الفصل السابع

العولمة والكوزموبوليتانية

في هذا الفصل الأخير من الكتاب نستكشف العلاقة بين العولمة والكوزموبوليتانية، وهو مختلف عن الفصول السابقة من حيث تناوُل الأمر على نحو أكثر تأمُّلًا، مع محاولة للتفكير، من خلال المتضمنات الممكنة، في أشكال أكثر شمولية في عمليات الاتصال والتواصل الكوني في المرحلة المعاصرة. الفصل يبدأ بطرح بعض المجادلات حول الكوزموبوليتانية إلى جانب أسلوب التناول الذي سوف نتبعه هنا. بعد ذلك نلخص الأساليب التي تُولَد من خلالها عمليات وتجليات العولمة تَوجُّهات وطرائق الحياة الكوزموبوليتانية، وسوف يَتضمَّن ذلك تقييمًا للآثار بعيدة المدى على الأفراد والمجتمعات، الذين لديهم القدرة على الوصول إلى الثقافات والتقاليد الأخرى من خلال الهجرة والسفر وتكنولوجيات المعلومات والاتصال.

كما سيتضمن الفصل العودة إلى بعض الموضوعات المتعلقة بهذا العمل، وبخاصة تأكيد الطبيعة التعددية التنافسية المُعقَّدة للعولمة الثقافية. في هذا السياق فإن الحالة التي نعرض لها هنا في علاقتها بالكوزموبوليتانية، لا بد من موازنتها بالادعاءات التي سبق أن تناولناها، مثل الجدال بأن عمليات العولمة تسهم في الصراع الثقافي.

قبل بدء هذا البحث من الضروري تحديد معنى كلمة «كوزموبوليتان» التي سَتُفْهم هنا على النحو التالي:

(١-أ): جزء من أجزاء كثيرة من العالم أو يفهم أجزاء كثيرة منه.

(١-ب) مكون من أناس من أجزاء كثيرة من العالم أو من كل الأجزاء.

(٢) متحرر من القيود والانحيازات القومية (Concise Oxford Dictionary, 8th ed. 1991). أما كيف نصبح كوزموبوليتان، فذلك أمر أكثر تَعقيدًا وهو ما سوف نتناوله على مدى الفصل.

(١) استشراف الكوزموبوليتانية

يعود الجدال حول الكوزموبوليتانية إلى قدامى الرواقيين الإغريق، وفي المرحلة الحديثة كان هناك إحياء للاهتمام بالموضوع نتَج عنه أدبيات كثيرة تغطي مجالات عدة، منها مثلًا ما يناقش الكوزموبوليتانية في علاقتها بمناطق مُعيَّنة مثل أوروبا (Amin, 2001)، والشرق الأوسط (Zubaida, 2002)، إلى جانب مدن (Sennett, 2002)، ومناطق محلية مجاورة (Hiebert, 2002). معظم هذا العمل، إن لم يكن كله، يشكله أسلوب تناوُل العلوم السياسية للموضوع مع تأكيد على تَطوُّر الأطر الأخلاقية (Dower, 1998)، والمواطنة العالمية (Heater, 2003)، ومؤسَّسات التحكُّم العالمية (Held, 2004)، ولكن هذا الفصل من الكتاب؛ اتساقًا مع مجمل موضوعاته، يُركِّز على الأبعاد الاجتماعية والثقافية للكوزموبوليتانية التي تناولتها كذلك أدبيات كثيرة. انظر: (Beck, 2000, 2002; Breckinridge et al., 2002; Tomlinson, 1999a; Urray, 2003)١ سوف يتناول أسلوب الاستشراف الذي نتبعه هنا معنى أن يكون الشيء «كوزموبوليتانِيًّا» في عصر العولمة، ومن هنا سيكون التركيز على المواطنين والأفراد وتكوين الهويات الثقافية أكثر منه على المؤسَّسات والهياكل والأطر القانونية والأخلاقية. والحقيقة أن أحد الانتقادات المُوجَّهة للتركيز على الإطار المؤسسي أو بنية الحكم العالمي، هو الافتراض الأساسي بأن الناس في العالم سوف يتصرفون على نحو كوزموبوليتاني ويفيدون من هذه البنى والعمليات، ويريدون بشكل عام أن يصبحوا مواطنين عالميين.
على الرغم من ذلك، فإن الأسلوب الذي نتبعه هنا لاستشراف الكوزموبوليتانية من المرجَّح أن يُواجَه باعتراضات، «مارتا نسباوم Martha Nussbaum» (١٩٩٦) على سبيل المثال ترى الكوزموبوليتانية مجتمعًا باتساع العالم يتكون من كل الشعوب، ولذلك تؤيد فكرة المواطنة العالمية وتدافع عنها؛ على أن أفق التوقعات لإقامة مواطنة عالمية، ودولة عالمية وحتى أساليب عمل مناسبة للحكم العالمي، ما زال بعيدًا في هذه المرحلة: ومن هنا فإن أي مناقَشة له لا بد من أن تظل مجرَّدة، هناك كذلك تبرير آخَر لاستخدام أسلوب سوسيولوجي وثقافي في تناول مسألة الكوزموبوليتانية، وهو أنها مفهوم متعدد الأبعاد ويتطلب سلسلة من الأنماط التحليلية لفهمه؛ وفيما يتعلق بالعولمة، فإن الكوزموبوليتانية لا تبقى فكرة مجرَّدة مقصورة على الجدال الأكاديمي بل تصبح تجربة معيشة لأعداد متزايدة من الناس، وبالتالي تكون أكثر تَنوُّعًا وتعددية في طبيعتها، ولعل ذلك هو السبب في أن بعض الكتاب يناقشون الآن «كوزموبوليتانيات» أكثر مما يناقشون كوزموبوليتانية واحدة (انظر: Breckenridge et al., 2002; Clifford, 1992)، وهي نقطة سوف نعود إليها في خاتمة هذا الفصل.
بعد أن لخَّصْنا أسلوبنا في تناول الكوزموبوليتانية هنا، سننظر في القسم التالي في الأساليب التي يمكن أن تنتهجها بعض العمليات والتطورات التي تُمثِّل العولمة لدعم الكوزموبوليتانية، ولكن قبل ذلك لا بد من القول إن مثل تلك الصلة من المرجَّح أن تواجه تحديات، وبخاصة من قِبَل الاقتصاديين واليسار السياسي الذين يربطون بين العولمة والرأسمالية واتساع الأسواق الرأسمالية؛ في «بيتر جووان Peter Gowan» الذي يستخدم مصطلح الكوزموبوليتانية على الأقل بالنسبة للعولمة، يكتب مثلًا عن «كوزموبوليتانية نيوليبرالية»، مجادلًا بأن هناك قوى اقتصادية قوية تدفع العولمة المعاصرة وتحاول أن تُقِيم نظامًا كونيًّا يتغلغل عميقًا في «الحياة الاجتماعية والسياسية للدول المعرضة لها، بينما يحمى تدفقات الأموال والتجارة العالمية» (٢٠٠١م، ٨)، مثل هذه الآراء تعتبر تذكرة مفيدة بأن هناك بُعدًا قويًّا للعولمة، ولكن هذا مرة أخرى، يُوضِّح مدى اختلاف المجالات الأكاديمية في فهمها للموضوع، وكيف أنها تُهمِل طبيعتها المتعددة الأبعاد.

(٢) العولمة والكوزموبوليتانية

(٢-١) الاتصالية الثقافية والكوزموبوليتانية

هناك جوانب من العولمة تدعم أو تُسهِّل التواصل الثقافي التفاعلي، الأمر الذي يمكن أن ينتج عنه وجهات نظر كوزموبوليتانية؛ لأنه يزيد من احتمالات تَطوُّر الفهم أو حتى التَّقمُّص إلى أكثر من مُجرَّد الإلمام بثقافات ومجتمعات وتقاليد مختلفة؛ فالتحرُّكات السكانية المعاصرة، كما رأينا، تجعل كثيرًا من المجتمعات تُصبِح، تدريجيًّا، متعددة الثقافة، مُتعدِّدة الأعراق، كما تجعل كثيرًا مِمَّن يعيشون في هذه المجتمعات يفيدون من الفرصة لممارَسة ثقافات مختلفة تتراوح بين تجربة أصناف الطعام الجديدة إلى المُعتقَدات الدينية.٢ كذلك هناك آخَرون منهمِكون في عمليات تهجين ثقافي يمزجون ثقافات مختلفة، وخاصة في مجالات الموسيقى والرَّقص والأزياء والمسرح، بينما التَّوجُّه نحو الدولانية أو العولمة، اعتمادًا على ما إذا كان المرء يصدق منظور المتشككين أو المُغالِين في العولمة، دليل على أن التجارة وأنشطتها سوف تتسع إلى ما هو أبعد من الحدود القومية، وهو تَطوُّر تساعد عليه أنظمة النَّقل العالمية. مثل هذه الاتصالية، أدَّت بدورها إلى ظهور «مفاوِضي الحدود»، وهم المتخصصون القادرون على تناوُل المنازعات عَبْر الحدود ومشكلات التواصل الثقافي المتبادَل، مثل المحامين الدوليين والدبلوماسيين والمتخصصين الثقافيين وغيرهم من المهنيين الذين يثيرون جدلًا حول إذا ما كان ظهورهم يُؤدِّي إلى تكوين ثقافات عابرة للحدود القومية أو «ثقافات ثالثة» (Featherstone, 1990; Gessner and Schade, 1990). ويصبح هناك إذن إمكانية لعدد كبير من الناس أن يتصرفوا بطرق مختلفة باعتبارهم كوزموبوليتان أو مواطنِين عالمِيِّين. يضاف إلى ذلك أن تكنولوجيات المعلومات والاتصالات الكونية تُسهِّل امتداد الحياة الاجتماعية عَبْر الزمان والفضاء، وهو ما يعني — مرة أخرى — أن يزيد التواصل الكوني ويصبح أكثر سرعة في المرحلة المعاصرة. كل ذلك يهيئ الفرصة أمامنا لكي نفكر فيما هو أبعد من بيئاتنا ومجتمعاتنا، وبالتالي فهو يُقوِّي تحالفات جديدة، ويتحدَّى الكثير من الولاءات المستقرة، وإن كان ذلك لا يعني بالضرورة اختفاء الذهنيات والهُوِيَّات القومية. هذا التَّوجُّه نجده منعكسًا في تكوين هويات جديدة بما في ذلك الهويات المزدوجة مثل «إيطالي – أمريكي»، و«بريطاني – آسيوي»، و«بولندي – أوروبي» مثلًا.
على أن الناس لن يصبحوا بالضرورة أكثر كوزموبوليتانية لمجرد أن أصبح لديهم المزيد من «الفرص الكوزموبوليتانية»، وفي هذا السياق يعرف كل من «جيمس هنتر James Hunter»، و«جوشوا يتيس Joshua Yates» (٢٠٠٢) من … يَصفونهم بأنهم «كوزموبوليتان ضيقو الأفق» ويقصدون بهم الناس وبخاصة رجال المال والتجارة الذين يُسافرون طولًا وعرضًا، ولكنهم يَظلُّون مُعظَم الوقت داخل «الفقاعة الواقية» لثقافاتهم الخاصة، وهو ما يمنعهم من مُمارَسة أو تجربة الثقافات الأصلية على النحو الصحيح. هذا النموذج من الكوزموبوليتانية — إن اتفق أن يكون ذلك هو الوصف الملائم — نموذج ضحل. وكما يشير «أولف هانرز UIf Hannerz» فإنَّ كَوْن الشخص في حالة حركة دائمة «لا يكفي أن يجعله كوزموبوليتان»، (١٩٩٠م، ٢٤١)، في هذا السياق يحرص قطاع كبير من صناعة السياحة على توفير عطلات وإجازات «آمنة ومريحة» للسائحين، وهو ما يعني تقليل احتكاكهم قدر الإمكان بالمحليين؛ وهي الحالة نفسها مثلما رأينا أن الفُرص الكوزموبوليتانية التي تسهلها عمليات العولمة قد تساعد على إعادة تقوية الثقافات والهُوِيَّات القومية، وخاصة بسبب التهديدات الملحوظة للتقاليد وأساليب الحياة القومية. هناك كذلك أسباب أخرى — كما سنوضح لاحقًا — تجعلنا نعتقد أن ردود الفعل القومية، ضيقة الأفق، لن تكون بالضرورة هي الرد السائد على العولمة، ولكن قبل أن نبحث ذلك سنحاول استكشاف ظاهرة اجتماعية تتعلق بالكوزموبوليتانية، وهي علاقة ليست سهلة وليست مستوية، وهي ظاهرة المدينة المُعَولَمة.

(٢-٢) المدن المُعَولَمة والكوزموبوليتانية

ظهور المدن المُعَولَمة؛ مثل لندن ونيويورك وطوكيو — ويقال إن هناك خمسًا وعشرين مدينة من هذا النوع انظر: (Knox, 2000) — دليل على الكوزموبوليتانية٣ ظهور هذه المدن يمكن إرجاعه — بين أشياء أخرى — إلى الهجرة العالمية والاتصالات الإلكترونية، ودورها باعتبارها المراكز الرئيسية للاقتصاد العالمي، وقد ساعد ذلك كله على نموها وقوتها، كما أدَّى — إلى حد ما — إلى ابتعادها عن الدول التي توجد بها؛ والواقع أن المدن المُعَولَمة توفر لسكانها بدائل عن الدولة-الأمة، سواء من ناحية مصادر القوة أو الهوية، وهي على نحو أوسع عنصر مهم في التوجه نحو التحكم العالمي مُتعدِّد المستويات، الذي هو نفسه انعكاس لتآكل السيادة القومية أو الوطنية (Delanty, 2000). وربما تكون المدن المُعَولَمة أكثر اتساعًا مع التطورات المعاصرة من الدول-الأمة؛ لأنها أكثر ارتباطًا بتدفقات وتحركات العولمة، رغم أن برنر Brenner يرى أن الأخيرة تُنمِّي الأولى (تحركات العولمة تُنمِّي التدفقات) لكي تجتذب استثمارات رأس المال. المدن المُعَولَمة هي الأماكن التي تخدم أهدافنا، حيث يتجمع الكثير من البشر من أماكن مختلفة من العالم، إلى جانب أنها النقاط التي تنبع منها وتعود إليها معظم التدفُّقات الثقافية والاتصالات والمعلومات الكونية، وبذلك تكون مواقع رئيسية للتفاعل والتبادل الثقافي. والحقيقة أن أحد الملامح المُحدَّدة لمدن؛ مثل نيويورك ولندن وباريس وريو دي جانيرو، هي ذلك المزيج الكوزموبوليتاني للثقافات والموروثات المختلفة، يضاف إلى ذلك أن المدن المُعَولَمة متصلة بمدن أخرى في أربعة أركان للمعمورة عن طريق تكنولوجيات المعلومات والاتصال، ومن هنا فهي تُسْهِم في تكوين شبكات كونية (انظر: Sassen, 2000). وهي، في العادة، النقاط المحورية والعقدية للشبكات عبر الحدود (كاستلز، ١٩٩٦م)، يراها جزءًا من الطبقة الثانية في فضاء التدفقات الذي يتمثل عنده في «عقد ومحاور»، وعليه فهي تلعب دورًا حاسمًا في تشجيع الاتصالية الكونية وليس المجال الاقتصادي فحسب.
على أن هذا المفهوم للمدن المُعَولَمة باعتبارها أماكن كوزموبوليتانية لن يعدم من يختلفون معه، إذ بينما مثل هذه المدن عادة ما تكون نقاط النهاية لتدفقات هجرات ديناميكية مُعقَّدة ومتفاوتة، باعتبارها الأماكن التي يقصدها معظم المهاجرين عند وصولهم إلى دولة ما، فإن ذلك لا يمهد الطريق بالضرورة أمام مواجهات كوزموبوليتانية بين المهاجرين والمقيمين. مثل هذا التفاعل تعوقه ظاهرة «الفرار الأبيض»، حيث تواصل الطبقات البيضاء العليا والمتوسطة المسيطرة خروجها من المدن الداخلية وخاصة في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة. وبالمثل فإن كثيرًا من المهاجرين سوف يقومون — في البداية على الأقل — بالأعمال المتدنية وذات الأجر الهزيل ويعيشون عادة في مناطق فقيرة حقيرة، بما يؤكد أنهم بالفعل معزولون عن معظم بقية المدينة وسكانها. باختصار، الناس «يتحركون» ولكنهم لا يتواصلون بالضرورة. من موقف مختلف، تعتقد «ساسكيا ساسين Saskia Sassen» (٢٠٠٠-٢٠٠١) أن المدن المُعَولَمة ظهرت لأسباب اقتصادية: أصبحت مراكز عابرة للحدود وللنشاط المالي والخدمي، كما تُجادِل بأنه حتى في عالم يكون فيه النشاط الاقتصادي لا مركزيًّا، تكون هي الأماكن التي تتمركز فيها القوة الاقتصادية والمالية. المدن المُعَولَمة، بعبارة أخرى، نتاج الرأسمالية وليس الكوزموبوليتانية، في السياق نفسه يكتب «جون أوري John Urry» (١٩٩٥) عن مدن الاستهلاك التي تزيح المدن الصناعية، وكما هو معروف جيدًا فإننا يمكن أن نجد التفاوت الشديد في الدخول والعوز والحرمان الاقتصادي والاجتماعي الكبير في كثير من المدن المُعَولَمة، وهي الحالة التي تعمل على تفاقمها عشوائية أسواق العمل في المرحلة الحديثة. حتى في داخل المجتمعات الغربية نجد أن مستويات المعيشة في بعض المناطق المدينية لا تختلف كثيرًا عنها في بعض دول العالم النامي. المدن المُعَولَمة، من هنا، في كثير من الأحيان تكون أماكن للتوترات الاجتماعية والثقافية، كما يتضح في تَكوُّن مجتمعات مُغلَقة أو جيتوهات ثقافية وعرقية؛ ومرة أخرى، هذه الظروف تعمل على كبح انتشار الكوزموبوليتانية.

مثل هذه الانقسامات نجدها منعكسة في ظاهرة المراقبة داخل التخطيط المديني، وخاصة في التجمعات ذات البوابات المُغلَقة الأشبه بالقلاع، والمثير للاهتمام أن تلك المجتمعات المسورة تظل هي الأكثر اتصالًا، كونيًّا، وذلك بفضل تكنولوجيات المعلومات والاتصال ويتجسد فيما يُسمَّى بظاهرة «الكوخ الإلكتروني» التي تأخذ في بعض مدن أوروبا وأمريكا الشمالية شكل مستوطنات الميديا أو المقاطعات الإلكترونية. «مانويل كاستلز» (١٩٩٣م) يعتقد أن «مدينة المعلومات» كما يطلق عليها، ينتج عنها الازدواجية المدينية الأولية في زماننا، وبالتحديد الفصل بين «نخبة كوزموبوليتانية متصلة»، و«محليين غير متصلين»؛ الأولى تُشكِّل حياة المدينة، بينما الأخيرة مُستبعَدة أو مُقصاة إلى حد بعيد عن هذه التطورات.

في المدن المزدحمة كذلك بالغرباء، نجد أن الغريب هو الأقل مشارِك في الكوزموبوليتانية، فالمدن المُعَولَمة مَلأى بعابرين مثل السائحين والجَوَّالين ومن يقومون برحلات يومية ذهابًا وعودة إلى أماكن عملهم، أي أنه لا معنى حقيقيًّا للارتباط بها ولا بالناس الذين يعيشون بها؛ بل إن «زيجمونت بومان» هناك (١٩٩٣م، ١٩٩٦م) يذهب إلى ما هو أبعد من ذلك مجادلًا بأن السائح أو الجوال أو المُتشرِّد ضارُّون بالأخلاقيات، حيث لا حاجة لهم للتدخل في أي جدال أخلاقي حول الأماكن التي يزورونها، وليس لديهم أي مسئولية أخلاقية تجاه السكان المحليين. وحيث إن أولئك الطارئين، من وجهة نظر السكان الأصليين ليس لديهم أي التزام تجاه مجتمعهم، على اعتبار أنهم الذين اختاروا عدم البقاء، فليس هناك سبب مهم ولا فرصة لكي تكون هناك مواجهة كوزموبوليتانية معهم. يضاف إلى ذلك أن تدفقات الناس الذين يمرون بمدننا كثيفة في ظل ظروف العولمة المعاصرة، كما أن الناس أكثر حركة، وإيقاع الحياة أسرع، وذلك كله يمكن أن يكون ضارًّا بالمجتمعات المدينية وبناء بيئة تُؤدِّي إلى مُواجَهات ثقافية مُتبادَلة. في النهاية، مهما كانت درجة تَعقُّد حياة المدينة وتَنوُّع الجماعات الاجتماعية ومن يشاركون في تلك العمليات، فإن من الصعب الوصول إلى استنتاج محدد عن العلاقة المتبادلة بين المدن المُعَولَمة والكوزموبوليتانية؛ وفي هذا السياق يقدم كل من «جراهام Graham»، و«مارفن Marvin» في كتابهما: Splintering Urbanism (2001) دليلًا كافيًا على التَّشظِّي والانفصال المديني، وإن كانَا يعترفان في آخر العمل بأن أشكال الاختلاط والامتزاج العام تبقى جزءًا من حياة المدينة. التعليقات المتباينة عن الحياة اليومية في مدينة كونية واحدة، لندن مثلًا، يمكن أن نجدها في كتاب «جون إيادي John Eade» الذي يحمل عنوان: Living the Global City (1997)، وهي مرة أخرى تُلقِي الضوء على أهمية الحاجة إلى تفحص مجموعة من الأطر المحددة، لمعرفة كيف تعمل تدفقات وعمليات العولمة، وعلى نحو أكثر تحديدًا مدى الإسهام فيها والمشاركة في هذه التقاطعات الكونية-المحلية.

(٢-٣) الكوزموبوليتانية الشعبية

هناك سبب إضافي لعدم انتشار الكوزموبوليتانية في كل قطاعات المجتمع لأنها — تقليديًّا — كانت حكرًا على النُّخب الغنية، وبعض الكُتَّاب يعتقدون أن هذا السبب ما زال قائمًا؛ وبمعنى أوسع، هناك تمييز يتم غالبًا بين نخبة كوزموبوليتانية من الطبقة المتوسطة مُكوَّنة من المهنيين، ورجال الأعمال، والميديا، والسياسيين الدوليين، والمديرين، والدبلوماسيين المعروفيين بحركيتهم وتنقلاتهم ومشاركتهم في الشبكات الكونية، وطبقة عاملة أقل حركة ربما تكون مرتبطة بمحليتها وإقليميتها تكون نظرتها، على أكثر تقدير، عابرة للحدود القومية (e.g., Bauman, 1998a). في هذا السياق، يحدد «جوناثان فريدمان» (١٩٩٩م) ظهور نمط آخر من النخبة الكوزموبوليتانية، الممثلة بالمثقفين من أقسام الدراسات الثقافية (مُنظِّرُو الهجنة وكُتَّاب ما بعد الكولونيالية … إلخ)، وهم في رأيه بعيدون عن هموم واهتمامات المواطنين العاديين.
إلا أن هناك على الرغم من هذه الآراء، جوانب من العولمة المعاصرة قد تسهم في الانتشار الواسع للكوزموبوليتانية، أو تُعتبَر دليلًا على ذلك. بداية، بعض أفقر الجماعات داخل كل المجتمعات هم جماعات مهاجِرة وجماعات شَتات، ولكنَّ كثيرًا من أعضائها سيكونون من مُزدوِجي اللغة وحاملي الهُوِّيات المزدوجة ومن لديهم مجموعة من الولاءات والانحيازات الأبعد من التماهي مع البلد «المضيف» (Appadurai, 1996; Cheah and Robbins, 1998) كثير منهم من ثم، وبمعنى حقيقي، مُعرَّضون لثقافات ومؤثرات أخرى ويعيشون بأسلوب كوزموبوليتاني. وبينما توضح «بنينا فيربنر Pnina Werbner» (١٩٩٩) هذه النقطة فيما يتعلق بدراساتها عن المهاجرين الباكستانيين كاشفة عن اندماج حقيقي ومتنوع مع الثقافات والمجتمعات المختلفة التي يقيمون فيها، أكثر من دراسة اللغات سواء كان ذلك في أمريكا الشمالية أو أوروبا أو غيرهما، يؤدِّي بها ذلك إلى أن تَصِفُهم بأنهم «كوزموبوليتان طبقة عاملة»، تحفر أعمالهم وتصرفاتهم «ممرات كونية».
ثانيًا: بعض التطورات والتكنولوجيات التي تُسهِّل العولمة المعاصرة، يمكن النظر إليها بالمثل باعتبارها تُسهِم في الانتشار الشعبي للكوزموبوليتانية. على سبيل المثال، التوسُّع العالمي في صناعة الطيران والتطور المستمر في صناعة الطائرات النفاثة، كل ذلك يُؤدِّي إلى رُخْص السفر إلى الخارج، كما يُمكِّن المزيد والمزيد من الناس من كل قطاعات المجتمع مِن التَّنقُّل في العالم وممارَسة ثقافات أخرى، رغم أننا ينبغي ألا ننسى أن «هانرز وآخرين» يتشككون في علاقة السفر بالكوزموبوليتانية. مثل هذا السلوك يُعزِّزه إضفاء الصِّفة الفردية، والروح الاستهلاكية على المرحلة المعاصرة (الفصل الخامس)، الذي يقودنا للاعتقاد بأن من حقنا أن نستهلك الثقافات والأماكن الأخرى في العالم كله، (Urry, 1995)، ثالثًا، ونُكرِّر، من المُمكِن أن يكون هناك سلسلة من المواجهات والتجارب الكوزموبوليتانية داخل المدن الرئيسية في مجتمعاتنا التي تتزايد فيها التعددية الثقافية، بما في ذلك الجيرة وأماكن العمل والمدارس والجامعات، حيث تتراكم وتتقاطع المجتمعات الثقافية بعضها مع البعض (Hiebert, 2002). في منازلنا، تمكننا الإذاعة والتليفزيون والصناعات الموسيقية العالمية من الوصول إلى مؤثِّرات جديدة، تصلنا على شكل «الأحداث الجارية» وبرامج السفر والموسيقى العالمية على سبيل المثال. ذلك كله جزء مما يطلق عليه «الكوزموبوليتانية اليومية» (Vertovec and Cohen, 2002). وهو ما يعني أن السفر إلى دول أخرى لم يَعُد ضروريًّا لكي نصبح متفاعِلِين مع أكثر من ثقافة ومن ثم نَتصرَّف على نحو كوزموبوليتاني، كل ذلك يعمل على طمس التمايز أو التمييز الذي يتم عادة بين «الكوزموبوليتانيين» و«المحليين» وهو ما قد يثير الشكوك حول زعم «هانرز» بأنه «لا يمكن أن يكون هناك كوزموبوليتانيون دون المحليين.»

(٢-٤) العولمة والتعليم والكوزموبوليتانية

من بين الأسباب التي تدعو لدراسة انتشار الكوزموبوليتانية، وتسليط الضوء على الحاجة لفحص الجوانب السياسية والاقتصادية وغيرها للعولمة لكي نفهم بُعدها الثقافي على نحو أفضل، هناك سبب إضافي ينبع من الأسلوب الذي تطور به كثير من الحكومات القومية عمليات العولمة؛ ولكي نكون أكثر تحديدًا نقول إن هناك إجماعًا بين الحكومات في أنحاء العالم على ضرورة توفير نُظم تعليمية مدعومة جيدًا تُحقِّق أعلى المستويات، وهو تطوُّر ينطوي على مضامين كوزموبوليتانية. تزداد أهمية التعليم باعتباره مَطلبًا ضروريًّا سواء للأفراد؛ لكي يشاركوا في هذا العصر الكوني من خلال تزويدهم بالمهارات والكفاءات الضرورية، أو لتمكين الدول من أن تنافس اقتصاديًّا، قصارى القول، إن الدول لكي تبقى وتزدهر في نظام اقتصادي مُعولَم، لا بد من أن يكون مواطنوها قادرين على القيام بدور كامل في الاقتصادات القائمة التي يتزايد اعتمادها على المعرفة. «توني بلير Tony Blaire» رئيس وزراء بريطانيا السابق كان واضحًا، على سبيل المثال، عندما عَبَّر عن هذه النقطة وهو في منصبه، بقوله: «العولمة المتزايدة في الاقتصاد العالمي تعني أن يتم الآن وضع المستويات المطلوبة من التعليم والمهارات حسب المقاييس الدولية» (Blaire, 1996: 78-79)، ولكنها ليست الأحزاب الديمقراطية الاجتماعية وحدها مثل حزب العمال البريطاني التي تفكر بهذه الطريقة، إذ يمكن أن نجد مثل هذه التوجُّهات نحو التعليم عبر الطيف السياسي في دول مختلفة في أنحاء العالم، ممَّا أدَّى إلى جدل حول ما إذا كانت العولمة قد شَجَّعت على أشكال من التقارب السياسي بين اليسار واليمين (انظر: Kelly, 1999; Sassoon, 1998).
الإجماع على أهمية التعليم بالنسبة للمواطنين نجده منعكسًا في التَّوسُّع العالمي في التعليم العالي في كثير من دول العالم، كما تُظهِر نتائج مَسْح أُجْرِي مؤخرًا أنه سيكون هناك أكثر من بليونَي خريج في العالم بحلول عام ٢٠٣٥م (Norton-Taylor, 2001). أما علاقة ذلك بموضوعنا فذلك التعليم العالي يُولِّد تَوجُّهات أكثر نقدية وليبرالية واستنارة بين المُتلقِّين له، وهو مَطلب لنزعة كوزموبوليتانية. وبشكل عام، كلما كان المواطنون أكثر تعليمًا، كانوا أكثر قدرة على مساءلة مزاعم الزعماء القوميين والوطنيين، وتَحدِّي الأنماط العرقية والثقافية، ومقاومة تَمركُز الشعوب الأخرى حول هُوِيَّاتها، كما أن من الأرجح أن يصبحوا على دراية بالطبيعة المُركَّبة لكثير من التقاليد القومية في دولهم. عندما يصبح أولئك الناس غير مُقيَّدين بمشاعر الولاء القومي، فإنهم يستطيعون أن يُطوِّروا منظورًا أشمل، وأن يفكروا بما هو أبعد من حدودهم القومية، والحقيقة أن مثل هذه التوجهات تُسهِم في أزمات التجنيد التي تواجه الجيوش الوطنية.

كذلك يشير كثير من الدراسات إلى أن المواطنين أصبحوا أكثر انتقادًا لحكوماتهم، ويُلاحِظ كثير من المعلقين ضعف الثقة في الحكومات والسياسيين، الذي يمكن أن يكون، في جزء منه، سببًا في هبوط نسبة التصويت وعضوية الأحزاب السياسية والشعور العام بفك الارتباط بالسياسات القومية. كذلك فإن المزيد والمزيد من جماعات الضغط المحلية والمُنظَّمات غير الحكومية تقوم بمراقبة وتَفحُّص التعاملات الأخلاقية الخارجية للحكومات القومية وخاصة فيما يَتعلَّق بالسياسة الخارجية وعقود التسليح والبيئة والتجارة مع الدول النامية. ذلك كله يجعلنا، بالعودة إلى تعريفنا للكوزموبوليتانية، نجد أن الناس يصبحون أكثر تَحرُّرًا من القيود والانحيازات القومية والوطنية.

في مقابل تلك المزاعم، لا بد من أن نشير إلى الصراعات الدولية الحديثة. وهو ما يوحي ببقاء التَّوجُّهات التقليدية والتراثية غير الكوزموبوليتانية؛ وإلى أن ثورة الميديا والاتصالات لم تُقلِّل من قدرتنا على تعيين الشعوب والثقافات الأخرى حسب خصوصيتها، يضاف إلى ذلك أن التَّوجُّهات التي نصفها هنا ربما تكون مَقصورة على المُجتمَعات الصناعية الحديثة. كذلك ليس كل نظام تعليمي قومي في العالم، مُوجَّهًا نحو تشجيع التفكير النقدي ونشر القيم الليبرالية؛ وفي دول كثيرة ولأسباب عدة، لن يذهب كثير من المواطنين سواء في الدول المُتقدِّمة أو النامية إلى الجامعات، وعليه لن نستطيع أن نقول إن الكل سوف يُسهِم في التَّوسُّع الكوني في التعليم العالي؛ إلا أن التطورات التي وصفناها تُسهِّل ظهور مُواطَنة عالمية، عابرة للحدود، أكثر تعليمًا ومعرفة، يتزايد استعدادها كما تتزايد قدرتها على الانتقال والاستقرار في دول أخرى لأسباب مختلفة تتدرج من العمل إلى الخيار الشخصي، في هذا السياق يرسم «هارولد بيركن Harold Perkin» في كتابه «الثورة الثالثة The Third Revolution» (١٩٩٦)، خريطة لظهور مجتمع مِهَني كوني. باختصار، التعليم هو الذي يُزوِّد الأفراد بالمهارات والمؤهلات المهنية والأفكار التي تقلل من اعتمادهم على دولهم، وتُمكِّنهم من التصرف على نحو كوزموبوليتاني.

(٢-٥) الكوزموبوليتانية الانعكاسية

ناقشنا في الفصل السابق التحديث الانعكاسي في علاقته بأشكال الصراع الثقافي، كما أنه حالة أو مرحلة ذات متضمنات كوزموبوليتانية. ونُوجِز مرة أخرى فنقول: إن كُتَّابا مثل «أولريش بيك»، و«أنتوني جيدنز»، و«سكوت لاش» (١٩٩٤م) يعتبرون عصرنا الحديث المتأخر، الذي ساعدت العولمة في تعريفه وتحديد معالمه، يتصف بفقدان سلطة المؤسَّسات والبنى والهياكل التقليدية بما في ذلك الحكومة والأسرة والكنيسة والدولة والأمة، وهو ما يؤدِّي إلى المزيد من التشخص، بمعنى أن نصبح أكثر قدرة على سَبْك أساليب حياتنا ومسالكنا. على نحو متزايد نقوم باختيار شعاراتنا وهوياتنا وقِيَمنا وارتباطاتنا الثقافية، بدلًا من أن نتبنَّى، ببساطة، تلك الخاصة بآبائنا وبالجماعات الاجتماعية التي تنشأ فيها. التكوين الذاتي والهوية الذاتية هما بالتالي جزء لا يَتجزَّأ من التحديث الانعكاسي، ولذلك متضمناته على الكوزموبوليتانية ومدى انتشارها؛ وكما يقول «صمويل شفلر Samuel Scheffler»، فإن الكوزموبوليتانية تَتضمَّن أن يكون «لدى الأفراد القدرة على التحقق والازدهار عن طريق سَكِّ هُوِيَّات ذات سمات خاصة مستمَدَّة من مصادر ثقافية متباينة وغير متجانسة، ولا يُنْظَر إليها باعتبارها مكونة أو معرفة عن طريق روابط وصفية بثقافة أو مجتمع أو تراث مُعيَّن» (١٩٩٩م، ٢٥٨). وهكذا فالكوزموبوليتاني شخص ذاتي التكوين، مُحصِّلة تجارب وخبرات ثقافية مختلفة وولاءات عدة، وفي الوقت نفسه ينبغي عدم النظر إليه باعتباره عنصرًا مستقلًّا متحرِّرًا من أي ارتباطات بأماكن أو ثقافات مُعيَّنة، ولاؤه فقط لمنظمات دولية مثل الأمم المتحدة. كذلك فإن عمليات العولمة تسهم في الكوزموبوليتانية، بأن تتيح لنا الفرصة لممارسة مجالات أوسع من المؤثرات والتقاليد الثقافية وأن نندمج ونتكيَّف في عملية تَكوُّن ذاتي.
من منظور تاريخي أوسع، يرى «رولاند رويرتسون» أن تلك الانعكاسية هي التي تفصل العولمة المعاصرة عن تَجلِّيَّاتها الباكرة، هذه الفكرة نابعة من تَصوُّره للعولمة باعتبارها تنطوي على «توسيع الوعي بالعالم كله» (١٩٩٢م، ٨)، وهو ما يعني على أحد المستويات مثلًا، أن الدول المنخرطة في العولمة سوف تكون على وعي بالنماذج والمسارات التي تتبعها قُوًى أخرى، وسيكون عليها أن تُصدِر أحكامًا وقرارات على ضوء هذه المعرفة. مثل هذه الانعكاسية يكشف عنها الأفراد — كما تكشف عنها أيضًا المؤسسات الحديثة في رأي جيدنز — الذين سيكون عليهم أن يُوازِنوا بين التقاطع والاختراق المتبادَل بين الكوني والمحلي، وهو ما ينتج عنه نمط من الكوزموبوليتانية الانعكاسية أو «الكوزموبوليتانية الكونية المحلية» (Urry, 2003: 137)، بعبارة أخرى، نحن نندمج مع أفكار وصور ورموز من أنحاء العالم في حياتنا اليومية، لكي ترفد وجهات نظرنا وأساليب حياتنا وبذلك نُطوِّر قدرتنا على التفكير والعمل على مستوى يتجاوز محيطنا، بما يُشجِّع على حُسن إدراك لموقعنا في العالم وعملنا بداخله. هكذا نعيش ومرجعيتنا الكوني دائمًا، وسيكون لأسلوب تعاملنا مع بيئتنا المحلية مُتضمناته على النظام البيئي للأرض، ويكون لأداء اقتصاداتنا المحلية والقومية علاقة بحالة الاقتصاد العالمي … ومستوى فريقنا القومي لكرة القدم سيحدده تصنيف اﻟ FIFA، وهكذا. ويمضي جون أوري (٢٠٠٣م) إلى ما هو أبعد من ذلك ليناقش التحديث الانعكاسي في علاقته بمرونة وسيولة الكوزموبوليتانية، فسرعة ومدى انتشار التدفقات الكونية يَعنِي أننا بِتْنَا نعرف أكثر عمَّا يحدث في المجتمعات الأخرى، وهو تَطوُّر يتحدَّى حقبة الدولة-الأمة عندما كان «المجتمع الآخر شيئًا نخشاه.» (٢٠٠٣م، ١٣٣).
لقد أثار التحديث الانعكاسي جدلًا نقديًّا واسعًا (انظر مثلًا: Alexander, 1996) هناك جدل مثلًا حول ما إذا كان الناس بالفعل يكشفون عن انعكاسية واستقلالية في الوقت نفسه، حيث إننا نولد بهويات وننشأ في جماعات اجتماعية وثقافات تُشكِّل تَوجُّهاتنا وسلوكنا بالأساس؛ ولهذا السبب يرى بعض المُعلِّقين أن هوياتنا القومية تُحكِم قبضتها علينا إلى المدى الذي يجعل الهويات الأخرى تجهد عادة لكي تولد قوة الولاء والالتزام نفسها، يضاف إلى ذلك أننا حتى إذا ما كنا على المستوى الشخصي نستمتع ونفيد من عملية التكوين الذاتي، فذلك لن ينطوي بالضرورة على إضعاف للولاءات القومية؛ والزعم بأن الحال يمكن أن تكون كذلك كما يقول «جون هتشنسون John Hutchinson» (٢٠٠٥) معناه أن نتجاهل المدى الذي تربط به الأساطيرُ والذكرياتُ المُشترَكة الناسَ بدولة ما، وافتراض أنهم يتصرفون على نحو أداتي، رغم أن هذه النقطة لا بد من أن توازن بحقيقة أن العولمة تُعتَبر غالبًا مُولَّدة لمزيد من الفردانية داخل المجتمعات الحديثة،٤ لأسباب تتراوح بين الفرص التي يمكن أن تتيحها والشعور بعدم الأمان الذي يمكن أن تقويه. في ظل مثل هذه الظروف، تضع مشكلة الانتماء لدولة أو لمجتمع قومي ما، التزامات علينا تتراوح بين دفع الضرائب والالتزام العاطفي، وفي النهاية تجعل علينا أن نُضَحِّي بحياتنا من أجلها في أوقات الصراع. من هنا يمكن أن يقيد التماهي مع دولة ما استقلاليتنا. يتبع ذلك إذن في هذا الإطار، أن القبضة التي يفترض أنها ضعيفة وتحكمها علينا ولاءاتنا وهوياتنا غير القومية، سوف تصبح مقبولة منا إلى حد ما، حيث إنها ستضع علينا التزامات أقل، وسيكون لدينا حرية أكبر لمواصلة حياتنا الخاصة مع مرجعية أقل لاختياراتنا الجمعية. في هذا السياق يلاحظ «دي إم جرين D. M. Green» — على عكس هتشنسون — أن هوياتنا السياسية أصبح يُنظَر إليها، على نحو متزايد، بمعنى أداتي، وأنها مسألة تفضيل وليست ضرورة نفسية (٢٠٠٠م، ٨٥).

ونُلخِّص الدعاوى المطروحة في هذا السياق إلى الآن فنقول: المستويات المحسنة في التعليم لعدد أكبر من الناس، بالإضافة إلى دلائل ظهور الذات المنعكسة في العصر الحديث المتأخر، عوامل قد تساعد على إضعاف ولاءاتنا لدول وثقافات مُعيَّنة، ومن ثم، بعيدًا عن حفز قُوى القومية والعرقية، فإن بعض العمليات المرتبطة بالعولمة قد تساعد على إنتاج مواطنين كوزموبولتيان وباختصار: التحديث الانعكاسي والشخصنة المتزايدة التي ينطوي عليها، متطلب رئيسي مسبق للكوزموبوليتانية.

(٢-٦) الحاجة الكونية للكوزموبوليتانية

بأساليبها المختلفة، التطورات التي تم توصيفها إلى الآن، تَتحدَّى البنى الثقافية والسياسية التي ما زالت قادرة على كبح انتشار الكوزموبوليتانية، وهي الدول، والدول-الأممية بالتحديد، وإذا كنا قد رأينا في الفصل السابق أن بعض الناس قد يَتَّجِهون إلى جماعتهم العرقية – القومية بحثًا عن الأمان والتحقق، وأن ذلك سلوك نقيض للكوزموبوليتانية، فإن العمليات الاقتصادية والثقافية الأوسع المرتبطة بالعولمة والمحددة هنا بأنها يمكن أن تكون مُشجِّعة على الكوزموبوليتانية، إلى جانب نقص الدعم المؤسَّسي من دولة-أمة، ذلك قد يعني أن تلك القوميات المحلية سيكون عليها أن تُناضل من أجل البقاء. وربما يكون ذلك رد فعل مؤقَّتًا، مفهومًا إلى حد ما، على الشكوك المواكبة لعمليات العولمة. إلى جانب ذلك هناك شعور إضافي بأن الدول، والدول-الأمة تحاول جاهدة أن تتكيف مع الظروف المعاصرة، وهذا يتعلق بإدارة القضايا العالمية، مثل البيئة، والتنمية، وسياسات التجارة، والأوبئة العالمية، والمخاوف الصحية، والنمو السكاني، وانتقال الناس، وانتشار الأسلحة الذرية، والجريمة العالمية والإرهاب.

المخاطر الكونية تتطلب تفكيرًا كوزموبوليتانيًّا وحلولًا عالمية، وتحديدًا، التطور الأوسع لمؤسسات الحكم الكونية الجديدة؛ مثل منظمة الأمم المتحدة، ومفاهيم العدالة العابرة للحدود؛ مثل أنظمة حقوق الإنسان، الدول-الأمة، والحكومات القومية، على العكس، ليست هي بالضرورة المؤسَّسات الأنسب لتناول مثل هذه القضايا، وكما يحدث في الغالب، سيكون ما يحكم حركتها هو مُتابَعة مصالحها القومية الخاصة؛ وفي رأي «أولريخ بيك Ulrich Beck» (١٩٩٩) أن «مجتمع المخاطر العالمي» لا بد من أن يكون مكانًا كوزموبوليتانيًّا بالضرورة. كل ذلك يضع مسئولية أكبر على المواطنين العاديين في العالم لكي يَتصرَّفوا على نحو أكثر كوزموبوليتانية، ولعل هناك بعض الدلائل على أن ذلك قد بدأ كما سنرى لاحقًا.
بداية، الميديا العابرة للحدود القومية وتكنولوجيات المعلومات والاتصال الكونية، إلى جانب المستويات العالية من التعليم التي أشرنا إليها، كلها تؤيد، ليس فقط وعيًا أوسع بما وصفناه من مشكلات، بل ميلًا أكبر من قبل عدد كبير من الأفراد لكي يزيدوا اهتمامهم بمثل هذه الأمور وتناولها، يضاف إلى ذلك أن الإنترنت والبريد الإلكتروني يجعلان من الأكثر سهولة على الناس القيام بحملات وتنظيم شَبكات عالمية مُوجَّهة لتناول هذه القضايا التي يمكن أن تسهم بدورها في تكوين مجتمع مدني كوني (انظر: Kaldor, 2003)، وهي النقطة التي سنعود إليها لاحقًا.٥ أحيانًا يبدو أن بعض الأفراد والجماعات يُعبِّرون عن مواقف كوزموبوليتانية، مثل المدافعين عن البيئة الذين يتزايد تَحدِّيهم لحكوماتهم؛ لأنهم يعتقدون أن سياساتها ضارة بالبيئة، وبينما قد تكون تلك السياسات لمصلحة قومية ومفيدة لبلادهم، فإن المدافعين عن البيئة سوف يتبنون دائمًا النظرة الكونية وسيكون الكثيرون منهم مُستعِدِّين لكسر القوانين القومية مُصرِّين على أفكارهم (Folk, 1995)، كذلك — وبالمثل — فإن علماء الاجتماع، وحتى بعض السياسيين القوميين يرصدون تناقصًا في الوطنية والقيم المرتبطة بها في المرحلة المعاصرة، مثل الواجب والموالاة. بعبارة أخرى، القول المأثور «بلدي … سواء أكان على خطأ أو صواب» بدأ يندثر بسبب — مثلًا — العدد المتزايد من المواطنين المُستعِدِّين لتحدِّي شرعية بلادهم عندما تذهب للحرب، وفي حالات الموظفين الذين يُسرِّبون الوثائق، والوزراء السابقون الذين يذيعون أسرار الدولة. إن ما يدفعهم إلى ذلك غالبًا، إطار عمل أخلاقي يمتد إلى ما هو أبعد من حدود دولهم، وهو اعتبار لمصير الوطنيين والقوميين الآخرين، الذي يُترجَم باعتباره اكتراثًا بالمصير الإنساني؛ وفي هذه الحالة تكون تصرفاتهم باعتبارهم مواطنين عالميين أكثر منهم مواطنين قوميين، وباعتبارهم كوزموبوليتان أكثر منهم محليين.
هذا التحول قد يكون نتيجة لبعض الضغوط الواقعة على الدول-الأمة، والثقافات القومية كما أوضحنا بالتفصيل من قبل، وهكذا فإن الأمة، وكل ما هو قومي، يدخل في تكوينها مؤثرات عدة على نحو متزايد، إنها حلبة صراع تتواجه فيها وتتنافس قوى التعددية الثقافية والتضامن على أساس يومي، بما ينطوي على فُقدان للسلطة وتناقُص في القدرة على إحكام القبضة على خيال المواطنين. أي فكرة عن أن هُوِيَّاتنا القومية هي الهوية الأساسية أو الهوية المُحدَّدة التي يمكن أن نُعْرَف بها لم تَعُد قادرة على الصمود، ولا بد من أن تكون في تنافُس مع عدد كبير آخر من الهويات للاستحواذ على اهتمامنا، وهذا يجعل من السهل علينا أن نكون كوزموبوليتان. وإذا كان ذلك هو ما يحدث بالفعل، فمعناه، كما يبدو، أننا ندخل مرحلة جديدة تتميز بزوال الخاصية الأولى للدولة -الأمة والثقافات القومية المتجانسة نسبيًّا. مفهوم بديل لما يحدث هو أننا نشهد عودة إلى ماضي المجتمعات مُتعدِّدة العرقية قبل قيام الدولة-الأمة، وفي هذا السياق يؤكد «وليم إتش ماكنيل William H. McNeill» (١٩٨٦) أن التعددية العرقية هي القاعدة بالفعل في تاريخ العالم؛ حيث إن التجانس العرقي القومي كان ظاهرة قصيرة نسبيًّا وغير عادية. بصرف النظر عن هذه التفسيرات الخاصة، وفيما يتعلق بالمزاعم الواسعة هنا، فإن التعددية العرقية وعدم وجود مفهوم مُحدَّد متكامل للدولة المقصودة، تعتبر شرطًا وبيئة مناسبة للكوزموبوليتانية.٦

بالعودة إلى تعيين التجليات المعاصرة للكوزموبوليتانية، فإن المزيد من الكوزموبوليتانية اليومية أو العادية واضح في مقاطَعة بعض سلاسل مطاعم الوجبات السريعة والمقاهي بسبب ممارسات غير أخلاقية حقيقية أو مزعومة، وكذلك النمو العالمي لظاهرة بيع السلع وفقًا لاتفاقية السعر الأدنى. بالإضافة إلى ذلك فإن المزيد والمزيد من الناس يحاولون، لأسباب بيئية، شراء منتجات محلية، وهو تَوجُّه تحاول معظم محلات السوبر ماركت الآن المساعدة عليه؛ كما أن هناك دليلًا على وجود اعتبارات أخلاقية أكثر منها قومية، تؤثر في مجالات استهلاكية أخرى بدءًا من السيارات إلى المعاشات. الحقيقة أن مسألة وزن المزايا النسبية للمحلي والقومي والكوني، هي التي تتطلب من الأفراد أن يتصرفوا بأسلوب كوزموبوليتاني، وهذا دليل أبعد على أن الحداثة الانعكاسية يمكن أن تساعد على خَلْق وعي نقدي ووجهات نظر كوزموبوليتانية، وليس مُجرَّد انشغال بالذات. هذا بدوره قد يفسر جزئيًّا القضايا العالمية التي ظهرت في السنوات الأخيرة، مثل الحملات العالمية لمواجهة المجاعات والفقر ومشكلات البيئة، وربما يبدو أن مواطِني العالم لم يكونوا على وعي أخلاقي بدرجة كافية في بعض المجالات.

ربما يدل ذلك كله على بداية ظهور وعي كوني، الأمر الذي يعتبره «رولاند روبرتسون» جزءًا لا يتجزأ من العولمة ولذلك يسك مصطلح «كلية الكون»، ليصف «حالة الوعي الواسع بالكون كله مُتضمنًا الطبيعة النوعية لهذا الكون» (١٩٩٢م، ٧٨) مع الأمثلة التي ذكرناها، فإن تطورات مثل اتساع السوق العالمية، والحركات الكونية، والقبول بتوقيت كوني مُوحَّد، وإنشاء نظام قضائي دولي (مثل محكمة العدل الدولية)، كل ذلك يشجعنا على التفكير «كونيًّا» وعلى أن «نتخيل» — باستخدام مصطلح بنديكت أندرسون — أننا جزء من مجتمع كوني. في هذا السياق، فإنَّ وعيًا كونيًّا من شأنه أن يسهم في ظهور مجتمع مدني كوني أو عابر للحدود القومية كما أنه يَقوى به كذلك. هذا المجتمع قد يتشكل إذا واصلت مؤسَّسات الحكم الكونية تَطوُّرَها واكتسبت قوة دافعة، على الرغم من أن الحكومات القومية ستواصل اعتراضها. إلى جانب ذلك فإن عدم التساوي في فُرص الوصول إلى تكنولوجيات الاتصال والمعلومات الكونية سيكون في حاجة إلى مواجَهة لضمان تواصل أغلبية المواطنين ولكي تظهر «الفضاءات الاجتماعية العابرة للحدود القومية» — بتعبير أولريخ بيك (٢٠٠٠م) — مما يُسهِّل بناء مجتمع مدني يَتخطَّى الدولة-الأمة. وبالمثل فإن ظهور مجال عام كوني سوف يساعد على تحقيق هذه الغاية، وبينما قد يساعد الفضاء الإلكتروني في ذلك أيضًا، فإن ذلك يتطلب أن تصبح القضايا الكونية ذات معنى بالنسبة للناس، وبالطبع فإن ظهور المشكلات البيئية والإرهاب الدولي ربما يُؤكِّد أن ذلك هو ما يحدث بالفعل. يضاف إلى ذلك أن الأحداث العالمية الأخيرة — أو سلاسل الأحداث — مثل هجمات الحادي عشر من سبتمبر على الولايات المتحدة، وحرب العراق، وكارثة تسونامي في أواخر عام ٢٠٠٤م كانت بالنسبة لبعض الناس ذات مَغزًى وأهمية أكبر من السياسات الداخلية، وربما تُشكِّل — في الوقت المناسب — جزءًا من ذاكرة جمعية كونية. على أن المجال الكوني العام يتطلب كذلك تأسيس منظمات إخبارية وإعلامية ذات تَوجُّه كوني حقيقي، وكما رأينا في الفصل الثالث فإن معظم المنظمات القائمة لها أجندات قومية تعمل عليها.

باختصار، هناك تطورات وعمليات معينة في العولمة قد تكون مشجِّعة للبعض على تَبنِّي منظور أكثر اتساعًا، والعمل بأسلوب كوزموبوليتاني، والأكثر أهمية هو أن بعض المشكلات ذات الصلة بالعولمة تؤكد أن هناك حاجة كونية للكوزموبوليتانية، وكما سنرى لاحقًا، فإن كون هناك حاجة لمثل هذا التفكير لا يعني بالضرورة أن ذلك سيحدث، فكثير من الناس سوف يبقون محتفظين بذهنياتهم وأفكارهم القومية.

(٢-٧) الكوزموبوليتانية والمجتمع الشبكي

الآثار التراكمية للتواصل الثقافي المتبادل، والتأكيد المتزايد للتعليم، والتحديث الانعكاسي، والشخصنة الزائدة، والمشكلات التي تواجه الدولة-الأمة؛ معناها أن أنماطًا مختلفة من الاحتياجات والضغوط تقع على عاتق الأفراد. المهارات الجديدة واستراتيجيات التَّصدِّي مطلوبة الآن: علينا جميعًا أن نكون أكثر استقلالية، مُعتمدِين على أنفسنا وحركيين جغرافيًّا. هناك تأكيد أكبر على مهارات التواصل الشخصي المتبادَل وتطوير شبكات الصلات والمعارف. وعلى الرغم من أن ليس الكل يعيشون ويعملون بموجب هذه التغيرات، من الممكن اكتشاف ظهور مَن يُطلَق عليهم «الكوزموبوليتان المتصلون» وليس ذلك بين الشباب فقط. كلهم يسافرون كثيرًا ومُلمِّون بتكنولوجيات الاتصال الحديثة ومعتادون على الاتصال الشبكي، وكثيرون منهم يطورون أساليب اتصال وعلاقات واسعة بالداخل والخارج. كلهم — باختصار — متوائم ومتكيف جيدًا للعمل في إطار المجتمعات أو الاقتصادات القائمة على المعرفة.٧
الأفكار والمعلومات مصادر رئيسية لإنتاج الثروة والتطور المجتمعي داخل الاقتصادات القائمة على المعرفة، وتطوير مثل هذه الاقتصادات يتطلب اتصالًا منتظمًا بين المجتمعات وعَبْرها، وهذا، بدوره، ما يُؤدِّي إلى أن يكون الأفراد معارف وصداقات جديدة في دول مختلفة. وعلى الرغم من أن تبادُل المعلومات كان يحدث في الماضي فإن اتساع وقوة هذه المبادَلات الحالية، هي التي تجعل عصرنا مختلفًا عن المراحل التاريخية السابقة. الجامعات، على نحو خاص، أصبحت مواقع رئيسية للتفاعل الثقافي، وهذا الدور ينمو باطراد، فإلى جانب حضور المحاضرات والمؤتمرات الدولية وسفر الطلاب لاستكمال الدراسة في الخارج، فإن تكوين شبكات معلومات سياسية عابرة للحدود ومجتمعات متعددة المجالات المعرفية عبر الإنترنت أصبح تطورًا حديثًا ملحوظًا (Stone, 2000).
السماح للمواطنين بتبادل الأفكار والمشاركة في أفضل الممارسات أسلوب مثمر بالنسبة للحكومات لتحسين الظروف المادية في مجتمعاتهم، والحكومات نفسها تعمل بهذا الأسلوب، فترسل الوفود والبعثات للخارج للتعلم من الدول الأخرى، وهو ما يجعل من الصعب بالنسبة لها أن تقيد أنشطة شبكات السياسات العالمية أو تمنع مواطنيها من العمل بالأسلوب نفسه، كما أن أي حكومة قومية تحاول منع مثل هذا النشاط فإنما تضر باقتصادها وبمجتمعها، وهناك أمثلة عديدة لمجتمعات انعزلت عن المجتمع العالمي — كوريا الشمالية وجنوب أفريقيا العنصرية وعراق صدام حسين مثلًا — فكانت متخلفة عن غيرها من المجتمعات التي تقارن بها، وهكذا، بينما قد تكون الدوافع وراء مثل هذه الأشكال من التبادل الكوني أنانية أو مغرقة في القومية، إلا أنها تسهل الحوار والتفاعل الثقافي والاجتماعي المتبادل، وهي بدورها متطلبات للكوزموبوليتانية. شبكات السياسة العالمية وتبادُل المعلومات ليست مقصورة على الحياة الأكاديمية والحكومات. المنظمات العالمية غير الحكومية وشبكات المناصرة والدعم العابرة للحدود القومية (انظر: Keck and Sikkunk, 1998). حتى الجماعات المناهضة للعولمة مُنظَّمة على هذا النحو، بالنسبة ﻟ «مانويل كاستلز» (١٩٩٦م)، ذلك كله جزء من «المجتمع الشبكي» الذي يتميز به عصرنا، ويجعله يتصف بنشر المعلومات على نطاق كوني: التدفقات المعلوماتية متعددة الاتجاهات، وتتجاهل الحدود القومية بدرجة كبيرة. «هانرز Hannerz» يعتبر «المجتمع المسكوني العالمي» شبكة مكونة من عدة شبكات تجتذب الأفراد والجماعات إلى «وجود أكثر عولمة» (1992b: 47)، يضاف إلى ذلك كله أن الانفتاح والطبيعة غير التراتبية للشبكات العالمية تشجع على تكوين فضاءات عامة عابرة للحدود، ومجتمعات افتراضية، ومن ثم تسهل المخالطة الاجتماعية إلى ما هو أبعد من الدولة-الأمة. المجتمع الشبكي — إذا رجعنا إلى تعريفنا للكوزموبوليتانية — (يتكون من أناس من كثير أو كل أجزاء العالم) بما يسمح بحقيقة إمكانية استخدامه لأهداف غير كوزموبوليتانية أو مناهضة لها، وهو مكان كوزموبوليتاني بالمعنى الدقيق للكلمة. على أية حال، ما إذا كانت هذه التطورات يمكن أن تُسهِم في تكوين مجتمع كوزموبوليتاني أو عالمي، أمر ليس مؤكدًا تمامًا.
هناك الآن اعتراف متزايد بمحدودية الاتصالات عبر الكمبيوتر وخاصة فيما يتعلق بمدى أهمية المجتمعات والجماعات الاجتماعية الافتراضية بالنسبة للمهتمين بها، بعبارة أخرى، هذا النوع من التجربة لا يمكن مقارنته بالتواصل أو التفاعل الشخصي الفعلي في «الحياة الحقيقة»، كما أنه عرضة لأشكال مختلفة من الابتزاز، على أن للاتصال عبر الإنترنت من يدافعون عنه ويتحمسون له، والفضاءات الإلكترونية التي يوفرها لأشكال التواصل الاجتماعي تنطوي على إمكانيات كوزموبوليتانية، وحيث إنه لا وجود للتفاعُل وجهًا لوجه، فإن التراتبيات التقليدية في النوع والطبقة والجنس أقل ظهورًا، ومن ثم لن تكون مجال خلاف (Holmes, 1997)؛ ويرى «باري ويلمان Barry Wellman»، و«ميلينا جوليا Melina Gulia» (١٩٩٩) أننا إذا نظرنا إلى المجتمعات الإلكترونية في علاقتها بغيرها من التطورات التكنولوجية مثل التليفونات والطائرات، فسوف نألف فكرة أن العلاقات الاجتماعية والتضامن الاجتماعي يمكن أن توجد دون تقارب فيزيقي، هناك كذلك — من منظور أوسع — سبب إضافي يجعلنا نشعر بأننا نشهد انتشارًا للكوزموبوليتانية، وهو أنها — ببساطة — مفيدة لنا. النظرة الكوزموبوليتانية تمكننا من ممارسة وتعلم الكثير من الثقافات والمجتمعات المختلفة، وبالتالي توسع معرفتنا وآفاقنا.
أن نكون معارضين للكوزموبوليتانية معناه إذن أن تَفرِض قيودًا على حياتنا. «مارتا ناسباوم Martha Nussbaum» (١٩٩٦) تعتقد أن الكوزموبوليتانية تسهل معرفتنا بأنفسنا؛ لأننا كلما عرفنا المزيد عن الآخرين أصبحنا أكثر قدرة على معرفة أنفسنا؛ وكما بَيَّنَّا من قبل فإن الكوزموبوليتانية مفيدة كذلك بالنسبة للمجتمعات حيث تمكنها من استيعاب أفكار جديدة ومؤثرات ثقافية تسهل تطورها وتمنع ركودها وتحللها. على أن هذا التأكيد العام لمزايا الكوزموبوليتانية ليس مرتبطًا بالعولمة مباشرة بالطبع، وإن كانت هناك جوانب منها (من العولمة) مثل تكنولوجيات المعلومات والاتصال العالمية وتزايد وتيرة السفر، يمكن أن تسهل الخبرات الكوزموبوليتانية، والحقيقة أن مقاوَمة الضغوط الكوزموبوليتانية ستجعل الأفراد والمجتمعات يحاولون عزل أنفسهم عن عمليات العولمة.

(٢-٨) ما الدليل على انتشار الكوزموبوليتانية؟

هناك جِدال مُضاد للقضية التي نتناولها هنا، مفاده أنه لا يوجد دليل ملموس على انتشار الكوزموبوليتانية، هذا الانطباع يُقوِّيه، في أوروبا، تزايُد التأييد للأحزاب والجماعات اليمينية المتطرفة في الفترة الأخيرة، إلا أن الحظوظ الانتخابية مُؤشِّر لا يمكن التعويل عليه كثيرًا لقياس التوجهات العامة. الأهم من ذلك هو أن عددًا من العمليات والتطورات طويلة المدى، المرتبطة بالعولمة — مثل تقدُّم تكنولوجيات المعلومات والاتصالات وزيادة السفر والتحديث الانعكاسي وتحديات الدولة-الأمة والتأكيد الكبير على التعليم العالي — كل ذلك يمكن أن يُولِّد أشكالًا من الكوزموبوليتانية.٨ وبينما ينبغي ألا نقلل من أهمية أو أخطار اليمين المُتطرِّف، يبدو أن التوجهات التاريخية تعمل ضد هذه الأخطار. الواقع أن الانبعاث الحديث لليمين المتطرف يمكن قراءته باعتباره معركة وقائية، ومحاولة للتمسك بالحدود وبالنظام في مواجهة التَّغيُّر وعدم التَّوقُّع والسيولة المصاحبة لعمليات العولمة؛ كما أننا في عصر العولمة سيكون علينا أن نغير من توجهاتنا إن لم تكن مُنطوية على مُفارَقة تاريخية، فالأفراد الذين يرفضون التَّكيُّف سيجدون أنفسهم في خصام مع صور التواصل المختلفة التي تُميِّز العصر، والأرجح أن من سيزدهرون في عصر العولمة هم أولئك المنفتحون على الثقافات والتقاليد الأخرى، القادرون على التعلم منها والأخذ عنها.

(٣) مَن أو ما الكوزموبوليتان؟

من النظر إلى الجوانب الثقافية والاجتماعية للكوزموبوليتانية يتبلور تَصوُّرُنا لها هنا كتجربة معيشة، وهو أمر ممكن عندما نستطيع أن ننظر إلى ما هو أبعد من ثقافتنا القومية، وعلى الرغم من ذلك فإن تَخلِّيَك عن ثقافتك الخاصة لا يعني أنك أصبحت كوزموبوليتان. الكوزموبوليتانية ليست حالة مكتملة، على نحو أكثر تحديدًا، هوياتنا القومية وثقافتنا الخاصة لا تستبعد التطور من منظور كوزموبوليتاني؛ كذلك فإن سيادة الدولة-الأمة والقومية لا تعني أن أي شخص لا يمكن أن يَتحرَّر تمامًا من ارتباطاته القومية. فالمرء يمكن أن يظل روسيًّا أو مكسيكيًّا مثلًا وهو كوزموبوليتان. لكي تكون كوزموبوليتان، منفتحًا على الثقافات والتجارب الثقافية الأخرى، فإن ذلك يتطلب أن تكون مُتحرِّرًا من القيود والانحيازات، وهو ما يعيدنا إلى تعريف الكوزموبوليتانية الذي لخصناه في بداية هذا الفصل. طالما نحن لم نعرف بثقافتنا القومية الخاصة يبقى الاحتمال بأن نُطوِّر نحن موقفًا كوزموبوليتانيا؛ وكما رأينا فإن العولمة يمكن أن تُسهِّل هذا الانتقال؛ لأن عملياتها وتَجلِّياتها تمكننا من ممارسة تعددية من المؤثرات الثقافية، وأن نكتسب ارتباطات ومصادر للولاء، بل إننا إذا قبلنا حالة الهجنة، وأن النتيجة الرئيسية للعولمة هي إحداث المزيد من الاختلاط وتقليل التمايز الثقافي، يصبح من الأسهل نظريًّا أن نتخطَّى الحدود القومية. العالم، باختصار، أصبح «طيفًا متدرِّجًا يحتوي فوارق واختلافات مختلطة» (Geertz, 1980: 147).
أن تكون كوزموبوليتان لا يكفي أن تكون، فقط، متحررًا من الانشغالات القومية. إذا كان ذلك هو المعيار الوحيد، فقيادة ومُؤيِّدو «القاعدة» سيكونون مؤهلين إذن ليكونوا كوزموبوليتان؛ لأنهم برغبتهم في عودة الخلافة إنما يبحثون عن نهاية الدولة-الأمة في العالَمَين العربي والإسلامي. لا بد إذن من أن تكون هناك عوامل إضافية ليصبع المرء كوزموبوليتان، سنذكر عاملين منها الآن: لا ثقافة ولا جماعة اجتماعية ولا تراث — سواء قومي أو غيره — ينبغي أن يكون له تأثير علينا لدرجة أن يكبح وجهة النظر الكوزموبوليتانية؛ بعبارة أخرى: شعورنا بالارتباط بثقافة مُفرَدة أو جماعة أو مجتمع ما، ينبغي ألا يكون قويًّا إلى درجة تَحول بيننا وبين احتكاكنا بثقافات أو جماعات أو مجتمعات أخرى. ثانيًا: إلى جانب أن نكون قادرين على استيعاب التجارب الثقافية الأخرى، لا بد من أن تنطوي الكوزموبوليتانية على مجموعة من التَّوجُّهات والقيم (انظر: Held, 2004).
وهكذا سيكون الشخص الكوزموبوليتان مَعنيًّا بمستويات عامَّة للعدالة وحقوق الإنسان، كما سيكون حساسًا بالنسبة للثقافات الأخرى عندما يتفاوَض على هذه المستويات، ولديه شعور بالزمالة مع مواطني العالم، ومُهتمًّا بأساليب المساواة والمشاركة في ثقافات الشعوب الأخرى. سبب آخر للبرهان على هذه الفكرة هو أن إحدى القراءات للشخص الكوزموبوليتان هي اعتباره — ببساطة — شخصًا مستهلِكًا لتجارب ثقافية (غربي على نحو نموذجي)، عابرًا لمجتمعات مختلفة دون أن يكون له حصة في أي منها، وبذلك فهو منتزع عن البشر في تلك المجتمعات؛ وقد عبر «جوناثان فريدمان Jonathan Friedman» عن ذلك على نحو أكثر دقة مجادلًا بأن الكوزموبوليتان شخص «يسهم في عوالم كثيرة دون أن يصبح جزءًا منها» (١٩٩٥م، ٧٨). على النقيض من ذلك، الوضع الذي نتناوله هنا هو أنه بدلًا من التَّرحُّل الحر والاحتفاظ بمسافة وربما اتخاذ وضع الترفع أحيانًا، ينبغي أن يكون الشخص الكوزموبوليتان مُهتمًّا اهتمامًا حقيقيًّا بالثقافات والمجتمعات التي يواجهها؛ لأن ذلك يعني التعبير عن «إنسانية مشتركة»؛ أي الكوزموبوليتانية الخاصة به.
ما نخرج به من هنا هو أن الكوزموبوليتانية عملية انتقائية، فنحن لا نولد كوزموبوليتان. نحن، بالأحرى، نُولَد ونَنْشَأ في مجتمعات مُعيَّنة، أما وجهات نظرنا فتنبع من مجموعة مؤثرات، كثير منها — وليس كلها — ينبع من تلك المجتمعات مثل التعليم الذي حصَّلْناه. هذا يعني أن الفرد الذي يُطوِّر منظورًا كوزموبوليتانيًّا سوف يظل محتفظًا ببعض الولاءات لجماعات بعينها؛ مثل الأسرة والأصدقاء والجماعة الاجتماعية، وسيكون عليه أن يوازن بين توافُقات من الاحتياجات والاهتمامات، بين العام والخاص، وبين العالمي والمحلي في حياته. الكوزموبوليتان سيكون — باختصار — تَجلِّيًا للاختراق المتبادَل بين الكوني والمحلي؛ وفوق ذلك ينبغي ألا نعتقد أن ارتباطاتنا والتزاماتنا الخاصة متنافرة بالضرورة مع الكوزموبوليتانية (انظر: Appiah, 1996).
إن مجتمعاتنا، إلى جانب كونها مَصادر للمعنى والتحقق، يمكن كذلك أن تُزوِّدَنا بالقيم العامة اللازمة للتفكير والسلوك بأسلوب كوزموبوليتاني،٩ والحقيقة أن الشخص الذي ليس لديه أي تَعاطُف أو شعور بالمَودَّة نحو الناس الذين نَشأَ معهم، ليس من المُرجَّح أن يشعر بأي تعاطُف أو مَودَّة تجاه الإنسانية كلها. بعبارة أخرى: أن تشعر بالولاء نحو «المجتمع الإنساني العالمي» إن جاز لنا أن نستخدم عبارة «مارثا نسباوم» (١٩٩٦م، ٤)، فإن ذلك «لا بد من أن يكون مُتضمِّنًا مَن ينتمون إلى مجتمعك المحلي أو الخاص».١٠ هناك إذن علاقة بينية بين الكوني والمحلي عندما يكون الأمر مُتعلِّقًا بالكوزموبوليتانية. في هذا السياق مثلًا، إذا كان لديَّ أطفال وقُمتُ بتنشئتهم على قِيَم التسامح والتراحم والمودة، فلا شك أن ذلك سيكون مفيدًا لكل من مُجتمعي الخاص وللإنسانية بشكل عام، وإذا كان أطفالي قد نشئوا وتَعلَّموا على هذا النحو، فلا بد من أن يكون هناك أمل في أنهم لن يكون لديهم أي مَيل للتمييز بين الخاص والعام.١١ ذلك كله يدعم النقطة التي سبق إيضاحها عن الدور الذي يمكن أن يقوم به التعليم والتحديث الانعكاسي في تدعيم الذكاء النقدي، الذي يمكن بدوره أن يقدم الأساس لخيار كوزموبوليتاني، وامتلاك ولاءات مُتعدِّدة، وتَعدُّدية في الاهتمامات التي تتجاوَز حدود التمايزات العامة – الخاصة.

(٤) … وأخيرًا

كان الاهتمام في هذا الفصل مُنصبًّا على استكشاف الروابط الممكنة بين عمليات العولمة والأبعاد الثقافية والاجتماعية للكوزموبوليتانية. لم يكن هناك زَعْم بأن التَّدفُّقات الثقافية المتزايدة هي التي تُفرِز الكوزموبوليتانية بالضرورة، ولكننا رأَيْنا أن هناك عددًا من العمليات طويلة المدى المرتبطة بالعولمة أو تُعْتَبر منتجات فرعية لها، قادرة على استثارة الكوزموبوليتانية.١٢ التطورات الكونية المعاصرة وبخاصَّة الهجرة العالمية، التفاعل الثقافي الكبير والاتصالية، المدن المُعَولَمة، المخاطر الكونية، التحديث الانعكاسي، المستويات المرتفعة للتعليم، التدفقات الثقافية المتزايدة … بالطبع، كل ذلك يحمل إمكانيات خلق تَوجُّهات وميول كوزموبوليتانية، بإتاحة الفرصة لنا لأن نفكر فيما هو أبعد من ثقافتنا ومجتمعاتنا الخاصة. في هذا السياق، فإن التحديات التي تجلبها عمليات العولمة للثقافات القومية والدولة-الأمة، هي متطلبات ضرورية مسبقة لتحقيق ارتباطات وولاءات أبعد من هذه المكونات.
على أية حال، ينبغي ألا نبالغ في أهمية العلاقة بين العولمة والكوزموبوليتانية؛ فالعولمة، كما يرى «جان آرت شولته Jan Aart Scholte» كل ما فعلته هو أنها شَجَّعتْ «نموًّا متواضعًا في الارتباطات الكوزموبوليتانية» (٢٠٠٠م، ٥). الأهم، أن تحديد انتشار أو عدم انتشار الكوزموبوليتانية ليس أمرًا هيِّنًا، فهو شيء ينعكس في ندرة المعلومات والبيانات المتاحة؛ ولذلك فإن التركيز هنا مُنصَبٌّ على وصف التَّوجُّهات العولمية والتوجُّهات العريضة ذات الآثار الكوزموبوليتانية المحتملة، لقد فحصت «بيبا نوريس Pippa Norris» (٢٠٠٠) على أية حال، البيانات المتاحة بالنسبة للعولمة على ضوء عمليتي المسح اللتين أُجْرِيَتا في «۱۹۹۱-۱۹۹۰م، و١٩٩٥–١٩٩٧م»، للقيم العالمية المبنية على أدلة من ٧٠ دولة، لتكشف عن أنه مُقارَنة «بالعالم كله»، كانت نسبة تماهي الناس بقوة مع دولتهم أو محليتهم أو منطقتهم هي: ١٥٪، و٣٨٪، و٤٧٪ على التوالي، ولكن المسح كشف كذلك عن فجوة جيلية، فأولئك الذين وُلِدوا بعد الحرب العالمية الثانية كانوا أكثر ميلًا نحو رؤية أنفسهم بوصفهم مواطنين كوزموبوليتان أكثر من الأجيال السابقة، مما يدلُّ على أن «الرأي العام، على المدى الطويل، يتحرَّك في اتجاه أكثر عالمية» (ibid., 175).

من المثير للاهتمام كذلك، أن «نوريس» تُسلِّط الضوء على المستويات التعليمية المرتفعة وعمليات التحضير المتزايدة باعتبارهما يُسهِمان في هذا التوجه؛ على أن مثل هذه البيانات قديمة (مر عليها أكثر من عقد)، ولكي نعود إلى جدال هذا الفصل ينبغي عدم النظر إليها — أو اعتبارها — باعتبارها حالة «إما … وإما، أي إننا إما أن نكون كوزموبوليتان أو محليين، أو إما كوزموبوليتان أو قوميين». الكوزموبوليتانية، بالأحرى ينبغي اعتبارها عملية تراكمية، تتميز بتجمع مؤثرات ثقافية وولاءات وتجارب تتفق مع قدراتنا بوصفنا بشرًا على امتلاك أكثر من هوية، على أن ذلك يعني أيضًا أن صحة وسلامة الصلات بين العولمة والكوزموبوليتانية تعتمد على دقة فَهْم المرء للعولمة المعاصرة، وكما رأينا في الفصول السابقة فإن العمليات المتعددة للعولمة قادرة كذلك على خلق رُدود فعل قومية ضيقة الأفق.

الأشكال الأوسع والأعمق من التواصلية الكونية المتبادلة يمكن أن تساعدنا على التفكير فيما هو أبعد من الدولة-الأمة، كما تُذكِّرُنا في الوقت نفسه بارتباطنا بها، وخاصة في عالم سريع التغير؛ وسيكون على المشاعر الكوزموبوليتانية أن تتنافس دائمًا مع الجذب الشديد لارتباطاتنا المحلية، وتلك بالتأكيد وجهة نظر «أنتوني سميث Anthony Smith» الذي يعتقد أن الثقافة الكوزموبوليتانية ستكون ضحلة وبلا جذور مقارنة بثقافاتنا «العميقة» القائمة (١٩٩٥م، ٢٤). من هنا وبالنسبة للمستقبل المنظور، سوف يظل صدى الولاءات المحلية والقومية يتردد لدى كثير من الناس، رغم أن ذلك، كما رأينا، لا يمثل عقبة في سبيل تكوين منظور كوزموبوليتاني ينبغي النظر إليه باعتباره عملية تَكوُّن ذاتي. عندما تَمنعُنا ولاءاتنا الخاصة من جمع هذه التجارب ومن مواجَهة الثقافات الأخرى على النحو الصحيح، حينذاك فقط يصبح هناك مشكلة فيما يتعلق بالكوزموبوليتانية.

على أن تطوير نظرة كوزموبوليتانية في النهاية سيكون رهنًا بعدة عوامل أكثر من مجرد توفُّر «فرص كوزموبوليتانية» والضغوط التي تُولِّدها المشكلات المرتبطة بالعولمة، وهذه تتضمن نمط عملية أو عمليات العولمة المرتبطة بها، والمجتمعات التي يحدث فيها ذلك التفاعل، والأفراد الذين يمارسون هذه المواجَهات؛ فليست كل المجتمعات مثلًا تَمر بعمليات التحديث الانعكاسي الذي لخصناه سابقًا. يضاف إلى ذلك أن الفهم، أو حتى التَّقمُّص العاطفي، الناتج عن التواصل والألفة مع الثقافات المختلفة سوف يَتوقَّف إلى حد بعيد على الأفراد بناء على تجاربهم الحياتية وميولهم وخلفياتهم التعليمية والاجتماعية. وسوف يُؤثِّر ذلك فيما إذا كان الناس يريدون أو لا يريدون ممارسة ثقافات مختلفة، أو يعتبرون المهاجرين خطرًا، أو على استعداد لإقامة علاقات تجارية مع الشركات الأجنبية، وهكذا. لهذه الأسباب فإن طبيعة وتأثير عمليات العولمة مُعقَّدة ومُتفاوتة في الوقت نفسه.

باختصار، سوف يتوقَّف ما إذا كانت الكوزموبوليتانية نابعة من التدفقات الكونية المتزايدة وأشكال التواصل المتبادَل، على الأطر الخاصة التي تُمارَس فيها هذه القوى وعلى الجماعات والأفراد الذين يمارسونها. هذه الأطر سوف يتخللها بالطبع، وإلى حد بعيد، عمليات عولمية تساعد في تَشكُّلها، وهو ما يبين مرة أخرى أهمية فحص تقاطعات الكوني والمحلي واستخدام سلسلة من الاستشرافات المنضبطة جزءًا من تحليلنا بدلًا من تَبنِّي أسلوب بحث سوسيولوجي وثقافي فقط، وهو ما يعني كذلك أن الأشكال والدرجات المختلفة للكوزموبوليتانية (تنويعات على الكوزموبوليتانية إن شئت)، سوف تظهر، وهو ما يعيدنا إلى النقطة التي أوضحناها في بداية هذا الفصل: التوجه الظاهر للنظر إلى الكوزموبوليتانية بصيغة الجمع.

للمزيد

  • الكوزموبوليتانية مفهوم يَلقَى اهتمامًا أكاديميًّا ونقديًّا متزايدًا. أحد المُنظِّرِين الذين حاولوا — على نحو خاص — استكشاف العلاقة بين العولمة والكوزموبوليتانية هو «أولريخ بيك Ulrich Beck» في أعمال مثل: What is Globalization? (2000)، ومقال بعنوان: The Cosmopolitan Perspective: Sociology in the Second Age of Modernity (2002).
  • من أهم الكتابات التي تتناول هذ الموضوع مقال UIf Hannerz بعنوان:
“Cosmopolitans and Locals in World Culture” (1990).
  • عن العلاقة بين الكوزموبوليتانية والدولة-الأمة وقضية السيادة انظر: Kymlicka and Straehle (1999) and Pogge (1992) على التوالي.
  • من الكتب التي تتناول الأبعاد الثقافية والاجتماعية للكوزموبوليتانية، انظر:

  • C. A. Breckenridge et al. (eds), “Cosmopolitanism,” (2002).
  • John Tomlinson, “Globalization and Culture,” (1999a).
  • John Urry, “Global Complexity,” (2003).
١  مُعبِّرًا عن الأساليب المختلفة لاستشراف الكوزموبوليتانية يميز «صمويل شيفلر Samuel Scheffler» (١٩٩٩) تمييزًا مثيرًا للاهتمام بين الكوزموبوليتانية «في مجال العدالة»، و«الكوزموبوليتانية في مجال الثقافة». وبالمثل يميز «جيرمي والدرون Jermey Waldron» (٢٠٠٠)، بين الكوزموبوليتانية في الثقافة والفكرة الكانطية عن حق كوزموبوليتاني. الأمر مجال جدال لا شك، على نحو آخر: هل بالإمكان أن نعيش على نحو كوزموبوليتاني ثقافيًّا دون أن يكون لدينا شعور كوزموبوليتاني بالعدالة والأخلاقيات؟
٢  على الرغم من ذلك، فإن هذه المواجَهات الثقافية تُثير قضية الأصالة، على نحو أكثر تحديدًا … إلى أي مدًى تم تعديل وتكييف هذه الأطعمة والمطابخ والمعتقَدات الدينية والموسيقى … إلخ لكي تناسب الأذواق المحلية وتَرُوق لها؟ في مجال الموسيقى على سبيل المثال، أُثِيرَت شكوك حول ما إذا كان مشاهير الفنانين وموسيقاهم يُمثِّلون مجتمعاتهم وثقافاتهم عن حق، وعلى مستوى أعمق هناك، قضية ما يمثل الثقافة الحقيقية — الأصلية — في إطار العولمة الثقافية، وتلك قصة طويلة تتطلب إفراد كتاب خاص لدرسها.
٣  مصطلحات هذا المجال محل خلاف شديد. هناك كتاب مثل «كنج King» (١٩٩٠)، و«ساسين Sassen» (٢٠٠١) يستخدمون مصطلح «المدينة الكونية» الذي يرى الثاني أنه يمكن تطبيقه — فقط — على لندن ونيويورك وطوكيو. وهناك كُتَّاب آخرون يتحدثون عن «مدن عالمية» (Knox, 2002)، وربما عن «مدينية عابرة للحدود القومية» (Smith, 2001). وسوف نستخدم هنا فكرة المدن الكونية لنعني بها مُدنًا، غير تلك الثلاث المذكورة، أصبحت مراكز كونية مهمة. كذلك يُعبِّر المصطلح عن تفاوت وعدم اتساق في مصطلح العولمة ذاته (Marcuse and Van Kempen, 2000).
٤  للوقوف على شرح وافٍ لكيفية قيام عمليات العولمة بتدعيم نزعة الفردانية، انظر كتابي: Rebuilding Communities in an Age of Individualism (2003) وخاصة الفصل الثالث.
٥  على الرغم من ذلك فإن مفهوم المجتمع المدني الكوني يواجه انتقادات كثيرة. انظر على سبيل المثال: (Shaw, 1994).
٦  على الرغم من ذلك فإن النقاط الموضحة هنا تتطلب أن نُوازِنها باقتناع أولئك الكُتَّاب الذين يعتبرون الدول والهويات القومية تحتفظ بحيويتها حتى في هذه الحقبة المُعَولَمة (انظر: Smith, 1995).
٧  بالطبع، هي ليست بالضرورة الحالة التي تؤدي فيها تكنولوجيات الاتصال العالمية إلى نتائج كوزموبوليتانية أو حتى تستخدم لأهداف كوزموبوليتانية، وكما رأينا في الفصل السابق فإن القوى غير الكوزموبوليتانية أو المضادة لها مثل جماعات الأقليات العرقية واليمين المتطرف تستخدم كذلك تلك التكنولوجيات.
٨  يستخلص «أولريخ بيك» نتيجة تخص هذا الجدال حول «العصر الثاني للحداثة» الذي ساعدت الحداثة في تأكيد أننا ندخله. ويعتبر «بيك» الكوزموبوليتانية حليفًا للعولمة؛ حيث إنها تتحدَّى الدولة-الأمة: «العولمة تعنى أن عددًا كبيرًا متزايدًا من العمليات الاجتماعية غير مكترث بالحدود القومية». (٢٠٠٢م، ٢٦)، على أن «بيك» يحذر بأن ذلك لا يعني أننا سنصبح كلنا كوزموبوليتان، بما أن الحركات المضادة سوف تبقى كما هي.
٩  بالطبع، ليست كل الدول تعمل بهذا الأسلوب. «أمي جوتمان Amy Gutman» مقتنع بأن «معظم الدول لا تعرف، ناهيك عن أن تُمارِس أي شيء له صلة بحقوق الإنسان» (Gutman: 1996: 66). وهذه نقطة مهمة؛ وفي هذا السياق يرى «جيرار ديلانتي Gerard Delanty» (٢٠٠٠) أن الكوزموبوليتانية لها جذورها فيما يسميه بالمجتمعات الأهلية.
١٠  للاطلاع على نقاش مُهِم حول ما إذا كان سيصبح علينا الالتزام على نحو أكبر بمجتمعاتنا، أكثر من التزامنا بالمجتمع العالمي، انظر: Samuel Scheffler, 1999
١١  هذه النقطة من وحي مقال «هيلاري بتنام Hilary Putnam» الذي يحمل عنوان: Must We Choose between Patriotism and Universal Reason? (1996).
١٢  على الرغم من أننا ينبغي ألا ننسى أن الكُتَّاب المتشككين في العولمة سوف يرتابون في طبيعة هذه العمليات وربما ينكرون وجودها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤