الخاتمة: إنسانٌ فحسب

في مهرجان بيلدربيرج، تحدثتُ مع شخصٍ كان قد اعتنق المسيحية. كان يقف برَصانةٍ في أحد أركان الساحة، بجانبِ لافتةٍ تحثُّ الناس على قَبول المسيح في حياتهم. وعندما اقتبس آياتٍ من الإنجيل، أصبحت نبرةُ صوته متقدةً بالحماس وحازمة. وخلافًا لذلك، كان الرجل هادئًا متأملًا ينزَع قليلًا إلى الكآبة. لقد أدهشَني كونُه منعزلًا وسطَ ساحة مليئة بالمنعزلين.

لقد أخبرني أن مهمته المسيحية هي تحميلُ القادةِ المسئوليةَ، ونشر كلمة الرب التي يؤمن بها ويلتزم بها. لكن فيما يتعلَّق بتصديقِ أن المجتمِعين في مؤتمر بيلدربيرج يتحكمون سرًّا في شئون العالم، كان مِن أكثر الأشخاص الذين تحدثتُ إليهم تحفُّظًا. فعندما سألتُه عن السبب الذي دعا هذه الوفودَ إلى الاجتماع، قال: «في واقع الأمر، لا أودُّ التعليق. ليس لديَّ معرفةٌ كافية بالأمر. سوف أتكهَّن. ولكنني لست هنا لكي أتكهنَ في حقيقة الأمر، فأنا هنا كي أعِظَ الناس بشأن الحقيقة المطْلقة التي مصدرُها كلمة الرب؛ ولذا سأترك هذه المسألة للآخرين.» وقال إن المزاعم التي يُطلِقها الناس ضد مؤتمر بيلدربيرج جِدُّ خطيرةٍ لكنني أريد أن أوصل الحقيقةَ المطلقة بطريقةٍ ما أو بأخرى.

سألتُه كيف اعتنق المسيحية. فقال: «نشأتُ نشأةً دينية في الكنيسة الأنجلو كاثوليكية في إنجلترا.» وتابع قائلًا: «ثم خرجتُ إلى العالم، لاهثًا وراء الملذات على مدار ٣٠ عامًا. كنت أُبلي بلاءً حسنًا في عملي كمصمِّم جرافيك وانتهى بي الحال إلى العمل في الولايات المتحدة مدةً قصيرة، واعتقد جميعُ أصدقائي أن كل شيء يسير على ما يُرام معي.» ثم استدركَ قائلًا إن العمل لم يكن يُحقِّق له إشباعًا. وانغمس في تناول الشراب الذي أصبح يُمثِّل مشكلةً له. «لم أكن بائسًا إلى هذا الحدِّ مطلقًا في حياتي. هذا بالرغم من أنني كنتُ أكسِب كلَّ هذا المال في هذا المنصب المتميز في تلك الوكالة المرموقة في ولاية كاليفورنيا. ولم أكن بائسًا إلى هذا الحد مطلقًا طيلةَ حياتي.»

وقال إنه قد حدث شيءٌ أعتقد أنه يحدث لنا جميعًا. «لم يكن للعالم معنًى. فقدتُ السيطرة، ولم يكن لدي أيُّ تفسير لذلك؛ من أين أتيت، وما الذي أفعله، وما هو مصيري؟ هذه أسئلة جوهريَّة نحن بحاجةٍ جميعًا إلى الإجابة عنها. فإذا لم يكن لديك إجابةٌ عن هذه الأسئلة، أو كنتَ تفتقر إلى الحقيقة المؤكَّدة بشأن هذه الأسئلة، فإن حياتك ستكون بلا أساس. صحيحٌ أنه يُمكنك أن تُشوِّش على ذلك مدةً بالحفلاتِ وانغماسِك في الملذات وإطلاق العِنان لنفسك. حتى مع هذه الحركة.» وألقى نظرةً على الساحةِ المليئة بالحشود التي حضرتْ إلى مهرجان بيلدربيرج، بلافتاتهم التي تحمل عباراتٍ قويةً ودوائر التأمل وقمصانهم التهكمية. «هم يشغَلون أنفسهم بأي شيء، هم يشغلون أنفسهم بهدفِ إخفاء هذا الشعور. لكنه شعور يظل موجودًا في أعماقهم، إنه شعور الخَواء الكئيب.»

في أغلب الوقت لا يكون هذا دراماتيكيًّا إلى هذا الحد. فالأمر لا يصل إلى أزمةٍ وجوديةٍ بكلِّ ما تحمله الكلمة من معنًى، إلى الحد الذي يدفعنا إلى البحث عن المعنى والإجابات واليقين. لكن حتى في أيامنا العادية جدًّا، نبحث جميعًا عن إجاباتٍ بطريقةٍ ما أو بأخرى. بعض الناس يجدون سَلْواهم في الإنجيل. والبعض يُحاولون إقناعَ أصدقائهم الذين يستخدمون الكمبيوتر العادي بالتحوُّل إلى أجهزة «ماك». والبعض يحتشدون في ساحةٍ لتوجيه انتقاداتهم لفندقٍ يعتقدون أنه يستضيف الحكامَ السريين للعالم. والبعض يقرَءون كتبًا عن أسباب احتمالية أن يكون الآخرون على خطأ.

نظريات المؤامرة تنسجمُ مع نقائصِ أدمغتنا. لكن هذا لا يجعل نظرياتِ المؤامرة منحرفةً أو فريدةً من الناحية السيكولوجية. بل على العكس تمامًا. فقد رأينا أن التحيُّزات والشذوذات نفسَها التي يُمكن أن تجعلنا نقتنعُ بإحدى نظريات المؤامرة تُشكِّلان تفكيرنا بطرقٍ شتَّى؛ بدءًا من الطريقةِ التي نرمي بها حجر النرد، ومرورًا بالطريقة التي نُفسِّر بها شِجارًا في حانة، ووصولًا إلى اختيارِ الطرفِ الذي نؤيِّده في صراعٍ محتدم بين دولتين.

ومن وقتٍ لآخر، تكون هناك حتى أصداء غريبة للمؤامراتية في تفكيرِ الداحضين للمؤامرة. ففي الفصل السابع، رأينا أن نظريات المؤامرة تستدعي نماذجَ أوليةً من رواياتٍ نمطية عن الخير مقابلَ الشر. لكن أصحاب نظريات المؤامرة ليس لديهم احتكارٌ للتهويل المروع. وفي أعين بعض الداحضين المتحمسين، حسبما أوضح بيتر نايت، تُصبح المؤامراتية ذاتُها «كِيانًا ماديًّا شيطانيًّا يمكن عزو أغلب علل التاريخ إليه.» فمثلًا يُحذِّر ديفيد آرونوفيتش قراءَ كتابه «تاريخ الهراء» من أن تكون «شبكة الإنترنت قد شكَّلت جيوش ظلٍّ» من أصحاب نظريات المؤامرة «الذين يتعذرُ معرفة حجمهم وأعدادهم.» ويُصوِّر دانييل بايبس المؤامراتية على أنها مرضٌ معدٍ، «يستطيع أن يتسلل إلى أكثرِ العقول انتباهًا وذكاءً؛ لذا فإن استبعاده يعني صراعًا أبديًّا.» ويُساور جوناثان كاي القلقُ من أن يكون عصرُ المنطق على شَفا الاستسلامِ أمام لا عقلانية حركةِ حقيقةِ أحداثِ الحادي عشر من سبتمبر. أما فرانسيس وين فينتحب بسبب أنَّ ما أسماه «الأفكار الفارغة» قد «غزت العالم بالفعل.» وحتى بين الأشخاص الذين يسعَون إلى تخليص العالم من الأفكار والمعتقدات الخاطئة، يبدو أنه يصعب عليهم مقاومةُ الإغراء بتصوير العالم باللونين الأبيض والأسود، مختزِلين إياه في كونه مواجَهة «بيننا وبينهم».

كان هدفي من هذا الكتاب هو تحليلَ هذا التقسيم الخاطئ. فليس هناك مواجهةٌ «بيننا وبينهم». هم نحن. ونحن هم. فعن طريقِ تصويرِ المؤامراتية على أنها خللٌ نفسي غريب ابتُليَت به عقولُ مجموعةٍ من المهاويس المصابين بجنون الارتياب، نُعفي أنفسَنا بتعجرفٍ من التفكير المختل الذي نراه في الآخرين. لكنا نفعلُ الشيءَ ذاتَه الذي يفعله المؤامراتيُّون الذين يُلقون باللوم على مجموعةٍ سرية صغيرة، محمِّلين إياهم المسئوليةَ عن جميعِ عللِ المجتمع. ونحن مخطئون. فالتفكيرُ المؤامراتي واسعُ الانتشار؛ لأنه جزئيًّا نِتاجُ الطريقةِ التي تعمل بها عقولُنا طيلةَ الوقت. فإذا عَلِق ثلاثةُ أشخاص في جزيرةٍ وسط الصحراء، فقد لا يمضي وقتٌ طويل حتى يجد كلُّ واحد منهم نفسه يتساءل ما إذا كان الاثنان الآخران يُخطِّطان لشيءٍ من ورائه.

ولا أقصد أن نظريات المؤامرة يجب تجاهلُها أو تبنِّيها دائمًا. فكما رأينا في الفصل الثاني، يمكن أن تقودَ بعض نظريات المؤامرة إلى نتائجَ مدمِّرة. والبعض منها يمكن أن يكونَ له تأثيراتٌ خفية وخبيثة. يجب علينا الحذرُ من نظريات المؤامرة التي تجعل من الأشخاص الضعفاءِ كِباشَ فداء، وتُحرِّض على العنف، وتُعزِّز الأفكارَ المغلوطةَ عن قضايا يمكن أن يترتبَ عليها نتائجُ خطيرة بالنِّسبة إلينا جميعًا، مثل اللقاحات والتغيُّر المناخي. لكنني لا أعتقد كذلك أن التفكيرَ المؤامراتيَّ بوجهٍ عام آفةٌ بحاجةٍ إلى استئصال. فأغلب الناس لا يبنون قراراتِهم الحياتيةَ المهمة بِناءً على نظريات المؤامرة. وقد يتضح أحيانًا أن المؤامراتيين على درايةٍ بشيءٍ ما ولديهم ما يُبرِّر موقفهم. فأحيانًا يتم التخطيط بالفعل لأشياء شريرة وخبيثة خلف الأبواب المغلقة. هنا تدعو الحاجةُ إلى محاسبة القادة. فأحيانًا يُصبح جنونُ الارتياب حَصافةً وحكمة.

ومن خلالِ تسليطِ الضوءِ على الكيفية التي يُمكن أن تُشكِّل بها تحيزاتُنا معتقداتِنا وأفكارَنا، لا أطمح إلى دحضِ نظريةٍ بعينها، كما لا أهدف إلى انتقاد التفكير المؤامراتي بالكلية. إنما هدفي أن نتأمَّل حَدْسَنا بشيءٍ من التدقيق وأن نسأل أنفسنا لماذا نُفكِّر فيما نفكِّر فيه. هل نحن لدينا جنونُ ارتياب حصيف؟ أم أن تحيزاتنا تستحوذُ علينا تمامًا؟

بطبيعة الحال، ليست جميعُ تحيزات أدمغتنا ولازِماتِها وطرقِها المختصرة سيئةً دائمًا. فبدونها، قد لا نبرح أَسِرَّتنا، في حيرةٍ شديدة، غيرَ متأكدين من أي شيء، وعاجزين عن اتخاذ أبسطِ القرارات؛ إذ سنكون بحاجةٍ مستمرةٍ إلى إعادة تقييم عالمنا بأكمله. أدمغتنا تعمل بهذه الطريقةِ لسببٍ معيَّن: مساعدتنا على خوض غمارِ الحياة في عالمٍ غيرِ يقيني وغادرٍ في بعض الأحيان. فتحيزاتنا تجعلنا بشريِّين. نحن بشريون على نحوٍ مدهش ومذهل ومبهر وغيرِ مثالي في الوقت ذاتِه.

وهذا باستثناء مَنْ هم منا كائناتٌ فضائية بين مجرية، قادرة على تغيير شكلها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤