مذكرات ونبذ لبعض المهندسين وغيرهم عن ترعة الإسكندرية

(١) مذكرة لانكريه وشابرول

وضع مسيو لانكريه Lancret ومسيو شابرول Chabrol من مهندسي القناطر والجسور ومن علماء الحملة الفرنسية على مصر مذكرة عن ترعة الإسكندرية نشرت بالمجلد الثاني من كتاب: «وصف مصر»، لعلماء هذه الحملة، طبعة باريس سنة ١٨١٣م، من (ص١٨٥ إلى ص١٩٥)، وإليك ترجمة هذه المذكرة:

«إنَّه لدى الاقتراب من الرحمانية ينقسم فرع رشيد إلى قسمين رأسيين، يتكون منهما سلسلة جزر يبلغ طولها من ١٥٠٠ إلى ١٨٠٠ متر. وأهم الفرعين هو الفرع الشرقي، وهذا الفرع يبقى صالحًا للملاحة طول السنة، أما الآخر فقد كان الماء يظل به مدى السنة — على قول الأهالي — إلى ما قبل اثني عشر عامًا لا أكثر، ومن بعد ذلك امتلأ بالردم لدرجة أنْ صار يجف من ثمانية إلى تسعة شهور في السنة، وعلى شواطئ هذا الفرع تقوم قرية الرحمانية.

وعلى فرع النيل هذا تقع أيضًا فوهة ترعة الإسكندرية على بعد ١٢٠٠ متر تحت الرحمانية، ويدخل الماء فيها من فوهتين مرتفعتين متر تحت مياه النهر المنخفضة وتبعد الواحدة عن الأخرى ٦٠٠ متر.

وأقدمها هي الفوهة السفلى، وهذه تُركت وبطل استعمالها؛ لأنَّ التطهير المتوالي نجم عنه ارتفاع جسورها بحيث أضحى من غير المستطاع وصول الهواء إلى أشرعة المراكب، ولذا أقيمت الأخرى منذ ٤ سنوات لتحل محلها.

وترعة الإسكندرية في الفرسخ الأول (٤٠٠٠ متر) من مجراها تشبه حفرة عرضها من خمسة إلى ستة أمتار حفرت لاتصال هذه الترعة بفرع رشيد، وذلك عندما انطم فرع الكانوب الذي كان في العصور الخوالي المصدر الذي تستمد منه هذه الترعة المياه.

ويرى الإنسان جزء الفرع الكانوبي القديم هذا على بعد ٢٥٠ مترًا من قرية محلة داود،١ ولا يفصل هذا الفرع عن الترعة في هذه البقعة إلا جسر سُمْكه ٤ أو ٥ أمتار. وعندما يتقدم الإنسان بعد هذه النقطة يرى الترعة تزداد في الاتساع والنظام، وتستمر على هذه الحالة إلى أن تبلغ قرية سماديس، حيث تأخذ في اتساع يبلغ متوسطه ٥٠ مترًا، ويظل هذا الاتساع مستمرًّا إلى ما بعد قرية أفلاقة؛ أي: مسافة فرسخين ونصف فرسخ (١٠٠٠٠ متر)، وذروة ارتفاع جسوره فوق القاع أكثر من أربعة أمتار، على حين أنَّ هذا القاع متر واحد تحت مستوى الأراضي المجاورة لها، وبهذه القطعة من الترعة كل سمات القدم، ففيها مواني على شكل نصف دائرة عرضها ٨٠ مترًا، وهذه حالة لا تدع مجالًا للشك في أنَّ هذا الموضع كان يموج في الزمن الغابر بأفواج المراكب وكثرة البضائع، وهذا الموضع هو الذي وقع عليه الاختيار أيضًا في الوقت الحاضر لتكديس محاصيل مديرية البحيرة والسلع الأخرى التي يراد شحنها للإسكندرية.

وهو من ناحية أخرى واقع من القدم بجوار مدينة كبيرة — أعني دمنهور — التي حلت على ما يلوح محل مدينة هيرموبوليس بارفا.

وليس في الفرسخين التاليين (٨٠٠٠ متر) بعد ذلك شيء يلفت النظر، اللهم إلا بين قريتي زاوية غزال وقابيل، حيث تُركت الترعة القديمة من زمن يسير، وحفرت ترعة أخرى ذات طول مستقيم وعمق منتظم.

وبعد قابيل يدخل الإنسان في بقعة تختلف كثيرًا عن البقعة التي تقدمتها، إذ لم يعد يرى سهلًا خصبًا تزينه المزارع، وقرى عامرة منبثة في جوانبه، بل يقع نظره على مدائن مدمرة، وأرض بائرة، وخرائب غير مأهولة، ومناظر تفوق رهبتها رهبة الصحارى، وربما كان الباعث على ذلك أنَّ هذا المنظر يعيد على الذاكرة حالة ازدهار سابق أدركها العفاء فأمست أثرًا بعد عين.

ومتوسط اتساع ترعة الإسكندرية بعد قابيل في مسافة أربعة فراسخ متتالية (١٦٠٠٠ متر) عشرون مترًا، وجسورها في هذه المسافة تارة تكون مرتفعة ارتفاعًا قليلًا، وطورًا يتراوح ارتفاعها بين ٨ و١٠ أمتار، وهذا الجزء من الترعة أجمل الأجزاء منظرًا، وأكثرها تناسقًا في العرض والعمق، وفي الفرسخ التالي (٤٠٠٠ متر) أعني لغاية ليلوها — قرية السعرانية — تقريبًا يحتفظ بنفس هذا الاتساع، ونفس هذه المساواة التي كان محتفظًا بها قبلًا، ولكنَّ السهل الذي يكتنفه يأخذ في الانحطاط شيئًا فشيئًا إلى أن يصير مستواه في مستوى قاع الترعة، حتى إنَّ هذا القاع يعلوه في كثير من المواضع، ولا يعود إلى الانخفاض تحت مستوى السهل إلا عندما يقترب من الإسكندرية بنصف فرسخ (٢٠٠٠ متر).

وبعد ليلوها (السعرانية) مباشرة تتسع الترعة فجأة، ويصير عرضها في مسافة نصف فرسخ (٢٠٠٠ متر) ١٠٠ و٢٠٠ بل ٢٥٠ مترًا، وجسورها لا تكاد ترتفع إلى مترين، أما من جهة المتانة فليست على شيء منها، حتى إنَّ الماء ليرشح من جوانبها، وبعد ذلك تضيق كثيرًا، وعندما تجاوز (قرية البيضاء) يصير عرضها ٥ أمتار فقط، وارتفاع جسورها أكثر من ٧ أمتار، والرمال المتحركة تغطيها، وتهدد الترعة بأنْ تطمها طمًّا وتردمها ردمًا، والترعة في هذه البقعة تقع على مسافة متوسطة من بحيرة أبي قير قدرها ١٠٠ متر، وبعد ذلك تبتعد عنها، وفي فسحة فرسخ (٤٠٠٠ متر) تشبه في النظام والمساحة المسافة التي قبل ليلوها (السعرانية) تقريبًا، وتدنو من البحيرة قبيل طرفها الغربي، وتحصرها عن كثب بحيث تصير لا يفصلها عنها إلا جسر من الأحجار سُمْكه من ٦ إلى ٧ أمتار.

ويتكون الجسر الذي ناحية السهل من حائط آخر يبعد عن الجسر الأول ٥٠ مترًا، وهذه البقعة سُمِّيت البوصات بسبب مساحة البوص الواسعة التي ينمو فيها هذا النبات، وهي إحدى بقاع الترعة الأشد انسدادًا؛ لأنَّ الأوحال التي نجمت من التطهيرات السنوية كانت دائمًا تلقى فيها ذات اليمين وذات اليسار داخل نفس الجسور.

ومن نهاية البحيرة تسير الترعة في أرض تفصلها عن بعضها غدران مغطاة بقشرة من الملح سُمْكها يبلغ من ١٠ إلى ١٢ سنتيمترًا، وتمر بعد ذلك في وسط غابة من النخل امتدادها نصف فرسخ (٢٠٠٠ متر) تاركةً على يمينها عددًا كبيرًا من الصهاريج بعضها مطبوع بطابع العمارة اليونانية أو الرومانية، ولكنَّ أغلبها شوهته الترميمات التي حدثت في الزمن الحديث.

ويقع على هذا الجزء القريب من الإسكندرية من ناحية اليمين عدة تلال يتخللها عدد كبير من الدور المدمرة، هجرها العرب الذين كانوا آخر من عمرها، وذلك من نحو مائتي أو ثلثمائة سنة، وفي هذه البقعة يوجد عدد كبير من قطع أعمدة الجرانيت وأجزاء أخرى من بقايا صناعة المعمار الإغريقي الذي أنشأ قُطر مصر هذا وجمله.

وقاع التُّرعة على بعد نصف فرسخ (٢٠٠٠ متر) من الإسكندرية منخفض قليلًا عن مستوى سطح البحر، لكن ابتداء من هذه النقطة لغاية سور العرب به منحدر عكسي أعني أنه يرتفع كلما تقدم نحو السور.

وفي النهاية تدور ترعة الإسكندرية بعرض ٢٠ أو ٢٥ مترًا حول سفح التل الذي نُصب فوقه عمود سفير Sévére «عمود السواري»، وبعد ذلك تضيق كثيرًا، وتمر في قلب سور العرب، وتسير إلى حيث تنتهي في الميناء القديمة تصب فيها بشكل مجرور.

والفرق بين ارتفاع مياه النيل في زمن الفيضان، وزمن التحاريق بجانب مدخل ترعة الإسكندرية أربعة أمتار في السنين العادية، ومتوسط عمقها في هذه الترعة متى بلغ أقصى حد يكون زهاء متر واحد أو ستة أعشار المتر.

وتظهر زيادة النهر السنوية في الرحمانية بين ١٠ و٢٠ يوليه، وقبيل آخر الشهر الذي يليه؛ أي: أغسطس، تصل إلى مدخل ترعة الإسكندرية، وبعد ذلك تستمر شهرًا واحدًا في جولتها في الترعة؛ لأنَّها تُبطئ في السير بسبب عدم تساوي انحدار قاع الترعة وبالأخص لكثرة اعوجاجها، إذ إنَّ امتداد الترعة يبلغ عشرين فرسخًا (٨٠٠٠٠ متر)، في حين أنَّ المسافة بين طرفيها لم تكن سوى خمسة عشر فرسخًا (٦٠٠٠٠)، وعلى ذلك لا تصل المياه إلى الإسكندرية إلا قُبيل ٢٠ سبتمبر، وبما أنَّ هبوط مياه النيل يكون في الرحمانية في ٥ أكتوبر فيتبين من ذلك أنَّ الملاحة لا تمكث في الترعة إلا ٢٠ أو ٢٥ يومًا.

ومتى وصلت المياه إلى الإسكندرية تدخل في أربعة مجارٍ صغيرة سائرة تحت الأرض، ومداخلها موزعة على امتداد نصف فرسخ (٢٠٠٠ متر) من الإسكندرية قبل مصب الترعة، وتسير المياه في هذه المجاري الصغيرة إلى أن تصل إلى أحواض فترفع منها بواسطة (سواقي طارة) بقواديس، وتصبها في مساقي صغيرة توزعها في مختلف الصهاريج بالمدينة، وهذه السواقي البالغ عددها ٧٢ ساقية تُدار بالخيول والثيران التي توردها مديرية البحيرة سنويًّا لهذا العمل بطريقة جبرية.

ومن وقت غير بعيد كان عدد الصهاريج المخصصة لخزن الماء ٣٦٠ صهريجًا، والآن لا يتجاوز عدد هذه الصهاريج ٣٠٨ تقريبًا، وسينقص عددها سريعًا؛ لأنَّها صُنعت من زمن بعيد جدًّا، ولم يعد يحدث فيها أي ترميم من أمد مديد، وكان هنالك أيضًا عدد أكبر من المساقي لتحويل المياه، لكنَّ البعض منها انسدَّ والبعض الآخر لم يعد يصل إلا إلى بعض البساتين الخاصة.

ولا يغلق البتة مصب الترعة في الميناء القديمة في أثناء العمل في تعبئة الصهاريج؛ لأنَّ المنحدر العكسي الذي سبق الكلام عنه يمنع تسرب كمية جسيمة من الماء من هذا المنفذ والكمية التي تتسرب ينتفع بها في تموين السفن.

وحالما تكون كافة صهاريج الإسكندرية امتلأت امتلاءً كافيًا يُسمح لسكان القرى القائمة على ضفاف الترعة بقطع جسورها، سواء أكان ذلك لري الأراضي، أم لملء الصهاريج الخاصة بهم، وأهالي القرى الوقعة على ضفة الترعة اليسرى في قسمها العالي الذين تُروَى أراضيهم من تُرع أخرى، ينتظرون بفارغ الصبر هذا الوقت؛ ليقطعوا جسري ترعة الإسكندرية؛ ليصرفوا في الحال المياه عن أراضيهم، لكي يجففوها في أقرب وقت، وإذا كانت الأهالي تصرف هذه المياه في الترعة بحكم الاضطرار، فهذه المياه يُنتفع بها في الأراضي الواقعة أسفل منها ولم ترتوِ مطلقًا ريًّا وافيًا، ولا تُروى بعض أجزاء هذه الأراضي إلا حينما يكون الفيضان عاليًا جدًّا، أمَّا في الفياضات العادية، فتبقى بورًا ويترك الفلاحون مساكنهم ويرحلون للبحث عن أشغال في المدائن أو في القرى الكبيرة، وينتظرون الوقت الذي فيه يروي النهر حقولهم؛ لكي يعودوا إلى مساكنهم.

ومما لا ريب فيه أنَّه ينبغي أن يُعزى الرحيل عن ضفاف الترعة إلى قلة العناية بحفرها والماء الشحيح الذي يدخلها كل سنة؛ لأنَّ الأرض فيها صالحة للزراعة إلى حد كبير، فهي كباقي جميع أرض مصر في الصلاحية. نعم هي في الحقيقة مغطاة بطبقة رملية في بعض المواضع، ولكنَّ هذا هو المعلول لا العلة في عزلة هذه الجهة.

وفي عهد حكم المماليك كان أحد كشاف حاكم مديرية البحيرة يُعسكر على ضفاف الترعة من وقتما تدخل فيها المياه إلى الوقت الذي فيه تمتلئ صهاريج الإسكندرية، ومأموريته تنحصر في منع أعراب الصحراء والفلاحين من إحداث قطوع بها، وأن يُحدث هو نفسه بها قطوعًا عندما تزداد كمية المياه لدرجة يخشى معها حدوث قطع في بعض أجزاء الجسر.

ومن وقتما تكون صهاريج الإسكندرية قد أوشكت على الامتلاء يدخل المدينة ليتحقق من امتلائها. وهذا التحقيق يعمل بناء على طلبه من الحاكم والقاضي والعلماء، وبعد ذلك يملأ إناء من مياه هذه الصهاريج ويختتم من أولئك الذي أجروا التحقيق، ويستعمل هذا الإناء مع الشهادة التي ترفق به في إقناع حاكم القاهرة بأنَّ الماء صالح، وأنَّ الصهاريج قد مُلئت.

وبعد أن بينَّا ماهية ترعة الإسكندرية في العصر الحاضر والترتيبات المقررة بصدد مائها نشرع الآن في ذكر بعض أشياء عن حالتها في العصور القديمة، فنبحث في عجالة ارتباطها بالتجارة والزراعة، وأخيرًا نتكلم عن الإصلاحات التي لا بد منها والزيادات المفيدة القابلة لها فنقول:

لم يبقَ الآن أية ذكرى لترعة كانت توصل مياه النيل من ناحية بحيرة مريوط قبل الإسكندر، ويلوح أن سكان ضيعة راكوتيس (Racotis) والحامية التي كانت ملوك مصر تقيمها فيها كانت تجد الماء الكافي الصالح للشرب في برك الماء التي كانوا يحفرونها على ساحل البحر، ومن المعروف أنَّ يوليوس قيصر وجيشه عندما كانا محصورين اضطرا أن يشربا الماء من هذا الينبوع الوحيد، وهذا ما حققته التجربة والاختبار.

ولكن إذا كانت شواطئ بحيرة مريوط لم تُحرث وتُزرع قبل الإسكندر، فلا يمكن أن يداخل أي إنسان شك في أنَّ جزءًا كبيرًا من السهل الواقع بين الإسكندرية ودمنهور رواه قدماء المصريين وحرثوه، ولا يزال يوجد إلى الآن في هذا الجزء بعض آثار هيروغليفية، الأمر الذي يدل على أنَّه كان قد أقيم فيه أنصاب. ووُجد في قرية أفلاقة بين آثار أخرى باب طاحونة مُزيَّن بثلاثة أحجار منقوشة نقشًا متناسبًا بديعًا، وأهم هذه الأحجار هو الذي انتزعناه يمثل إيزيس جاثمًا بنسبة ستة أعشار المتر، ورأسه مُزين بجلد عقاب وقابض بيده على غصن يمثل زهرة النيلوفر. وقطعة الحجر الجيري هذه غاية في الصيانة ومنقوشة نقشًا بارزًا بنفس العناية ونفس التفصيلات اللتين في حيطان معبد دندرة.

إنَّ الرأي القائل بأنَّ الترعة الحالية هي الترعة التي حفرت في وقت تأسيس هذه المدينة (أي الإسكندرية) عندما عرض اعتبره الرأي العام صحيحًا ورحب به. ونحن نرى أنَّ من واجبنا بحث هذا الموضوع.

لقد عُلم من شهادة إسترابون أنَّه لدى خروج الإنسان من الإسكندرية من باب كانوب يجد على يمينه الترعة المسماة بهذا الاسم تسير بموازاة شاطئ البحر على مسافة يسيرة منه، وهذه الترعة التي كان لها مخرج في بحيرة مريوط ليس لها بلا شك مخرج من ناحية كانوب الواقعة على شاطئ البحر، ولكنَّ المياه تصل إليها من النيل بواسطة ترعة مصدرها الفرع الكانوبي قرب مدينة شديا الواقعة على مسافة قليلة من فوهة النهر.

فما هي الأسباب التي حدت بالمهندس المعماري دينوقراط Dinocrate أن يحفر ترعة امتدادها ثمانية عشر فرسخًا (٧٢٠٠٠ متر) في حين أنَّه كان في استطاعته أن يجر المياه من جوار كانوب بواسطة ترعة امتدادها ستة أو ثمانية فراسخ فقط (٢٤٠٠٠ أو ٣٢٠٠٠ متر).

لقد كانت ترعة كانوب على وجه التحقيق هي الترعة الوحيدة التي توصل المياه المخصصة للشرب إلى الإسكندرية، إذ لو فرض أنَّه حينما أضحت هذه المدينة أكثر مدن مصر سكانًا لدعت الحالة إلى فتح ترع ابتداء من رأس الدلتا؛ لتزداد كمية المياه الصالحة للشرب في الإسكندرية، وهذا يقتضي أيضًا التسليم بأنَّ هذه المياه ما كانت تستطيع أن تصل إلى الإسكندرية إلا بعد أن تجتمع بمياه ترعتي شديا وكانوب. وبغير ذلك كان من المحتم أن تخترق بحيرة مريوط فيتطرق إليها الفساد بحكم الطبيعة.

وقد يجوز أن يكون جزء الترعة الحالي المحصور بين قرية الكريون والبطاح الملحة التي سبق الكلام عنها بقية إحدى هذه الترع القديمة التي كانت قد أعدت لتنمية كمية المياه في ترعة كانوب، وهذا الجزء يدور حول موضع بحيرة مريوط القديمة؛ لأن قاعه مرتفع كثيرًا عن منسوب السهل. وهكذا يكون على ما يلوح لنا قد عملت ترعة بجوار الماء الملح أعدت لتوصيل المياه اللازمة لحاجات المعيشة.

وكان — على ما ذكره إسترابون — يصب عدد كبير من الترع متفرع من أجزاء النهر العليا، وكانت إحدى هذه الترع تمر بهيرموبوليس بارفا، ولقد بيَّنَّا فيما سلف أنَّ هذه الترعة كان بها طابع القدم، وذلك بجوار هذه المدينة المسماة الآن دمنهور، وعلى هذا نحن لا نرتاب في انضمام عدة ترع لبعضها ليتكون من مجموعها الترع الموجودة في الوقت الحاضر.

وهذا أمر يمكن الاستعانة به؛ لتعليل كثرة التعاريج الغريبة التي بهذه الترعة وتعدد ارتفاع قاعها في مواضع وانخفاضه في أخرى وذلك في أرض يستطاع فيها جعل امتدادها مستقيمًا جدًّا وقاعها في غاية الاعتدال.

ويحدونا تاريخ ترعة الإسكندرية إلى بحث مسألة أخرى لا تخرج عن الموضوع الذي نعالجة الآن:

يُؤخذ من قصة حرب يوليوس قيصر بالإسكندرية أنَّ قسمًا من هذه المدينة كانت تخترقه ترعة، وكان ماء هذه الترعة يستعمل لقضاء حاجة قسم كبير من الشعب؛ لأنَّ ماء الصهاريج كان لا يمكن أن يفي إلا بحاجة فريق الأغنياء وتابعيهم، وكان يظن بعض الناقدين أنَّ هذه الترعة هي نفس الترعة التي تتقابل مع بحيرة مريوط في ميناء كيبوتوس (الغربية) (Kibotos)، وذلك بدون التفات إلى أنَّه حتى لو فرض أنَّ مياه هذه الترعة أمست صالحة للشرب؛ لوفرة عدد ترع النيل التي تصبُّ فيها لصارت بحكم الضرورة ملحة في الترعة التي توصلها إلى البحر، وما دامت هذه الترعة صالحة للملاحة فلا بد أنَّها كانت واسعة.
ومن ناحية أخرى فالعبارة التي أوردها هرتيوس Hirtius من أهل القرن الأول قبل الميلاد، وهو الذي سَمَّى الترعة التي كانت الأهالي تشرب منها بنهر النيل لا تنطبق بتاتًا على رأي أولئك الذين ظنوها تستمد المياه من بحيرة مريوط، وهذا ما يجعلنا على الاعتقاد بأنَّ المياه التي كان الأهالي يستعملونها تأتي من ترعة كانوب نفسها، وهي التي سبق الكلام عنها، وعلاوة على ما ذكر فإنَّ هذا الرأي لا يتعارض مطلقًا مع ما قصه هرتيوس بشأن الموضع الذي كان يوليوس قيصر محصورًا به في الإسكندرية، فيوليوس قيصر هذا لم يكن كما هو معروف صاحب النفوذ في الحي الذي تخترقه الترعة المسماة نهر النيل، والترعة التي نتكلم عنها لم تكن في الواقع ونفس الأمر تمر في حي القصور الذي كان يمتلكه يوليوس قيصر، بل كانت تَمُرُّ من المدينة بين سورها الجنوبي والشارع المستطيل، وتصب من فتحة ضيقة في الترعة التي تتلاقى مع بحيرة مريوط في مينا كيبوتوس.
ولقد شُوهد في وصف ترعة الإسكندرية أنَّها لم يعد يكتنفها الآن في القسم الأكبر من مجراها إلا أطلال وصحاري، مع أنَّها كانت منذ ٤٦٠ سنة لا أكثر تتزين وتتحلى بجميع ما في مصر من أنواع الزخارف والثراء، وإليك ما رواه عنها المؤرخ العربي أبو الفداء الذي كان على قيد الحياة في ذلك العهد:
والقمح يُجلب لها من البلاد الأجنبية، والحقول التي تُحيط بها مجدبة؛ لأنَّ أرضها مشوبة بالملح.٢ أ.هـ.
ويقول بالشرح المسطر على الهامش:
الإسكندرية واقعة على جزيرة رملية كونها البحر وترعة الإسكندرية، وهذه الجزيرة على امتداد يسير أقل من نهار مغروسة كرومًا ومزينة بالبساتين، ومع أنَّ أرضها لم تكن مكونة إلا من رمال، فالعين لا تستنكف رؤيتها، والترعة الموصلة الماء للإسكندرية منظرها بديع، فالجنائن والرياض المزروعة على ضفتيها تجمّل مجراها.٣ أ.هـ.

ويلوح من أول وهلة أنَّ عبارتي أبي الفداء السالفتين متعارضتان ولفهمهما يلزم ملاحظة أنَّ أولاهما خاصة بجزء السهل الواقع على يسار الترعة، فهذا الجزء نظرًا لانغماره بمياه بحيرة مريوط كانت أرضه حقيقة مشوبة بملح البحر، أما العبارة الثانية فينطبق نصها على جميع الفضاء المحصور بين ضفة الترعة اليمنى والبحر. فهذه الأرض لم تكن جميعها تقريبًا مغمورة بالمياه في ذلك الوقت، كما هي الآن إذ إنَّ بُحيرة أبي قير التي لا ينبغي خلطها مع بُحيرة إدكو (بُحيرة المعدية القديمة) لم تكن ظهرت في عالم الوجود حتى ذلك الحين.

ومما لا ريب فيه أنَّ ضفاف ترعة الإسكندرية كانت مزدهرة زاهية حتى بعد أن أضحى العرب أصحاب السلطة والسيطرة على المدينة، ومما يبرهن على أنَّ الحاجة كانت ماسة جدًّا لاتصال إحدى الضفتين بالأخرى، الكباري الأربعة التي مدوها بطول امتداد الفرسخ (٤٠٠٠ متر) الواقع قبل الإسكندرية، وأحد هذه الكباري وهو الأكثر مجاورة لسور العرب قد تهدم، وأما الثلاثة الأخر فكانت مشيدة على غرار واحد، وكل واحد منها مكوَّن من قنطرة واحدة مرتفعة ارتفاعًا كبيرًا؛ لتيسير الملاحة.

وقبل أن نتكلم على الأعمال التي يلزم عملها لترعة الإسكندرية حتى تقوم بالغاية التي حفرت من أجلها على أتم وجه وأفضله نوضح الأسباب المهمة التي تُحتِّم على الحكومة إنجاز هذه الأعمال.

إنَّ تُرعة الإسكندرية — بعد ترعة السويس — هي أهم الترع التي ينبغي على ولاة الأمور في مصر أن يعنوا بها كل العناية، ويوجهوا أفكارهم لمباشرة إصلاحها؛ لتصير صلة لا بد منها، ولا غنى عنها للترعة التي تربط النيل بالبحر الأحمر؛ لأنَّ النقطة التي تنتهي إليها هذه الترعة في أي موضع كان من النهر لا بد للمراكب التي تمخر فيها أنْ تصل إلى الإسكندرية، ومن سداد الرأي أن يكون ذلك بواسطة الترع التي تسير في داخلية البلد عوضًا عن تعريضها لبحر عجاج كثير الرياح والأمواج، أو تعريضها في أوقات الحروب لغارات الأعداء، ولقد أدرك الإغريق هذه الأشياء تمام الإدراك؛ ولذا كانت جميع التجارة في عهدهم تجري بواسطة بحيرة مريوط التي كانوا يؤثرون موانيها على مواني البحر الأبيض المتوسط، ولكن فيما خلا ترعة السويس كانت ترعة الإسكندرية لم يزل لها قسط وافر من الأهمية جدير بأن يستوقف الأنظار.

ومهما يكن من أمر الطريقة التي بها تستورد تجارة الهند أو البحر الأحمر إلى مصر من السويس أو القصير، ففي الواقع يدرك بالبداهة أنَّها كانت ولا بد من أنْ تُوجَّه إلى الإسكندرية لتُشحن منها على السفن، وهذه توزعها على كافة البلاد الأوربية، وعلى ذلك تتطلب الأسباب التي أوردناها توا بشأن الاحتياج إلى النقل في داخلية البلاد أن تعود ترعة الإسكندرية صالحة للفلاحة طول السنة، وهذه العملية تكون من ناحية أخرى مصدر سعادة وفلاح لمصر وتهيئ للحرث والزرع جانبا لا يستهان به من أرضها ضيعته يد إهمال ذوي الحل والعقد الإجرامي فتظهر مرة أخرى ضفافها الجافة المهجورة في الوقت الحاضر وقد أعيد لها خصبها القديم، وهذه الحالة تنطبق انبطاقًا تامًّا عجيبا على حاجات الإسكندرية الحديثة التي هي الآن مع ازدياد عدد سكانها وازدياد نشاطها لا تستهلك جزءا كبيرا من حاصلات مصر الحالية.

وكيفما قلبنا الطرف وأجلنا الفكر فيما عساه أن تصلح له الترعة التي نتحدث عنها نرى أنه لا غنى لمصر عن الإسكندرية فلا يجوز أن تترك عرضة لأن يضيع كل اتصال بينهما وبين النيل في طرفة عين.

لقد قلنا فيما سلف: إنه يوجد في اتجاه نهاية بحيرة أبي قير جسر مبني بالأحجار عرضه من ٦ إلى ٧ أقدام يفصلها عن الترعة، ومع أن هذا الجسر قد أقيم حديثا وفي بنيانه من المتانة حد الكفاية غير أنه نظرًا لإهماله وعدم إجراء أي شيء في سبيل صيانته تطرق إليه الفساد والدمار، وقد تُحدث العوارض الشديدة انهياره، وبما أنَّ مياه البحيرة أشد انحطاطًا من مياه الترعة فينجم من ذلك أن تنسكب جميع هذه المياه في البحر، والأنكى من ذلك أنَّه إذا كان القطع ينشأ على أثر عاصفة شديدة يحدث عنها أيضًا انقلاب جسر الترعة الثاني فعندئذٍ تنحدر مياه بحيرة أبي قير في كل عرض السهل الذي كانت تشغله في العصور الخالية بحيرة مريوط، وهذا السهل لا يزال مستواه إلى الآن أحط من مستوى البحر، وعند ذلك تكون مدينة الإسكندرية مرة أخرى قائمة على برزخ ضيق جدًّا كما كانت في زمن وجود هذه البحيرة، ولكن مع هذا الفرق وهو أنَّه لن يعود بعد في حكم الاستطاعة توصيل مياه النيل إليها.

ولهذا يجب إعادة بناء الجسور التي تفصل البحيرة عن الترعة لتصير بالحالة التي كانت عليها قبلًا وبناء جسور أخرى في كافة المواضع التي تخترقها بل ربما قد يكون من سداد الرأي ومن الأسهل كثيرًا إبعاد الترعة عن البحيرة.

وهذا الأمر لا يحدث زيادة في النفقة؛ لأنَّ السهل الذي تمر منه الترعة نظرًا لشدة انخفاضه كما ذكرنا سلفًا يدعو إلى الاكتفاء بإقامة جسور فقط؛ لحفظ الترعة، والحاصل أنَّه إذا أُعيد بناء الجسر الذي يفصل البحيرة عن البحر أو على الأقل إذا اعتنى بملاحظته لكي لا يزداد سوءًا على سوء، فلا يكون هنالك خوف مطلقًا من العوارض التي قد تحدثها اضطرابات مياه البحيرة الشديدة.

والأشغال التي يمكن مباشرتها لتبقى دوامًا ترعة الإسكندرية صالحة للملاحة لا يمكن إتمامها في سنة واحدة، بل من المستطاع تدبيرها بكيفية تجعلها من السنة الأولى لمباشرتها تأتي بفوائد جمة، وهكذا يستطاع في سنة واحدة بقاء الملاحة سهلة مدة ثلاثة أشهر من السنة التالية لبدء العمل، ويكفي لإنجاز هذه العملية مبلغ قدره (٢٦٠٠٠٠) مائتان وستون ألف فرنك، (١٠٠٢٩٥٠ قرشًا) وإليك الكيفية التي بها يمكن الحصول على هذه النتيجة.

إنَّ قياس المناسيب الذي عمل في الثمانية فراسخ الأولى (٣٢٠٠٠ متر) من الترعة دل على أنَّ انحدارها شديد للغاية في هذا الجزء لدرجة أنَّه لم يعد يوجد بعدها انحدار في باقي مجراها، وهذا الانحدار الجسيم ناجم من رواسب الطمي السنوي التي تزداد جسامة قرب الرحمانية أكثر مما تزداد قرب الإسكندرية، وإذن يُكتفى بمباشرة الأشغال أولًا في الثمانية فراسخ الأولى (٣٢٠٠٠ متر)، وذلك بحفر مترين ونصف عند مدخل الترعة وبتقليل العمق تقليلًا يتناسب مع المسافة التي يكون الإنسان عندها من المدخل بحيث يجد عند نهاية الثمانية فراسخ قاع الترعة القديم، وإنجاز هذه العملية بعرض عشرة أمتار يستلزم رفع ٤٦٨٠٠٠ متر مكعب. وإذا أضيف إلى ذلك ١٣٢٠٠٠ متر مكعب عن الأشغال التي تتطلبها بعض أجزاء الترعة لا سيما الجزء الواقع بجوار بحيرة أبي قير يكون المجموع ٦٠٠٠٠٠ متر مكعب يقدر تطهير المتر الواحد منها بمبلغ ١٢ ميدي (١٢ بارة أو ٣ مليمات) بما في ذلك جميع النفقات، وتقدر بما يقل قليلًا عن ٢٦٠٠٠٠ فرنك (١٠٠٢٩٥٠ قرشًا).

أما الوقت اللازم لإتمام هذه العملية فهي لا تتطلب أكثر من ١٥٠ يومًا، إذ في الإمكان حشد ٢٧٠٠ (ألفين وسبعمائة) عامل حيث يمكن للمزارعين أن يحصلوا على ١٥٠ يومًا في السنة، وذلك في الفترتين المحصورتين بين البذار والحصاد وبين الحصاد والفيضان.

ونحن لا نزج بأنفسنا في جميع التفاصيل الخاصة بالاتجاه الجديد الذي يلزم أن تتخذه بعض أجزاء الترعة لجعل الملاحة أكثر سهولة، ولكن نلاحظ فقط أنَّه لما كان مجرى التُّرعة العمومي يتجه تقريبًا من الشرق إلى الغرب بينما الريح تهب في معظم الأوقات من الشمال إلى الجنوب، فيلزم العمل على أن لا يكون أي اعوجاج من هذه الاعوجاجات في هذا الاتجاه الأخير حتى يمكن طلوع ونزول المراكب في جميع فصول السنة، أما مدخل ومصب الترعة فهذان يلزم أن تتخذ فيهما تغيرات لا بد منها، وهاك بيانها:

إنَّ التغيرات التي يلزم إجراؤها في المدخل هي وضعه قرب طابية الرحمانية، فهذا الموضع الذي يُحتفظ في أوقات التحاريق بماء عمقه أكثر من ثلاثة أمتار يستطيع بقليل من العمل أن يصير ميناءً فسيحًا وحسنًا، وهو واقع بجوار جزيرة صالحة جدًّا لإقامة المخازن الضرورية لمثل هذه الملاحة.

والعوائق التي يجب اجتنابها بعناية تامة في الطريق الجديد الذي يراد إعداده للتجارة هي وسق المراكب والمخازن المختلفة، وهذا الأمر الذي كثيرًا ما يكون سببًا في التأخيرات يستدعي تشييد محال للجمارك، وبالتالي تحصيل رسوم على البضائع، وإذن يجب أن تتصل ترعة الإسكندرية بالبحر حتى لا يكون هنالك احتياج لنقل البضاعة المجلوبة بطريق التُّرعة برًّا.

ولكن قبل أن ندل على موضع الميناء الذي يكون فيه — على ما يلوح — من المناسب أن تنتهي الترعة نُعيد على الذاكرة أنَّه لَمَّا ضم الإسكندر جزيرة المنار إلى الأرض اليابسة، وجعل بهذه الكيفية ميناءين للإسكندرية شعر الناس بضرورة اتصالهما حتى تستطيع المراكب أن تخرج في كل الفصول تقريبًا، فترك لهذا الغرض فتحتين في الهبناستاديم Hepnastadium، وهاتان الفتحتان تكونتا في نفس الوقت الذي اتسع فيه عرض الهبناستاديم من جراء رواسب المياه، بحيث حلت المدينة الحديثة كما هو معلوم محل السد القديم.

وبما أنَّ ضرورة اتصال الميناءين ببعضهما لم تزل كما كانت في تلك العصور القديمة، فمن رأينا أنَّه لو عمل قطع متسع يصل الواحدة بالأخرى، لدعت الحالة لجعل نهاية ترعة الإسكندرية في هذا القطع بكيفية تجعلها خاصة بالميناءين على السواء، وأن تخترق المدينة الحديثة بالطول، واستمرار وجود مياه النيل بالإسكندرية يصبح أمرًا ضروريًّا جدًّا لو فرض أنَّ عدد السكان زاد زيادة كبرى؛ لأنَّ كمية المياه التي يمكن أن تسعها جميع صهاريج المدينة لا تستطيع أن تكفي على أكثر تقدير عدد سكانها في الوقت الحاضر إلا مدة سنة ونصف.

وهذا الفم الجديد المفتوح على النهر يُضعف على وجه التحقيق كثيرًا فرع رشيد الذي تختلط ماؤه في فصل الصيف بماء البحر الملح في مرحة أربعة أو خمسة فراسخ (١٦٠٠٠ أو ٢٠٠٠٠ متر) فوق مصبه، ولكن عدا أنَّه في حكم الاستطاعة تكثير جريان مياه النيل في كل الأوقات، وذلك بتضييق مصباته في البحر، وأنَّه قد يمكن دوامًا التحكم في مياه الترعة بألا يُعطى شيء منها إلا المقدار الكافي للضرورات والاحتياجات الصحية، فإقامة سد (هويس) عند منتصف طولها وآخر عند نهايته في الميناء يكفيان لعدم ضياع الماء سُدى.

والسد الذي في الطرف وحده قد يكفي كل الكفاية لتأدية هذا الغرض ولكن يجب أن تكون الأبواب مرتفعة ارتفاعًا كبيرًا والجسور أيضًا عالية كثيرًا؛ لأنَّه يلزم أن تكون قممها أفقية في جميع طولها.

ونحن لا نأخذ على عاتقنا التعمق في مناقشة الوسائل الممكن التذرع بها لجعل ترعة الإسكندرية صالحة للملاحة طول السنة، ولا في تعداد الأشغال الصناعية التي تلزم لذلك.

ولكن الغرض المهم الذي يجب تقديره أن هذا الحصر يتعذر ولو بوجه التقريب في جميع ما يدخل تحت اسم (بناء)، أما رفع الأتربة فهذا شيء يمكن تقديره.

فقد بينا فيما سلف أنَّ ٢٦٠٠٠٠ فرنك (١٠٠٢٩٥٠ قرشًا) تكفي لجعل الترعة صالحة للملاحة لمدة ثلاثة أشهر من السنة.

ولكن لا يلزم أن نستنتج من ذلك أنَّ أربعة أمثال هذه القيمة تجعلها صالحة للملاحة طول السنة، إذ إنَّه يُؤخذ من ناموس حركة مياه النهر أنَّه إذا كان يلزم في العملية الأولى خفض مدخل الترعة بمترين ونصف متر فلا يلزم خفضه في العملية الثانية أكثر من متر واحد وثلاثة أعشار المتر، أي مجموع قدره ثلاثة أمتار وثمانية أعشار المتر في الحالتين.

ولما كان امتداد الترعة من ١٩ إلى ٢٠ فرسخًا (أي ٧٦٠٠٠ أو ٨٠٠٠٠ متر)، وأنَّها عميقة في الإسكندرية العمق الكافي فعلى فرض أنَّ عرضها ١٠ أمتار دائمًا يكون اللازم رفعه من الأتربة ١٧٣٠٠٠٠ (مليون وسبعمائة وثلاثين ألف) متر مكعب.

وهذا هو الذي يمكن عمله حسب التقدير السالف في سنتين أو ثلاثة بمبلغ ٧٥٠٠٠٠ فرنك (٢٨٩٣١٢٥ قرشًا). أ.هـ.

(٢) نبذة عن ترعة المحمودية لمسيو كوست

وتكلم مسيو كوست كبير مهندسي ترعة المحمودية عنها في كتابه: (ملاحظات وتفكيرات عن السياحات من سنة ١٨١٧م إلى سنة ١٨٧٧م) طبع مرسليا سنة ١٨٧٨م من (ص٩ إلى ص٤٦)، وقبل أن نأتي على ما ذكره مسيو كوست عن هذه الترعة نذكر لك فذلكة تاريخية عنه فنقول:

لما كان محمد علي يرغب إحياء مصر كان يتقبل الأجانب قبولًا حسنًا ليعاونوه في إنجاز مشروعاته. وكان من بين هؤلاء الأجانب مسيو بافي Baffi الكيماوي، وهذا كان قد أتى من روما؛ ليعرض عليه إنشاء مصنع لعمل ملح البارود بدون قزان ولا نار يُنتج سنويًّا ٣٠٠٠ قنطار من هذه المادة في نظير منحة قدرها خمسمائة ألف فرنك (١٩٢٨٧٥٠ قرشًا)، مع طلب مهندس معماري ليدير حركة بناء هذه المؤسسة الجديدة وغيرها مثل مصنع البارود ومصنع الصابون … إلخ، فقبل محمد علي هذا الطلب، ولمباشرة الشروع في هذا العمل أرسل محمد علي عاملًا فرنسيًّا إلى فرنسا لمسيو جومار Jomard في باريس؛ ليرجوه اختيار مهندس معماري فرنسي ذي كفاءة للقيام بتأدية هذه المأمورية.

وتذكر مسيو جومار وقت إقامته في باريس مسيو كوست فعرض عليه أن يسافر لتأدية هذه المأمورية فقبلها مع وافر الشكر.

وتعهد مسيو كوست في الشروط التي عملت أن يعترف بمسيو بافي Baffi مديرًا عامًّا للأشتغال التي يراد عملها. وتحددت أتعابه بمبلغ (١٨٠٠٠) قرش صاغ؛ أي: (٧٢٠٠) سبعة آلاف ومائتي فرنك، وأخذ على عاتقه استحضار معلم بناء؛ ليعلم العمال، ودُفعت له نفقات السفر لغاية ما يصل لمسيو بافي، وعلاوة على ما ذكر صرف له مبلغ (٢٠٠٠) فرنك (٧٧١٥ قرشًا)؛ لشراء آلات وغيرها ووقع الطرفان على الشروط في سبتمبر سنة ١٨١٧م بمرسليا لمدة سنة واحدة.
figure
مسيو كوست كبير مهندسي ترعة المحمودية
وكان كوست في ذلك الحين في السنة الثلاثين من عمره، وكان سفره من مرسليا في ٦ أكتوبر سنة ١٨١٧م على القرويت (بلّا نينا Bella Nina) من ممتلكات محمد علي، وكان يقودها ربان تركي. وكان تحت إمرته عدد كبير من الملاحين يتألف من خليط من الترك واليونان والمالطية والطليان، وربان السفينة الثاني هو الوحيد الذي كان يتكلم الفرنسية والذي معه كان يستطيع أن يتحدث.
والوصول كان في أول نوفمبر من السنة المذكورة، وبعد استيفاء الإجراءات الجمركية سكن في حي الإفرنج في منزل مسيو ناردي (Nardy) تاجر ومراسل مسيو بافي (Baffi) وظل عشرة أيام في الإسكندرية، الأمر الذي سوَّغ له التفرج على الخرائب التي في المدينة.
وسافر مسير كوست إلى رشيد في ١٠ نوفمبر بعد أن استأذن مسيو ناردي شاكرًا ضيافته الودية، ووصل إلى رشيد في الغد ١١ نوفمبر، ونزل عند مسيو تورنو (Tourneau) من فرسان الخيالة القدماء ومن التجار ووكيل قنصلية فرنسا ومراسل مسيو بافي، وهذا أركبه متن ذهبية إلى الطرانة محل سكن هذا الأخير، وكانت الرحلة طويلة في هذا الفصل الذي فيه تكثر رياح الجنوب وتكون الأشرعة عديمة الجدوى ولا ينفع غير السحب باللبان ومجهود الملاحين، وعلى ذلك لم يصل إلى الطرانة إلا قُبيل آخر الشهر.
واستقبله مسيو بافي أحسن استقبال هو وجميع أتباعه وهم كثيرون، وكان يدير في هذا الوقت مصنعًا لملح البارود بقزانات بناه على أطلال طيرينيتس القديمة Térénutis (كوم أبو يلو) الواقعة على مسافة ٤ كيلو مترات جنوب غرب الطرانة الواقعة على طرف الصحراء، وكان مسيو بافي قد حاز ثقة محمد علي الذي سماه عمر بك ورئيس المماليك الفرنسيين، وهؤلاء هم جنود جيش بونابرت الفرنسيون القدماء الذين بقوا في مصر وخدموا محمد علي في ظروف مختلفة، ولم يبقَ منهم إلا زهاء مائة وجميعهم عاجزون، وقد أذن لهم أن يعملوا بصفة تراجمة للسياح الأجانب، وأسكنوا في الترسخانة وفي مختلف المصانع التي أقيمت حديثًا ويديرها أوربيون، وكان مع مسيو بافي نحو العشرين منهم.

وبعد بضعة أيام استراح خلالها طلب منه مسيو كوست أن يقدم له بيانًا عن مصنع ملح البارود بدون نار ليرسم مشروعًا إجماليًّا بكافة الأبنية التي تلزم، وبما أنَّ طريقة الصناعة هذه كانت سرًّا من الأسرار، تردد في إجابة طلبه، إذ كان يريد قبل أن يطلعه على ذلك أن يعرف سجيته ومبلغ أمانته، فأجَّل هذه الإجابة إلى ما بعد سفرهما إلى مصر واطلاع محمد علي على هذا الطلب.

وفي يناير سنة ١٨١٨م توجها إلى القاهرة، وسارع مسيو بافي إلى تقديمه بواسطة باغوص بك الأرمني الجنس والمترجم الأول لمحمد علي إلى سموه في سرايه القائمة في القلعة، فأكرم محمد علي وفادته، ودعاه للجلوس على الديوان حيث قدمت إليه القهوة والشبق، وقال مسيو كوست: إنَّه لدى الدخول في قاعة الجلسة كان محمد علي متربعًا في ركن الديوان (المقعد) ويلوح أنه كان يتهجى حروفًا بجانب أحد المشايخ، وعند خروجه من المقابلة لاحظ لباغوص بك أن سموه كان يتعلم القراءة فأجاب: «نعم» إنَّ الباشا أدرك ضرورة التعلم، وكانت سنه وقتئذٍ أربعين سنة، وقد وخطه الشيب وتوصل بمحض قوة إرادته أن يقرأ ويتثبت من مصلحته.

وبعد أن انتهت المقابلة زارا كيخيا بك ناظر الداخلية وشريف بك ناظر المالية حيث أجرى مسيو بافي قيده بصفة موظف من موظفي الباشا طبقًا للشروط التي تَمَّ توقيعها في مرسليا، وفي الأيام التالية قدمه لمشاهير التجار المقيمين بمصر.

والحاصل أنَّه في شهر فبراير بعد أن حاز ثقة مسيو بافي بأن يحيطه ببيانه عن تشييد مصنع ملح البارود الذي يقال إنه (بدون نار) والأصوب أن يقال عنه: إنه يصنع بواسطة التبخير. وهذا ما تم عمله على الأرض المخصصة لهذه المنشأة المقامة قرب البدرشين بمديرية الجيزة، وتَمَّت الأشغال الرئيسية في يونيه الأمر الذي سوغ لمسيو بافي الشروع في صناعته، وكانت النتيجة أن أخذت هذه الصناعة تتقدم يومًا بعد يوم وتفوز بالحصول على ملح البارود النقي.

وفي شهر سبتمبر سنة ١٨١٩م انتهت جميع أشغال مصنع ملح البارود المصطنع بالتبخير، وعند ذلك أرسل مسيو بافي بأمر محمد علي مسيو كوست إلى مصر القديمة؛ لينظم ويشرع في أشغال بناء معمل كبير للبارود يُقام في ركن جزيرة الروضة الجنوبي الملاصق لمقياس النيل، وتَمَّ جميع ذلك بإدارته وتحت مباشرته طبقًا لرسومه ومفصلاتها، وكان قد عين مفتشين ذكيين للقيام على الأشغال في أثناء غيابه أحدهما مصري للبناء، والثاني إغريقي للأشغال الأخرى، وتَمَّ كل ذلك سنة ١٨٢٠م وارتاح الباشا كثيرًا لأعمال البناء ومختلف عينات البارود التي كان ينتجها المصنع.

وفي غضون مباشرة هذه الأعمال كان محمد علي يُفكر في حفر ترعة الإسكندرية وجعلها صالحة للملاحة، فاستدعى مسيو كوست وكلفه بصفته كبير المهندسين بهذه المهمة.

وهاك الآن ترجمة ما قاله مسيو كوست في كتابه الآنف الذكر في شأن حفر هذه الترعة:

فكر محمد علي باشا في أن يُنشئ ترعة للملاحة تتمكن بواسطتها المراكب المشحونة بمختلف محصولات أقاليم مصر العليا والوسطى والسفلى من الوصول مباشرة للإسكندرية؛ لاجتناب المرور من بوغاز رشيد الواقع في مصب نهر النيل، وذلك لصعوبة وخطر المرور منه وكثرة ما يحدث من الغرق فيه. فجمع محمد علي كل مديري الوجه البحري السبعة؛ لينظموا الوسائل اللازمة لإنجاز هذا المشروع، فأجمعوا الرأي على أن يكلف شاكر أفندي المهندس التركي برسم وتتميم الأشغال اللازمة للترعة، وأن يجعل مدخلها في قرية العطف الواقعة تحت مدينة فوه وعرضها ثلاثون مترًا ومتوسط عمقها ٣٫٦٥ من الأمتار وامتدادها ٨٠ ألفًا وبضعة أمتار. وأن يورد كل مدير الرجال والمقاطف بنسبة تعداد أهالي مديريته موزعين كالآتي: الجيزة ٣٠ ألفًا، والبحيرة ٥٠ ألفًا، والقليوبية ٣٠ ألفًا، والمنوفية ١٢٠ ألفًا، والشرقية ٢٥ ألفًا، والمنصورة ١٥ ألفًا، والغربية ١٣٠ ألفًا، فيكون المجموع ٤٠٠ ألف رجل.

وكان المديرون مخيمين على رأس مديرياتهم كل منهم مع لفيف جماعته، وكان لكل قرية خيمة، أما غذاؤهم فكان البصل والفول والجزر وخبز الذرة، وكان على كل قرية امتداد معين من الترعة لتحفره، وذلك بنسبة سكانها، وعندما تنتهي مأموريتها تسرح أنفارها وترجع إلى بلدها.

ورسم المهندس التركي الترعة، وعوضًا عن أن يرسم امتدادها مستقيمًا رسمها خطًّا معوجًّا غير مستوفٍ للشروط بدون أن يعمل قبل كل شيء عملية قياس تسوية السطوح، (وذلك لجهله بعلم مقياس السطوح — جيئوديزي — Géodésie).
وشرع في العمل في سنة ١٨١٨م، وذلك بحفر ٣٫٦٥ من الأمتار بموازاة سطح الأرض وعرض ثلاثين مترًا، فنجم من هذه العملية ارتفاع قاع الترعة في مواضع وانخفاضه في أخرى، ولما وصل الحفر إلى محطة السد٤ الذي بين بحيرتي أبي قير ومريوط وقف العمل وقفًا تامًّا فوقعوا في حيرة ولم يعودوا يعرفون كيف يصنعون ليجتازوا هذا الممر وصرفوا الرجال فعادوا إلى مديرياتهم.

واستدعاني الباشا عند ذلك إلى الإسكندرية وكان هذا الاستدعاء في شهر مارس سنة ١٨١٩م وكلفني أن أتمم الترعة ونبهني بأنه لا يريد أن يغير شيئًا من الرسم الذي أمسى في حكم الأمر الواقع. فقبلت واستحضرت التلاميذ المصريين الذين ثقفتهم؛ ليساعدوني في إجراءاتي ويراقبوا أشغالي.

وابتدأت بإجراء عمليتين لتسوية مناسيب الأرض: إحداهما: من الإسكندرية لغاية العطف والنيل، والثانية: من النيل إلى الإسكندرية، فحصلت على فرق طفيف فأخذت المتوسط لتحديد عمق حوض الترعة وأجريت غرس أوتاد من الخشب يبعد الواحد عن الآخر ٣٦٥ مترًا على شواطئ الترعة، وبينت عليها العمق الذي يجب أن يصل إليه حوض الترعة، وبعد أن انتهت هذه الترتيبات قدم الفلاحون من مختلف المديريات بفئوسهم ومقاطفهم يقودهم عمال المديرين؛ ليعدلوا عمق الترعة وشواطئها بطول امتدادها، وكان تلاميذي مرصوصين بجانب الأوتاد المرقومة بأرقام تدل على عمق حوض الترعة.

وعدلت أيضًا بعض المنحنيات غير المستوفاة الشروط، وكنت أراقب هذه الأعمال يوميًّا على متن جواد ذهابًا وإيابًا من الإسكندرية إلى العطف، وفي الوقت نفسه كنت أقوم بعملية الجسور لحصر الترعة في الممر الواقع بين بحيرتي أبي قير ومريوط على امتداد ٢٥٠٠ متر ببناء حيطان قوية وسنادات مبنية بالجير المائي قائمة على دعائم في الماء، وكل هذه الأشغال تمت في شهر ديسمبر سنة ١٨٢٠م. واحتفل بفتح فوهتها لدخول مياه النيل للإسكندرية في شهر فبراير سنة ١٨٢١م، وارتاح محمد علي باشا من هذه الأعمال أشد الارتياح (وسميت المحمودية تيمنًا باسم السلطان الجالس على عشر الخلافة في ذلك الوقت).

أما الأشغال الأخرى مثل الهويس الكبير القائم على رأس الترعة في العطف وقناطر الهويس التي عند مخرج المياه في الميناء القديمة والميناء الجديدة بالإسكندرية وقنطرة باب رشيد وغيرها فهذه بنيت في السنين التالية وفقًا للرسوم التي خططتها وبينت مفصلات إنجازها.

أما الحي الذي كنت أقيم به في أثناء تأدية أشغال الترعة فكان في معسكر إسماعيل باشا (نجل محمد علي) قرب عمود السواري، وهو الذي كان متوليًّا منصب مدير العمل في هذه الترعة، وكان الطاعون في ذلك الحين منتشرًا انتشارًا شديدًا ويفتك بخلائق عديدة، وأعرب إسماعيل باشا عن رغبته في وضع معسكره تحت الحجر وكلفني بالمراقبة فأجريت إحاطة المعسكر بحبال من الليف مربوطة بأوتاد متباعدة وأجريت أيضًا نصب خيمة في الخارج للأشخاص الذين يقدمون من المدينة.

وكان مدير الجمارك عثمان أغا الذي كانت تربطني به رابطة صداقة يأتي يوميًّا ليزور الباشا، وذلك بدون أن يدخل في حظيرتنا، وفي يوم جاء الحاج عثمان وأخبرنا أن جميع حاشيته وعددها ثلاثون شخصًا ماتوا بالطاعون، وأنه أتى إلينا طالبًا ضيافته في معسكرنا فأجريت إقامته في الحجر خمسة أيام ثم أذن له بالدخول واستقبله إسماعيل باشا استقبالًا حسنًا.

ولم يصدني الطاعون عن الذهاب لتفقد أحوال أشغال الترعة حيث هذه الضربة لحسن الحظ كانت لا تفتك إلا بقليل من العمال الكثيري العدد.

وفي مدة إقامتي الطويلة في مصر كان يظهر الطاعون بشدة قليلة أو كثيرة كل سنة في شهر ديسمبر ويختفي في شهر مايو أو يونيه ثم ينتقل إلى القسطنطينية وكل بلاد الشرق، وأشغالي الكثيرة لم تكن لتترك وقتًا للقلق وانشغال البال، وكنت فقط آخذ بعض الاحتياطات، وراح ضحية هذا المرض ترجماني وثلاثة خدم وشاب من الزنوج وبعض التلاميذ.

وفي غضون إقامتي في معسكر عمود السواري زارني فرنسي وهو مسيو سيف أحد ضباط السواري. وكان قد قدم حديثًا للإسكندرية وأبدى رغبته في الالتحاق بخدمة محمد علي باشا فبادرت بتقديمه لسموه فقابله أحسن قبول، وعينه لإدارة ورش صناعة المدافع في ترسانة القاهرة.

وفي ديسمبر سنة ١٨٢١م قدم مسيو هيو Huyot المهندس المعماري إلى القاهرة، فرافقته إلى الإسكندرية ليبحر منها ويرجع إلى فرنسا، ولما علم محمد علي بوجود مسيو هيو بالإسكندرية بعث إليه بترجمانه بوغوص بك ليكلفه بأن يجول بترعة المحمودية وليحصل على رأيه عن الأعمال التي تمت وعن الأشغال التي يجب القيام بها ووجوب مرافقتي له في هذه السياحة.

وجبت معه الترعة على طول امتدادها، وأطلعته على رسوم وبيان الأشغال الواجب القيام بإجرائها لتتميمها نهائيًّا. ولدى رجوعه للإسكندرية كتب تقريرًا وقدمه إلى الباشا ووافق فيه على ما كنت قدمته مع بعض التعديلات، وارتاح الباشا لذلك وشكره ومنحه هبة سخية.

وعدت إلى القاهرة لأرتب أشغال معمل البارود التي انتهت وأشغال مصنع ملح البارود الذي يسوى بالتبخير حيث نجح فيه مسيو بافي نجاحًا باهرًا وحصل على إنتاج أكثر من ٣٠٠٠ قنطار من ملح البارود سنويًّا، ونقده الباشا ٥٠٠٠٠٠ فرنك (١٩٢٨٧٥٠ قرشًا) حسب الاتفاق المعقود بالقنصلية الإنكليزية بالقاهرة.

وسافر مسيو بافي إلى إيطاليا مرتديًا ملابس شرقية، وهناك بدد هذا المبلغ في سنتين ثم عاد إلى مصر حيث استخدمه محمد علي في تصفية النطرون الذي أنتجته البحيرات في الصحراء على مرحلة ٤٠ كيلومترًا من الطرانة. أ.هـ.

وإتمامًا للفائدة نستطرد بذكر أعمال أخرى قام بها مسيو كوست لمصلحة مصر وهاكها:
  • (١)

    في سنة ١٨٢١م إقامة سلاملك على شاطئ الميناء قرب سراي رأس التين.

  • (٢)

    ومن سنة ١٨٢١م إلى سنة ١٨٢٢م الأبراج التلغرافية التسعة عشر ابتداء من الإسكندرية لغاية قلعة القاهرة، وأقطارها من ٥ إلى ٧ أمتار وارتفاعها من ٩ إلى ٢٢ مترًا بما في ذلك الآلة الميكانيكية والملحقات التلغرافية التي توصل الأخبار في ظرف ١٥ دقيقة.

  • (٣)

    حوض حديقة شبرا الكبير مع ممشى ومقاصير للجلوس.

  • (٤)

    ترعة وادي الطميلات وطولها ٣٥ كيلومترًا وعرضها ١١ مترًا وعمقها ٣٫٦٥ من الأمتار، وأنجز هذا العمل بمعاونة تلاميذه المصريين في ١٥ يومًا بواسطة ٨٠٠٠٠ فلاح، والأهوسة والقناطر أنجزت في السنين التالية، وأنشئت هذه الترعة لري مزارع التوت.

  • (٥)

    مشروع بناء مسجدين أحدهما بالقاهرة والثاني بالإسكندرية.

  • (٦)

    وفي أغسطس سنة ١٨٢٠م أرسله محمد علي إلى معبد أبي صير غرب الإسكندرية لارتياده وادي أبي صير حيث يزعم العرب أنَّه في حكم الاستطاعة بواسطة مد ترعة لتوصيل مياه النيل إلى ذلك الوادي إمكان إنشاء مزارع به، ولكن من عمليات قياس السطوح التي أجراها تحقق أن لا سبيل لتوصيل مياه النيل إليه.

    وبعد أن أقام مسيو كوست بمصر خمس سنوات شعر بالرغبة بل بالاحتياج إلى أن يعود إلى مسقط رأسه ويرى آله وأصدقاءه، وعلى ذلك طلب من محمد علي إجازة غير محدودة فأذن له بذلك وزاد أن قال له: «إلى المتلقى … وعاجلًا».

    وقبل أن يسافر جمع كل تلاميذه وترك لهم كل البيانات والرسوم والتفاصيل؛ لكي يتمكنوا من الاستمرار في مواصلة الأشغال التي بدءوها.

    وفي ٢٧ أكتوبر سنة ١٨٢٢م ركب البحر من الإسكندرية ميممًا فرنسا، وظل فيها لغاية سبتمبر سنة ١٨٢٣م وسافر من مرسيليا في الثالث من هذا الشهر ووصل في ٨ أكتوبر من هذه السنة الأخيرة إلى الإسكندرية، وزار محمد علي فأعرب عن ارتياحه من أن رآه مرة أخرى وعينه رئيسًا لكافة أشغال الوجه البحري.

  • (٧)

    وبعد أن استراح زمنًا يسيرًا ذهب إلى القاهرة حيث جمع تلاميذه ورحل ليعاين كافة الأشغال التي تمت في زمن غيابه، ولسهولة إنجاز الأشغال في المديريات عرض على الوالي ترتيب هيئة مهندسين من تلاميذه في مديريات الوجه البحري، وأن يكون لكل مديرية ثلاثة مهندسين درجة أولى وثانية وثالثة، وصادق الوالي على ذلك.

  • (٨)

    وفي سنة ١٨٢٤م طلب منه محمد علي أن يعمل المشروعات الآتية:

    • سراي تُقام قرب محل إقامته في شبرا.

    • مسجد كبير في الإسكندرية.

    • سراي في الإسكندرية لترجمانه ووزير الخارجية بوغوص بك.

    ولكن أوقف إنجاز هذه المشروعات بسبب نفقات الجيوش المرسلة مساعدة للدولة العثمانية في حرب المورة.

  • (٩)

    وفي ٥ مايو سنة ١٨٢١م كان محمد علي في محل إقامته في شبرا، واستدعى مسيو كوست ليذهب إلى الوجه القبلي ويقابل مدير أسيوط؛ لينظم أشغال الترعة السوهاجية، وفي ١١ يونيه رجع إلى القاهرة وفي الغد توجه إلى شبرا ليزور الوالي ويقدم له تقريرًا عن المأمورية التي عينه فيها فحاز ذلك رضى الوالي.

  • (١٠)

    وفي سبتمبر سنة ١٨٢٢م كلفه محمد علي أن يخطط له مشروعًا بتجديد طابية أبي قير التي كانت تهدمت وخربت من بعد جلاء الجيش الفرنسي مع ضم متراسين فوق النقطتين الأشد ارتفاعًا على الساحل لصد نزول العدو على شواطئ هذا المرفأ في وقت الحرب.

  • (١١)

    وقُبيل آخر سنة ١٨٢٤م أجرى حفر ترعة طنطا بامتداد ٤٠ كيلومترًا وعرض ١١٫٥٠ من الأمتار وعمق ٦ أمتار، وفمها قائم على ترعة شبين الكبيرة في قلب الدلتا.

  • (١٢)

    وفي سنة ١٨٢٥م حفر ترعة كفر طلخان بمديرية الجيزة بامتداد ٣ كيلومترات وعرض ١٦ مترًا وعمق ٤ أمتار.

  • (١٣)

    وحفر في السنة نفسها في مديرية المنصورة ترعة من النيل إلى السنبلاوين امتدادها ٢٨ كيلومترًا وعرضها ١٢ مترًا وعمقها ٤ أمتار.

  • (١٤)

    وفي سنة ١٨٢٦م حفر بمديرية البحيرة على امتداد الضفة اليسرى لفرع رشيد ترعة امتدادها ٦٣ كيلومترًا وعرضها ١٥ مترًا وعمقها ٦ أمتار (رياح البحيرة).

  • (١٥)

    وفي بدء سنة ١٨٢٧م حفر ترعة القاهرة (الخليج) المارة بين المدينة وبولاق لغاية اليهودية بامتداد ٢٨ كيلومترًا وعرض ٢٠ مترًا وعمق ٧ أمتار.

وكل أشغال البناء من أحجار وطوب وقرميد اللازمة لهذه الترع المختلفة من أجل الأهوسة والقناطر وغيرها أنجزت حسب رسومه ومواصفاته في السنين التالية.

وفي غضون ذلك الوقت أعياه التعب والنصب المتواصل بسبب كثرة الأشغال فمرض مرضًا شديدًا لدرجة أن أشار عليه الأطباء ومن بينهم كلوت بك بمبارحة البلد فقرر العودة إلى فرنسا، واستدعى تلاميذه المهندسين وقدم لهم الرسوم ومواصفات تنفيذ كافة الأشغال التي شرع في إنجازها لكي يستطيعوا تتميمها ثم عانقهم وودعهم.

وزار بعد ذلك كيخيا بك وزير الداخلية ليحيطه بإزماعه على الرحيل، وزار كذلك شريف بك وزير المالية، وهذا سوى له ما يستحقه، وسافر في الحال إلى الإسكندرية حيث قابل محمد علي ليخبره بعزمه على السفر إلى فرنسا ليعالج صحته ويبدي له ما شمله من الأسى والأسف لفراقه، فأعرب له الوالي عما يشعر به من الأسف من جراء عزمه هذا وتمنى له سفرًا سعيدًا، وأبدى أمله أن يراه عائدًا عندما يبل من مرضه وينال الشفاء.

وبعد ذلك أبحر من الإسكندرية في ٧ نوفمبر سنة ١٨٢٧م، وهكذا بارح نهائيًّا مصر.

ومسيو كوست هذا مؤلف كتابين عظيمين حجمهما ضخم: أحدهما عن آثار القاهرة، والثاني عن آثار الفرس، وكلاهما مُزيَّن بالرسوم والصور.

(٣) نبذة لمسيو مانجان عن ترعة المحمودية

ونذكر فيما يلي ترجمة ما قاله عن ترعة المحمودية مسيو فلكس مانجان Felix Mengin قنصل فرنسا العام في مصر في عهد محمد علي في كتابه: (تاريخ مصر في عهد حكم محمد علي) ج٢ من ص٣٣١ إلى ص٣٣٤ طبعة باريس سنة ١٨٢٣م:
إنَّ القيام على صيانة الترع الكبيرة ملقى على عاتق الحكومة، بينما الترع الثانوية صيانتها تتكفل بها القرى، وتطهر هذه الترع سنويًّا قبل الفيضان، وهذه الأشغال التي لا بد منها ولا غنى عنها تؤدى بغير اكتراث ولا مبالاة، فالفلاح وقد فترت عزيمته يتهاون في القيام كما يجب بما هو مفروض عليه، ومن المحتم عمل رسم لعموم الإصلاحات ونظام خاص لتوزيع المياه، وها هو الوالي قد صرف همته لإجراء عمل هذا الرسم وهذا النظام، ومنذ ثلاث سنوات أجرى حفر ترعة قرب العطف لسهولة المواصلات مع مدينة الإسكندرية واجتناب مرور المراكب من ممر بوغاز رشيد المحفوف بالمخاطر، وهذه الترعة التي تنضم لترعة الرحمانية تحت قرية بركة غطاس٥ تصل مياهها إلى الميناءين، وهي واسعة وعميقة وكثيرًا ما تتدهور حافتها في كثير من المواضع لعدم انحدارها الانحدار الكافي، وأنشئ بالطين الناتج من التطهير ضفاف مرتفعة تبعد عن الشط خمسة أمتار، وهذا ما يجعل سحب المراكب باللبان سهلًا.

وقبل الفيضان ولدى الاقتراب من الإسكندرية يكون الماء أجاجًا؛ لأنَّ مياه بحيرة مريوط التي تمر الترعة على مقربة منها ولا يفصلهما عن بعضهما إلا جسر بسيط ترشح في جوف الأرض، وبعد ذلك أقيم من الجانبين حائطان متوازيان مدعمان بأوتاد وحشو زيادة في تمتين هذا الجسر وجسر بحيرة المعدية أيضًا ولتقليل الرشح، وهذا مع ذلك لا يقلل من أهمية ضرورة تجفيف بحيرة مريوط التي تدفع مياهها الريح الغربية فتلتطم بالأرض وتأكلها شيئًا فشيئًا.

والماء الذي ينقص من هذه البحيرة بواسطة التبخر تعوضه سنويًّا المياه التي تنحدر إليها من مياه مديرية البحيرة في زمن الفيضان، ولقد حاولوا التخلص من هذا المحذور بإجراء فتحات واسعة متباعدة تباعدًا مناسبًا، وهذه الفتحات تتلقى المياه غير اللازمة للري في ضواحي دمنهور وتصبها في الترعة، وهذه الاحتياطات لا تفي بالغرض المقصود منها؛ لأنَّ ترعة بني سلامة (رياح البحيرة) التي تتلقى مياه الجيزة تجري في اتجاه حوش عيسى وتصب مباشرة في البحيرة بعد أن تكون روت أرض المديرية العالية.

إنَّ الترعة التي جميع طول امتدادها يبلغ ٨٠٢٥٢ مترًا يكاد انحدارها لا يشعر به، ومع ذلك تستدعي الأحوال إغلاقها بسد شديد المتانة في مدة الفيضان، وإلا ارتفعت المياه وعلت الشط وأتلفت بلا نزاع جسور البحيرتين.

ويكون من الأفضل الاستعاضة عن هذا السد المكون من تراب تكتنفه أوتاد، بكبري حاجز وحوض (هويس) بقرب مدخل المياه، وبذلك يمكن أن يستغنى عن هذا السد الذي يُقام ويهدم سنويًّا فضلًا عن الفائدة التي تعود من عدم تعطيل سير المراكب، وفي فترة امتدادها أربعة أشهر تقوم العوائق في سبيل المواصلات، ويضطر إلى تفريغ البضائع من المراكب القادمة من القاهرة قبل السد ونقلها بقوة السواعد على مراكب أخرى في الترعة، والبضائع التي تشحن من الإسكندرية تتعرض لنفس هذه الإجراءات بكيفية عكسية، وهذه الارتباكات تزيد نفقات النقل وينشأ عنها تأخيرات.

وكان في الإمكان من بادئ الأمر اجتناب هذه العوائق لو أنَّ المهندس التركي الذي كُلِّف بإنجاز هذه الأشغال لم يبدأ الأعمال بادئ بدء بدون اتباع قواعد الفن، إذ إنَّه لم يهتم بأي عمل تحضيري بل وجه طائفة من فلاحي الوجه البحري إلى هذه النقطة بدون أن تستحضر الآلات اللازمة لمثل هذه العملية، ولم يعمل مخازن للمؤن لتأمين معايشهم، فهلك خلق كثيرون من هؤلاء التعساء من العطش والجوع أو من سوء المعاملة وشدة التعب التي لم يتعودوها، والجنود المكلفون بحراستهم لم يدعوا لهم وقتًا للراحة وأخذوا في تشغيلهم من شروق الشمس إلى أن يرخي الظلام سدوله.

وكان هؤلاء الفلاحون مكرهين على أن يحفروا الأرض بأيديهم، وأن يظلوا في الماء الذي يرشح من كل النواحي، وراح منهم ضحية زهاء ١٢٠٠٠ فلاح في ظرف عشرة شهور وغطى الشط عظامهم.

والوالي سَمَّى الترعة المحمودية؛ لأنَّها حُفرت في زمن حكم السلطان محمود. أ.هـ.

(٤) مذكرة لمسيو لينان باشا

وكتب مسيو لينان دي بلفون بك (باشا) Linant de Bellefonds مهندس القناطر الخيرية في عهد محمد علي باشا، وفيما بعد ناظر الأشغال العمومية، مذكرة عن ترعة المحمودية في كتابه الفرنسي: «مذكرات عن أعمال المرافق العامة الهامة التي تمت في مصر» طبع باريس سنة ١٨٧٢م، و١٨٧٣م من ص٣٤٨ إلى ص٣٥٥، وإليك ترجمتها:

لقد كانت مدينة الإسكندرية في سنة ١٨١٠م كما يقال مدينة عربية صرفة، وكان النادر من الأوربيين المشتغلين فيها بالتجارة والقناصل هم وحدهم الأجانب، ولم يكن هناك من يفكر في إقامة المنشآت والمصانع وانتشار التجارة التي أخذت طفرة تنتشر وتتسع اتساعًا كبيرًا في عهد حكم محمد علي، والمواصلات التجارية الداخلية مع الإسكندرية كانت تجري بطريق البحر من دمياط أو رشيد، والمسافرون الذين اعتادوا السفر إلى القاهرة كانوا يأخذون هذا الطريق أو يذهبون برًّا بامتداد طول البحر، ويركبون المراكب في رشيد؛ ليصعدوا في النيل، وفي سنة ١٨١٦م، وحتى سنة ١٨١٩م كانوا لا يزالون يستعملون هذا الطريق. غير أنَّه منذ بضع سنوات خلت كانوا يشعرون بالحاجة الملحة لتحسين المواصلات.

ولما كان عدد سكان مدينة الإسكندرية أخذ في النمو والازدياد فقد شعروا بالعوز إلى الماء الحلو. والواقع أنَّ الماء لم يكن يوجد إلا في بعض الصهاريج التي كانت تتغذى في فصل الشتاء بمياه الأمطار أو المياه التي يجلبها النيل في زمن الفيضان السنوي بواسطة ترعة الإسكندرية القديمة وبمجاري تحت الأرض.

وكانت فوهة ترعة الإسكندرية واقعة في الرحمانية وتصل إلى الإسكندرية ابتداء من زاوية غزال متتبعة تقريبًا نفس اتجاه ترعة المحمودية الآن.

figure
لينان باشا ناظر الأشغال العمومية

وما زال يُرى للآن مواضع كثيرة من حافات هذه الترعة القديمة التي كان عرضها صغيرًا وتكاد تكون العناية بصيانتها معدومة وغير صالحة للملاحة مطلقًا.

ولم يرد محمد علي أن تحصل الإسكندرية على كفايتها من الماء فحسب بل أراد فوق هذا أن تكون كافية لإنشاء البساتين والحقول والمزارع في ضواحي الإسكندرية وعلى ضفاف الترعة، وأراد كذلك ترتيب الملاحة ابتداء من النيل لغاية الإسكندرية بواسطة المراكب الكبيرة.

وللوصول إلى هذا الغرض أمر بتنظيم ترعة المحمودية بالحالة التي هي عليها الآن، وسماها ترعة المحمودية باسم مليكه السلطان محمود الجالس على العرش.

ويدهش الإنسان لدى فحص رسم هذه الترعة، فعوضًا عن أن يقام مدخل المياه محل نفس مدخل الرحمانية القديم أو موضع آخر أكثر ارتفاعًا يرى أنه وُضِع في محل أشد انحطاطًا حتى عن فوة وأن جانبًا من هذه الترعة عاد فصعد مجرى النهر لغاية زاوية غزال قرب دمنهور، ويدهش أيضًا من كثرة الاعوجاج والانحناء في تخطيط الترعة.

والترعة القديمة التي كان مأخذها قائمًا عند الرحمانية كان تخطيطها أيضًا مماثلًا لترعة المحمودية، فكانت تصعد لغاية قرب مدينة دمنهور، وذلك بقصد الابتعاد عن أراضي ملقة دسيا٦ الشديدة الانحطاط والتي كانت ملأى تقريبًا دوامًا بالغدران، وهذه الأراضي كانت في العصور الخالية على ما يحتمل جزءًا من بطائح بحيرة إدكو، ومن المحتم أن هذه الترعة كانت تمر على جزء من هذه الأراضي مردوم، وهذا أمر على كل حال فيه ما فيه من الضرر.

والسبب في عدم إقامة مدخل المياه في الترعتين القديمة والجديدة في موضع أبعد جنوبًا هو أنَّه عندما يصعد مدخل الماء فيكون أبعد جنوبًا يزيد انحدار الترعة ويحول دون ترك مجراها حرًّا، وهذه الحالة تستدعي إقامة أهوسة لمرور المراكب وحجز المياه للري.

والسبب الذي حمل على نقل مدخل المحمودية إلى العطف التي هي أحط من فوة هو غالبًا أن مدخل الرحمانية كان مسدودًا بجزيرة، وأنَّ الضفة في هذه الناحية كانت مستقيمة الامتداد في مسافة طويلة بينما كان يوجد في العطف كوع شديد الانحناء ودوامات هائلة، الأمر الذي أوجب تعميق قاع النهر وأدى إلى ارتفاع قليل في هذا الموضع، وهذا الارتفاع مما يساعد مدخل الترعة.

والسبب عينه الذي جعل الجزء الأول من الترعة القديمة يصعد نحو الاتجاه الجنوبي الغربي عوضًا عن اتجاهه رأسًا نحو الغرب هو أنه لدى تخطيط ترعة المحمودية عوضًا عن أن يراد اجتناب الجزء المنخفض من ملقة ديسا اجتنبت الأراضي المنحطة المجاورة لبحيرة إدكو التي لم يكن من المستطاع اجتيازها.

أما المنعرجات التي في الترعة فالبعض منها اقتضته مواقع القرى والبعض الآخر نجم عن غلط محض.

وكان النظام في الوقت الذي فيه أنجزت أشغال المحمودية التحضيرية أقل كثيرًا أيضًا مما كان فيما بعد. فلقد كان المهندسون غير حاصلين إلا على قسط صغير جدًّا من المعارف، وتعرفت بهم بعد، وأمكنني أن أرى كل المصاعب التي لا بد أن يكون قد عاناها مسيو كوست الذي كان وقتئذٍ كبير المهندسين في هذه الأشغال، والمهندسون من ناحية أخرى لم يكونوا أعلنوا بقرار محمد علي إلا وقتما كان العمال قد استعدوا وأخذوا يفدون على ساحات العمل، ولم يكن هنالك وقت للقيام بأي شيء من الاستعدادات، والرأي لم يكن استقر بعد على الرسم، والأوتاد لم تكن غرست في الأرض، وكان هذا القياس يجري وقتما حضر جميع العمال وأخذوا في العمل، ولم يكن حينئذٍ هناك وقت ليعين لكل واحد المحل الذي يجب أن يشتغل فيه. وكل مأمور قسم أو شيخ قرية كان يصل مع جماعته من العمال الذين لم يكونوا معروفين من قبل، وبما أن المهندسين كانوا لا يعرفونهم اضطروا أن يتركوا كل واحد منهم يعمل في الوضع الذي يناسبه، وكانوا يحفرون حسبما اتفق وبوجه التقريب في الاتجاه، ولضم هذه القطع المحفورة بلا روية ولا تعقل بعد ذلك إلى بعضها دعت الحالة لخلق زوايا ومنحنيات بقدر ما يستحسن، وهذا هو سبب وجود هذه المنعرجات التي تدق خفاياها عن الفهم.

وكان استحضار الفلاحين للسخرة أمرًا سهلًا للغاية في تلك المدة حتى إنَّه على ما يقول أهالي ذلك العصر جمع للعمل في هذه الترعة ٣٦٠٠٠٠ فلاح.

وكثير من مأموري المراكز وكبار المشايخ اشتركوا هم أنفسهم في نفقات الرجال الذين استحضروهم، ودعت الحالة في كثير من المواضع إلى الحفر في الطين وفي محال أخرى قريبة من الإسكندرية عثر بالحجر. وتكلف المرور من غوطات بحيرة أبي قير كثيرًا من الوقت والنقود، ودعت الحالة لإقامة ضفاف الترعة بالردم وحصر جانبيها بين جسرين مبنيين امتدادهما من ١٠ إلى ١٢ كيلومترًا على أقل تقدير.

وبعد حفر الترعة بزمن طويل كان من اللازم نقل شحنات المراكب عند مأخذ الماء من مركب لآخر إذ لم يكن هناك أهوسة، وهذا ما جعل للعطف أهمية كبرى فأثرى فيها كثيرون.

وقسم الترعة من العطف إلى زاوية غزال انطم بالردم أولًا فأقيم مأخذ جديد للماء قدامه، وأخذ هذا المدخل يصب ماءه في ترعة المحمودية، ولكن هذا ما لبث أن اعتراه أيضًا ما اعترى المأخذ الأول.

والأرض الشاسعة الواسعة المعروفة بملقة دسيا٧ استعملت كذلك لتغذية المحمودية، وكانت هذه الأرض تستخدم في فصل التحاريق بصفة خزان، فكانوا يملئونها بالماء في وقت الفيضان.

وهذا الماء يلقي فيها ما فيه من الرواسب، وبعد ذلك يصرفونه رويدًا رويدًا في ترعة المحمودية، وملقة دسيا هذه لعبت إذن هنا نفس الدور الذي لعبته في الأزمنة الخالية بحيرة موريس الكبيرة (في الفيوم في زمن الفراعنة).

وفي سنة ١٨٤٢م أقيم هويس عند مأخذ مياه المحمودية في العطف فيه تسير المراكب مطلقة الحرية وأيضًا هويس آخر في مصبها عند البحر في ميناء الإسكندرية القديم.

ولتغذية الترعة في زمن التحاريق استعملت ترعة الخطاطبة التي مأخذ مائها في هذا الفصل يعلو ٧٫٨٠ من الأمتار عن المحمودية والخطاطبة تستمد الماء رأسًا من النيل، وفي استطاعتها أيضًا أن تجعل مياه ترعة المحمودية ترتفع الارتفاع اللازم للملاحة.

ولهذه العملية ضرر لا يستهان به؛ ذلك أنَّ ترعة الخطاطبة هذه تستخدم لري المديرية، ولسهولة هذا الري تقام بين مسافة وأخرى سدود من مدر الأرض وقش الأرز أو حزم الحطب، ومن اللازم فتح هذه السدود بين وقت وآخر لتجري المياه في أجزاء الأرض الأكثر انحطاطًا لتأخذ هذه هي الأخرى نصيبها من هذه المياه، وبما أنَّ من كانوا يقومون بعملية الفتح لا يكلفون أنفسهم عناء رفع المدر الذي تتكون منه هذه السدود فتقذفه المياه في المحمودية، وهذا مع طمي المياه الذي يتكدس على مدى السنين ينشأ عنه ردم الترعة ردمًا شديدًا.

ولقد حدث مرارًا كثيرة أن جرى الكلام بصدد إزالة هذه الضرر وتحسين ترعة الخطاطبة، ولكن لم يحصل شيء من ذلك. وهذه الترعة مخططة تخطيطًا حسنًا للغاية وتقريبًا بامتداد مستقيم بموازاة النهر لكنها تمتلئ بالردم؛ لأنه يوجد على امتدادها كثير من السدود التي تقام في زمن الفيضان، وهذه السدود تدعو الضرورة لبقائها خوفًا من تدفق المياه بكميات كبيرة في المديرية، وبالأخص في ترعة المحمودية التي تصب فيها هذه المياه، فمن الواجب أولًا بعد تقوية شواطئ وسنادات الخطاطبة تقوية شديدة إقامة سحّارة من الموضع الذي منه تصل مياه هذه الترعة إلى مياه ترعة المحمودية؛ لتمر منها مياه الخطاطبة تحت مياه ترعة المحمودية وتذهب إلى بحيرة إدكو وتنصب فيها.

وعند فتح جمع السدود في وقت الفيضان وبعد زرع الذرة يحدث تيار شديد فيه القوة الكافية لرفع الطمي والرمال الراسبة في قاع الترعة، وبهذه الوسيلة يتم تطهير مجراها بطول امتدادها فلا تعطي المحمودية — سواء أخذت الطبقة العليا من مياهها التي ليس بها إلا القليل من الطمي أم من فوهتها التي بالعطف — إلا القدر الضروري من الماء، وتصريف ماء الخطاطبة هذا في بحيرة إدكو بواسطة السحارة له أيضًا فوائد جمة: أولًا: صيد السمك في البحيرة الذي يأتي بدخل وافر فيزداد دخله وفورة عندما تصب كميات كبيرة من الماء الحلو في البحيرة؛ لأن السمك يدخل فيها من البحر من مصب إدكو بكثرة، وطالما طلب صيادو السمك في البحيرة وأهالي ضواحيها وألحوا في طلباتهم بزيادة كميات مياه النيل في البحيرة، ثم إنه مع كرور الأيام ومرور السنين ترتفع أيضًا سواحل البحرية بسبب الطمي الذي يجلب إليها وتصير سواحلها بعد بضع سنين صالحة للزراعة.

وبما أنَّ المياه في زمن التحاريق تكون مشوبة بالطمي أقل مما تكون في زمن الفيضان وانحدارها يكون أيضًا أقل فلا يوجد أي مانع يحول دون تغذية ترعة المحمودية من ترعة الخطاطبة.

وهناك فقط احتياطات كان من الواجب اتخاذها، ولهذه الاحتياطات كثر القال والقيل بشأنها منذ سنين ولكن وقف الأمر عند حد الكلام، والاحتياطات المذكورة هي مع إقامة سدود عديدة وخاصة من التراب والاستعاضة عنها بسدود صغيرة من البناء والخشب وهذه تكون زهيدة التكاليف عندما تكون صغيرة الحجوم.

وعندما حفرت ترعة المحمودية كانت المزروعات الصيفية في السنين الأولى لا تكاد تبلغ ٤٠٠٠ فدان، ولكن ما أسرع أن زادت هذه المساحة زيادة كبرى لدرجة أن صارت المياه لم تعد تفي بالحاجة في زمن التحاريق، وفي سنة ١٨٤٩م كان يوجد على ضفافها ١١٥٤٥ فدانًا، وكان على الخطاطبة أن تروي هذا القدر من الفدادين وكمية أخرى أكبر منها على شواطئها في فصل التحاريق، فلم تعد المياه كافية لجميع الاحتياجات، والخطاطبة في هذا الفصل لم تكن تُعطى من الماء إلا ما يكفي ٢٠٠٠٠ فدان. أما المحمودية فكانت تنظم على مدار السنين فأرسلوا لها كراكات وهذه لم تأت بفائدة ولا عائدة اللهم إلا كثرة النفقات والعمال.

وفي السنة المذكورة طلب الوالي (عباس باشا الأول) عمل مشروع لتغذية ترعة المحمودية. فقدمه إليه مسيو لينان بك الذي كان وقتئذٍ مديرًا عامًّا للأشغال العمومية وشرع في تنفيذه.

وركبت الآلات في العطف، وهي عبارة عن مؤسسة عملت بدقة وإتقان تام ووضعت بإحكام حسن للغاية وأخذت تدور على ما يرام بمباشرة المهندس الذي نيط به إدارتها.

ولكن بعد وضع هذه الآلات انطمت الترعة، ولأجل الحصول على القدر الكافي من المياه في الترعة لمرور المراكب في الأجزاء المطمومة اضطرت الآلات أن تشتغل بكل ما فيها من قوة، وهذا باعث من البواعث الخطرة، ثم إن المزروعات التي على جانبي الترعة أخذت في الازدياد زيادة مضطردة، ولم يعد الآن الأمر قاصرًا على الـ ١١٥٤٥ فدانًا بل أكثر من عشرين ألفًا وبضعة آلاف، وعدا ذلك مدينة الإسكندرية، فهذه هي الأخرى لها حصة في الماء يلزم عمل حسابها؛ لأنَّ الصهاريج التي كانت حالتها في الزمن السالف جيدة أمست الآن مهجورة ومتروكة، وإذا كان لا سمح الله يطرأ خلل في إحدى الآلات في صميم قلب التحاريق ولم يمكن إصلاحه فهنالك لا تجد الإسكندرية ما يكفيها من الماء، أفلم يحتج الأمر إلى المياه في سنة ١٨٦٩م بل في سنة ١٨٧٠م وكان ذلك وقتما أخذت مياه الفيضان في الارتفاع وحدث هذا مع أن الآلات كانت تشتغل على الوجه الأكمل.

وكل هذا ناجم من خطأ بيّن، ذلك أن إدارة مياه الترع لم تكن مركزة في يد واحدة بل في أيادٍ متعددة فكان لترعة الإسكندرية رئيس خاص والمدير له رئاسة جانب منها. وترعة الخطاطبة تابعة له فيما يختص بتطهيرها ولكن توزيع مياهها تابع لشخص آخر وهو وكيل الأملاك الخديوية، أما الآلات فهذه تابعة فيما يتعلق بالإدارة لناظر المالية فليحكم المرء بعد ذلك ما عساه أن يحدث من جراء هذا التوزيع في إدارة المياه.

وقد انطمت الترعة واستحضرت لها الآلات ولكن هذه لم تأت مع تشغيل عدد أكبر من الخلائق إلا بعشر ما يمكن أن تأتي به فانقطع سير المراكب وصدرت أوامر مشددة تحتم على آلات العطف البخارية أن ترفع أقصى ما يمكن أن ترفعه من الماء، ولكن من الأمور المستغربة والتي لا يسلم بها عقل عاقل أن يحتم مع هذا رئيس المصلحة التابعة له هذه الآلات أن يستعمل للوقود التبن عوضًا عن الفحم، الأمر الذي أوجب أن لا ترفع تلك الآلات إلا سدس ما كان يمكن أن ترفعه مع أنَّ الأطيان التي تزرع الآن زادت فوق ذلك زيادة كبيرة.

إن ترعة الخطاطبة كانت حفرت وكان بها كثير من الماء ولم يحدث شيء من المدير يستوجب اللوم. ولكن المياه لم تصل إلى المحمودية، والخطاطبة كانت مغلقة بسدود في جملة مواضع لري القطن إلا أنَّ مراقب هذه الزراعة كان ينكر ذلك بتاتًا مع أنه أمر واقع وحقيقي، وسواء أكان هذا أم ذاك فإن الإسكندرية لم يكن بها ما يكفيها من الماء في سنة ١٨٦٩م، وكذلك كان الحال في السنة التالية.

ورغم هذه المحن كان أيضًا يزداد صرف المياه وذلك على ما يحتمل بدون حدوث أي تغيير في الإيراد. وإذا تم تطهير ترعة المحمودية فهذا التطهير لا يتأتى منه زيادة في كمية الماء بل يسهل فقط الملاحة تسهيلًا عظيمًا، ومع ذلك فقد شرع في تركيب آلة بخارية على ترعة المحمودية لتغذية ناحية الرمل بالماء وذلك بدون اتخاذ أي احتياط لتزويد المحمودية بزيادة المياه التي هي في حاجة شديدة إليها.

وهنا كان لا بد من زيادة التروي وإعمال الفكر إذ ربما تحرم مدينة الإسكندرية من جزء من الماء الذي هو لها من الضروريات. وتقف الملاحة ويتعذر توزيع الماء على ناحية الرمل ولا تجد الأراضي الواقعة على شاطئ المحمودية الماء الذي تحتاج إليه. فيلزم لذلك التفكير في مضاعفة آلات التغذية وبناء سحارة تحت ترعة المحمودية. أ.هـ.

هوامش

(١) وصف هذا الفرع خطأ.
(٢) في كتاب تقويم البلدان لأبي الفداء (ص١١٣) أمام الكلام على الإسكندرية: والحنطة تجلب إلى الإسكندرية ولذلك لا تكون مرخصة؛ لأن أرضها سبخة.
(٣) في كتاب تقويم البلدان لأبي الفداء (ص١٠٥): وللإسكندرية جزيرة الرمل، وهي بين خليج الإسكندرية وبين البحر المالح، وطولها بقدر نصف مرحلة جميعها كروم وبساتين، وترابها رمل نظيف حسن المنظر، وخليج الإسكندرية الذي يأتيها من النيل من أحسن المنتزهات؛ لأنَّه ضيق مخضر الجانبين بالبساتين.
(٤) هذا المكان هو الذي قطع فيه الجيش الإنكليزي الترعة ليغمر بالماء بحيرة مريوط في سنة ١٨٠١م ويفصل قسم الجيش الفرنسي الذي كان بالإسكندرية عن قسمه الذي كان بالقاهرة. وهذا القطع انسد ومن هنا نشأت هذه التسمية. والسد المذكور واقع بين عزبتي طحيمر وأبي سليمان عند الكيلومتر ٦٣ من ترعة المحمودية.
(٥) إن قوله بانضمامهما إلى ترعة الرحمانية خطأ إذ إن انضمام هاتين الترعتين إلى بعضهما كان عند كفر الحمايدة.
(٦) هي الآن تفتيشا الخزان التابعان لوزارة الأوقاف ولدائرة الأمير عمر طوسون.
(٧) انظر هامش ملقة دسيا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤