مقدمة: السقوط في هوَّة سحيقة

ليس كل شيء على النحو الذي يبدو عليه. فثَمة جانبٌ مخبوءٌ من الواقع، عالَمٌ سريٌّ يعجُّ بنشاط خفي وعملياتٍ كامنة. وهذا العالَم السرِّي شبكةٌ غيرُ مرئية تُصفِّي المعلومات وتُرشِّحها وتعالجها. وهي تنسج خيوطَ كذباتٍ مُريحة لمُواراة الحقيقة، أو الواقع المُحير. كما أنها تتحكَّم فيما نُفكر فيه ونعتقده من أشياء، بل إنها تُشكِّل القراراتِ التي نتَّخذها، بطريقة تَصوغ إدراكَنا الحسي وَفْق أجندتها الخاصة. ففَهمُنا للعالم، باختصار، مجردُ وهم.

فمن يقف وراء هذه الخُطة المذهلة؟ أهو مجتمعٌ لئيم؟ أم بيروقراطيون ذَوو اعتلالات نفسية في قاعاتٍ إدارية، يملؤها الدُّخان؟ أم ملكة إنجلترا؟ أم سَحالٍ بين مجرِّية قادرةٌ على تغيير شكلِها تعمل من أجلها؟ أم كلُّ هذا؟

لا. فهذا شأنٌ داخلي. فالأمر لا يتعلق بكل ذلك، إنما يتعلق بنا نحن. أو بعبارةٍ أدق: الأمر يتعلَّق بك أنت. أو يتعلق بعقلك، لو أردنا أن نكون أكثر تحديدًا.

كل شيء مؤامرة

ثَمَّة نظريةُ مؤامرةٍ وراء كل شيء. فالأطلنطيون القُدامى هم مَن بنَوا الأهرامات. واغتيل أبراهام لينكولن بأوامرَ من نائبه؛ أندرو جونسون. وصُوِّرت عملياتُ هبوط بعثة أبولو على سطح القمر في غرفةٍ عازلة للصوت في أريزونا. والمنطقة ٥١ مقرٌّ للتقنية المتطورة التي أنشأها الفضائيُّون. وألكس جونز، أحدُ مذيعي الإذاعة الذي سيطرت على عقله فكرةُ المؤامرة والذي كان يعيش خارجَ أوستين بولاية تكساس، هو في الواقع، الذاتُ البديلة للكوميديان بيل هيكس (الذي تظاهرَ بالموت في أوائل تسعينيَّات القرن العشرين ليسلك مسارًا مِهنيًّا في مجال نظريات المؤامرة). ثم مؤامرات الشركات الصيدلانية، والمروحيات السوداء، ومجموعة بيلدربيرج، والبستان البوهيمي … إلخ.

والهوَّة هنا شديدةُ العمق. فنظرية المؤامرة يُقال إنها تمتدُّ لتصلَ إلى الهواء الذي نتنفَّسه (وقد أصبح ضبابيًّا بفعل تأثيرات سُحب الكيمتريل)، والطعام الذي نأكله (وقد تلاعبَت به شركة مونسانتو)، والدواء الذي نتناوله (وقد دُسَّت فيه سمومٌ قاتلة)، والماء الذي نشربه (وقد وُضعت فيه أملاحُ الفلوريد التي تؤثِّر على العقل). والانتخابات مُزورة، والسياسة زائفة، والرئيس أوباما شيوعي مُسلم من كينيا.

هذه فقط بضعة أمثلة لنظريات المؤامرة، لكن تُرى مَن هم المنظِّرون؟ وفقًا للكليشيهات، فإن أصحاب نظريات المؤامرة هم سُلالة نادرة — مجموعة صغيرة من أصحاب الأفكار المتطرفة المجنونة الذين ينغلقون على أنفسهم ويُكرِّسون حياتهم لأفكارهم الشاذة، هم رجال أذكياء غريبو الأطوار في منتصف العمر، يسلكون نهجًا غيرَ مألوف في البحث (وغالبًا ما يكون لديهم مخزونٌ من رقاقات القصدير).

غير أن أغلب عناصرِ هذه الصورة النمطية لا تصمُد. فبِوجهٍ عامٍّ، تُسيطر نظرية المؤامرة على عقول النساء، شأنهن في ذلك شأن الرجال. كما أن التعليم والدخل لا يصنعان فارقًا كبيرًا أيضًا. فمَرتَبات أصحاب نظريات المؤامرة تتدرَّج من طلاب تسرَّبوا من التعليم في المرحلة الثانوية بأعدادٍ لا تزيد كثيرًا عن خريجي الجامعات، وصولًا إلى أساتذةٍ جامعيِّين ورؤساء وفائزين بجائزة نوبل. وتروق نظرياتُ المؤامرة لجميع الأعمار. ففي المتوسط، تُسيطر نظرية المؤامرة على عقولِ مواطنين كبارٍ مثلما تؤثر على جيل الألفية. فعند الطرَف الأدنى من هذا النطاق العمري، نجد حشودًا من المراهقين الأمريكيِّين يظنون أن لويس توملينسون وهاري ستايلز التابعَين لفرقة فتيان البوب البريطانية الشهيرة «وان دايركشن» هما سلعةٌ خفيَّة، وأن المؤسسات صاحبةَ النفوذ على الفرقة اختلقَت صديقةً زائفة للويس كجزء من المواراة.

وفيما يتعلَّق بالفكرة القائلة بأن نظريات المؤامرة هي شأن مجموعات متطرفةٍ مجنونة، فهذا أبعدُ ما يكون عن الحقيقة. فعلى وجه العموم، ثَمة أعدادٌ ضخمة من الناس هم أصحاب نظرياتِ مؤامرة عندما يتعلَّق الأمر بقضيةٍ ما أو بأخرى. ووفقًا لاستطلاعات الرأي التي أُجريت على مدار العَقد المنصرِم أو ما شابه، يعتقد قُرابة نصف الأمريكيِّين أن حكومتهم تُخفي على الأرجح حقيقةَ هجمات الحادي عشر من سبتمبر. ويعتقد أربعة أمريكيين من بين كل عشرة تقريبًا أن التغيُّرَ المناخيَّ نوعٌ من التدليس العلمي. ويرى قُرابة ثلث الأمريكيِّين أن الحكومة تُخفي على الأرجح أدلةً على وجودِ مخلوقاتٍ فضائية. ويشعر أكثرُ من ربع الأمريكيين بالقلق حِيال النظام العالمي الجديد. وفي استطلاعٍ للرأي أُجري عام ٢٠١٣، قال ٤٪ ممن شملهم الاستطلاعُ (الذي امتدَّ ليصل إلى سكان الولايات المتحدة بأكملِها، ما يعني ١٢ مليون أمريكي) إنهم يعتقدون أن «مخلوقات زاحفة قادرةٌ على تغيير شكلِها تسيطر على عالَمِنا عن طريق تشكُّلها في صورةِ بشرٍ واكتساب سلطة سياسية للتلاعب بالمجتمعات.» وأعربَت نسبةٌ أخرى قدرها ٧٪ عن أنها ليست متأكدةً من هذا الأمر.

ويجب أن نضعَ في الاعتبار أن هذه النوعياتِ من استطلاعات الرأي العامِّ لا تُقدِّم سوى مؤشرٍ تقريبي لأي رَواج لنظريةٍ ما. وتتباينُ التقديرات بِناءً على الشخص الذي تسأله، والطريقةِ التي تطرح بها سؤالَك عليه، والتوقيتِ الذي تسأله فيه. لكن الحقيقة التالية واضحةٌ وضوحَ الشمس: أعداد أصحاب نظريَّات المؤامرة أكثرُ مما تتوقَّع بكثير. والأرجح أنك تعرف البعضَ منهم. بل والأرجح أنك من بينهم.

والأمر لا يقتصرُ على الأمريكيين. فالناس في المملكة المتحدة وأوروبا شكَّاكون بالمِثل. كما أن الأمر لا يقتصرُ على الغرب. فنظرية المؤامرة ظاهرةٌ عالَمية. فوفقًا لاستطلاعٍ أجراه مركزُ بيو للأبحاث، يشكُّ ما بين النصف وثلاثة الأرباع من الناس في مختلِف دول الشرق الأوسط في أنَّ خاطفي طائراتٍ عربًا هم مَن شنُّوا هجمات الحادي عشر من سبتمبر. وفي كثير من أرجاء العالم، يُنظَر إلى اللقاحات وغيرِها من الأدوية الغربيَّة بشكٍّ ورِيبة. ويعتقد أربعةٌ من بين كل عشَرة مواطنين روس أن أمريكا قد زيَّفَت عمليات الهبوط على سطح القمر، وفقًا لاستطلاعٍ للرأي أُجري عام ٢٠١١. وفي الهند، بعد اغتيال رئيسة الوزراء أنديرا غاندي بوقتٍ قصير، أخبر خليفتُها جمهورًا يضمُّ مئات الآلاف من الأشخاص كانوا قد تجمَّعوا في نيودلهي، أن «اغتيال أنديرا غاندي هو صنيعة مؤامرة هائلة الهدف من ورائها إضعاف الهند وتقسيمها.» وفي البرازيل، تزعم إحدى نظرياتِ المؤامرة الرائجة أن الجيش الأمريكي يُخطِّط لغزوِ غابة أمازون المَطيرة، والسيطرة على مواردها الطبيعية الغنيَّة. وتُتابع النظرية زعمَها قائلة إنه كجزء من الحملة الدعائية لتهيئة المواطنين الأمريكيين للغزو الوشيك؛ تُظهر خرائطُ أمريكا الجنوبيةِ، في الكتب الدراسية الأمريكية التي يَدرُسها طلاب السنة الأولى من المرحلة الإعدادية، مساحةً ضخمة من الأمازون تحت سيطرة الأمم المتحدة.

إذن، هل قُتل «الرئيس جون كينيدي» على يدِ رجلٍ مُسلحٍ يختبئ خلفَ السور في التلَّة المُعشوشِبة؟ وهل ألفيس لا يزال على قيد الحياة يسترخي بجانب حمَّام السباحة مع جيم موريسون ومارلين مونرو والأميرة ديانا في منتجعٍ سرِّي ما للاستمتاع بمراقبة النجوم في عُزلتهم؟ ومَن الذين يحكمون العالمَ في واقع الأمر، وماذا فعلوا بالرحلة رقم إم إتش ٣٧٠؟

إذا كنتَ تبحث عن إجاباتٍ عن هذه الأسئلة، فيُؤسفني أن أُخبرك بأنك اخترتَ الكتاب الخطأ. فربما تكون الحقيقة في مكانٍ آخرَ غيرِ هذا الكتاب. فإذا كانت بالفعل هناك خططٌ ماكرة خفية تتشكَّل خلف الأبواب المغلقة في اللحظة الراهنة، وإذا كان مقترفو الفظائع لم يَمثُلوا أمام العدالة بعد، وإذا كان كل شيء نعتقد أننا نعرفه هو محضُ كذب؛ فقد يكون من اللطيف أن تعرف. لكن ثَمة الكثير من الكتب الأخرى المخصَّصة لجمع أدلة حول مؤامرةٍ ما مزعومة، كما يوجد العدد نفسُه تقريبًا من الكتب التي يُفترَض أنها تنتقد تلك النظرياتِ انتقادًا لاذعًا. لكن هذا الكتاب لا يتناول هذا الموضوع. في واقع الأمر، هذا الكتاب لا يتناول نظرياتِ المؤامرة على الإطلاق (رغم أننا سنُصادف الكثير من تلك النظريات خلال رحلتنا). إنه يتناول بالأساس التفكيرَ الذي يقف خلف نظرية المؤامرة، أو بعبارة أخرى: ما الذي يمكن أن يكشفَه علمُ النفس عن الكيفية التي نُقرِّر بها أنَّ شيئًا ما معقول وآخرَ عبثيٌّ، ولماذا يعتقد بعضُ الناس أشياءَ قد يراها غيرُهم غيرَ قابلة للتصديق تمامًا.

بطبيعة الحال، إذا كنت تسأل أحدَهم لماذا يُصدِّق أو لا يُصدِّق نظريةً ما أو أخرى، فالأرجح أنه سيُخبرك بأن المسألة بسيطة: لقد قرَّر بِناءً على الأدلة. لكن علم النفس يُخبرنا بقصةٍ مختلفة؛ إذ يتبيَّن لنا أننا دائمًا ما نكون أفضلَ حَكَمٍ على سببِ تصديقنا ما نُصدقه.

مكتب منظَّم، عقل منظَّم (أو فضيلة النِّظام غير المتوقَّعة)

في تجرِبة أُجرِيَت مؤخرًا، طلب علماء النفس بجامعة أمستردام من الطلاب أن يُفكروا في شيء يشعرون بالتناقض الوجداني حيالَه، أو بعبارة أخرى: أن يفكِّروا في أي موضوع يشعرون إزاءه بمشاعرَ إيجابيةٍ وسلبية في الوقت ذاتِه. وليكن هذا الموضوع هو تناولَ وعاء ضخم من الآيس كريم مثلًا. ربما يكون ذلك طريقةً لطيفة تقضي بها عشرين دقيقة، لكن الأمر قد يضرُّك على المدى الطويل. فكما تعلم، هناك سلبيات وإيجابيات. وهذا هو التناقض الوجداني.

جلس كلُّ طالب أمام كمبيوتر، وفكَّر في شيءٍ يجعله يشعر بالتناقض الوجداني، وكتب بعضًا من إيجابياته وسلبياته. وفي هذه المرحلة، ظهرت لكلٍّ منهم رسالةٌ على الشاشة تفيد بوجود خطأٍ ما. لا داعي للقلق؛ فهذه الرسالة كانت جزءًا من خُطة علماء النفس الماكرة. وقد تظاهر الباحثون الذين يُراقبون التجرِبةَ بالدهشة، وأخبروا المشاركين أنه يتعيَّن عليهم استكمالُ الاستبيان التالي (الذي كان، ظاهريًّا، غيرَ ذي صلة) على مكتب مختلِف. وقد وُجِّه كل مشارك إلى مكتب منفصل في الناحية المقابلة من الغرفة؛ حيث وجد كلٌّ منهم مكتبًا فوضويًّا، تتناثر عليه الأقلام والكتب والمجلَّات والقُصاصات الورقية. وبعد أن جلسوا بارتياح وسطَ تلك الفوضى، عُرِضَت عليهم مجموعة من الصور.

بعض الصور، كتلك التي على اليسار، كانت تشتملُ على شكلٍ باهتٍ يُمكن تمييزه؛ وهو قارب، في حالتنا هذه. وصورٌ أخرى، كتلك التي على اليمين، لم تشتمل إلا على بُقعٍ عشوائية. لم يُطلب من الطلاب اختيارُ أيٍّ منها؛ كلُّ ما هنالك أنه طُلب منهم أن يقولوا ما إذا كانوا يستطيعون تمييز أيِّ نمط وسط تلك العشوائية. وقد استطاع أغلبُ الطلاب أن يُميزوا القارب وجميع الصور الحقيقية الأخرى. والأكثرُ إثارةً للاهتمام، أنهم قالوا في كثير من الأحيان إنهم رأوا صورًا لم يكن لها وجودٌ في الحقيقة. فقد كانت هناك اثنتا عَشْرةَ صورة لم تشتمل على شيء سوى شخبطاتٍ عشوائية. وفي المتوسط، رأى الطلاب صورًا تخيلية في تسعٍ من تلك الصور.

تلك هي الكيفية التي سارت بها التجرِبة بالنِّسبة إلى مجموعةٍ واحدة من الطلاب، على أقل تقدير. وقد بدأت الأمورُ على المنوالِ نفسِه تقريبًا مع مجموعة أخرى. فقد تعيَّن على أفرادها التفكيرُ في شيء يجعلهم يشعرون بالتناقض الوجداني، ثم رأوا رسالةً تُفيدهم بحدوث خطأٍ ما، ثم توجهوا إلى مكتبٍ منفصل فوضوي. وبعد ذلك، ظهر اختلافٌ جوهري. فقبل مواصلة التجرِبة، طلب المشرف على التجرِبة من كل طالب أن يُساعد في تنظيم المكتب. وبمجرد أن أصبح المكتبُ منظَّمًا، طُلب من الطلاب أن ينظروا إلى الصورِ ذاتِها. وبالمقارنة مع الطلاب الذين كانوا قد عمِلوا وسطَ الفوضى، قلَّ عدد الصور الوهمية التي رآها أفرادُ هذه المجموعة من الطلاب على نحوٍ متسقٍ. فهم لم يرَوا أنماطًا وهمية إلا في خمس صور من أصل الاثنتي عشْرةَ صورة التي لا معنَى لها، في المتوسط؛ وهو تقريبًا العدد نفسُه من الأشخاص الذين لم يكن قد جرى إشعارهم بالتناقض الوجداني في بداية التجرِبة.

أوضح الباحثون أن الشعور بمشاعرَ متناقضةٍ حيال شيءٍ ما ليس بالشيء المبهج. فعادةً ما نبحث عن النظام والاتساق، وعندما ينتاب المرءَ التناقضُ الوجداني يشعر بالفوضى والتعارض. وعندما يحدث هذا، قد نحاول تغييرَ معتقداتنا، أو ببساطة تجاهل القضية من الأساس. أو يُمكننا أن نستخدم استراتيجيات أكثرَ التواءً للتعامل مع مشاعرَ غيرِ مرغوبة. فالتناقض الوجداني يُهدِّد شعورنا بالنظام؛ ومن ثَم، وفي سبيل التعويض، يمكننا أن نبحث عن النظام في مكانٍ آخر. وهذا هو السبب في أن المجموعة الأولى رأت الكثير جدًّا من الصور الوهمية. فرؤية معنًى للبقع الغامضة، أو بعبارة أخرى: الربطُ بين النقاط، أتاحت لهم إشباعَ رغبتهم في النظام التي تمخضَت عن إحساسهم بالتناقض الوجداني. كما أنها تُفسر أيضًا سبب رؤية المجموعة الثانية من الطلاب صورًا وهمية أقلَّ عددًا. فمجرد تنظيم المكتب — أو تحويل الفوضى إلى نظام — كان قد أشبع بالفعل تلك الرغبة. ولم يعودوا يبحثون عن أنماطٍ في تلك الصور التي تعجُّ بالفوضى. فلم يكونوا بحاجةٍ إلى الربط بين النقاط.

لكن ما علاقة ذلك بنظريات المؤامرة؟ في تجرِبةٍ أخرى، جعل الباحثون المشاركين يشعرون بالتناقض الوجداني. وفي هذه المرة، وعِوضًا عن النظر إلى صورٍ غريبة، طُلب من الطلاب أن يتخيلوا أنهم حُرموا من ترقيةٍ في العمل. وسأل الباحثون عن احتمالات أن يكون أحد زملاء العمل الذي لديه قدرةٌ على الإقناع قد لعب دورًا في قرار المدير هذا. بالمقارنة مع مجموعة من الأشخاص الذين لم يجرِ إشعارهم بالتناقض الوجداني، كانت احتمالات أن يظن الطلابُ المتأرجحون وجدانيًّا أن ثمَّة مؤامرةً ما في حرمانهم من الترقية أكبر. فأحيانًا، ربما يبدو أن الاقتناع بالمؤامرة هو المُكافئ الإدراكيُّ لرؤية معنًى ما في حالة من العشوائية.

وليست الفوضى هي الحالةَ الوحيدة التي يمكن أن تؤثر تأثيرًا خفيًّا في معتقداتنا وأفكارنا. ففي دراسة أخرى أُجريت حديثًا، طُلب من نحو مائتَي طالبٍ جامعي في لندن أن يُقيِّموا مدى استحسانهم لمجموعةٍ من نظريات المؤامرة الرائجة. بالنِّسبة إلى نصف هؤلاء الطلاب، كُتبت المزاعم بخطٍّ واضح تسهُل قراءته:

تُخطِّط مجموعةٌ مؤثرة وسرية، تُعرف باسم النظام العالمي الجديد، لحكم العالم في نهاية المطاف من خلال حكومةٍ عالمية مُستقلة، تحل محلَّ الحكومات السيادية.

غير أنه بالنِّسبة إلى النصف الثاني من الطلاب، كُتبت المزاعم بخطٍّ تصعب قراءته نوعًا ما على نحو:

تُخطِّط مجموعةٌ مؤثرة وسرية، تُعرف باسم النظام العالمي الجديد، لحكم العالم في نهاية المطاف من خلال حكومةٍ عالمية مُستقلة، تحل محلَّ الحكومات السيادية.

فالطلاب الذين قرَءوا النظريات بالخط الواضح المفهوم قيَّموها على نحوٍ متسق بأنها صحيحة على الأرجح. أما الطلاب الذين قرَءوها بالخط الذي تصعب قراءته، فقد قالوا إنه يصعب عليهم تصديقُ هذه المزاعم.

الشيء الذي يسترعي الانتباهَ أنه إذا كنتَ لِتسأل الطلاب المشاركين عن سبب تقييمهم لنظريات المؤامرة بهذه الطريقة أو تلك، فربما تكون إجابتهم شيئًا من قبيل «سمعتُ إشاعة عن النظام العالمي الجديد منذ بضعة أيام»، أو «المؤامرات تحدث طوال الوقت»، أو «من المنطقي ألا تظنَّ بالبشر خيرًا.» ولم يكن ليخبرك الطلاب الهولنديون بأن الشعور بالتناقض أو التأرجح حيال وعاءٍ من الآيس كريم كان له تأثير في حكمهم. ولن يفكر أيٌّ من قاطني لندن في أنفسِهم قائلين: «هذا خط جذاب؛ لذا أظن أن النظام العالمي الجديد يُخطط بالفعل للاستحواذ على العالم.» فهم لم يختاروا على مستوى الوعي أن يرَوا النظريات كشيء مستحسَن أو غير ذلك. وإنما أدت أدمغتهم أغلبَ المهمة خلف الكواليس.

مَن الذي يتحكَّم في كل هذا؟

كما يوضح اختصاصيُّ علم الأعصاب ديفيد إيجلمان في كتابه «وراء الكواليس: الحياة السرية للدِّماغ»، ثمَّة شبكةٌ معقَّدة من الآلات المخبوءة تحت جلدك. فجسدك مليء بالأعضاء، وكلٌّ منها له وظيفة متخصِّصة يؤديها، وجميعها تعمل معًا كي تُبقِيَك على قيد الحياة وبصحة جيدة، وهي تتمكَّن من أداء مهمتها على مستوى اللاوعي. فسواءٌ انتبهتَ أو لا، يستمرُّ قلبك في النبض، وتنبسط وتنقبض أوعيتُك، ويؤدي طِحالُك وظيفته المنوطة به. وفَهمنا العلمي التفصيلي للكيفية التي يعمل بها الجسم يُعد تطورًا حديثًا نسبيًّا، ومع ذلك، ولسببٍ ما، فإن الفكرة القائلة بأن أعضاءنا يمكن أن تؤديَ عملها دون أن نطلب منها ذلك، أو حتى دون أن نعيَ ما تقوم به، لا نشعر بأن ثمَّة صعوبةً كبيرة في تصديقها.

لكن دماغك مختلفٌ على ما يبدو. فالدماغ هو أكثرُ الأعضاء تعقيدًا على الإطلاق. فهو يتألَّف من مليارات الخلايا المتخصصة، وكلٌّ من تلك الخلايا في اتصالٍ مباشر مع الآلاف غيرها، وجميعها تُطلق بلا توقُّف إشاراتٍ كهربيةً في موجاتٍ متسارعة من النشاط. وبطريقةٍ معينة — لا تزال لغزًا إلى حدٍّ بعيد — ينشأ الوعي من وسط كلِّ هذه الفوضى؛ فتجرِبة كَيْنونتنا، أو بعبارة أخرى: تجربة كونِنا أشخاصًا يُفكِّرون ويشعرون ويُقرِّرون، تكمن وراء أعيننا، التي تنظر إلى العالم وتتخذ قراراتٍ مهمةً مثل الوقت المناسب لعبور الطرق والمكان المُفضَّل الذي نذهب إليه من أجل تناول الغداء. فالوعي هو كلُّ ما نعرفه عما يجري في رءوسنا، ويبدو الأمر كما لو كان هذا هو كلَّ ما تلزمنا معرفتُه. غير أن كمًّا كبيرًا من الدراسات السيكولوجية تؤدي إلى نتيجةٍ مدهشة. الوعي ليس كلَّ شيء. فنحن لسنا مطَّلعين على كل شيء أو حتى أغلب الأشياء التي يؤديها دماغنا. فمثلَ غيرِه من الأعضاء، مهمة الدماغ الأساسية هي أن يُبقيَنا على قيد الحياة، ومثلَ نظرائه الأقل غموضًا، لا يحتاج الدماغ إلى مُدخلات كثيرة من جانبنا لأداء وظيفته. فجميع أنواع الأنشطة تتمُّ خلف الكواليس، خارج إدراكنا الواعي، وبما يتجاوز تمامًا نطاقَ سيطرتنا.

لكن إذا كان الدماغ لا يُطلعنا على كل طرائفه، فإن هذا ليس معناه أن عملياته التي تجري على مستوى اللاوعي غيرُ مهمة أو تافهة. فعلى النقيض من ذلك، يتشكَّل إدراكنا الحسِّي وأفكارنا ومعتقداتنا وقراراتنا بواسطة الحِيَل السرية التي تؤديها أدمغتنا. فقد توصَّل اختصاصيو علم النفس التخيُّلي إلى العديد من الصور التمثيلية التي تُظهِر حَدْسنا الخاطئ بأننا على وعي بكل شيء يحدث في أدمغتنا، بل ونتحكم فيه أيضًا. وكما يقول ديفيد إيجلمان: «وعيُك مثل مسافرٍ متخفٍّ صغير على متن باخرة عبر الأطلسي، يُنسب الفضل إليه في الرحلة دون الاعتراف بهذا الكمِّ الهائل من التفاصيل الهندسية تحت قدمَيه.» وقد شبَّهت اختصاصية العلوم الاجتماعية جوناثان هايت الوعيَ براكبٍ على ظهر فيل: فالراكب يُمكنه أن يُلاطف الفيل مُقنعًا إياه بالذَّهاب في اتجاه معيَّن عن طريق التحكم في لِجامه، لكن الفيل لديه في نهاية المطاف، نزواتُه الخاصة وهو أكبرُ منا. وصف دانييل كانيمان، أحدُ رواد علم نفس التحيُّزات الخفية والطرق المختصرة لأدمغتنا، تقسيمَ العمل بين عملياتنا العقلية الواعية واللاواعية بأسلوبٍ سينمائي. «في الحدث المُستبعد» لفيلمٍ يُمثِّل فيه مستويَا نشاط الدماغ الشخصيتَين الرئيستين، «سيكون الوعيُ هو الشخصيةَ المُساندة التي تعتقد أنها البطل.» على حدِّ قول كانيمان.

أود أن أقترح صورةً تمثيليةً مشابهة، وهي صورةٌ أكثرُ انسجامًا مع الموضوع الذي نتناوله. نحن نتخيَّل أنفسَنا أننا نتحكَّم في خيوط كلِّ شيء، ونمتلك السيطرة التامةَ على جميع قدراتنا العقلية. لكننا في واقع الأمر بمثابةِ عرائسَ يُحركها اللاوعي الصامت بخيوطٍ خفية، لترقص وَفْق نزواته الخاصة، ثم تأتي لتنسب الفضل لنفسها فيما أدَّته من رقصات.

عقولٌ مُتشكِّكة

هل هذا معناه أن نظريات المؤامرة غيرُ عقلانية في جوهرها ومَرضيَّة، وتنطوي على نوعٍ من الجنون وتشوُّش العقل والحمق والارتباك؟ بعض المثقفين يُمطِرون بحماس نظريات المؤامرة بهذا النوع من الصفات التي تُعبر عن الاحتقار والسخرية، مُصوِّرين إياها بأنها تنشأ عن تفكيرٍ مختلٍّ، يتمتع مَنْ لا يؤمنون بها بحصانة ضدَّه؛ على حدِّ زعمهم. وبسبب هذه الرؤية القاتمة، يمكن أن تبلغ التوتراتُ بين أصحاب نظريات المؤامرة ومنتقديهم مَبلغَها. وبالنِّسبة إلى بعض أصحاب نظريات المؤامرة، فإن البحث عن أسبابٍ نفسية لتصديق نظريات المؤامرة أسوأُ من مجرد تحدي تلك النظريات فيما تطرحه من حقائق. فالأمر أشبهُ بمحاولة زعزعة ثقة المؤمنين بها، أو حتى وصمِ أصحاب نظريات المؤامرة بالاختلال العقلي.

ليس هذا هدفي. فالكتاب الذي بين أيدينا غيرُ معنيٍّ بتقديم قائمة بنظريات المؤامرة كدليلٍ للأفكار أو المعتقدات الشاذة. كما أنه غير معنيٍّ بتصنيف أصحاب نظريات المؤامرة باعتبارهم جنسًا غريبًا، أو حكاية تحذيرية حول الكيفية التي يمكن أن يتعطل بها تفكيرُك. فالنتائج العلمية التي تراكمت لدينا على مرِّ السنوات القليلة الماضية تخبرنا بقصةٍ أكثرَ إثارة للاهتمام بكثير؛ قصة لها تبعاتٌ بالنِّسبة إلينا جميعًا. فقد حذَّر مايكل بيليج، أحدُ الرواد الأوائل في مجال البحث في التفكير القائم على نظرية المؤامرة، أنه فيما يتعلق بنظريات المؤامرة، «من السهل المبالغةُ في التأكيد على شذوذاتها على حساب ملاحظةِ الأمور السيكولوجية العادية.» فنظريات المؤامرة قد تكون نتاجَ بعض نزوات أدمغتنا وزلاتها، غير أنها، كما سنرى، ليست فريدةً على الإطلاق في هذا الصدد. فأغلب نزواتنا تحدث ببساطة دون أن تسترعيَ الانتباه. ويمكن أن يخبرنا علم النفس بالكثير؛ ليس فقط بشأن أسباب تصديق الناس نظرياتٍ حول المؤامرات الكبيرة، ولكن أيضًا بشأن آلية عمل عقولنا، وأسبابِ تصديقنا أيَّ شيء على وجه العموم.

إذن هاكم نظريتي. نحن تحت رحمة مائة مليارِ متآمر صغير، جيوش جرَّارة من الخلايا العصبية المتآمِرة. وعبر صفحات هذا الكتاب، سوف نزيح الستار لنُسلِّط الضوء على جنبات خفيةٍ غامضة من عقولنا، ونكشف كيف يمكن لحِيَلِ أدمغتنا السريَّة أن تُشكِّل الطريقة التي نُفكر بها في نظريات المؤامرة؛ وغير ذلك كثير. وسواءٌ أكانت نظريات المؤامرة تعكس حقيقة ما يحدث في العالم أم لا، فإنها تُخبرنا بالكثير عن ذواتنا السرية. وتنسجم نظريات المؤامرة مع بعض التحيُّزات الكامنة في الدماغ وطرقه المختصرة، وتتوافق مع بعضٍ من أعمق رغباتنا ومخاوفنا وافتراضاتنا بشأن العالم ومَن يعيشون فيه. فنحن نملك عقولًا مُتشكِّكة بالفطرة. وجميعنا أصحاب نظريات مؤامرة بالفطرة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤