الفصل التاسع

المفتشون في النوايا

بينما كانت رحلةُ الخطوط الجوية الماليزية رقم ٣٧٠ تُغادر الأجواء الماليزية في الساعات الأولى من فجر ٨ مارس ٢٠١٤، تمنَّى طيَّاروها بهدوء ليلةً هانئة للعاملين في المراقبة الجوية في كوالالمبور؛ وهو إجراء معتاد لتسجيل الخروج اللاسلكي. كانت الطائرة قد غادرت مطار كوالالمبور الدولي قبل ذلك ﺑ ٤٠ دقيقة، متوجهةً إلى العاصمة الصينية بكين. لكن الرحلة إم إتش ٣٧٠ لم تصل قط إلى وجهتها. فقد اختفَت الطائرة وعلى متنها ٢٢٧ راكبًا وطاقمها المكوَّن من ١٢ فردًا. وعلى مدار أيامٍ، غطَّت القنوات الإخبارية الخبر على مدار ٢٤ ساعة دون توقُّف. ومع ذلك، أنا أكتب الآن بعد مرورِ عامٍ على اختفاء الطائرة، ولم يُعثر على أثرٍ للطائرة أو مَن كان على متنها من الركاب إلى الآن.

لكن لماذا ندَع قلةَ الحقائق تقف حجرَ عثرةٍ في طريق اختلاق قصة جيدة؟ في غضون ساعات، انتشرت نظرياتُ المؤامرة حول مصير الطائرة انتشار النار في الهشيم. هل يمكن أن يكون الجيش قد أطلق عليها نيرانه، أو اختطفها العملاء الحكوميون؟ هل كانت الطائرة تحمل على متنها شحنةً سريةً ما تستحقُّ بسببها أن يتم إسقاطها؟ هل هبطت الطائرة في موقعٍ سريٍّ ما؟ هل أُخذ الركاب كرهائن، أم كانوا يُشاركون في إعلانٍ ترويجي غريب لبرنامجٍ سيعرضه تليفزيون الواقع؟ هل اختطفتها كائناتٌ فضائية؟ وبدلًا من نقل الحقائق المهمة، أصبح انتشارُ نظريات المؤامرة قصةً في حد ذاته. فأكثر من ٥٠٠ أمريكي أجرت شبكة «سي إن إن» استطلاعًا للرأي معهم بعد انقضاء شهرَين من اختفاء الطائرة، اعتقدوا أن الطائرة قد اختُطفت على الأرجح بواسطةِ عملاءَ سريِّين بأمرٍ من حكومةٍ أجنبية معادية. واعتقد واحدٌ من كل ١٠ مشاركين أنه من المرجَّح أن يكون الجناة «كائنات فضائية أو مسافرين عبر الزمن، أو مخلوقات من بُعد آخر.» وحتى رئيس الوزراء الماليزي الأسبق، مهاتير محمد، ألمح إلى أن وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية ربما تعرف مكان اختفاء الطائرة المفقودة. فقد كتب يقول: «الطائرات لا تختفي بهذه السهولة.»

لكن إم اتش ٣٧٠ لم تكن الطائرةَ الأولى التي تختفي في ظروفٍ غامضة. ففي ٢ يوليو ١٩٣٧، غادرت أميليا إيرهارت مدينة لاي في غينيا الجديدة؛ وذلك في طائرتها لوكهيد إلكترا ذات المحركين التوءمين. كانت إيرهارت رائدةً في مجال الملاحة الجوية، وواحدة من أكثر النساء استحواذًا على الإعجاب في أمريكا. وقبل هذا التاريخ بخمس سنوات، كانت إيرهارت قد أصبحت أول سيدة تقود طائرة منفردة عبر المحيط الأطلسي. في ذلك الوقت، كانت إيرهارت وملَّاحُها فرِد نونان قد قطعا بالطائرة ثلثي الطريق في رحلةٍ مرهقة حول العالم. وكانت المحطة التالية جزيرة هاولاند، وهي جزيرة صغيرة وسط المحيط الهادئ، يزيد طولها قليلًا على الميل، ويقلُّ عرضها عن نصف ميل، وتبعد بمسافة ٢٥٠٠ ميل. وكان ثمَّة قاربٌ من قوارب خفَر السواحل الأمريكية يقف بالموقع لتوجيه اقتراب إيرهارت بواسطة جهاز اللاسلكي، لكن الاتصال كان مشوشًا. وفي نهاية الأمر، سمِع المشغِّلون اللاسلكيون صوتَ إيرهارت: «لا بد أننا فوقكم، لكننا لا نستطيع رؤيتكم. لكن الوقود كاد ينفَد. لا يُمكننا الوصول إليكم بواسطة اللاسلكي. نحن نطير على ارتفاع ١٠٠٠ قدم.» لقد ضلَّت إيرهارت الطريق، وانخفض مستوى الوقود بالطائرة، ولم يكن هناك سبيلٌ لمساعدتها. وبعد مرتين أو ثلاثٍ من الإرسال العديمِ الجدوى، ساد الصمت. وانطلقت مهمةٌ بحثية ذاتُ نطاق غير مسبوق. وعلى مدار أيام، نقلت الصحف دون توقُّف كلَّ دليل مثير وإحباط ساحق. وبعد مرور ما يقرب من ثمانية عقود، لم يُعثر على أي دليل حاسم على إيرهارت أو نونان أو الطائرة.

غير أنه على مدار السنين، طُرحت مجموعةٌ من نظريات المؤامرة. هل من الوارد أن يكون الطياران الجَسوران عميلين حكوميين سرِّيين، فُتحت النيران على طائرتهما بينما كانا يتجسَّسان على اليابانيِّين في المحيط الهادئ؟ هل اتُّخذت ترتيبات مسبقة لتحطيم الطائرة بما يسمح للجيش الأمريكي بجمع معلومات استخباراتية عن اليابان أثناء مهمة الإنقاذ؟ هل تظاهرت إيرهارت ونونان بأنهما قد قُتلا وعادا إلى الولايات المتحدة سرًّا؟ هل اختطفتهما كائناتٌ فضائية؟ في استطلاعٍ للرأي أُجري عام ٢٠١٢، قال ثلاثة من أصل ١٠ لندنيين إنهم يعتقدون أن تحطُّمًا عرضيًّا في البحر هو التفسير الأرجح وفق تقديرهم؛ لكنَّ دعمَ نظريات المؤامرة كان كبيرًا. فالإجابة الثانية الأكثرُ شيوعًا التي أيَّدها ١٤٪ من المشاركين في الاستطلاع، كانت النظريةَ القائلة بأن إيرهارت ونونان قد أُعدما بواسطة الجيش الياباني؛ وأما الإجابة الثالثة فكانت الفكرة القائلة بأن الطيارَين ادَّعَيا الموت وانتحلا هُويتَين جديدتين.

كثيرًا ما تكون نظريات المؤامرة لصيقةً بكوارث الملاحة الجوية، حتى عندما يكون هناك حُطامٌ موضعَ فحصٍ وتحقيق. ففي ١٠ أبريل ٢٠١٠، تحطَّمت طائرة نفَّاثة تابعة للقوات الجوية البولندية عند محاولتها الهبوطَ وسطَ ضبابٍ كثيف في مطار سمولينسك الشمالي في روسيا. وقد لقي جميعُ الأشخاص الستةِ والتسعين الذين كانوا على متنها مصرَعهم. وكان من بين القتلى الرئيس البولندي ليخ كاتشينسكي وزوجته ماريا ورؤساء أركان الجيش والقوات الجوية والقوات البحرية؛ ورئيس بنك بولندا الوطني؛ ومجموعةٌ أخرى من المسئولين الحكوميين والشخصيات العامة. وكان الوفد متوجهًا إلى سمولينسك لحضورِ مراسمِ إحياءِ ذكرى مجزرة كاتين التي وقعت عام ١٩٤٠، التي أعدَمَت فيها الشرطة السرية السوفييتية ٢٢ ألفَ أسيرٍ بولندي من أسرى الحرب. عزَت التقاريرُ الرسمية الحادثَ إلى سوء الأحوال الجوية وخطأِ الطيار. لكن نظريات المؤامرة حول حادث تحطُّم الطائرة انتشرت في أرجاء بولندا؛ إذ زعم أصحابها أن التحطُّم لم يكن مجردَ صدفة، ولكنه كان عمليةَ اغتيال سياسي دبَّرها الروس.

وفي الولايات المتحدة، تحطَّمت رحلةُ «يونايتد إيرلاينز» رقم ٥٥٣ في ٨ ديسمبر ١٩٧٢، عندما هبط الطيارُ بسرعةٍ بالغة عند اقترابه من مطار شيكاغو ميدواي الدولي. وانطلقت نظرياتُ المؤامرة التي تشير إلى أن الطائرة قد أُسقِطت عمدًا، وذلك عند اكتشافِ حقيقةِ أن دوروثي هانت، زوجة إي هوارد هانت، أحد المتورطين في فضيحة ووترجيت، كانت من بين الركاب الذين قُتلوا على متن الطائرة. وانفجرت رحلة «ترانس وورلد إيرلاينز» رقم ٨٠٠ فوق جزيرة لونج أيلاند بعد ١٢ دقيقة من إقلاعها من مطار كينيدي الدولي في نيويورك في ١٧ يوليو ١٩٩٦. وقد جرى تحقيقٌ استمرَّ أربع سنوات بواسطةِ لجنةِ سلامةِ النقل الوطني، وتمخَّض التحقيقُ عن خللٍ ميكانيكي أدَّى إلى انفجارها، لكن نظريات المؤامرة زعمَت أن الطائرة قد أُسقطت، وقد راجت تلك النظريات. وفي عام ٢٠١٣، تقدَّمت مجموعةٌ بالتماسٍ إلى لجنة سلامة النقل الوطني لإعادة النظر في احتمالية المؤامرة؛ لكن اللجنة فنَّدَت الأدلة ورفضت إعادة فتح التحقيقات.

إلى أن يُكتشَف المزيد من الأدلة، من المستحيل القولُ ما إذا كان اختفاء الطائرة إم اتش ٣٧٠، كان بسبب خطأٍ أو خللٍ أو مؤامرة. وبالنِّسبة إلى الكوارث الأخرى، تُشير جميع الشواهد إلى أنها كانت حوادثَ مأساوية. ومع ذلك، كلما تحطَّمَت أو انفجرت أو اختفَت طائرة، تبِع ذلك انطلاقُ نظريات المؤامرة. فلماذا عندما نُواجه أحداثًا مزعجة أو يكتنفها الغموض، يكون من المغري للغاية أن نعتقد أن ثَمة شخصًا أو جِهةً ما تقف وراءها؟ لمعرفة الإجابة، نحن بحاجة إلى استكشاف إحدى أكثرِ قدراتِ الدماغ إذهالًا.

قراءة العقول

أنت تملك قوةً خارقة: يمكنك أن تقرأ ما يدور بالعقول. لكن قبل أن تغترَّ بنفسِك كثيرًا، أودُّ أن أُشير إلى أنني أيضًا قارئٌ للعقول، وهكذا الحال بالنِّسبة لكل مَن تعرفهم. لا أقصد أننا نسمع حرفيًّا ما يدور بأذهان الآخرين من أفكارٍ على طريقةِ ميل جيبسون في فيلم «وات ويمين وونت» (ما تريده النساء). فهذا سيكون أمرًا مروعًا. نحن أقربُ ما يكون إلى شيرلوك هولمز؛ نحن محقِّقون بارعون، لدينا دافعٌ فطري قوي لا يهدأ يحثُّنا باستمرار على محاولة استنتاج ما يُفكِّر فيه الآخرون. دعني أوضح لك الأمر:

هل ترى تلك الفتاةَ الصغيرة؟ تعرف ما تفكِّر فيه، أليس كذلك؟ إنها غاضبةٌ من شيءٍ ما. بل يُمكنك أيضًا أن تتنبأ بما ستفعله بعد ذلك؛ فالأرجح أنها ستقول كلماتٍ غاضبة وتخبط بقدمَيها على الأرض في استياء. في كتابه «التفكير السريع والبطيء»، يُقدم دانييل كانيمان هذه الصورةَ كمثال لمدى سعينا الدائم لاستكشاف الأفكار التي تدور في عقول الآخرين. فحتى بالرغم من أنه لا يتوفَّر لديك سوى صورةٍ صغيرةٍ باللونَين الأبيض والأسود لوجهِ شخصٍ غريب، تَعرف بالغريزة تقريبًا ما يدور في عقل هذا الشخص، بل وتتنبَّأ بسلوكه المستقبلي. والأكثر من ذلك، أن الأمر لا يتطلب منك جهدًا على الإطلاق. فدماغك يقرأ تلقائيًّا الحالةَ الذهنية لهذه الفتاة؛ استنادًا إلى تعبيراتها ولغتها الجسدية. يقول كانيمان إن الأمرَ يُشبه شيئًا قد حدث لك أكثرَ من كونه شيئًا يتعيَّن عليك التفكيرُ فيه. فأنت ترى أنها غاضبةٌ دون جهدٍ منك مثلما ترى أن شعرها داكنُ اللون.

لكن بقدْر ما تُعَد ملَكةُ قراءة العقول شيئًا جيدًا، كثيرًا ما نُخطئ في استخدامها. فحَدْسنا قد يخدعنا ويُضللنا. فأحيانًا لا نكون مثلَ شيرلوك هولمز، بل نصبح أكثرَ شبهًا بالمفتش كلوسو الذي يفتقر إلى البراعة. ولكي نفهمَ علاقةَ قراءة العقول بتصديق نظريات المؤامرة، نحن بحاجةٍ إلى أن نفهم آليةَ عمل قوَّتنا الخارقة هذه، والأهم من ذلك، الكيفية التي يمكن أن تُخطئ بها تلك المَلَكة.

رادهاراني/شاترستوك دوت كوم.

فلنبدأ بالأساسيات. تعتمد قدرتُنا على قراءةِ العقول على مجموعةِ أدواتٍ معرفية يُطلق عليها علماء النفس (بطريقةٍ غيرِ منمقة إلى حدٍّ ما) «نظرية العقل». فنظرية عقلك هي التي تُخبرك بأن الرجل الجالس بجوارك في الحافلة ليس مجردَ روبوتٍ خاملِ التفكير. فرأسه مليءٌ بالمعتقدات والأفكار والرغبات والمشاعر والمعرفة والقدرات والميول. باختصار، هو لديه عقل، مثلك تمامًا. كما تُخبرك نظريةُ عقلك بأن ما يشعر به ويُصدِّقه ويريده قد يكون مختلفًا عن الأشياء التي تشعر بها وتُصدِّقها وتريدها، وأنه قد يكون مفيدًا إذا استطعتَ فهْم ما يدور بعقله.

الجزء الخادع في الأمر هو أننا لا نستطيع أن نرى ما يدور برأس شخصٍ آخَر. فمن جانبٍ، هناك شعرٌ كثيفٌ يغطي رأسه. ونحن لا نرى سوى أفعاله ولا نسمع سوى ما يقول. وهنا يأتي دورُ ما نتمتَّع به من قُوًى استدلالية. فلكي نفهمَ ما يدفع شخصًا ما لأن يقولَ أو يفعل شيئًا ما، يجب أن نبحث الأمرَ عكسيًّا بدءًا من الفعل الذي استرعى انتباهنا (أو علمنا به) وصولًا إلى الأفكارِ والرغبات التي قد يتصرَّف هذا الشخص بناءً عليها.

هذا التفكير العكسي تُعالجه أداةٌ حاسمة ضمن مجموعةِ أدوات نظريات عقولنا. ولْنُطلق على هذه الأداة مِكشافَ النوايا. يُخبرنا مِكشاف النوايا ما إذا كان شيءٌ ما متعمَّدًا (هل قصده شخصٌ ما؟) ويُخمِّن ماذا كانت نيتُه بالضبط (لماذا أقدم على هذا الفعل؟). تلك هي الكيفية التي نستطيع بها سَبْر أغوار رءوس الآخرين. فالنوايا قنطرةٌ حاسمة بين الأفعال التي يمكن أن نراها والأفكارِ غيرِ المرئية التي قد تُمثل الدافع وراء تلك الأفعال. فمثلًا ترى سوزي الصغيرة تقطِّب حاجبَيها وتزمُّ شفتَيها، ويُخبرك مكشاف النوايا الخاص بك، كما السحر، بأنها في حالةٍ مزاجيةٍ سيئة.

•••

قد لا يبدو هذا إلى الآن قوةً خارقة. فبطبيعة الحال، لدى الآخرين عقولٌ، وبطبيعة الحال يُمكننا أن نستنتجَ ما يفكِّر فيه شخصٌ ما من خلال الطريقة التي يتصرَّف بها. إنها مهارةٌ طبيعية لدينا، ومن السهل أن نراها شيئًا عاديًّا مسلَّمًا به. لكن تخيَّل ما سيحدث إذا استطعتُ أن أتحكمَ في دماغك وأُطفئَ مكشافَ النوايا الخاصَّ بك. سيصير العالَم على نحوٍ مفاجئ مكانًا غريبًا للغاية.

دعني أقُل إنني أطفأتُ مكشافَ النوايا لديك في وقتٍ كنتَ تُشاهد فيه مصادفةً فيلمًا وثائقيًّا عن يومٍ في حياة طبيبة. فأولًا تراها وهي تغرز إبرًا في أذرعِ أطفالٍ رضَّعٍ يبكون. ثم تُمسك بمشرطٍ وتقطع شريحةً من جسدِ شخصٍ ما في مشهد غريب. وبعد ذلك، تُطلق أشعة على جسد شخصٍ آخر. واستكمالًا ليومها، تقضي بضع ساعات في إعطاء نصائحَ وعقاقير للناس. تقول دير بالدوين وجودي بيرد إنه بدون فهمِ النوايا، ربما يصبح مستحيلًا فهمُ الروتين اليومي للطبيبة. فليس لديك أيُّ فكرة عن وجودِ غرضٍ ما من الشيء الذي تفعله. وكل فعل من أفعالها قد يبدو مختلفًا عن فعلها الآخر مثلما يختلف غَسلُ أسنانك بالفرشاة عن قيادتك السيارة. وعلى كل الأحوال، قد يبدو الأمر أشبهَ بيوميات شخصٍ معتلٍّ اجتماعيًّا لديه مدى انتباهٍ قصير. لكن بمجرد أن أعيد تشغيل مِكشاف النوايا لديك، يُصبح لكل شيء معنًى من جديد؛ فتفهم أن الروتين اليومي للطبيب هو نِتاج نية واحدة هي معالجة المرضى.

لنأخذ مثالًا آخر، وهذه المرة من الأدب (فمكشاف النوايا يُساعدنا على الدخول إلى عقول الشخصيات الخيالية مثل الشخصيات الواقعية). هبْ أنني أوقفتُ تشغيل مكشافك وأعطيتك نسخةً من مسرحية «روميو وجولييت». وفي إحدى اللحظات ينتحب روميو على روزالين، وفي اللحظة التالية، يهمس بكلامٍ غرامي معسول في آذان جولييت عند نافذةِ غرفةِ نومها. وبعد مضيِّ عدة أيام، يطعن ابن عمِّها ويفر هاربًا. في تلك الأثناء، تتناول جولييت دواءً مهدئًا قويًّا (وربما أضيف أنها حصلت عليه من رجلٍ غيرِ مؤهل لممارسة الطب) وتنام، ثم تُوضع في قَبْو العائلة. ويظهر روميو ويتناول على الفور بعضَ السم، ثم تسترد جولييت وعيها لا لشيءٍ سوى لأن تطعن نفسها في القلب. إنها واحدة من أشهرِ القصصِ وأكثرِها إثارةً على مستوى العالم، لكن دون تشغيل مكشاف النوايا، يبدو الأمر غيرَ مفهوم. فلكي تفهم القصة والمأساة، أنت بحاجةٍ إلى أن تدرك أن الأفعال المختلفة للشخصيات كانت مدفوعةً بالنوايا — النوايا الحسنة (مثل الحب الحقيقي) والنوايا الخبيثة (مثل العداء الدموي بين العائلات) والنوايا التي تُحبَط أو يُساء فهمها (مثل خطة التظاهر بموت جولييت التي أخفقَت على نحوٍ مأساوي).

إن النوايا هي السرُّ الذي يُمكِّننا من فهم الدوافع المحركة لأفعال البشر. وبدون مكشاف النوايا، لا يكون أمامنا طريقةٌ لفهم سلوك الآخرين أو التنبُّؤ به. فحتى أبسط التفاعلات الاجتماعية قد تكون مستحيلة. ولن يكون هناك لغوٌ أو إغراء أو مفارقة أو هجاء، أو محاضرات أو مجموعات دراسة، أو اجتماعاتُ لجان أو أعمال أو سياسة، أو رياضة أو فن أو أدب أو عروض واقعية. فإذا ما عجزنا عن فَهْم نوايا الآخرين، لن يكون هناك مجتمع على الإطلاق.

«الدائرةُ تدخل المستطيل»

بإيجاز، النوايا مهمة للغاية بالنِّسبة إلينا؛ لذا فإن مكشاف النوايا لدينا جيدٌ في اكتشافها. أقصد أنه جيدٌ بحق. في واقع الأمر، يتبيَّن أنه جيدٌ للغاية.

بالعودة إلى عام ١٩٤٣، أعدَّ فريتس هايدر وتلميذته ماريان زيمل تجرِبةً أصبحت واحدةً من أكثرِ التجارِب تأثيرًا في علم النفس. قد اقتاد العالِمان المشاركِين في التجرِبة كلًّا على حدةً إلى غرفة مظلمة، وأجلَساهم أمام شاشة، وعرَضا عليهم فيلمًا صامتًا قصيرًا باللونَين الأبيض والأسود، لا تَزيد مدته كثيرًا عن دقيقة. وعندما تم تشغيل جهاز العرض، رأى بعضُ المشاركين ثلاثةً من الأطفال المشاغبين يَثِبون في أرجاء الملعب، بحيث كان اثنان منهم يَغيظان طفلًا ثالثًا أو طفلٌ متنمرٌ يعتدي على طفلَين أصغرَ منه. ورأى أحد المشاركين أمًّا تعنِّف طفلَيها لعودتهما متأخِّرَين إلى المنزل. ورأى آخرُ قصةً من قصص الحوريات عن ساحرةٍ تُحاول الإيقاعَ بطفلين بريئين في حبائلها الخبيثة. وشاهد مشاركون آخرون دراما أكثرَ قتامة، يُمارس فيها أبٌ معتدٍ عنفًا ضد زوجته وطفله الصغير، أو يتصرف فيها الزوج المخدوع بعنفٍ ضد زوجته وعشيقها الجديد.

إليك الخدعة: شاهد الجميع الفيلمَ نفسَه بالضبط. في واقع الأمر، الفيلم بأكمله أظهر ثلاثةَ أشكال بسيطة — مستطيل كبير ومثلث صغير ودائرة صغيرة — تتنقل على الشاشة سريعًا، دخولًا أو خروجًا من مستطيلٍ ثابتٍ أكبرَ حجمًا به جزءٌ يُفتح ويُغلق مثل الباب. ومثلما كان الحال مع مثلث كانيزا الوهمي الذي تعرَّضنا له في الفصل السابق، لم يكن للمتنمرين والأمهاتِ والساحرات والعاشقين وجودٌ سِوى في أذهان المشاهدين.

تُبيِّن هذه التجِربة الكلاسيكية إلى أيِّ مدًى يتوقُ مكشاف النوايا إلى ترجمةِ الأفعال إلى نوايا. مُشارِكةٌ واحدة فقط ممن شاركوا في التجرِبة هي مَن استطاعت تفسير الفيلم على أنه مجرد ثلاثة مضلَّعات تتحرك بعشوائية في أرجاء مستوًى ثنائيِّ الأبعاد، ليس أكثر. لقد وصفت الفيلم بعبارات مجردة تمامًا: «يظهر مثلثٌ كبير وهو يدخل مستطيلًا … ثم يظهر مثلثٌ آخرُ أصغرُ حجمًا وتظهر دائرةٌ في المشهد. تدخل الدائرة المستطيل … ويتحرك الاثنان حركةً دائرية، ثم تخرج الدائرةُ من الفتحة وتلتحم بالمثلث الأصغرِ حجمًا الذي كان يتحرك خارج المستطيل.» وهكذا. لم يرَ الآخرون غيرها ثلاثة أشكال فحَسب، وإنما رأوا ثلاث شخصيات، تتفاعل بعضها مع بعض، ليُعبِّر كلٌّ منها عن شخصيته ودوافعه وحاجاته ورغباته الفريدة. يُمكنك أن تجد فيديو هايدر-زيمل على شبكة الإنترنت. شاهِدْه بنفسك. الأرجح أنك سترى قصة.

لا أقصد أن أقول إننا نُخطئ حينما نرى الأشكالَ الصغيرة تؤدي أدوارًا في قصة. فبرغم كل شيء، حركات الأشكال ليست عشوائية؛ فقد صُمِّمت بعناية. ويصف هايدر وزيمل المشهدَ بأنه قصةٌ بشرية في بِنْيتها، أكملَتها المطاردات والمشاحنات وذروة النهاية. الفكرة أن مكشاف النوايا يبحث دومًا عن دلائلَ للنوايا في العالمِ المحيط بنا. فهو يحاول أن يستخدم أبسط الإيحاءات لحركةٍ متعمَّدةٍ في استخلاص الدافع وراءها. قلت إن قدرتنا على قراءة العقول قدرةٌ خارقة؛ حسنًا، والقوة الكبيرة تستوجب مسئوليةً كبيرة. لكن هايدر وزيمل يوضِّحان أن مكشاف النوايا لا يتمتع كثيرًا بضبط النفس. فقد ينحرف، مستحضرًا شخصياتٍ ودوافعَ وأبطالًا وأشرارًا حتى عندما نُشاهد فيلمًا متحركًا بسيطًا يشتمل على مثلثَين ودائرة يتحرَّكون حول مستطيل.

ليس هناك من شيء يحدث مصادفة

في واقع الأمر، يبدو أن مكشاف النوايا يتَّبع سياسةَ «صوِّبْ نحو الهدف أولًا، ثم اطرح أسئلةً بعد ذلك.» فهو يفترض أن كلَّ شيء يحدث في العالم يحدث لأن شخصًا ما أراده أن يحدث.

يُطلق علماءُ النفس على هذا السلوكِ تحيُّزَ القصد أو النية. ومن السهل أن ترصده لدى الأطفال. فإذا ما سألت طفلًا يبلغ من العمر أربع سنوات عن سببِ تثاؤبِ شخصٍ ما أو عطسه أو تعثُّره في كلبٍ، فسيُجيبك قائلًا إنه أراد ذلك. فحتى سنِّ الرابعة أو الخامسة يختلق الأطفال أحيانًا نوايا لأفعالهم اللاإرادية، مثل مُنعكَس الرَّضَفة؛ إذ يزعمون أنهم خطَّطوا لتحريك ساقهم بعد طرْق الطبيب على ركبتهم بمطرقةٍ صغيرة. بل إن التحيُّز يمتدُّ ليتجاوزَ الأشياء التي يفعلها الناس. فالأطفال يرَون أن العالم الطبيعي لديه غرضٌ ما كامن يُشبه النوايا التي لدى البشر. فهم ينزَعون إلى الاعتقاد بأن الشمس تُشرق لأنها تحب أن تُمدنا بالدفء وأن القمر يتبعهم أينما ساروا، وأن الصخور المدبَّبة تشكَّلَت على هذا النحو حتى تتمكنَ الحيوانات من حك أجسادها بها. باختصار، يعتاد الأطفال الصغار على الخلطِ بين المصادفات والأفعال اللاإرادية وبين الأفعال المتعمَّدة.

بطبيعة الحال، أنت أفضلُ معرفةً منهم ولا تقول إن أشياءَ من هذا النوع متعمَّدة. فأنت على درايةٍ جيدة بأن الناس لا يتثاءبون أو يعطسون عادةً لأنهم يُريدون ذلك؛ فالتثاؤب والعطس ينتجان عن أفعالٍ منعكسة لا إرادية. وتعلم أن الناس الذين يتعثَّرون ويسقطون لا يفعلون ذلك عادةً من أجل الضحك؛ فنحن لسنا دائمًا بالرشاقة التي نودها، وتحكمنا قوانينُ الجاذبية. وبالتأكيد أنت لا تعتقد أن الشمس معنيَّةٌ بشدةٍ براحتك، أو أن الصخور موضوعة هناك ليسهل على حيوانات الأبوسوم حكُّ أجسادها؛ فأنت تعلم أنه من غير المنطقي أن تسأل عن سبب وجود الصخور أو أن تقول إن الأشياء غيرَ الحية لديها نوايا.

أم أنك تسأل؟ وفقًا لعالِمة النفس إفيلين روسيت، نحن لا نتجاوز أبدًا تحيُّزَ النيةِ أو القصدِ الذي عايشناه في طفولتنا. فعندما نُقرِّر أن شيئًا ما غيرُ متعمَّد أو غيرُ مقصود، ليس ذلك لأن مكشاف النوايا يلزم الصمت أو أنه يُخبرنا بأن ذاك الشيء ليس متعمَّدًا أو مقصودًا. فحتى مكشاف النوايا لدى الكبار يبدو أنه يرى كلَّ شيء متعمَّدًا. ولا نرى شيئًا ما مجردَ مصادفةٍ إلا عندما نَكبح جماحَ مكشاف النوايا؛ وذلك برفض حُكْمه الافتراضي والاستعاضة عنه بقرارٍ أكثرَ عقلانية.

يجد الأطفالُ صعوبةً في إعادة النظر فيما يُخبرهم به مكشاف النوايا؛ نظرًا إلى أنهم لا يعرفون هذا القدْر الكبير الذي تعرفه أنت عن أشياءَ مثل الفيزياء ودقائقِ السلوك البشري. فهم لا يدرون شيئًا عن الطبيعة البيولوجية للأفعال المنعكسة مثل العطس، وكذلك عن القُوى التي تُشكِّل الصخور وتحكم مدارات الأجرام السماوية. ومع نموِّهم، يجمعون معرفةً وخبراتٍ وتجاربَ عن هذه الأنواع من الأسباب غير المتعمَّدة. فيتعيَّن عليهم تعلُّم هذه الأشياء. وعلى الجانب الآخر، فإن مِكشافَ النوايا شديدَ الحماس مُثبَّتٌ بشكلٍ مسبق. فالأبحاث التي أُجريت على الأطفال تُشير إلى أنه يصبح جاهزًا للعمل خلال الأشهر القليلة الأولى من العمر. فعندما نكون صغارًا، يخبرنا مكشاف النوايا بأن أشياءَ ما مقصودة، وحيث إننا لا نعرف شيئًا أفضل، فإننا نُصدِّقه. ومع تقدُّمِنا في العمر، يظل مكشاف النوايا مفرطًا في نشاطه، كلُّ ما هنالك أننا نُصبح أفضلَ في إعادة النظر فيما يُخبرنا به. فعندما تجد شخصًا يتعثَّر ويسقط على الأرض، تعرف أن هذه مصادفة، لكن جزءًا من دماغك لا يزال يهمس قائلًا: «لقد تعمَّد فعل ذلك.»

لقد اكتشفَت روسيت وزملاؤها أنه ليس من الصعب إماطةُ اللِّثام عن مكشاف النوايا بداخلنا نحن الكبار. ففي إحدى الدراسات، وجدت أن كلَّ ما يتطلَّبه الأمر هو بِضع جرعات من الشراب: فقد احتسى المشاركون في الدراسة شرابًا كحوليًّا يُعادل ستَّ جرعات من الفودكا، على وجه التحديد. هبْ أنك في مشربٍ مزدحِمٍ واصطدم شخصٌ ما بك، لينسكبَ النبيذ على قميصك المفضَّل. وفقًا للنتائج التي توصَّلت إليها روسيت، تتوقَّف ردةُ فعلك على مدى تأخُّر الوقت ليلًا. فإذا كنتَ في أول كأس لك، ولا تزال واعيًا وقادرًا على الحكم على الأمور، فالأرجح أنك ستعتبر ما حدث مجردَ مصادفة. لكن كلما زاد احتساؤك للشراب المُسكِر، زادت احتمالية أن تظن أن هذا الشخص أراد الشِّجارَ معك. في الأيام الخوالي، ربما كنتَ حتى لتدعوَ هذا المعتدي للمبارَزة عند بزوغ الفجر. وفقًا لإريك ياجر، مؤلف كتاب «المبارزة الأخيرة»، فإن «مئات المبارزات في القرن الثامن عشرَ الذي شاع فيه احتساءُ الكحوليات بكثرة كان سببها مشاجراتٍ داخل المشرب في وقتٍ كان فيه السُّكْر حالةً معتادة بالنِّسبة إلى الكثيرين.» بل إن آداب المبارزة قدَّمت امتيازاتٍ حتى للأشخاص الذين يتناولون الكحوليات المشوِّشة للعقل. فوفقًا لدليل مبارزة في الغرب الأمريكي القديم، «السُّكر لا يُبرِّر الإهانة بشكلٍ تامٍّ، ولكنه يُخفِّف من وطأتها.»

والكحول ليس الشيءَ الوحيد الذي يُبرِّر استنباطنا المُلتبس للنوايا. ففي دراسةٍ أخرى، سألت روسيت أشخاصًا بالِغين متزنين تمامًا أسئلةً حول ما إذا كانت «الشمس تُشع حرارةً كي تنعمَ الكائناتُ الحية بالدفء» وما إذا كان «تنوُّع طيور البرقش يهدف إلى بقائها على قيد الحياة.» وبعد ذلك طلبت من مجموعةٍ مختلفة من المشاركين الإجابةَ عن الأسئلة ذاتها بسرعة، بحيث يُفكرون في الإجابة عن كل سؤال ثلاث ثوانٍ فقط. وتحت الضغط، أصبح المشاركون أكثرَ ميلًا إلى أن يقولوا إن التفسيراتِ العمديةَ للظواهر الطبيعية صحيحة. وقد توصَّلت دراسةٌ أخرى إلى أنه حتى أساتذة العلوم في الجامعات التي تجمعها رابطةُ اللبلاب «آيفي ليج»؛ وهم آخر الأشخاص الذين قد تتوقَّع منهم التفكيرَ في العالم بأنه مُصمَّم لأغراض متعمَّدة؛ يميلون إلى هذه النوعية من التفسيرات عندما يكونون تحت ضغط.

وترى روسيت أن النتائج تُظهِر أن إصدارَ حكمٍ بأن شيئًا ما متعمَّدٌ أمرٌ عَفْوي ولا يحتاج إلى جهد. لكن كبح جماح هذا الحكم، يحتاج إلى جهدٍ ذهني. وعندما يُفسد الكحول قدرتنا على التفكير الواعي، أو عندما لا يُتاح لنا الوقتُ الكافي للتفكير، فالأرجح أننا ننزَعُ إلى الحكم الافتراضي الذي يُمليه علينا مكشاف النوايا وهو أن كل شيء متعمَّد. وحتى عندما نكون متَّزنين وغيرَ مشوَّشي الذهن، لا يكون لدينا دائمًا الميل إلى التشكك في حَدْسنا أو القدرة على ذلك. ونتيجةً لهذا، يمكن أن ننساقَ وراء كل أنواع التفسيرات المُلتبسة والمتمحورة حول القصد أو التعمُّد. تأمَّل هذا العدد الهائل من الأشخاص الذين يؤمنون بالأشباح والآلهة والملائكة والكائنات الفضائية، أو لديهم ميلٌ غامض إلى أن الكون وضع خطَّةً لكل شخص. تقول جيسي بيرينج، عالمة النفس المتخصِّصة في الدين، إنه حتى الأشخاص الذين لا يؤمنون بإلهٍ لا يستطيعون أن يمنَعوا أنفسهم من التساؤل عن معنى الحياة أو المقصَد من الخلق. «ذاك هاجسٌ لا يستطيع العِلم إسكاتَه فيما يبدو.»

وحتى إذا لم تكن من بين أيٍّ من هؤلاء، فإنني أراهنُ أنك في مرحلةٍ ما من حياتك، وجدتَ نفسك تتوسَّل إلى جمادٍ أو تسبُّه كما لو أنه طفلٌ يُسيء التصرفَ وأنه سوف يُحسن التصرف إذا أخبرته إلى أيِّ مدًى كم أنت مستاء. فقط فكِّر في مرةٍ لم تبدأ سيارتُك في العمل، أو توقَّف حاسوبك عن العمل لسببٍ غيرِ واضح، أو رفض هاتفك الذكي الاستجابة. صحيحٌ أنك تعلم أنه مجرد آلة، لكنك تعجز عن منع نفسك من التعامل معه كما لو كان له عقلٌ مستقل خاص به — «لماذا تفعل هذا؟!» — حتى وإن كان ذلك في نوبةِ غضبٍ لحظية.

عندما يحدث شيء نعجز عن تفسيره على الفور، فإننا نركنُ في كثيرٍ من الأحيان إلى مكشاف النوايا مفرِط النشاط. فنحن لا نستطيع أن نمنعَ أنفسنا من التفكير في أن شخصًا ما (أو شيئًا ما) تعمَّد حدوثه. وهذا يجرُّنا إلى نظريات المؤامرة.

شخصٌ ما يتحكم في الأمر

حسنًا، كِدْنا نعود إلى نظريات المؤامرة. لكن أولًا، أريد منك أن تقرأ جملتَين. كل جملةٍ منهما تصف شيئًا يحدث، لكنها لا تخوض في الكثير من التفاصيل. أريدُ منك أن تتخيَّل المشهدَ بأكبرِ قدرٍ ممكنٍ من التفاصيل؛ ماذا يحدث، ومَن المتورط، وما الذي ربما يكون قد أدَّى إلى ذلك، وما النتيجة؟
هي رَكلَت الكلب.
فجَّر الصبيُّ البالون.

ما الذي ورَد على ذهنك عندما قرأت «هي رَكلَت الكلب»؟ هل تخيلتَ شيئًا من قبيلِ امرأةٍ مشوَّشة تعثرَت في الكلب «روفر» لأنها لم ترَه راقدًا أسفل السلم؟ أم فكَّرت في أنها كانت تجري لتأخرِها وركَلَته متعمِّدة بعيدًا عن طريقها؟ وماذا عن البالون المُتفجر؛ ربما تخيلتَ طفلًا مثارًا يحمل البالون قريبًا جدًّا من شمعة عيد ميلادٍ وينخرط في البكاء عند انفجارها، أو ربما تخيلتَ صبيًّا أكبرَ سنًّا يدسُّ دبوسًا في البالون وفي عينيه نظرةٌ شريرة. التفاصيل لا تهم. الشيء المهمُّ أن هناك طريقتَين يمكن أن تُفسَّر بهما كل جملة: فقد تقول إن شيئًا ما حدث عمدًا، أو إن شيئًا ما حدث مصادفةً.

وهذا يقودنا إلى نظريات المؤامرة. فهاتان الجملتان في حد ذاتهما لا علاقة لهما بالمؤامرات (ما لم تظن مصادفةً أن الصبي لم يكن يعمل منفردًا عندما فجَّر البالون؛ ربما كان هناك صبيٌّ ثانٍ على التلة المعشَوشِبة). غير أنه وفقًا للأبحاث التي أجريتها بالتعاون مع عالم النفس كريس فرنش، فإن الطريقة التي تُفسر بها جملًا حسَنة النية عن كلابٍ سيئة الحظ أو بالونات تفجَّرت تتنبَّأ إلى أي مدًى أنت على استعداد للاقتناع بنظريات المؤامرة.

طلبنا من أشخاصٍ قراءة ١٢ جملةً غامضة، على غِرار الجملتَين اللتين قرأتَهما للتو، وسألناهم عما ورَد بأذهانهم. لكنَّ كلَّ ما كان يشغَل اهتمامنا في واقع الأمر هو ما إذا كانوا يرون أن كل جملة من تلك الجمل تُعبِّر عن تعمُّد أو مصادفة. بعد ذلك سألنا كلَّ واحدٍ منهم عما إذا كان العالَم يُديره مجموعةٌ شريرة من المتآمرين. وعندما حسَبنا عدد الجمل التي فسَّرها كلُّ شخص على أنها تُعبِّر عن تعمُّدٍ أو مصادفة وقارنَّا ذلك العدد بالكيفية التي قيَّموا بها نظريات المؤامرة، اتضح أن ثَمة علاقةً بين العددين. فكلما زاد عدد الجمل التي فسَّرها الشخص على أنها تُعبر عن تعمُّد، زاد ميله إلى الاقتناع بنظريات المؤامرة.

وقد كشفَت دراسة أخرى علاقةً مثيرة للدهشةِ على نحوٍ مشابه. هل تذكر فيديو الرسوم المتحركة لهايدر وزيمل الذي عرض مثلثين ودائرة؟ أعاده فريقٌ من علماء النفس تحت قيادة كارين دوجلاس إلى الواجهة من جديد، ونشَروه على شبكة الإنترنت، وطلبوا من أكثرَ من ٥٠٠ شخص أن يُراقبوا الأشكالَ الصغيرة وهي ترقص في أنحاء شاشة الكمبيوتر. وبدلًا من أن تطلب دوجلاس وفريقها من جميع المشاركين أن يحْكُوا بالتفصيل ما الذي تخيَّلوه عن تلك الأشكال، طلبوا منهم أن يُقيِّموا إلى أي مدًى يعتقدون أن الأشكال شخصياتٌ واعية وذات هدفٍ وذلك على مقياسٍ بسيط. ثم بعد ذلك سألت دوجلاس المشاهدين إلى أيِّ مدًى هم يؤمنون بنظريات المؤامرة. وقد وجدت من جديدٍ علاقةً بين العددين؛ فكلما زاد اعتقاد الشخص بأن الأشكال شخصياتٌ تُفكر وتشعر وتُدرك، زاد اعتقادهم بأن الأميرة ديانا قُتلت عمدًا، وأن أحداث الحادي عشر من سبتمبر تمَّت بتدبيرٍ داخلي.

وتوحي هذه النتائجُ بأن نظريات المؤامرة تدين بجزءٍ من جاذبيتها إلى الطريقة التي تنسجم بها مع مكشاف النوايا مفرِط النشاط لدينا. تذكَّر أننا، وفقًا لأبحاث إفيلين روسيت، نرى افتراضيًّا كلَّ شيء متعمَّدًا. لكن بعض الناس أفضلُ من البعض الآخر في كبح جماح ردة فعلهم الداخلية. هذا الاستعداد المسبق — التحيُّز إما إلى الوثوق بمكشاف النوايا أو عدم الوثوق به — يصبغ رؤيتَك للعالم بأكمله. ويبدو أن مكشاف النوايا لا يرصد كثيرَ اختلافٍ بين بالون ينفجر ومثلثٍ يرقص ومزاعمَ حول مجموعة من المتآمرين السريِّين. فالأشخاص الذين يعتادون على التشكك في حدسهم يميلون إلى استنتاج تفسيراتٍ أكثرَ تمركزًا حول المصادفة للجمل الغامضة، وتقييم أشكال هايدر-زيمل على أنها ليست منطويةً على هدف خفي، والنظر إلى مزاعمِ المؤامرة على أنها أقلُّ معقوليةً نسبيًّا. أما الأشخاصُ الذين يُصغون إلى مكشاف النوايا، فإنهم يسيرون في الاتجاه المعاكس. فبالنِّسبة إليهم، الأشكال حيةٌ والبالون جرى تفجيره والمتآمرون السريون حقيقيون.

ولِفَهم أسباب هذه الجاذبية الكبيرة لنظريات المؤامرة، نحن بحاجةٍ إلى مقارنتها بالتفسيرات البديلة من منظور مكشاف النوايا. تخيَّل أنك تستخدم ميزانًا عتيقًا ذا كِفتَين للمقارنة بين نظريةِ مؤامرة من جهة، وروايةٍ رسمية من جهة أخرى. أحيانًا، تَشغل النوايا حيزًا كبيرًا من كفَّة نظرية المؤامرة. فحادث تحطُّم سيارة الأميرة ديانا الذي لقيت حتفَها فيه دُبِّر بأمرٍ من النظام الملكي الوضيع؛ وألفيس تظاهر بموته للهروب من ضغوط الشهرة؛ وأُسقطت طائرة أميليا إيرهارت عمدًا؛ لأنها كانت جاسوسة. ومن جهة أخرى، وفقًا للروايات الرسمية، كلُّ هذه الأحداث لم تكن مقصودة في الأساس. وبالمقارنة بين البدائل، من السهل أن ندرك لماذا يخبرنا حَدسُنا بأن نظرية المؤامرة أكثرُ معقولية. فنظرية المؤامرة تنسجم مع ما قد أخبرنا به مكشاف النوايا بالفعل، في حينِ أن تصديق الرواية الرسمية يتطلب إلغاء الحكم الذي أصدره مكشاف النوايا.

غير أن الرواية الرسمية تنطوي أحيانًا على نوايا ودوافعَ في آنٍ واحد. لنأخذ هجمات الحادي عشر من سبتمبر كمثالٍ. في إحدى كفتَي الميزان الرواية الرسمية: مختطفون منتمون إلى تنظيم القاعدة نفَّذوا نواياهم بنجاحٍ وحطَّموا بالطائرات العديدَ من معالم الولايات المتحدة. وفي الكفة الأخرى من الميزان نظرية المؤامرة: متآمرون سريُّون داخل الحكومة الأمريكية سمَحوا بالهجمات أو ارتكبوها بأنفسهم. هنا، كلتا كفتَي الميزان تحتوي على بعض النوايا؛ لكن ليس لمجرد أن كِلا التفسيرَين يُقدِّم نوايا، فإن ذلك يعني بالضرورة أن كفتَي الميزان متوازنتان. فنحن بحاجةٍ إلى التفكيرِ لتحديدِ أيُّ قصة تنطوي على نوايا أكثر.

عندما تقول الرواية الرسمية إن أعضاء ينتمون إلى تنظيم القاعدة دبَّروا الهجمات، فإن ذلك يعني ضمنيًّا أن الوكالات الحكومية العملاقة، التي تُمول بمبالغَ طائلة، والمعنية باكتشاف التهديدات الإرهابية ومنعها أُخذت على حينِ غِرة؛ فمن الواضح أنه لم يكن في نيتهم بشكل صريح أن تحدث الهجمات. وعلى النقيض، تُقدِّم نظرية المؤامرة عددًا لا حصر له من النوايا. فالهجوم على المباني لم يكن متعمَّدًا فحسب، بل إن الحكومة كانت ضالعةً في المكيدة بأكملها، جنبًا إلى جنبٍ مع عددٍ لا متناهٍ من الأتباع ووكلاء نشر المعلومات المغلوطة الذين يُشكلون جزءًا من عملية التستر. وبمجردِ أن نضيف هذه النِّية الإضافية لكفة المؤامرة، لا يكون هناك مجال للمقارنة. فمن منظور مكشاف النوايا، ترجح كفة نظرية المؤامرة على كفة الرواية الرسمية في كل مرة.

هل تفكِّر فيما أفكِّر فيه؟

قد يُفسِّر مكشاف النوايا مفرط النشاطِ جانبًا من جاذبية نظريات المؤامرة، لكنه لا يَحكي القصة كاملةً. فبرغم كل شيء، مجردُ افتراضِ أن شيئًا ما كان مقصودًا لا يعني أنك ستقتنع بالضرورة بنظريةِ مؤامرة. فعندما تختفي طائرةٌ أو تنتهي حياةُ أميرةٍ عشقها الناسُ نهايةً مأساوية، ربما تُفكر في أنه كان مدبرًا بطرقٍ شتَّى. فربما تُفكر حتى أن شبحًا أو إلهًا ساخطًا يقف وراءه. وربما تُفكِّر في أن شخصًا مخبولًا منعزلًا أو كائناتٍ فضائيةً متداخلةَ الأبعاد هي مَن دبَّرت المكيدة. ويظل السؤال قائمًا: ما الذي يجعل بعض الناس لا يَقبلون فحَسْب فكرةَ أن شيئًا ما كان متعمَّدًا، ولكن يُصدِّقون بوجود مؤامرة وراءه أيضًا؟ للإجابة عن هذا السؤال، نحن بحاجةٍ إلى أن ننظر إلى أداةٍ أخرى في مجموعة أدوات نظرية العقل: الإسقاط.

الآن، عندما تسمع عالِم نفسٍ يتحدث عن الإسقاط، ربما يَرِد إلى ذهنك صورةٌ لسيجموند فرويد، وهو يتَّكئ بحسمٍ على رف المدفأة، مُمسكًا السيجارَ بين إصبَعَيه، ومخبرًا إياك بأن عقلك الباطن يُئوي تلك الدوافع المخجلة بحيث لا يدعك حتى تَسبُرَ أغوارها؛ وعوضًا عن ذلك، يَعْزوها إلى شخصٍ آخر، كما لو كان ذاك الشخص هو المخطئ. اعتبر فرويد الإسقاطَ آليةً دفاعية، تحميك من إدراكِ حقيقةِ ما أنت عليه من دناءة. لكن مثل الكثير من جوانب نظرية التحليل النفسي لفرويد، يتضحُ أن فكرةَ الإسقاط هذه ليست دقيقة. فعلماء النفس يفهمون الآن أن الإسقاط لا يتعلق بمحاولةِ إنكارِ دافعٍ ما غيرِ مقبول اجتماعيًّا. وإنما يتعلق بمحاولةِ فهمِ عالمٍ غامض، ونحن نفعل ذلك طيلةَ الوقت.

فنحن نستخدم الإسقاط لأن فَهْم ما يُفكر فيه الناس بناءً على أفعالهم وحدها قد يكون أمرًا خادعًا. ففي كثير من الأحيان، لا يتوفَّر لدينا الكثيرُ من الدلائل التي يُمكننا الاعتمادُ عليها. وحتى عندما نعرف بالضبط ما فعله شخصٌ ما، يبقى الأمر غامضًا إلى حدٍّ محبط. تخيَّل أنك ترى رجلَين يسيران في الشارع، وأحدهما يدفع الآخر. إنك تعرف على الفور أن هذا الدفعَ مقصود، لكن قد يكون من المستحيل أن تُخمِّن ما إذا كان ذلك مجردَ مزاح أم اعتداءً. وبقدْر ما يتمتَّع به مكشاف النوايا من حماس، فإننا لا نستطيع دومًا، اعتمادًا على ذلك وحده، أن نطَّلع على ما يدور برأسِ شخصٍ آخر. لذا فإن أدمغتنا تتخذ نهجًا عَمليًّا أكثر. فبدلًا من الانشغالِ بتفسيراتٍ ممكنةٍ لأفعالِ شخصٍ ما، نضع أنفسنا — ذهنيًّا — مكان هذا الشخص ونُجيب عن سؤال أسهل: فيما كنتُ سأفكر لو كنتُ مكانه؟

ليست هذه مجردَ حيلةٍ كسولة؛ فالإسقاط هو حجَر الزاوية في نظرية العقل. ففي كل مرة ترى فيها شخصًا ما يفعل شيئًا، يُجري دماغك محاكاةً سريعةً بشكلٍ أو بآخر؛ بحيث تلعب في تلك المحاكاة دورَ البطولة. فرؤيتك مثلًا لشخصٍ يرفع كوبًا من الماء إلى فمه، تعمل على تنشيط الخلايا العصبية ذاتها في دماغك التي كانت ستنشط إذا أخذت أنت كوبًا من الماء ورفعته إلى فمك. هذه المحاكاة الخفية تُساعدك في فهم ما قد تكون عليه نواياك ورغباتُك في خضمِّ ذلك الموقف، وهو ما يمكن أن تستخدمه في تخمينِ ما قد يدور في عقل الشخص الذي تُراقبه. وفي هذه الحالة، قد تخمِّن أن هذا الشخص يشعر بالعطش ويُخطِّط للحصول على رشفةِ ماء (في مقابل قضمِ الكوب، أو تحطيمه على رأسه)؛ لأن ذلك هو عينُ ما كنت ستُخطط له على الأرجح.

الإسقاط أداةٌ لا يُمكن الاستغناء عنها بين مجموعةِ أدوات نظرية العقل. فمثلما أن مكشاف النوايا مفرِطَ الحماس لدينا يمكن أن يقودنا إلى أحكامٍ مُلتبِسة، فإن الإسقاط يمكن أن يُشوِّش رؤيتنا للعالم من حولنا. فنحن نميل إلى التغاضي عن اختلافاتٍ محتملة لا حصر لها بين أنفسنا والأشخاص الذين نُحاول قراءة ما يدور بعقولهم. ونتيجةً لذلك، تستحضر أدمغتنا شيئًا يُطلِق عليه علماء النفس «الإجماع الكاذب»؛ وهو توهُّم أن أغلب الناس المحيطين بنا يُفكِّرون فيما نفكِّر فيه على الأرجح.

قدَّم عالِما النفس دانييل كاتس وفلويد ألبورت واحدةً من أُولى العروض التوضيحية لتأثير الإجماع الكاذب في عام ١٩٣١. فقد لاحظا أن الطلاب الذين اعترَفوا بأنهم قد غشُّوا في الامتحانات، مالوا إلى افتراض أن قاعات الدرس بالكلية تعجُّ بالأوغاد الغشاشين، في حين أن الطلاب الذين لم يغشوا في الامتحانات خمَّنوا أن أغلب زملائهم ملتزمون أخلاقيًّا مثلهم. ومنذ ذلك الحين، كشفت الدراسات أننا نتخيَّل إجماعًا كاذبًا لكل شيء تقريبًا. فإذا اعتبرت نفسَك شخصًا انبساطيًّا، فالأرجحُ أنك ستظن أن هناك انبساطيِّين في هذا العالم أكثرَ مما يعتقد شخصٌ يعتبر نفسه انطوائيًّا. والشيء نفسه ينطبق إذا ما كنت تدعم تمويلًا فيدراليًّا لارتياد الفضاء، أو تفضِّل الخبز الأسمر على الخبز الأبيض، أو تتبرع بالدم بشكل روتيني، أو تُجري الكثير من المكالمات الهاتفية مع أشخاصٍ في أماكنَ بعيدة. وعندما تشعر بالبرد، تعتقد أن الآخرين متضايقون من البرد كذلك، وعندما تشعر بالعطش، تعتقد أن العطش أصاب الآخرين أيضًا. وفي دراسة مبدعة للغاية، حاول الباحثون إقناعَ الطلاب بأن يسيروا في أرجاء الحرم الجامعي وهم يحملون لوحةً إعلانية ضخمة مكتوبًا عليها شعارٌ يقول: «تناول طعامك في مطعم جو» (وفي دراسة أخرى، كان الشعار نصيحةً تقول: «تُبْ»). وقد خمَّن الأشخاص الذين على استعدادٍ لحمل اللوحة الإعلانية أن أغلب الآخرين سيكونون على استعدادٍ لحملها مثلهم؛ وأما الذين رفضوا فقد تنبَّئوا بأن أغلب الآخرين سيرفضون مثلهم. وأيًّا كان الموضوع، فإننا جميعًا نميل إلى أن نرى تفضيلاتنا وزلاتنا الشخصية مألوفةً نسبيًّا.

وهذا يقودنا من جديدٍ إلى نظريات المؤامرة.

متآمرٌ بالمثل

دعونا نفترضْ أننا في ستينيَّات القرن العشرين. وهب أنك تعمل لصالح وكالة الفضاء الأمريكية ناسا. والحرب الباردة في أوْجِها، وسباق الفضاء وصل إلى ذروته، وقد كُلِّفتَ بمهمة إيصال البشر إلى سطح القمر قبل السوفييت. في كلمةٍ مثيرةٍ ألقاها الرئيس كينيدي عام ١٩٦٢، أدلى بتصريح شهير قال فيه إن الولايات المتحدة ستُرسل إنسانًا إلى سطح القمر قبل انتهاء عقدٍ من الزمان، ليس لأن هذا أمرٌ سهل، ولكن لأنه أمرٌ صعب. لكن لنفرض أنه تبيَّنَ أن إيصالَ البشر إلى سطح القمر وإعادتهم سالمين أمرٌ صعبٌ بحقٍّ. فالأمر سيستغرق سنواتٍ. فالسوفييت قد أطلَقوا بالفعل أول قمر صناعي في الفضاء، وأعقب ذلك وصولُ أول رائد فضاء منهم إلى سطح القمر. وهكذا، هم بالتأكيد سيَسبقوننا إلى القمر. وفي الوقت الذي تُفقَد فيه كل الآمال، تأتي أوامرُ جديدة. هم يقولون إننا سنختلق هبوطًا زائفًا على سطح القمر. فقد حجزنا بالفعل غرفةً عازلة للصوت ودفعنا ثمنَ صخورٍ قمرية زائفة. ووافق كوبريك على الإخراج. ولا أحد سيعلم بالحقيقة أبدًا.

هل كنتَ ستشارك في المؤامرة؟

هذا هو السؤال الذي طرحه عالِما النفس كارين دوجلاس وروبي ساتون على طلابٍ جامعيين لا يعلمون بأن تلك كانت تجرِبةً بحثية: هل رأيت نفسك في موضعِ المتآمرين المزعومين، هل زيَّفتَ الهبوط على سطح القمر؟ وإضافة إلى ذلك، سأل الباحثان الطلابَ عما إذا كانوا قد قتَلوا الأميرة ديانا أو شنوا هجماتِ الحادي عشر من سبتمبر أو تستَّروا على وجود كائنات فضائية، أو صنعوا فيروس نقص المناعة البشرية المكتسب المسبِّبَ للإيدز، أو زيفوا بيانات عن تغيُّر المناخ. الشيء المطمئنُ أن أغلبهم قال إن ذلك لن يُراودهم حتى في منامهم. وعلى مقياسٍ يتراوح من واحد إلى سبعة (الرقم واحد يعني «أبدًا تحت أي ظروف»، والرقم سبعة يعني «نعم على الأرجح»)، كان الردُّ الأكثرُ شيوعًا هو اثنين. (بطبيعة الحال، بعض الأشخاص قد يقولون إنهم لن يفعَلوا ذلك لمجرد أنهم لا يُريدون أن يظهروا أشرارًا، لكن الاستبيانات لم تتطلب أسماءً للمشاركين؛ ومِن ثم لم يكن هناك ما يدعو أيًّا منهم إلى الكذب.) لكن كان هناك شيءٌ يثير الاهتمامَ بشأن الأشخاص الذين اعترَفوا بأنهم منفتحون على فكرة التآمر. فكلما زاد زعمُ أحدهم بأنه تآمريٌّ، زادت احتماليةُ تصديقه أن نظريات المؤامرة صحيحة.

وفقًا لدوجلاس وساتون، تكشف نتائجهم الإسقاطَ بشكل عملي. فإيجادُ دليل حاسم على صحة نظريةٍ ما، مثل اعتراف المتآمرين المزعومين أنفسِهم، أمرٌ صعب. فنحن مجبرون على البحث عن أدلةٍ أخرى، وأحد الأشياء التي يُمكن أن نفعلها بسهولةٍ هو أن تُحاكي عقولُنا عقولَ الجناة المزعومين عن طريق الإسقاط. وللحكم على الذنبِ المرجَّح الذي اقترفه متآمرٌ مشتبَه به، نبحث بداخل أنفسنا. ومِثل الغشاشين الذين اعتقَدوا أن أغلب الناس يغشُّون، يبدو أن الأشخاص الذين يتخيَّلون أنفسهم على استعدادٍ للتآمر يرَون المتآمرين في كلِّ ما يُحيط بهم. فإذا كنتَ تعتقد أن العالَم مليءٌ بمتآمرين لا يزالون في مرحلةِ التَّشكُّل، فالأرجح أن المتهَمين بالتآمر قد أتمُّوا تلك المرحلة بنجاح في واقع الأمر.

لكن تجدر الإشارة إلى أننا نتعامل مع استعدادٍ معترَف به ذاتيًّا للتآمر. لكن نتائج دوجلاس وساتون لا تعني أنه إذا كان الأمر بِرُمَّته مرهونًا بذلك، فكل صاحب نظرية مؤامرة شخصٌ سيكوباتيٌّ متآمر. لعلك تتذكَّر ما أشرنا إليه في الفصل الثاني عندما قلنا إن أكثر المؤامراتيِّين إخلاصًا لتوجههم يقولون في أغلب الأحيان إن العنف ضدَّ الحكومة شكلٌ مقبولٌ من أشكال الاحتجاج، لكن القلةَ القليلة جدًّا هم الذين يسلكون هذا النهجَ على أرضِ الواقع. وبالرغم من ذلك، هناك بعضُ الأمثلة التاريخية اللافتة لأصحاب نظريات مؤامرة سلَكوا نهج متآمريهم الوهميِّين وقلدوا من آنٍ لآخرَ أفعالَهم.

فقد تأسَّست مثلًا جماعة «كو كلوكس كلان» على اشتباهٍ في خططٍ سرية بين أعدائها. وبحلول عشرينيَّات القرن العشرين، أصبحت «كو كلوكس كلان» جماعةً مناهضة للكاثوليكية بقدرِ ما كانت عنصريةً. فقد كان المنتمون إليها يخشَون أن يكون لدى البابا خططٌ لإعلان الحرب على البروتستانتيين، والاستحواذِ على الحكومة الفيدرالية ونقلِ الفاتيكان إلى ولاية إنديانا. وقيل إن الكاثوليك كانوا يجمعون الأسلحةَ في كنائسهم التي بُنيت أبراجُها عاليةً كي تمنحَ رؤيةً أفضلَ للقناصة. بل إنه انطلقت شائعةٌ تقول إن ترسانة المدفعية الثقيلة والمتفجرات كانت مخبوءةً في منظومةِ الصرف الصحي أسفلَ جامعة نوتر دام. ولكن، كما أوضح ريتشارد هوفستاتر، أصبحَت جماعة «كو كلوكس كلان» على نحوٍ متزايدٍ مسخًا لعدوِّها، «إلى حد ارتداء أثواب كهنوتية، وابتكارِ طقوس منمقة، وتدرُّج هرمي منمَّق بالمثل.» ويوضح دانييل بايبس أنه نظرًا إلى مخاوف جماعة «كو كلوكس كلان» بشأن المكائد السرِّية للكاثوليك، من المفارقة أن «الجماعة لم تُعارض فحسب قرارًا يُدين الجمعيات السِّرية في المؤتمر الوطني للحزب الديمقراطي [عام ١٩٢٤] بل استخدمت طرقًا مؤامراتية لإفشال القرار.»

وقد أشار الفيلسوف كارل بوبر إلى أنه عندما يجدُ أصحاب نظريات المؤامرة أنفسَهم في مواقعِ سلطة، فإن أفعالهم غالبًا ما تكون مؤامراتية. وكمثالٍ على ذلك، اشتُهر عن ريتشارد نيكسون بأنه كان يُعاني جنونَ الارتياب. فخلال وجوده في السلطة، حسبما يُشير جو أوسينسكي وجوزيف بيرانت، كان نيكسون مشغولًا «باليهود والنخبة المثقفة ووسائل الإعلام والحركة المناهضة للحرب التي كان يراها تتآمرُ ضدَّه وضد الدولة.» فماذا كانت استجابته؟ لقد تآمر ضدهم. ففي خضمِّ تدبير إحدى الخطط، حذَّر نيكسون مساعديه قائلًا: «نحن في مواجهةِ عدوٍّ، في مواجهةِ مؤامرة. هم يستخدمون أيَّ وسيلة. ونحن سنستخدم أي وسيلة. هل هذا واضح؟» فقد أدَّت مناقبُ وكذبات نيكسون إلى عزله من السلطة، لكن خططه كانت متواضعةً إلى حدٍّ كبير مقارنةً بخطط بعض زعماء العالم. فيوضح دانييل بايبس أن العديد من رؤساء الدول الشرق أوسطية يُعانون جنونَ ارتيابٍ مزمنًا، ويلجَئون من وقتٍ إلى آخرَ إلى التآمر ضد أعدائهم. فعلى سبيل المثال، يشير بايبس إلى العدد اللافت من حوادث تَصادم السيارات وغيرِها من الحوادث التي ألمَّت بالخصوم السياسيين للرئيس الراحل صدام حسين.

بل إن هذا يبدو شيئًا بسيطًا مقارنةً بأدولف هتلر، الذي جعل من رُؤى لمؤامرة يهودية كارثيةٍ جزءًا من برنامجه السياسي، واستخدم ذلك لتبريرِ مكائده المؤامراتية ضد يهود أوروبا. فبالنِّسبة إلى هتلر، كانت «بروتوكولات حكماء صِهيون» أكثرَ من مجرد لمحةٍ عن تكتيكات العدو؛ فقد قدَّمت نموذجًا لسعيهِ الشخصيِّ وراء السلطة. نُقل عن هتلر قوله: «لقد قرأت «بروتوكولات حكماء صهيون»؛ وقد أفزعتني. تسلُّل العدو وتغلغله! أدركتُ في الحال أننا يجب أن نسير على خُطاه؛ بطريقتنا الخاصة بالطبع … يجب أن نهزم اليهوديَّ بسلاحه نفسِه.»

متأملًا معدَّل الحدوث المرتفع للمؤامرة بين أصحاب نظريات المؤامرة، أشار دانييل بايبس إلى أن «ما يبدأ كبحثٍ عن أشخاصٍ مخرِّبين ينتهي بالتخريب؛ فكارِهو اليدِ الخفية يكتسبون الخصائصَ نفسَها التي يمقتونها.» غير أنه عن طريق الإسقاط، فلعلنا بدلًا من أن نُقلِّد العدو، يكون الأعداء المتوهمون انعكاسًا لأنفسنا. فالمؤامراتيون يرون العالم يعجُّ بالمتآمرين، وهو ما يقود إلى مؤامرةٍ مضادة. وكما تقول دوجلاس وساتون — معبرةً عن حكمة أطفال لا حصر لهم في مشاجرات اللعب — «لا يَعرف المخطئ سوى المخطئِ مثله.»

اختلاق الدافع

بعدما رأينا الطرقَ التي يمكن أن يُخطئ بها مكشاف النوايا في إصابة الهدف، وكيف يمكن أن يقودنا الإسقاط إلى توهُّم أن العالم مليءٌ بالمتآمرين، يمكننا أن نبدأ في إدراك جاذبية نظريات المؤامرة في أعقاب اختفاء طائرة في ظروف غامضة. تأمَّل دراسةً أخيرة. عندما عرض عالِما النفس بريستون بوست وستيفن برونير على المشاركين في دراستهما عام ٢٠١٣ نظرية مؤامرة مألوفة، مال المشاركون إلى تقييمها باستخدامِ أدلةٍ واقعية تَصادف علمُهم بها. لكن عندما صادف المشاركون نظريةً جديدةً تمامًا عليهم، لم يستطيعوا استحضارَ أيِّ حقائقَ يمكن أن تُساعدهم في إصدار حكمهم. وعوضًا عن ذلك، اعتمدوا على دافعٍ محتمَل: ما السبب الذي ربما يكون قد دفع المتآمرين المتهمين إلى فِعل ذلك؟ إن غياب الحقائق يفتح الباب على مِصراعَيه أمام عقولنا لتتكهَّن. فالشعور بوجاهةِ دافعٍ ما أدَّى إلى تصديق الأشخاص نظريةً ما بالقدْرِ نفسِه من الثقة التي يُصدِّقون بها أدلةً واقعية. فاختفاء الطائرة إم اتش ٣٧٠ أطلق العِنان لمكشاف النوايا وأفسح المجال للتفكير في أكثرِ دوافعنا قتامةً.

ليس من المستغرَب الآن أننا نتأثَّر كثيرًا بدوافعنا. يوضح عالِم النفس جوناثان هايت في كتابه «فرضية السعادة»، أن العالَم الذي نعيش فيه، من منظورٍ عملي، «ليس عالمًا مصنوعًا في واقع الأمر من صخورٍ وأشجارٍ وأشياءَ مادية؛ إنه عالَم الإهانات والفرص وإظهار المكانة الاجتماعية والخيانات والقدِّيسين والمذنبين.» وفهم نوايا الآخرين أحدُ أكبرِ التحديات التي نُواجهها. فمسألة ما إذا كان الناس أعداءً أو حلفاءَ تتوقَّف على قدراتهم ورغباتهم ودوافعهم. فالحدث يتخذ أهميةً مختلفة تمامًا بناءً على ما إذا كان قد حدث مصادفةً أو عمدًا. يقول عالِم النفس آدم وايتس: «فرع الشجرة الذي أسقطه شخصٌ ما عليك أكثرُ لفتًا للانتباه من فرع شجرةٍ أسقطته الريحُ عليك.» فثمة فارقٌ كبير بين طائرة تعطَّلت وطائرة دُمِّرت.

من المفهوم أن أدمغتنا تطوَّرت بحيث أصبحت أكثرَ تكيفًا مع عالَم النوايا الخفي، حتى إذا خلطَت أحيانًا بين الضَّرر المتعمَّد وغير المتعمَّد، أو رأت نيةً مُبيَّتةً وراء أحداثٍ تقع مصادفة. وفي تاريخ تطورنا، فاقَت تكلفةُ الخطأ في الاتجاه المضاد تكلفةَ هذه الأخطاءِ في أغلب الأحيان. فاحتمالات أن يكون الإنسانُ الأول الذي كان يميل إلى الخلط بين الكتلة الخشبية الطافية والتمساحِ قد مرَّر جيناته، أكبرُ من احتمالات تمرير ذلك الذي غامرَ واقترب بشدة من تمساحٍ جائع ظنًّا منه أنه كتلةٌ خشبية غير مؤذية. فنحن يُمكننا احتمالُ الخطأ على جانب النوايا. وعجزنا عن مشاهدة المثلث الراقص لهايدر وزيمل، دون رؤيته كعاشقٍ وضيعٍ أو طفلٍ متنمِّر، هِبةٌ أخرى من هِبات أسلافنا.

وفي إشارتي إلى أن نظريات المؤامرة جذابةٌ في جانبٍ منها نظرًا إلى أنها تنسجمُ مع حدسنا بشأن نوايانا، لا تعني أني أقول إنها خطأٌ بالضرورة. فأحيانًا يكون هناك تمساح بالفعل. ومن الواضح أن الطائرة إم إتش ٣٧٠ غيَّرت مسارها واستمرت في الطيران لساعاتٍ بعد تعطيل نظام الاتصال بها، ما يوحي بأن ثَمة عملًا متعمَّدًا، بالرغم من أننا تُركنا لنُخمِّن الدافع وراء ذلك العمل. وربما تتبيَّن صحةُ ما يعتقده الذين يشعرون بأن ثمة مؤامرةً في الأمر. وربما يوجد تفسيرٌ أكثرُ براءةً، وإن لم يكن أقلَّ مأساويةً. أو ربما يتضح، مثلما حدث مع رجل المظلة الغامض، أن الحقيقة أغربُ من أي شيء يمكن أن يتخيله أحد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤