الفصل الثامن

تجميع أجزاء متفرقة لاستخلاص النتائج

فيلم «زابرودر» لا تتجاوز مدته ٢٧ ثانيةً — ٤٨٦ إطارًا ميكروفيلميًّا — عبارة عن تسلسل صامت لصور مُحبَّبة مقاس ٨ مليمترات، سجَّله أحد حائكي الملابس في دالاس، لكنه أصبح واحدًا من المشاهد الأيقونية في القرن العشرين.

نكاد نقول إن أبراهام زابرودر لم يصنع الفيلم على الإطلاق. فقد ترك آلة تصويره باهظةَ الثمن «زوماتيك دايركتور سيريز» بالمنزل ذاك الصباح، متوقِّعًا هطول المطر. لكن السماء تلوَّنت باللون الأزرق، وأصرَّ سكرتير زابرودر على أن يعود إلى المنزل الذي لم يكن بعيدًا لإحضار آلة التصوير. وعندما حان وقت الغداء، سار خارج المنزل وصعد على قمةِ قاعدةٍ خرسانية في الطرَف الشمالي من شارع إيلم، كي يستطيع التقاطَ أفضل صورة ممكنة لموكب السيارات. ثم شاهد من خلال عدسة آلة تصويره إطلاقَ الرصاص على رأس رئيس الولايات المتحدة الأمريكية. بحسب عائلته، لم ينظر زابرودر بعدها في أيِّ عدسة آلةِ تصوير قط.

فيما يلي محتوى فيلم «زابرودر». في البداية، أخذَت ثلاثُ درَّاجات نارية للشرطة تتجول عند إحدى نواصي شارع إيلم. ثم حدث انقطاعٌ مفاجئ — أوقف زابرودر آلة التصوير لحفظ الفيلم — وفجأةً ظهرت سيارة الرئيس كينيدي «لينكولن كونتيننتال» المفتوحة من أعلى وهي تطوف في الشارع أمام الجماهير المبتهجة. كان الرئيس كينيدي وزوجته، جاكي، يُلوِّحان في سعادةٍ للحشود. ثم اختفت السيارة للحظاتٍ وراء لافتة كبيرة بالشارع. وعندما ظهرت، كان ثمَّة شيءٌ لم يكن على ما يُرام. كان كينيدي يقبض على عنقه. كان قد أُصيب بالفعل بطلقة نارية في ظهره. وبعد لحظات، اخترقَت رصاصةٌ رأس كينيدي. وفي صورة سريعة من صور الفيلم، تُرى سحابةٌ زاهية ذات لون أحمرَ برتقالي في الهواء. كانت الصورة الإطارية، زد ٣١٣، واضحة المعالم حتى إن زابرودر وافق على بيع الفيلم لمجلة «لايف» بشرط ألا تنشر المجلةُ الصورة أبدًا؛ ولم يُشاهد الجمهور الفيلم كاملًا حتى أذاعه جيرالدو ريفيرا على شاشة التليفزيون في وقتٍ متأخِّر من الليل عام ١٩٧٥. سقط كينيدي بلا حَراك باتجاه زوجتِه. نهضت زوجته، التي بلغ بها الرعبُ مبلغه، من مقعدها لتصعد على الجزء الخلفي من السيارة؛ حيث تحركت نحو أحد وكلاء المخابرات الذي صعد من الخلف، بينما أسرع الموكب في المغادرة. الفيلم الصامت القصير مرعب، ولا يمكن نسيانه.

لكن قُم بترجيع الثواني القليلة الأخيرة من الفيلم وراقبْ بانتباهٍ شديد، فربما تلحظُ شيئًا غريبًا. فبينما تخرج سيارة كينيدي من خلف اللافتة الكبيرة، يُمكنك أن تشاهدَ مِظلَّة سوداء كبيرة تبرز من الجانب الأيمن للافتة النصف المخبوءة أمامها. قد لا يُثير هذا أيَّ نوع من الاستغراب، باستثناء حقيقةِ أن الجوَّ كان صافيًا والنسيم عليلًا في ظهيرة ذلك اليوم. فلم يكن هناك شخص آخر في حديقة ديلي بلازا سوى هذا الرجلِ يحمل مظلةً مفتوحة، كما لم يكن أحد بين مئات صور الحشود الذين يقفون على جانبَي طريق الموكب يحمل مظلة مفتوحة. وتصادف أن المظلة الوحيدة المفتوحة كانت بجوار سيارة كينيدي مباشرة لحظة اغتياله. ما الذي يُوحي به ذلك؟

أصبح الأمر أكثرَ غرابة. فالصور التي التقطها أناسٌ آخرون مبعثرون في أنحاء حديقة ديلي بلازا أظهرَت صاحب المظلة، وهو رجل ذو مظهر عاديٍّ يرتدي بِذلة سوداء، يتحرك في ارتباكٍ قبل وصول الموكب وكانت مظلته مغلقة. وعندما اقتربت سيارةُ الرئيس، فتح الرجل مظلته فوق رأسه كما هو واضح، وأخذ يرفعها ويخفضها ويُديرها. وبمجرد أن مرت السيارة بهذا المنظر الغريب، أُطلق الرَّصاص على جسد كينيدي. أظهرت الصور التي التُقطت على ما يبدو لاحقًا الرجل وهو يسير مبتعدًا في هدوء، حاملًا المظلةَ عند إحدى جانبيه، بعد أن طواها بهدوء.

وبالرغم من أن رجل المظلة كان واحدًا من أقرب شهود العيان على مقتل الرئيس، لم تستجوبه شرطة دالاس. كما لم يَرِد ذكره في تقرير لجنة وارين. فقد اختفى ببساطةٍ دون أن يترك وراءه أثرًا. ولم يبدأ طرح الأسئلة بشأنه إلا عندما استرعَت المظلة الغريبةُ انتباهَ المهتمِّين باغتيال الرئيس. فبالنِّسبة إلى بعض المتشككين، لم يكن هناك سِوى تفسيرٍ واحد محتمل: كان الرجل ذو المظلة جزءًا من المؤامرة. فقد رأى البعضُ أن هذا الرجل قد أعطى إشارةً بالتأكيد للقتَلة إما ليُبلغهم بأن اللحظة كانت مواتيةً لإطلاق الرصاص أو بأنهم قد أصابوا الهدف. وتخيَّل البعضُ الآخر أنه لعب دورًا أكبرَ من ذلك؛ فربما كان هناك سلاحٌ مخبوءٌ داخل المظلة. ففي عام ١٩٧٨، نشر ريتشارد سبراج وروبرت كاتلر رسمًا تخطيطيًّا مفصَّلًا يُلخِّص آلية إطلاق القذيفة القاتلة التي اعتقدا أنها كانت مخبوءةً داخل المظلة.

وقد حُل لغز رجل المظلة في نهاية الأمر؛ فقد أُحضر هو ومظلته أمام الحكومة الأمريكية، واستُجوِبَ لإعطاء تفسير لموقفه. سوف نعلم حقيقة موقفه بعد قليل. أما الآن، فإن هذه القصة الغريبة تُسلِّط الضوء على سِمةٍ جوهرية من سِمات أي نظريةِ مؤامرةٍ جيدة، وهي القدرة على نسج أشياءَ غريبةٍ تبدو غيرَ مترابطة في قالَبِ قصةٍ متماسكٍ عن متآمرين خبثاء وأجندتهم السرية. نظريات المؤامرة هي تدريب على تجميع أجزاء متفرقة لاستخلاصِ نتيجةٍ معينة. لكن كما سنرى، ليس تجميع الأجزاء المتفرقة هو الوسيلةَ الوحيدة التي يستخدمها أصحابُ نظريات المؤامرة. فقد تحدثنا في الفصل السابق عن الروايات الكبرى التي تتوافقُ مع أعمق رغباتنا وأشدِّ مخاوفنا. أما في هذا الفصل وما تبقَّى من الكتب، فحديثنا يتمحورُ حول قصصٍ على نطاقٍ أضيقَ قليلًا؛ إذ سنتحدث عن الكيفية التي نفهم بها العالم من لحظةٍ إلى اللحظة التي تليها. فالواقع يعجُّ بالأجزاء المتفرقة. وحتى نفهمَ الواقع، يجب أن تُجيد أدمغتُنا الفهمَ السريعَ للكيفية التي يمكن بها تجميعُ هذه الأجزاء المتفرقة معًا في صورةٍ كلية. غير أنه في سعيِها الحثيث لإضفاءِ معنًى على الفوضى المحيطة بنا، يمكن أن تستحضر أدمغتُنا أوهامًا مغرية. فأعيننا تخدعنا أحيانًا، وعقولنا تُراوغنا.

الخداع البصري

هيا نبدأ بوهمٍ مألوف. الخطان الموجودان على الصفحة التالية يُمثلان واحدًا من أكثر صور الخداع البصري شهرةً في العالم: خداع مولر-لاير. الأرجح أنك شاهدتَه من قبل. الصورة تتكوَّن من خطَّين متوازيين، ينتهي كلٌّ منهما بمجموعةٍ من الزعانف. والخط الذي به زعانف متجِهة للخارج يبدو أطولَ بشكل قاطع من الخط الذي به زعانف متجهة للداخل، حتى بالرغم من أن كِلَيهما متساويان في الطول، في واقع الأمر. وحتى عندما تعرف أن الخطَّين متساويان في الطول، وحتى عندما تقيسهما بنفسك، لا تستطيع أن تمنع نفسك من رؤيتهما مختلفين. فدماغك تحت تأثيرِ نوعٍ من الخداع.

خداع مولر-لاير البصريُّ هو حالةٌ من حالات الخطأ في تفسيرِ شيءٍ ما موجود بالفعل. وأحيانًا نرى أشياءَ ليست موجودةً على الإطلاق. ثمَّة صورةٌ مخادعة أخرى وكاشفة، وهي مثلَّث كانيزا. سُمي المثلث باسمِ مبتكِره، وهو عالم النفس الإيطالي جايتانو كانيزا، والصورة المخادعة تتكوَّن، على ما يبدو، من مثلَّثَين متداخلَين، موضوعين أعلى ثلاث دوائر سوداء اللون (في شكلٍ ربما يجعلني شخصيًّا أشعر بأنه يُناسب تزيينَ الأدوات المكتبية لجمعيةٍ سرية خبيثة).

لكن لا وجود للمثلَّثات والدوائر إلا في دماغك. فليس هناك على الصفحة سِوى ترتيبٍ من أجزاءَ مفصولة وناقصة؛ ثلاثة رءوسِ أسهمٍ متجهة للخارج وثلاث دوائر ناقصة تُشبه ثلاثةً من باك مان الجائع. ويتولى دماغك ملء الفراغات بحماس، مستحضرًا خداعَ الأشكال الكاملة؛ فالشرائح المفقودة من الدوائر إضافة إلى الفراغات بين رءوس الأسهم تُعطي انطباعًا لا يُقاوم بوجودِ مثلثٍ ثانٍ، مقلوبًا رأسًا على عقب ودون إطار خارجي له، وموضوعًا فوق المثلث الأول، ومغطِّيًا أجزاءَ من إطار المثلث السفلي وشرائح الدوائر. الشيء الأكثر إدهاشًا في هذا الخداعِ البصريِّ هو أنه حتى بالرغم من أنه لا وجود لأيٍّ من المثلثَين في واقع الأمر، وأن الورقةَ كلَّها باللون ذاتِه، تستطيع أن «ترى» بغموضٍ حواف المثلث العلوي؛ فيبدو، بطريقةٍ ما أو بأخرى، كما لو كنت ترى لونًا شديدَ البياض (بالرغم من أن الحواف تتلاشى عندما تُدقِّق النظر في الحيز الفارغ الذي توهمت وجودها فيه).

ومن خلف أعيننا، من المغري أن نظنَّ أن شبكيَّتنا هي شاشة سينمائية من نوعٍ ما؛ بحيث يسترخي دماغُنا ويُلاحظ ما يحدث. والدماغ لا يُراقب ما يحدث في سلبية؛ وإنما يؤدي دورًا فاعلًا بهِمة. فالخداعات البصرية البسيطة مثل هذه تُزيح الستار، لتكشفَ لنا حقيقة حاستنا البصرية: التخمين. والتخمين الجيد على نحوٍ مذهل، يكون في أغلبه — بخلاف ما إذا كنا نصطدمُ باستمرارٍ في أشياءَ ونخلط بين تأملاتنا والأفكار الدخيلة — مجرد تخمين فارغ. وفي لحظةٍ ما، لا تستطيع أعيننا سوى أن تُبصر مساحةً ضئيلة من المجال البصري بوضوح فعلي، بما يعدل تقريبًا حجم أظفر الإبهام مقارنة بطولِ ذراعنا. أما باقي الصورة فيكون مشوَّشًا ومفتقرًا إلى اللون بشكل أساسي. ولتعويض ذلك، يؤدي دماغنا قدرًا كبيرًا من العمل خلف الكواليس ليُعطي الانطباع بأننا نرى صورة مُفصَّلة ودقيقة للعالم من حولنا.

هذه المعالجة البعدية المعقدة على قدْرٍ بالغٍ من الأهمية لحاسة البصر، لدرجةِ أن قرابة ثُلث قشرتنا المخِّية مُخصصة للبصر. وحتى مع ذلك، فإن تشكيلَ نموذجٍ دقيق ومتكامل بحقٍّ للعالم الخارجي قد يكون أمرًا مستحيلًا، فضلًا عن كونه مضيعةً كبيرة للطاقة. والدماغ لديه مخزونٌ مبهر من الطرق المختصرة والقواعد الموثوق بها التي يستخدمها لفهم المدخلات البصرية الفوضوية والغامضة والناقصة التي يتلقَّاها؛ الافتراضات المنطقية مثل «الضوء يأتي من أعلى» و«الأصغر معناه الأبعدُ عنا» و«الشيء الذي يكبر حجمًا بسرعةٍ معناه أنه يسير باتجاهنا». بعبارة أخرى: حاسة البصر لا تعتمد فحَسْب على اصطدامِ الضوء بالشبكية في لحظةٍ معيَّنة، ولكنها تعتمد على تفسير دماغنا لهذه المعلومات.

هذه الاستراتيجية تجعل بقية الدماغ في حالةٍ من التفرُّغ للاهتمام بما ستتناولُه على الغداء وغير ذلك من الأشياء المهمة مثل هذه، وعادةً ما تُؤدي هذا الدور بشكل جيد. لكن هذه الاستراتيجية تخذلنا من آنٍ لآخَر. فمن الوارد أن نُخفق في رؤية شيءٍ ما موضوع أمام أعيننا، كما يكون عليه الحال عندما تبحث عن مفاتيحك، ولا تراها موضوعة على المنضدة أمامك. ومن الممكن أن نُخطئ في تفسيرِ ما هو كائنٌ أمام أعيننا، مثل خطوط مولر-لاير المخادعة. ومن وقتٍ لآخَر، كما يوضح مثلث كانيزا الوهمي، يمكن أن نرى أشياءَ لا وجود لها على الإطلاق.

وعندما ننظر إلى خداعاتٍ بصريةٍ مثل خطوط مولر-لاير أو مثلث كانيزا، نعلم أننا نُخدَع. أما على أرض الواقع، فيمكن أن تكون هناك صعوبةٌ أكبرُ في تحديدِ ما هو حقيقيٌّ وما هو وهمي. ونظرًا إلى عدم وجودِ تفسيرٍ للأشياء الغريبة التي نراها، قد نُضطر إلى اختلاق تفسيرٍ لها.

قنوات على سطح المريخ وقتَلة يختبئون وسط الآجام

على مدارِ بضعة أسابيع في أواخر صيف عام ١٨٧٧، ظهر كوكب المريخ كبيرًا ولامعًا على غير العادة في السماء ليلًا. وكانت تلك وضعية مقابلة كبرى، ويقصد بذلك النقطة التي يجعل فيها مدارُ كوكبِ المريخ الكوكب الأحمر أكثرَ قربًا من كوكب الأرض. وتحدث المقابلةُ الكبرى كل ١٧ سنة أو نحو ذلك. وقد قضى بعضُ روَّاد علم الفلك في العالم سنواتٍ لاتخاذ الترتيبات اللازمة من أجل استغلال فرصةِ رصد الكوكب بشكلٍ جيد، على نحوٍ لا يتأتَّى كثيرًا. وكان من بين هؤلاء، عالم الفلك جيوفاني سكياباريلي، مديرُ مرصد بريرا الفلَكي في ميلانو. وفي عام ١٨٦٢، كان سكياباريلي قد أقنع الحكومة الإيطالية بالاستثمار في تليسكوبٍ متطور. وقد أُنشئت قبَّة جديدة لتكون مقرًّا لتليسكوب ميرز ذي العشرة أقدام. وأخيرًا، عندما غربت شمس ٢٣ أغسطس ١٨٧٧، بدأ سكياباريلي سلسلةً من عمليات الرصد التي من شأنها أن تجعله مشهورًا بين علماء الفلك وعمومِ الناس على حدٍّ سواء.

ما رآه سكياباريلي كان مذهلًا بحقٍّ؛ فقد بدَت شبكةٌ معقَّدة من الخطوط الطويلة الداكنة المتقاطعة على سطح المريخ. وسارع علماءُ الفلك حول العالم إلى تأكيد عمليات الرصد التي أجراها سكياباريلي. البعض منهم شاهدَ الخطوط. والبعض الآخر لم يُشاهدها. عددٌ من علماء الفلك البارزين، مثل عالم الفلك الأمريكي، بيرسيفال لويل، راحوا يؤكدون وجود هذه الخصائص، واقترحوا تفسيرًا مثيرًا للغاية. وقالوا إن الخطوط عبارةٌ عن قنواتِ ري، وحيث إن القنواتِ لا تنشأ من تلقاء نفسها، فلا بد أن مخلوقاتٍ ذكيةً (وربما ظامئة) قد حفرَتها. ومع بداية القرن العشرين، اجتاح الهوسُ بكوكب المريخ أجزاءَ كبيرة من أوروبا وأمريكا.

ومن الغريب أنه قد ثبَت أن هذه القنوات تستعصي على التصوير الفلَكي. والأكثر غرابةً من ذلك، أنه عندما حاول علماءُ فلكٍ مختلفون رسمَ خريطةٍ بهذه الخصائص، كانت رسوماتهم تحتوي على قنواتٍ بترتيبات شديدة التباين. ثم جاء عالِم الفلك الإيطالي، فينشنزو شيرولي، الذي كان أولَ مَن أشار إلى أن الخطوط ربما تكون وهمية. وقد تعيَّن على خبراءِ خرائط المريخ إنعامُ النظر لساعاتٍ عبر تليسكوباتهم، في انتظار اللَّحظات النادرة التي يهدأُ فيها الهواء بحيث لا تتشوَّش الصورة بفعل الغلاف الجوي للأرض. ففي تلك اللحظات دون سِواها، ربما يُمكنهم التقاطُ صورةٍ خاطفةٍ لشريحةٍ صغيرة واضحة من سطح الكوكب والمسارعة برسمِ ما رأَوه اعتمادًا على ذاكرتِهم، ليستكمِلوا ما نقص من تفاصيلَ في الكثير من مشاهداتهم. وقد أعطَت هذه العملية فرصةً كبيرةً للتصورات القَبْلية لدى علماءِ الفلَك من أجل تحديدِ مدى صحةِ ما رصَدوه. وفي نهاية المطاف، أثبتَت عمليات الرصد المُحسَّنة صحةَ ما ذهب إليه شيرولي: ليست هناك قنواتٌ على سطح كوكب المريخ. فالخطوط المستقيمة الطويلة التي رآها سكياباريلي ولويل وغيرُهم كانت من نَسْخ مخيَّلتهم، فالدماغ لديه القدرةُ على البحث عن معنًى في الصور الغامضة. وقد أشار كارل ساجان إلى أن القنوات منشؤها مخلوقات ذكية دون شك؛ «السؤال الوحيد الذي يبحث عن حلٍّ هو: أيُّ طرَفٍ من التليسكوب كانت تقف عنده تلك المخلوقات الذكية؟»

•••

ولم تكن القنوات هي أثرَ الحياةِ الوحيدَ على سطح المريخ الذي يمكن عزوُه إلى الإفراط في التخيُّل. فمنذ سبعينيَّات القرن العشرين، وضع البشرُ آلات تصويرهم على سطح الكوكب الأحمر وحوله. وبين الصور الكثيرة للصخور وسلاسل الجبال، أرسلَت عربات الاستكشاف الفضائي الجوالة والمركبات المدارية، رصدَ العلماءُ حادُّو البصر والباحثون عمَّا هو غريبٌ أشياءَ تبدو كأنها تابوت صخري ومخلوق ذو قدمٍ كبيرة وكعكات هُلامية، وعدد مذهل من قلوب الحب العملاقة الكرتونية، وتمثال نِصْفي للرئيس باراك أوباما وإجوانا متحجرة (متحجرة بالمعنى الجيولوجي للكلمة؛ فهي تبدو هادئةً إلى حد كبير، نظرًا إلى الظروف المحيطة). لكن العلامة الأكثر إثارةً على وجود مخلوقات ذكية خارج الأرض، كان مصدرها صورةً التقطتها المركبة المدارية فايكينج في عام ١٩٧٦. فالصورة تُظهر وجهًا لا تُخطئه عين، أشبه بوجهِ إنسان مُتجهِّم وغريب، وقد نُحت، كما يبدو، في تلةٍ على سطح الكوكب. كان هذا الوجه على سطح كوكب المريخ مُلغزًا لدرجةِ أنه عندما أُرسلت مركبات مدارية أحدث إلى الكوكب بعد مضيِّ عقودٍ من الزمان، كانت أولى مهامِّ تلك المركبات التقاطَ صورةٍ فوتوغرافية لهذا الوجه. ولم تُظهر الصورُ العاليةُ الوضوح سوى تلةٍ باهتة. وكما ظن الكثير من الناس، كان الوجه الموجود على سطح المريخ مجردَ خدعة بفعل الضوء والظل.

•••

تشهد تلك الشذوذاتُ المتفرقة على كوكب المريخ على أن بعض الأشياء تكون على قدْرٍ كبير من الأهمية بالنِّسبة إلينا، لدرجة أننا نميلُ بشدة إلى رؤيتها في صورٍ غامضة، بما يشمل الأنماط الهندسية غيرَ الطبيعية والناس والحيوانات والوجوه. ويمكن أن يكون الوهمُ قويًّا جدًّا في تأثيره لدرجةٍ تقود إلى معتقداتٍ وأفكار خيالية. وعندما تتوفَّر الظروف المناسبة، يمكن أن يدفعَنا نمطٌ عجيب نحو التفكير المؤامراتي. وهذا ما حدث لديفيد ليفتون، وهو صحفي تحوَّل إلى مجال البحث في عمليات الاغتيال، عندما نظر إلى صورةٍ مُستقطبة مشوشة لتلةٍ عشبية غيرِ معروفة في حديقة ديلي بلازا.

التُقطت هذه الصورةُ المستقطبة بواسطة ماري مورمان. ظهرت مورمان في فيلم زابرودر؛ يمكنك أن تراها مباشرة واقفةً في الشارع، بجانب صديقتها جين هيل، التي ترتدي معطفًا لامعًا مميزًا أحمر اللون. كانت مورمان تضع آلة التصوير بالقرب من وجهها. كانت تعلم أن آلة التصوير بطيئةٌ في إعادة التحميل، ولم يكن لديها سوى فرصة واحدة لالتقاطِ صورةٍ تذكارية لزيارة الرئيس. وكانت الصديقتان حريصتَين للغاية على التقاطِ صورةٍ جيدةٍ للحدث لدرجةِ أنهما لم تلحَظا حتى الطلقتَين الأُوليَين. وبينما مرَّت بهما سيارةُ كينيدي على بُعد ١٥ قدمًا منهما، نادت هيل قائلة: «مرحبًا، نريد أن نلتقط لكم صورة!» وضغطت مورمان على مصراع آلة التصوير؛ فقط بعد مرور سُدس ثانية من إصابة الطلقة الثالثة لرأس الرئيس كينيدي. وفي مقدمة الصورة، يتداعى جسدُ كينيدي باتجاه زوجته، وفي الخلفية، نرى التلة العُشبية.

وبعد مرور عامٍ ونصف، حصل ديفيد ليفتون مصادفةً على صورةِ مورمان في كتاب «أربعة أيام سود في التاريخ»، وهو كتاب يضمُّ مجموعةً كبيرة من الصور تُغطي المدَّة من ٢٢ نوفمبر والأيام الثلاثة التي تلَت هذا اليوم. وقد راعه ما رآه في الصورةِ المشوَّشة. فقد كتب ليفتون يقول في كتابه «أفضل الأدلة» عام ١٩٨٠: «هناك، على الصفحة المطبوعة، يوجد ما يُشبه نفثة دُخَان … وخلفها مباشرةً، يوجد ما يُشبه إنسانًا.» ودرس ليفتون الصفحةَ بعدسةٍ مكبِّرة، بل إنه استطاع الحصولَ على الصورة السالبة الأصلية. ولم تؤكد الجودةُ المُحسَّنة شكوكَه بشأن نفثة الدخان فحسب، لكنه رصد أيضًا شخصًا مسلَّحًا آخرَ محتملًا في مكانٍ آخر على التلة، «يُرى الجزء العُلوي من جسده، ويُمسك بشيءٍ ما في يدَيه في وضعٍ أفقي.» وقد اكتشف مهتمُّون آخرون بحادثة اغتيال كينيدي المزيدَ من القتلة في الصورة المشوشة. فمثلًا، نجد جاري ماك، مديرةَ متحف الطابق السادس في مستودع كتب مدرسة تكساس منذ عام ١٩٩٤، تعرَّفت على ما يبدو كما لو كان إنسانًا في زيِّ شرطي، يقف وراء أحد الأسوار، وتلمع شارته المميزة في ضوء الشمس في حينِ يُغطي وجهه الوميض المنطلق من فوهة البندقية.

وبقدْرِ ما يستطيع المحلِّلون الجنائيون إخبارَنا به، لم يكن القتَلةُ سوى عيوبٍ وظلالٍ في الفيلم، فضلًا عن التفكير الواهم. فإحدى تحليلات رجل الشارة الذي أشارت إليه جاري ماك، توصَّلت إلى أنه إذا كان الرجلُ ذا حجمٍ عادي، فإنه يجب أن يوجَد خلف السور بنحو ٣٠ قدمًا وأربعة أقدام فوق الأرض؛ وأقلُّ ما يُستنتج من ذلك أن هذه الوضعية يستحيل معها إطلاقُ النار؛ لأن الراميَ سيكون غير مدعوم.

وقد أدرك ليفتون في نهاية المطاف أن ما كان يراه ربما يكون مجردَ وهم. فقد اعترف قائلًا: «لقد اتضح أن هؤلاء الذين يختلفون بالفعل مع النتائجِ التي توصَّلت إليها لجنةُ وارين وجدوا أنه من الأيسر بكثيرٍ أن «ترى» أشخاصًا على تلةٍ مقارنةً بأولئك الذين صدَّقوا تقرير اللجنة.» وبتطبيق هذا المنطق على ملاحظاته، تساءل قائلًا: «كيف يتأتَّى لي التأكدُ من أن عمليات إدراكي الحسية الأساسية لم تكن شديدة التحيُّز … في النهاية، توصَّلت إلى أن عمليات التكبير الفوتوغرافية ليس لها أهميةٌ كبيرة كدليل.»

خداع العقل

الأرجح أنه لا يدهشك أننا نرى أحيانًا أشياءَ غيرَ موجودة، أو أننا لا نرى أشياءَ موجودة بالفعل. فمن السهولة أن نتوهَّم خطأً وبصورةٍ لحظية أن المعطف المعلَّق على الباب هو ظل شخص متسلِّل. والبحث عن أشياءَ نعلم أنها ليست موجودةً بالفعل يمكن أن يكون حتى طريقة ممتعة لقضاء الوقت. فعلى مدار آلاف السنين، كان الناس يُمضون وقتًا كبيرًا في التأمُّل وقتَ الظهيرة، ليستكشِفوا أشياءَ مألوفةً في السُّحُب، ويقضون أوقاتَ المساء في تخيُّل أنماطٍ وأشكالٍ في النجوم على أنها بشرٌ أو حيوانات. ولا يختلف القرن الحادي والعشرون. فيمكن أن نقضيَ الساعات ونحن نتصفَّح المواقعَ الإلكترونية المخصصة للأشياء الغريبة الكثيرة على كوكب المريخ، أو صورًا لأشياءَ يوميةٍ تُشبه الوجوه. ونعرف أن أعيننا تخدعنا من وقتٍ لآخَر.

وما لا نميل كثيرًا إلى الاعتراف به — أو حتى إدراكه — هو أننا عُرضة للأفكار الوهمية بقدْرِ ما نحن عُرضة للأوهام البصرية. فبقدرِ ما نعتقد أن أعيننا نوافذُ صادقة على العالم، نقضي حياتنا ونحن نشعر بالثقة في أن أدمغتنا هي مُعالج بياناتٍ محايد. ومن داخل رءوسنا، تكون أفكارنا ومعتقداتنا على ما يبدو، نتاجَ فهمٍ عادل ودقيق للواقع. غير أننا قد خُدعنا من جديد. فمثلما أن قدرتنا على رؤية العالم تعتمدُ على المعالجة الكثيفة خلف الكواليس والعمل التخمينيِّ المعقَّد، كذلك تعتمد قدرتنا على فهم العالم. وكما هو الحال بالنِّسبة إلى مثلث كانيزا أو قنوات المريخ، ينشأ بعضُ أكثرِ الأوهام الإدراكية إغراءً من البحث الدائم لدى الدماغ عن الأنماط والأشكال.

اقرأ السؤال التاليَ بصوتٍ عالٍ، ولاحظ الإجابة التي تطرأ على ذهنك:

كم عدد الحيوانات التي أخذها النبيُّ موسى معه على ظهر السفينة من كل نوعٍ؟

وفقًا لمجموعةٍ كبيرةٍ من التجارِب، كانت إجابةُ قرابةِ ثمانية من أصل ١٠ «اثنين». هل هذا ما قلتَه؟ استنادًا إلى الحقيقة القائلة بأنك في خِضم القراءة عن الخداع الإدراكي، ربما شككتَ أن ثمَّة خدعةً ما في الأمر. الإجابة الصحيحة هي «صفر»؛ فالنبي نوحٌ وليس النبيَّ موسى هو مَن أخذ معه اثنَين من كل نوع من الحيوانات على السفينة. وبمجرد تحديد الخطأ، يُصبح الأمر واضحًا وضوحَ الشمس. لماذا يُخفق الكثير جدًّا من الناس في ملاحظة الأمر، حتى بالرغم من معرفتهم بقصةِ النبيِّ نوح، وحتى عندما تُتاح لهم فرصة دراسة السؤال لأي مدةٍ يُريدونها؛ والأكثر إدهاشًا من ذلك، حتى عندما يُخبَرون في البداية أن السؤال قد يحتوي خطأً ما؟

يعتمد إدراكُ العالم على استخلاصِ روابطَ وعلاقاتٍ وإيجاد أنماط وأشكال، ويُجري الدماغُ الكثيرَ من البحث تحت مستوى إدراكنا الشعوري. فعندما تقرأ جملة، فإن كل كلمة وفكرة تُنشِّط تلقائيًّا مجموعةً من الأفكار ذاتِ الصلة كحصواتٍ تصنع تموُّجاتٍ على سطح مياه البحيرة. والخدعة تُفلح هنا لأن النبيَّ موسى والنبيَّ نوحًا يجمع بينهما العديدُ من الخصائص ذاتِ الصلة بالسؤال: فكلٌّ منهما كان نبيًّا وردَ ذكره في الإنجيل وكان عجوزًا، جرى تصويره في قصصٍ لعِبَ الماءُ دورًا فيها. وتسقط الحصوات على مقربةٍ من بعضها البعض، لدرجةِ أن نمط التموجات لم يتشوَّش. وأنت لم تُدرك أن ثمَّة شيئًا ما لم يكن صحيحًا؛ لأن دماغك حاول إضفاءَ معنًى على كلامٍ فارغٍ خلف الكواليس. وكانت النتيجة هي كلَّ ما أدركته. فقد قرأت سؤالًا عن النبي موسى، لكن دماغك فسَّره على أنه سؤال عن النبي نوح.

فكِّر في صيغةٍ أخرى للسؤال المطروح: كم عدد كل نوعٍ من الحيوانات أخذه نيكسون معه على ظهر السفينة؟ عندما جرَّب الباحثون السؤالَ بهذه الصيغة، تنبَّه الجميع تقريبًا للخطأ على الفور. فاسمُ نيكسون يُنشِّط مجموعةً من الأفكار (الرؤساء الأمريكيين، عمليات السطو على الفنادق، التبرُّؤ من الاحتيال) تختلف بشدةٍ عن باقي الجملة. فالحصاة الشاردة شوَّشت النمطَ بأكمله. فالدماغ لا يُمكنه بسهولة أن يُضفيَ معنًى على هذا الهُراء؛ ومن ثَم ينتبه إلى المشكلة. وحصاة موسى الموضوعةُ في غيرِ مكانها تنسجم مع النمط بشكلٍ جيدٍ لدرجةٍ تكفي لعدم الانتباه إليها، في حين أن حصاة نيكسون الشاردة، التي تتصرَّف بالطريقة المتوقعة، تؤدي إلى فوضى كبيرة بحيث يسهل التنبُّه إليها.

الرؤية الكاشفة التي قدَّمها السؤال المخادع عن النبيِّ موسى يمتدُّ نطاقها لأبعدَ بكثير من الأسئلة العادية التي تُوضع فيها كلماتٌ خاطئة. فحياتنا الذهنية بأكملها هي تمرينٌ للتعرُّف على الأنماط. فالدماغ يُفرز المعلومات باحثًا عن الأنماط والروابط والمعنى. وعادةً ما تُفلح الاستراتيجية بشكل جيد. فمن السهولة أن نفهم جملة بسيطة، حتى وإن لم نصادف من قبلُ قطُّ هذا الترتيب عينَه من الكلمات. وأحيانًا تُفلح الاستراتيجية بشكلٍ جيد للغاية. فالخلطُ بين النبيَّين نوحٍ وموسى يُمكن أن يمرَّ من غير أن يُلتفَت إليه. وأحيانًا نُجيد بشدةٍ استخلاص الروابط لدرجةِ أن أدمغتنا تجد أنماطًا ذاتَ معنًى تفتقر تمامًا إلى أيِّ معنًى في واقع الأمر.

من المصادفة إلى السبب

يُمكن أن تنطليَ المصادفة الجيدة على أيٍّ منا. فمن الصعب ألا تشعرَ على الأقل بشيء من الانبهار عندما ترى حلمًا عن شيء ويتحقَّق في اليوم التالي، أو عندما تتلقَّى اتصالًا هاتفيًّا غيرَ متوقَّع من شخص، بعد لحظات من ورود اسمه على ذهنك. وبرنامج اكتشاف الأنماط في أدمغتنا يمتاز بحساسيةٍ بالغةٍ إلى حدِّ أنه حتى أكثر المصادفات تفاهةً يمكن أن تبدوَ مذهلة لو حدثَت لك.

في حلقةٍ من البرنامج الإذاعي «هذه الحياة الأمريكية» (ذيس أمريكان لايف) المخصَّص للمصادفات، تروي الصحفية سارة كوينيج قصةً من أيامها الأولى كمراسلة. استضافت كوينيج إستر تاتل، وهي سيدةٌ كانت قد احتفلت لتوِّها بعيدِ ميلادها المائة، واعترفت كوينيج بأنها سألتها سؤالًا عاديًّا للغاية: «ما هو أكثر شيء مذهل حدث في حياتك؟» فكَّرت إستر للحظات، ثم قالت: «أكثر شيء مثيرٍ حدث لي هو أنني عندما كنتُ في اليوم الأول بالمدرسة، قال لي مدير المدرسة، ما اسمك؟ قلت إستر تاتل. قال، لديَّ صديقة في جزيرة شيلتر أيلاند تحمل الاسم نفسه. كنت في الثانية عشرة من العمر … وكان هذا مثيرًا بالنِّسبة لي.» اعترفَت كوينيج أنها شعرت بالإحباط من الإجابة. تقول كوينيج: «هذه المرأة شاهدت ظهور السيارات والسينما وأجهزة الحاسوب والسفر إلى الفضاء، فكيف تكون إجابتُها على هذا النحو؟» غير أن كوينيج قالت إنه يتعيَّن عليها إعادةُ النظر في الأمر، وذلك بعد أن استمعت إلى الكثير جدًّا من المصادفات من المستمعين أثناء الحلقة. وقد اعترفَت قائلة إن المصادفات تظل عالقةً بذهنك، «حتى عندما لا تكون المصادفة مصادفةً على الإطلاق.»

عندما يتعلَّق الأمر برصد الأنماط، فإنَّ القصص التي تدور حول أمثلةٍ غريبةٍ للتزامن هي مجردُ قمة جبل الجليد. فنحن نميل إلى التفكير في المصادفات باعتبارها هذه النوعيةَ من القصص التي تتعلَّق بأحلامٍ نبوئيةٍ أو أسماء عائلات مشتركة، لكن المصادفة تدل، من الناحية الفنية، على شيءٍ يتزامنُ ظاهريًّا مع شيء آخر. ومن هذا المنطلق، فإن المصادفات تحيط بنا من كلِّ جانب. فقد تقول مثلًا شيئًا جارحًا، فتغضب زوجتك. والمزارع قد يضع روث البقر في حقله، وينعم بمحصولٍ وفير. وجَدك ربما كان يُدخن في حياته علبتَي سجائر في اليوم الواحد، ومع ذلك ظلَّ على قيد الحياة ١٠٠ عام. وربما تُعيِّن شركةٌ ما مديرًا تنفيذيًّا جديدًا وترتفع إيراداتها الربع السنوية. وربما يُعيِّن فريقُ كرة قدم مدربًا جديدًا ويقضي موسمًا كرويًّا سيئًا للغاية. ففي أي وقتٍ يبدو أن ثمَّة تزامنًا بين شيءٍ ما وآخَر، سواءٌ كان ذاك الشيء حلمًا غيرَ عادي يتحقق أو شِجارًا عاديًّا حول تعليقٍ يفتقر إلى الحكمة، لا يمكن لأدمغتنا أن تمنعَ نفسها من التنبُّه إليه.

لكن المصادفة في حدِّ ذاتها غيرُ مشبعةٍ إلى حدٍّ كبير، فهي مثل حكةٍ تحتاج إلى خدشِها، أو إقرارٍ ضريبيٍّ غيرِ مكتمل. فأدمغتنا تُريد أن تستكمل الأنماط، ورصد المصادفة ليس سوى مقدمةٍ لتعلُّم شيءٍ مفيد عن العالم. وعندما نرصد رابطًا من نوعٍ ما بين حدَثَين، فإننا بهذا قد نكشف عن دليلٍ عن آليةِ عمل الأشياء. فإذا حدث شيءٌ ما، فالأرجح أن الآخرَ سيحدث؛ فقد تكون العلاقة سببية. فالتعرُّف على العلاقات السببية مسألةٌ مهمة. ومعرفة الأسبابِ والنتائجِ تسمح لنا بالتنبُّؤ بالعالم المحيط بنا والتحكم فيه. والمصادفات مثل مصادفة إستر تاتل تظل بالذاكرة؛ لأنه لا يوجد تفسيرٌ واضح لها. فعندما نعجز عن تفسيرِ شيءٍ ما يبدو مهمًّا، تعلق المصادفة بأذهاننا. وأدمغتُنا تجعل تلك المصادفة تُراودنا باستمرار، ما يجعلها تعلقُ في أذهاننا حتى يكتملَ النمط، حين نفهمُ السبب.

المشكلة هي أن بعض المصادفات ذات معنًى حقيقي؛ لكن البعض الآخر منها لا يحمل كثيرًا من المعنى. والتعليقات غير المراعية للمشاعر كثيرًا ما تُغضب الزوجات، والروث يُغذي المحاصيل بالفعل. غير أنه قد يكون من الخطأ افتراضُ أن السجائر مفيدةٌ لصحتك فقط لأنك تعرف شخصًا يبلغ من العمر ١٠٠ عام ويُفرط في التدخين. وربما كان المدير التنفيذي عبقريًّا وربما كان المدربُ أخرقَ؛ وربما نُسب الفضلُ إليهما أو أُلقي اللوم عليهما لشيءٍ كان سيحدث بصرفِ النظر عن وجودهما. وبرنامج اكتشاف الأنماط الموجودة في أدمغتنا حسَّاس للغاية، لكن ليس بداخله بَرنامَجٌ للتحكُّم في الجودة لإبقائه تحت السيطرة. فمعرفة ما إذا كان شيءٌ ما يُسبِّب شيئًا آخر بالفعل يتطلب إحصائياتٍ وتَجارِب، لكن الطريقة العلمية لا تتيسَّر لنا تلقائيًّا. وقد تطورت أدمغتنا لتفسير الأنماط بسرعة وبحسم، وهو ما يعني التعاملَ مع كل رابطٍ باعتباره ذا معنًى بشكل افتراضي.

تخيَّل أن أحدَ أسلافنا الأوائلِ يسير في الغابة في أحد الأيام عندما يسمع صوتَ خشخشةٍ بين الأشجار، وتتوقَّف كل الطيور في المكان عن الزقزقة. فتفسيرك للأمر بأنه مجرد مصادفة، أو قضاء وقتٍ أطول من اللازم في التفكير في تفسيرات محتملة، يمكن أن يكون خطأً باهظ التكلفة. فربما كان هناك حيوانٌ مفترس بالمكان. وكلما تحسنت قدرة أسلافنا الأوائل على رصدِ الأنماط والاستنباط السريع للأسباب المنطقية، زادت قدرتُهم على البقاء وتمرير جيناتهم التي تميل إلى استنباط الأنماط. وموروثُ أسلافنا الذي انتقل إلينا هو دماغٌ مبرمَج على رؤيةِ المصادفة واستنباط الأسباب.

•••

وفي أغلب الأحيان، يخدمنا فرطُ حساسيتنا للأنماط والأسباب بشكل جيد. فبالاستعانة بشيءٍ يسيرٍ من التمهُّل أو التدبُّر الواعي، نتعلم باستمرارٍ طبيعةَ العالم من حولنا وكيف يعمل، حتى عندما لا نعلم بالضبط سببَ عمله على هذا النحو أو ذاك. تأمَّل العلاقة بين السبب والنتيجة: الضغط على زرٍ والحصول على إجابة. وأنا أسيرُ نحو مكتبة نيويورك العامة من أجلِ استكمال أبحاثي بشأن هذا الكتاب، أمرُّ على زرِّ عبور المشاة. إنه عند ناصية شارع فورتي فيرست وجادة فيفث أفنيو، المواجهَين للأسدين الحجريَّين الكبيرين اللذَين يرقدان في هدوءٍ خارج المكتبة، في وضعيةٍ تسمح للسائحين بالتقاط الصور معهما أيام الإجازات. أضغط على الزر. وبعد مرور لحظات، تتحوَّل الإشارة المرورية في جادَّة فيفث أفنيو من اللون الأخضر إلى اللون الأحمر. تتوقَّف جميع المركبات، وأواصل طريقي. حتى بالرغم من أن الآلية الفعلية لا أعلم عنها شيئًا — سحرٌ غيرُ مرئي من نوعٍ ما يحدث بين الزرِّ والإشارات — لا أهتم باستنباط الارتباط السببي. فأنا أضغط، والإشارة تتحول إلى اللون الأحمر. علاقة سبب ونتيجة.

وكما أوضح مايكل لوا في مقالةٍ نُشرت عام ٢٠٠٤ بصحيفة «نيويورك تايمز»، فإن المشكلة هي أن «المدينة عطَّلت أغلب أزرارِ عبورِ المشاة منذ وقتٍ طويل». فالتحكُّم في المرور بكفاءةٍ في أرجاء مدينةٍ كبيرةٍ مهمةٌ شاقة ومعقَّدة. فحتى يستمرَّ كل شيء في المسير، يجب أن تعمل الإشارات المرورية وفقَ جدولٍ زمنيٍّ مصمَّم بدقةٍ وعناية. فإذا مُنح الناس سُلطةَ تحديد التوقيت الذي تُضيء فيه إشارة المشاة، فإن المشاة غيرَ الصَّبورين مثلي ربما يُفسدون كل شيء. وربما تُشل الحركة في المدينة. ولذا ففي ثمانينيَّات القرن العشرين، تحوَّلت وزارة النقل في هدوءٍ إلى نظامٍ أوتوماتيكي بالكامل، وعُطِّلت كلُّ الأزرار تقريبًا. وقد أُزيل الكثير من الأزرار المعطَّلة خلال التجديدات الإنشائية بمرور السنين. ولكن قرَّر مسئولو المدينة أن التوجُّه إلى كل زرٍّ وإزالته لا يستحق التكلفة. ولذا بقي الكثيرُ منها على حاله، لتُغري كلَّ عابر للطريق غيرَ واعٍ بالضغط عليها، حتى بالرغم من أن إشارة السير تُضيء عند فواصل زمنية ثابتة، سواءٌ ضغط أحدهم على الزر أو لم يضغط.

والأمر نفسُه ينطبق، فيما يبدو، على زر «غلق الأبواب» في المصاعد. كتب نيك باومجارتن في مقالةٍ نُشرت عام ٢٠٠٨ في صحيفة «نيو يوركر»: «في معظم المصاعد، على الأقل في تلك التي بُنيت أو رُكِّبت منذ أوائل التسعينيَّات، لا يعمل زرُّ غلق الأبواب.» واستطرد: «هي موجودة هناك في الأساس لكي تجعلك تعتقد أنها تعمل.» أحد التفسيرات المحتملة يشبه تفسير المشكلة المرورية: حتى تبقى أوقاتُ الانتظار في حدود المعقول، يجب أن تعمل المصاعد في الأبنية المزدحمة كمجموعةٍ متكاملة، بحيث تنقل الناسَ صعودًا ونزولًا في تناغُم. فالناس الذين يُحاولون اختصار زمن رحلتهم بضعَ ثوانٍ يمكن أن يُخِلُّوا بالإيقاع كاملًا؛ ولذا فإن مفتاح غلق الأبواب لا يعمل إلا إذا كنتَ رجلَ إطفاء أو عاملَ صيانة لديه مِفتاحٌ خاص. على الأقل، هذا أحد التفسيرات. وفقًا لتحقيقٍ أجرَته صحيفة «ذا ستريت دوب»، ثمَّة تفسيرٌ آخرُ محتمل وهو أن الزر قد انكسر، أو أنه لم يكن قد رُكِّب من الأساس، ولم يتقدم أحدٌ بشكوى. وعلى أي حال، يعلم المعماريون ومُصمِّمو المصاعد أن حمْل الناس مئاتِ الأقدام صعودًا ونزولًا على عمودٍ مظلِم بداخل صندوق معدِني يتدلَّى من أحد الكبلات يمكن أن يكون أمرًا مقلقًا؛ لا سيما عندما لا يكون لدينا تحكمٌ تقريبًا في العملية. ولذا فهم يتركون زرَّ غلق الأبواب الذي لا يعمل في مكانه كخدعة حسَنة النية؛ زرٌّ تمويهي يوهم الناس بأنهم مسيطرون على الأمر.

وتفلح الحيلة. فنحن نضغط الزر؛ وتنغلق الأبوابُ في نهاية الأمر؛ تُخبرنا أدمغتنا أن الضغط على الزر هو ما يتسبَّب في غلق الأبواب. (وعندما لا تنغلق الأبواب في اللحظة التي نضغط فيها على الزر، نضغط عليها ضغطاتٍ سريعةً متتالية ظنًّا منا عادةً أن ذلك سيُحقق النتيجة المطلوبة.) وإلى أن يخبرنا أحد الأشخاص المتظاهرين بالمعرفة بأن الزرَّ قد لا يعمل، لا يكون لدينا ما يُبرِّر حتى مجرد التفكير في الاحتمالية. الغرض الوحيد من الزر في الحياة هو إغلاق أبواب المصاعد قبلَ الوقت الذي يُفترَض أن تنغلقَ فيه دون الضغط على الزر، ومَن يمكن أن يشكَّ أن مهندسي المصاعد متورِّطون في هذه الخدعة العامة الكبيرة؟ ومع ذلك، إذا لم تكن أدمغتنا قادرةً على رصد الأنماط بهذه السرعة والقفز إلى استنتاجات سببيَّة، لانكشفَت الحيلة من أول مرة يضغط أحد الناس على زرٍّ لا يعمل.

تلك هي الطريقة التي تُولد بها الخرافاتُ التي لا حصرَ لها، بدءًا من الأشياء التي تجلب الحظَّ وصولًا إلى معالجة الداء بالداء. فقد ترتدي جوربَيك الخصوصيَّين من أجل مقابلةٍ لوظيفة، وتحصل على الوظيفة، وتتناول دواءً وهميًّا فيزول البردُ عنك. في كلتا الحالتين، لا علاقةَ للنتيجة التي حدثَت بما فعلتَ، لكن دماغك لا يستطيع أن يمنع نفسَه من ربط الأشياء بعضها ببعض، وافتراض أن هذا الشيءَ أو ذاك هو ما تسبَّب في النتيجة التي حدثت. ويمكن أن يعجزَ المرء عن مقاومة هذا الوهم.

هذا صحيح، وهذا صحيح، ولا صلة بينهما

كتبت سيتفاني ماسنجر تقول: «كأمٍّ شابة، أردتُ مثلَ كلِّ الأمهات أن أبذل قصارى جهدي في العناية بمولودي الجديد.» كانت تُرضع طفلها رضاعةً طبيعية وتحمله لفحوصات طبية منتظمة. وعندما علمت بأنه قد حان الوقتُ لتلقِّيه بعضَ التطعيمات، حرَصَت على التوجُّه به إلى الطبيب في اليومِ ذاتِه. تقول ماسنجر إنه لم يُبلغها أحدٌ في العيادة الطبية بالآثار الجانبية المحتملة أو الاستجابات السلبية، ولم يخطر ببالها أن تسأل عن ذلك.

لقد التقَينا ماسنجر في الفصل الثاني. هي مؤلفة كتاب «حصبة ميلاني المذهلة». عندما لفت كتابُها الأنظارَ، في أعقاب تفشِّي الحصبة في ديزني لاند في نهاية عام ٢٠١٤، أصبحت ماسنجر هدفًا للسخرية والنقد اللاذع. فعلى موقع أمازون دوت كوم، تلقَّى الكتاب مئات التعليقات الساخرة. فقد أعلن المعلِّقون أنهم لا يُصدِّقون أن ثمَّة شخصًا يتردَّد في تطعيم أطفاله. لكن مثل الكثير من الآباء القلقين من التطعيمات، لم تكن ماسنجر تُعارض دائمًا اللقاحات. فقد شكَّلت المأساةُ مخاوفها.

في عام ١٩٩٨، كتبَت ماسنجر مقالةً تصف فيها مولودها الأول كرضيعٍ سعيد قلَّما يبكي؛ إلى أن جرى تطعيمه. وقالت ماسنجر: «لقد ظل يصرخ ويبكي بقيةَ اليوم وقضى ليلته دون أن يغمض له جَفن.» ثم استطردَت قائلةً إنه أخذ يتعافى فيما يبدو بعد ذلك إلى أن تلقَّى جرعات جديدة بعد مُضيِّ أربعة أشهر. وتوضِّح ماسنجر أن طفلها «كان يصرخ بصوتٍ أعلى هذه المرة. أخذْته إلى المنزل، ولم أكن قادرةً على تهدئته على الإطلاق. كنت أُرضعه من ثديي وكان يتقيَّأ على الفور (وهو شيء لم يكن يفعله أبدًا)، وقد استمر في الصراخ.» ووصفت ماسنجر حالته بقولها إنه بدأ في تقويس ظهرِه وأخذت عيناه تدوران في مُقلتَيهما وجسده يرتعش. وبعد شهور من الفحوصات، عجز الأطباء عن تحديد السبب، لكنَّ احتمالات مسار مرَضه لم تكن مبشِّرة على الإطلاق. عادت ماسنجر بولدها إلى البيت «وأخذتُ أراقبه وهو يحتضر أمام ناظري إلى أن فارق الحياة بعد ستة أشهر.»

وقد عجزت عن عدم الربط بين الأمرَين على ما يبدو. تقول ماسنجر: «تبدَّلت حياة ولدي جاسون تمامًا من اليوم الذي تلقَّى فيه التطعيم.» وظلت المصادفة عالقةً في ذهن ماسنجر، بانتظار تفسير. ثم بعد انقضاء أربعة أعوام، كانت تُشاهد بَرنامجًا حواريًّا أمريكيًّا ذا شعبية باسم «ذا فيل دوناهيو شو». كانت حَلْقة ذاك اليوم عن التطعيم. وتذكر ماسنجر أن أحد الضيوف، وهو طبيب أطفال، حذَّر من مخاطر التطعيم، وقال إن الأمر لا يستدعي تلقِّيَ اللقاحات. وقال اختصاصيٌّ في طب أعصاب الأطفال إن أغلب أطباء أعصاب الأطفال يرفضون إعطاءَ أطفالهم التطعيمات. كتبت ماسنجر تقول: «لقد صُعِقت.» كان هذا هو التفسيرَ الذي كانت بانتظاره. وبهذه الطريقة يكون النمط قد اكتمل في النهاية. فالمصادفة أمكنَ تفسيرها. فقد علمت أن اللقاحات هي التي تسبَّبَت في مرض ابنها.

باربرا لو فيشر، ناشطةٌ أخرى بارزة في مجال مناهضة اللقاحات وقد التقَينا بها في الفصل الثاني، كانت لها تجرِبةٌ مشابِهة. لقد اعترفَت نادمةً في مقالةٍ نُشرت عام ٢٠٠٤ في مجلة «ماذرينج» إذ قالت: «وثقتُ دون تشكُّك عندما أخذتُ طفلي الرضيع إلى طبيب الأطفال من أجل تلقِّي جرعات التطعيم في أواخر سبعينيَّات القرن العشرين.» وعندما بلغ ابنها كريس عامَين ونصف العام، أخذته فيشر لتلقِّي تطعيمٍ ثلاثيٍّ روتيني. وكتبت تقول إنه في غضون ساعات من تلقِّي الجرعة، أصبح ولدُها «طفلًا مختلفًا تمامًا.» فعند عودتها إلى المنزل ذاك المساء، لاحظَت أن المنزل كان هادئًا على غيرِ العادة؛ لذا صعدت إلى الطابق العلوي للاطمئنان على كريس. «دلفتُ إلى غرفةِ نومه لأجده جالسًا على كرسيٍّ هزاز يُحملق أمامه مباشرة، كما لو كان عاجزًا عن رؤيتي واقفةً عند باب الغرفة. لقد ابيضَّ وجهه وازرقَّت شفتاه بعض الشيء. وعندما ناديتُه باسمه، رفَّ جفناه، وزاغت عيناه، ومال رأسُه على كتفه.» تقول فيشر إن التغييرات استمرت على مدار الأسابيع التالية. فقد أصبح كريس يجدُ صعوبةً في الانتباه إلى الأشياء، كما أصبح عاجزًا عن تذكُّر الحروف الأبجدية أو الأعداد. «ولَدي الصغير، الذي كان سعيدًا للغاية، لم يَعُد يبتسم.» وفي النهاية، كما تروي فيشر، شُخِّصت حالةُ كريس بأنه «يُعاني تلفًا دماغيًّا طفيفًا، بما يشمل إعاقاتٍ متعددةً في التعلم واضطراب نقص الانتباه.»

بعد مُضي عامٍ ونصف، شاهدَت فيشر «مقامرة اللقاحات»، وهو فيلم وثائقي أشار ضمنيًّا إلى أن مكوِّن السعال الديكي في التطعيم الثلاثي سبَّب تلفًا دماغيًّا لدى مئات الأطفال. وأمكن تفسيرُ المصادفة. فقد كتبَت لاحقًا تقول: «لقد نجا كريس من الاستجابة التي يُصدِرها الجسم عند تلقِّي اللقاح.» وتابعَت: «إنه من بين الجرحى الذين يسيرون على الأرض، والذين يتأثَّر مستقبلهم سلبًا في مرحلة الطفولة عندما يتضح أن مخاطرَ التطعيم نسبتها ١٠٠٪.»

•••

المجتمع الطبي لديه تعبيرٌ يُذكِّر المنتسبين إليه بعدم الخلطِ بين المصادفة والسبب: «هذا صحيح، وهذا صحيح، ولا صلةَ بينهما.» فصحيحٌ أن أعراض اضطرابات النمو مثل التوحُّد كثيرًا ما تصبح واضحةً بين سن عامٍ وعامَين. وصحيح أيضًا أنه إذا كان الآباء يتَّبعون الجدول الزمني الموصى به للتطعيمات، فإنَّ أطفالهم يتلقَّون عددًا كبيرًا من اللقاحات في الوقت ذاتِه. لكن الجزء الأكبر من الأدلة العِلمية يُشير إلى أنه لا يوجد ثَمة ارتباطٌ بين الأمرين. فالرابط ليس سِوى مصادفة في التوقيت. لكن حَدْسنا قلما يتأثر بالإحصائيات، لا سيَّما عندما تُخبرنا بأنه لا معنَى للمصادفة. فحدسنا يُريد الربط بين الأجزاء المتناثرة واستخلاص النتائج.

ووفقًا لدراسةٍ بحثية أُجريت عام ٢٠٠٩، ذكر أكثرُ من نصف الآباء الأمريكيِّين أنهم يخشَون أن تتسبَّب اللقاحات في أعراضٍ سلبية خطيرة. واعتقد ربعُ المشاركين أن بعض اللقاحات يمكن أن يُسبِّب التوحُّد لدى الأطفال الأصحاء. واستنادًا إلى كوننا عُرضةً لأوهام النمط والسبب، ليس من الصعب معرفةُ الأسباب. فالإنترنت مصدرٌ مهم للمعلومات بالنِّسبة إلى الكثير من الآباء، وبضع نقرات بالفأرة يمكن أن تُتيح لنا عددًا لا حصرَ له فيما يبدو من القصص والأخبار، مثل قصة ماسنجر وفيشر، لآباء على قناعةٍ بأنه قد حدث أمام أعيُنهم تحولٌ في الحالة الصحية لطفلهم الذي كان سليمًا في السابق بعد أن تلقَّى اللقاح. وببضعِ نقرات إضافية، يُمكننا أن نُطالع حركةً للآباء والمثقَّفين والخبراء ومجموعة من العلماء الموثوقين على ما يبدو، والذين يقولون جميعًا إن ثَمة ارتباطًا بين تلقِّي الأطفال اللقاح وما أصابهم من ضرر.

ويمكن أن يكون وهمُ السبب قويًّا لدرجةِ أنه يبدو كما لو أنه ينبغي أن يكون بديهيًّا لكلِّ الآخَرين مثلما هو بديهيٌّ بالنِّسبة إليك. ونتيجةً لذلك، يمكن أن يكون مغريًا الاعتقادُ بأن أي شخص يُنكر وجود رابط بين اللقاحات والتوحُّد قد يكون كاذبًا؛ وأن ثمة مؤامرةً لإخفاء الخطر الأكيد للقاحات. في عام ٢٠٠٩، أجْرَت آنا كاتا اختصاصيةُ علم الأنثروبولوجيا الطبي دراسةً بحثية شاملة عن المعلومات الزائفة بخصوص اللقاحات على شبكة الإنترنت. وكانت النتائجُ لافتة. فكل موقعٍ إلكتروني أجْرَت كاتا تحليلًا له كان يزعم بطريقةٍ ما أو بأخرى أنَّ ثَمة مؤامرةً في الأمر. ولم تكن المواقع التي اختارتها مغمورة؛ فجميعُها جاءت في الصفحة الأولى من نتائج البحث التي جرى التوصُّل إليها بكتابة مصطلحاتٍ محايدة على جوجل مثل «اللقاح» و«التطعيم». وتقوم نظريات المؤامرة مقامَ العامل الحفَّاز في جنون الارتياب. ووَفقًا لدراسةٍ أُجريت عام ٢٠١٤، اعتقد خُمس الأمريكيين البالغين — وليس الآباء وحدهم — أن الأطباء والحكومة يتآمَرون لتطعيم الأطفال حتى بالرغم من أنهم يعلمون أن اللقاحات تُسبِّب التوحُّد وغير ذلك من الاضطرابات النفسية. وقال ٣٦٪ غيرهم إنهم ليسوا متأكِّدين من ذلك. واحتدم السِّجال، الذي أشعلَته نظريات المؤامرة وأطلق شرارته، وهمُ السبب.

ليست الحركة المناهضة للَّقاحات فريدةً من حيث كونُها تخلق مؤامرةً من مصادفة. فحتى المصادفات، التي هي أضعفُ مئات المرات من الرابط الوهميِّ بين اللقاحات والتوحُّد، يُنظَر إليها على أنها تنطوي على القدرِ نفسِه من الشرِّ عندما يُنظر إليها بالمنظور المؤامراتي. فسواءٌ كانت تلك المصادفة هجومًا إرهابيًّا يؤدي إلى حربٍ متخبطة، أو علَمًا يرفرف على سطح قمر ليس به هواء، أو فتْحَ مظلةٍ بجانب رئيسٍ تعرَّض للاغتيال، فإن المصادفات هي شريانُ حياة نظريات المؤامرة.

أفضل أصحاب نظريات المؤامرة يبحثون بهِمة عن أشياءَ غريبةٍ يتعذر تفسيرها على ما يبدو لاعتبارها أدلةً على وجود مؤامرة. في الواقع، ربطُ الأجزاء المتناثرة واستخلاصُ النتائج منها هو شعار أصحابِ نظريات المؤامرة. وكمثالٍ على ذلك، تأمَّلْ كتاب ديفيد أيك لعام ٢٠٠٧ المعنوَن «دليل ديفيد أيك للمؤامرة الدولية (وكيف يُمكن إنهاؤها)». درست إيما جين وكريس فلمينج كتاب أيك، وأحصَيا عدد المرات التي ذكر فيها كلمة «ربط» أو مشتقاتها (مرتبط، رابط، روابط وما إلى ذلك). وقد وجَدا سيلًا من تلك الكلمة ومشتقَّاتها؛ فأكثر من ٢٠٠ من صفحات الكتابة البالغة ٦٢٥ ذُكر فيها ربط الأجزاء المتناثرة، وفي كثيرٍ من هذه الصفحات، ذُكرت العبارة أكثرَ من مرة. فمثلًا في الفقرات القليلة الأولى، يقول أيك لقرَّائه: «يمكن رؤيةُ الصورة الكلية فقط عندما يتمُّ الربط بين الأجزاء المتناثرة.» وعندما بدأ أيك مجموعةَ مقاطعِ فيديو على يوتيوب في عام ٢٠١٤، التي أخذ يفحص فيها الصحفَ الأسبوعية باحثًا عن إشاراتٍ تدل على المؤامرة، لا بد أن اختيار العنوان كان سهلًا. فقد أسمى مجموعةَ مقاطعِ الفيديو «ديفيد أيك وربط الأجزاء المتناثرة».

«فقاقيع في الملابسات الظاهرة»

هذا ينقلنا إلى حيث بدأنا: المظلَّة المفتوحة واغتيال الرئيس. ثَمة جزآن يُغريانِنا بإيجاد رابط بين الأمرَين. فقد رصد الكاتب جون أبدايك الإغراء الذي لا يُقاوم لرجل المظلة في عمودٍ بصحيفة «نيو يوركر» عام ١٩٦٧، واصفًا إياه بأنه «غريب ومشئوم على حدٍّ سواء، فهو يتدلَّى في عنق التاريخ مثل تميمة».

وبعد مضيِّ ١٥ عامًا من التكهُّن، حُلَّ اللغز. ففي عام ١٩٧٨، كان مجلس النواب الأمريكي في خضمِّ تحقيقٍ متجدِّد عن اغتيال كينيدي، وقد تولَّت هذا التحقيقَ لجنةُ التحقيق في الاغتيالات التابعة للمجلس. سعيًا إلى تعقُّب رجل المظلة، أفرجَت اللجنة عن صورةٍ للصِّحافة، طالبةً من أي شخص يعرف هذا الرجلَ التواصلَ مع اللجنة. وأخيرًا، بعد إبلاغِ أحدِ أصدقائه عنه سرًّا، كُشِفت هُوية رجل المظلة. فهذا الشخص الغامض الذي حمَل المظلَّة الغريبة، هذا الرجل الذي كان يقف وراءَ اللغز الذي ظل يُراود المهتمِّين بعملية الاغتيال لسنوات، اتضَح أنه مندوبُ مبيعات في مجال التأمين ويُدعى لوي ستيفن ويت.

لم تُراوغ اللجنة. فقد طرح أحد أعضائها سؤالًا مباشرًا على الرجل: «هل المظلة التي كانت بحوزتك في ٢٢ نوفمبر ١٩٦٣ احتوَت على بندقيةٍ أو سلاحٍ من أي نوع؟» أغمض الرجل عينَيه وأحنى رأسه قليلًا، وهزَّها من جانبٍ إلى جانب نافيًا: «لا.» الشيء المدهش أن ويت كان لا يزال يحتفظ بتلك المظلَّة. فقد كانت موضوعةً على المنضدة بجانبه، واعتُبرت حِرزًا من الأحراز تحت رقم ٤٠٥. وقد طُلب من سيدةٍ شابةٍ في اللجنة أن تفتح المظلة من أجل فحْصها. وبينما بدأت تبسطُها باتجاه أعضاء اللجنة الجالسين، علَّق رئيس اللجنة قائلًا: «ربما يتعين عليك التحولُ في هذا الاتجاه بها.» وأومأ بذلك إلى المكان المخصَّص للصِّحافة. وبينما انفجرت القاعة في الضحك، انبسطت المظلةُ بقوة، كما لو كان قد أصابها ريحٌ فجأة. اختتم رئيس اللجنة قائلًا بنبرة إحباط: «أظن أنه لم يكن يوجد سلاحٌ بداخلها.»

لذا إذا لم يكن ويت قد أطلق الرَّصاص على الرئيس، فماذا كانت قصته؟ عند استجوابه، اعترفَ الرجل بأنه كان بالفعل في حديقة ديلي بلازا. كما اعترف أنه كان يحمل مظلةً بالفعل. واعترف أيضًا أنه تصرَّف في حقيقة الأمر بشكلٍ غريب وهو يحملها. وقال إنها كانت في واقع الأمر إشارة؛ ولكنها لم تكن موجَّهةً لأيِّ متآمر. فتصرفه الغريب كان إشارةً منه أراد أن يوصلها إلى الرئيس كينيدي نفسِه.

أخبر ويت اللجنةَ قائلًا: «في محادثةٍ خلال استراحةِ تناول القهوة، ذكَر أحدهم أن المظلة تُثير غضبَ أسرة كينيدي. وبوصفي شخصًا محافظًا، وضعتُه، بدرجةٍ ما أو بأخرى، في المعسكر الليبرالي وكنتُ عازمًا على مناكفته فحسب.» عمل جوزيف كينيدي، والد جون كينيدي، سفيرًا للولايات المتحدة في إنجلترا في الفترة التي سبقت الحرب العالمية الثانية، وقد تعرَّض لانتقادٍ لاذع بسببِ دعمه موقفَ رئيس الوزراء البريطاني نيفيل تشامبرلين المُسترضي لهتلر. وقد لُوحظ أن تشامبرلين اعتاد حمْلَ مظلةٍ سوداء. واتساقًا مع ذلك، أصبحت المظلة رمزًا للاسترضاء، وربما أصبحت شوكةً في حلق أسرة كينيدي. ولم يكن أيٌّ من هذا يعني ويت؛ فقد قال إنه ليس لديه أيُّ مشاعر مناوئة للاسترضاء أو حتى سياسات كينيدي ذاتها. كل ما هنالك أنه تصادفَ أنه كان يحمل مظلةً سوداء، وتصادف مرور كينيدي في المدينة. لم تكن هناك مؤامرة، كلُّ ما في الأمر مناكفة قائمة على نَزْوة.

لو كان هناك درس يُمكننا استفادته من قصةِ رجلِ المظلة، فهو أن الحقيقة تكون أحيانًا أغربَ من أي شيء يمكننا تخيُّلُه. فرغبتنا الراسخة اليائسة في تفسيرِ ما يتعذر تفسيرُه يمكن أن تجعلَنا نضلُّ الطريق ونتخبطُ في منعطفاتٍ مظلمة. وقد تساءل أبدايك: «ما إذا كان أي تدقيق مشابه لأي جزء ضئيل جدًّا من الزمان والمكان قد يتمخَّض عن شيء غريب مشابِه؛ فجوات، صور من عدم الاتساق، التواءات، وفقاقيعُ في الملابسات الظاهرة.» بالطريقة التي تُفسح بها قوانينُ الفيزياء العادية المجالَ أمام الغرابة الكمِّية تحت مجهرٍ قوي بما فيه الكفاية. وقد كتب يقول: «الحقيقة المتعلقة بتلك الثواني في دالاس مراوِغة بشدَّة.» واستطرد: «البحث عنها يُظهِر، فيما يبدو، إلى أيِّ مدًى أصبح المذهبُ التجريبيُّ على مقربة شديدة وخطيرة من السِّحر.»

إن قدرتنا على رؤيةِ معنًى في شيءٍ فوضوي، هي بحقٍّ نوعٌ من السحر. بدءًا من التوصُّل إلى مضاهاةٍ ملائمة وصولًا إلى ابتكارِ تقنياتٍ جديدة تُغيِّر وجه الحياة، يعتمد التفكير الإبداعي على رصد الروابط. وهذا هو الركيزة الأساسية للعلم أيضًا. فالتعلم عن الواقع هو تدريبٌ على إيجادِ أنماطٍ في البيانات، وفرزها لمعرفةِ الحقيقيِّ منها والعشوائي. والدماغ الذي يميل إلى رؤيةِ المعنى لا العشوائية أحدُ أهم موجوداتنا. والضريبة التي ندفعها هي الربط في بعض الأحيان بين الأجزاء المتناثرة التي لا صلة بينها في واقع الأمر.

من جانبه، زعم ويت أنه لم يكن لديه أدنى فكرة أن «مناكفته البسيطة» جعلته شخصيةً بارزةً في الكثير من نظريات المؤامرة. ومن الواضح أنه لم يكن يشعر بالارتياح إزاءَ هذا الاهتمام، وأنه نادم بطبيعة الحال على مناكفةِ كينيدي في اللحظة التي تصادف أن قُتل فيها وسطَ الناس. قال ويت منتحبًا: «أعتقد لو أن موسوعةَ جينيس للأرقام القياسية كان لديها قائمةٌ بأسماء الأشخاص الذين يظهرون في المكانِ الخطأ في الوقت الخطأ ويفعلون الشيءَ الخطأ، لكنتُ متصدرًا هذه القائمة، دون أن يقترب حتى من مرتبتي أيُّ منافس آخر.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤