍ مُشرق من أيام شهر أغسطس، وقفتُ في مختبر فرولِكر، خفيًّا عن أعين أربعة أشخاص كانوا يَقفون داخل دائرة، نصف قطرها بطولِ ذراعي. كان كاسبر خلفي يَغسل بعض أنابيب الاختبار، وكان فولِكر يُحدِّق باهتمام إلى المكان الذي عرف أنني فيه ولا بد، وقد ارتسمَت على وجهه ابتسامة فخر. وكاد أستاذان شقيقان استُدعيا لسببٍ ما أن يدفعاني بمرفقَيهما وهما يتناقشان حول مسألة تافهة لا أعرفها. كان من الممكن أن يسمعا صوت قلبي يخفق. سأل أحدهما إذ همَّ بالمغادرة: «بالمناسبة، سيدي البروفيسور، هل عاد مُساعدك السيد فلاك من إجازته؟» بلَغ هذا الاختبار حدَّ الكمال.

وبمجرد أن أصبحنا على انفراد، قبض البروفيسور فرولِكر على يدي غير المرئية، مثلما قبضتَ أنت عليها الليلة. كانت معنوياته مرتفعة.

قال لي: «يا صديقي العزيز، غدًا يُتوَّج عملنا. سوف تظهر — أو بالأحرى لن تظهر — أمام لفيفٍ من أعضاء هيئة التدريس في الجامعة. لقد أرسلتُ برقيات تحمل دعوات إلى هايدلبيرج وبون وبرلين. سيأتي شروتر وهيكِل وستاينمتس ولافالو. سيكون إنجازنا ماثلًا أمام أرفع علماء الطبيعة المعاصرين. حينئذٍ سوف أكشف عن أسرار عمليتنا التي كتمتُها حتى الآن، حتى عنكَ أنتَ يا زميلي وصديقي المؤتمن. لكنَّك سوف تشاركني المجد. ما هذا الذي أسمعه عن عصفورة الغابة التي طارت؟ يا بُني، سوف تستعيد لونكَ وتذهب إلى باريس لتطلبها، وبحوزتك الشهرة بين يديك، وبركات العلم في رأسك.»

في الصباح التالي، في التاسع عشر من أغسطس، وقبل أن أنهض من سريري النقال، دخل كاسبر إلى المختبر على عجل.

قال وهو يلهث: «سيد فلاك! سيد فلاك! لقد مات السيد الدكتور البروفيسور إثر سكتة دماغية».»

٥

وصلت الحكاية إلى نهايتها. جلستُ أفكر لوقت طويل. ماذا عساي أفعل؟ ماذا عساي أقول؟ بأي صورة عساي أواسي هذا الرجل التعيس؟

كان فلاك، الذي لا يُرى، ينتحب بمرارة.

كان أول من تكلَّم. قال: «إن الأمر عسير، عسير، عسير! من غير جريرة في أعين الناس، ومن غير خطيئة في نظر الرب، حُكم عليَّ بمصيرٍ أسوأ من الجحيم بعشرة آلاف مرة. كُتب عليَّ أن أطوف في الأرض، رجلًا، حيًّا، مبصرًا، محبًّا، مثل باقي الرجال، بينما بيني وبين كل ما يجعل الحياة جديرة بأن تُعاش حجابٌ قائمٌ إلى الأبد. حتى الأشباح لها أشكال. إن حياتي لَموتٌ حي، إن وجودي لنسيٌ منسي. لا صديق يمكنه أن ينظر في وجهي. لو ضممتُ إلى صدري المرأة التي أحب، فلن يثير ذلك غير ذُعر لا يُمكن وصفه. إنني أراها كل يوم، أمسُّ تنورتها بينما أمر بجانبها على الدَّرج. هل أحبَّتني؟ هل تحبُّني؟ ألن تجعل معرفةُ الإجابة تلك اللعنةَ أشد قسوة؟ ورغم ذلك، فإن الرغبة في معرفة الحقيقة هي ما جعلتني آتي بكَ إلى هنا.»

بعدئذٍ ارتكبتُ أكبر غلطة في حياتي.

قلت: «ابتهج! لطالَما أحبتكَ باندورا.»

بالانقلاب المفاجئ للطاولة، علمت بأي عنفٍ قفز فلاك من مكانه. ثم أحكمت يداه قبضتهما على كتفيَّ بقوة.

أكملتُ قائلًا: «أجل، ما زالت باندورا وفيةً لذكراك؛ لا داعي للقنوط. لقد مات سر عملية فرولِكر معه، ولكن لمَ لا يُعاد اكتشافه بالتجريب واستنباطه من جديد، مع العَون الذي يمكنك تقديمه؟ تَحلَّ بالشجاعة والأمل. إنها تحبُّك. في غضون خمس دقائق، ستَسمع ذلك من فمها هي شخصيًّا.»

لم أسمع قطُّ صرخة ألمٍ تعدل في شدة إثارتها للشفقة نصف صرخة الفرح الجياشة التي أطلقها.

هُرعتُ إلى الطابق السُّفلي واستدعيتُ الآنسة بليس إلى الرواق. ببضع كلمات شرحتُ لها المسألة، ولدهشتي، لم يُغشَ عليها، ولا انتابتْها نوبة من الهستيريا. قالت لي بابتسامة لم أستطع تفسيرها حينئذٍ: «بالطبع، سوف أُرافقك.»

تبعتْني إلى غرفة فلاك، وتفحَّصت بهدوء كل ركن من أركانها، دون أن تفارق الابتسامة الثابتة وجهها. لو أنها دخلت إلى قاعة حفل راقص، لم تكن لتظهر رصانة أعظم من تلك. لم تُظهر أي اندهاش، ولا أي ارتعاب، حينما قبضَت على يدها يدان خفيتان، وأمطرتها بالقبلات شفتان خفيتان. أصغت بهدوء إلى سيل الكلمات المحبَّة والمُهدهِدة التي صبَّها صديقي السيئ الحظ في أذنيها.

مرتبكًا ومضطربًا راقبتُ المشهد العجيب.

سرعان ما سحبَت الآنسة بليس يدها.

قالت مع ضحكة خفيفة: «حقًّا، سيد فلاك، أنت تَمتلك قدرة قوية على التعبير عن مشاعرك. هل اكتسبتَ هذه العادة في أوروبا؟»

سمعتُه يقول: «باندورا! إنني لا أفهم.»

تابعتْ بهدوء قائلة: «ربما تحسب هذا أحد امتيازات حالة خفائك. دعني أهنئكَ على نجاح تجربتك. يا له من رجل ماهرٍ أستاذك — ما اسمه؟ — لا بد من أنه كذلك. يمكنك أن تجني ثروة من وراء عرضك لنفسك.»

هل هذه هي المرأة التي ظلَّت لشهور تستعرض حزنها الذي لا سلوى له، لفقدها هذا الرجل نفسه؟ شعرتُ بالذهول. مَن عساه يَضطلع بمهمة تحليل دوافع امرأة لعوب؟ أي علم لديه القدرة الكافية للكشف عن أهوائها المتطرفة؟

صرخ مرةً أخرى بصوتٍ ذاهل: «باندورا! ما الذي يَعنيه هذا؟ لماذا تُقابلينني بهذا الأسلوب؟ هل هذا هو كل ما لديك لتقوليه لي؟»

أجابت ببرود وهي تتحرَّك نحو الباب: «أعتقد أن هذا هو كل شيء. أنت رجل محترم، ولستُ بحاجة إلى أن أطلب منك أن تُعفيَني من أي مضايقات أخرى.»

همستُ بينما مرَّت بي في طريقها للخروج: «إن قلبكِ مصنوع من الحجر. أنتِ لا تستحقِّينه.»

جلبت صرخة فلاك اليائسة كاسبر إلى الغرفة. بالسليقة التي اكتسبها عبر خدمته الطويلة والمُخلِصة، اتجه الرجل العجوز مباشرةً إلى المكان الذي كان فيه سيده. رأيته يقبض على الهواء، كما لو أنه يتعارك مع الرجل غير المرئي أو يحاول الإمساك به. قُذف به جانبًا بعنف، تمالك نفسه ووقَف لحظة شاحب الوجه وقد مدَّ عنقه مصغيًا، ثم اندفع خارجًا من الباب ونزل الدرج، فلحقتُ به.

كان باب المنزل المُطِلُّ على الشارع مفتوحًا. تردَّد كاسبر على الرصيف لبضع ثوانٍ. وأخيرًا اتجه غربًا، راكضًا في الشارع بذلك القدر من السرعة الذي واجهتْني صعوبةً قصوى في مجاراته فيه.

كان الوقت قريبًا من منتصف الليل. عبرنا جادة تلو الأخرى. تفوَّه كاسبر العجوز بهمهمة غير واضحة تعبِّر عن الرضا. وعلى بُعد مسافة قصيرة منا، رأينا رجلًا يقف عند إحدى زوايا الجادة، وفجأة طُرح أرضًا. أسرعنا الخطى، ولم نتمهَّل على الإطلاق، كنتُ حينئذٍ قد سمعتُ وقْعَ أقدام على مسافة قصيرة تتقدَّمنا. تشبَّثتُ بذراع كاسبر، وأومأ برأسه.

مقطوعَ الأنفاس تقريبًا، وعيتُ أننا لم نعُد نطأ طريقًا ممهدًا، بل كنا نطأ ألواحًا خشبية محاطين بالأخشاب المُبعثَرة، ولم يعد هناك أضواء أمامنا؛ بل فراغ أجوف فقط. وثب كاسبر وثبةً واحدةً عظيمة. حاول القبض على شيء ما، وأخطأه، وسقط مرة أخرى مُطلقًا صيحة رعب.

ثم سمعنا صوت ارتطام خافت بمياه النهر الحالكة السواد الواقعة تحت أقدامنا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤