الفصل الخامس عشر

خصصت يوشيكو وقت الظهيرة في أحد الأيام لستسكو، وجعلتها تقابل عشيقها المسمى «إيدا». لا تُحس ستسكو بأي عرفان لهذه المقابلة على الإطلاق. عندما قابلته وجدته رجلًا يقترب عمره من الأربعين عامًا جافَّ الطباع متكلف المنظر، مما جعلها ترتاب في ذوق يوشيكو. لقد كان بالنسبة لستسكو من نوع الرجال الذين ليس لهم أي جاذبية، ولكن ستسكو المتواضعة لم تُظهر هذا الانطباع على ملامح وجهها، ومن خلال بصيرتها النافذة التي اكتسبتها على مدى الأيام، حرصت على ألا تساير يوشيكو حتى لو تلفظَت الأخيرة فيما بعد بشتائم تجاه هذا الرجل التي كرهته بالفعل وتعتبره مزعجًا. ثم بدأت ترسم في خيالها ملامح الوجه الفائق الحيوية والشباب والذي سيصبح عدوها اللدود على مدار فترة من الزمن، وتعجبت من مشاعر الفخر التي أحست بها عندما قارنت بسرعة بينه وبين إيدا.

على أي حال فقلب ستسكو الآن لا توجد به أية مساحة خالية لمراعاة مشاعر الصداقة. لقد كانت تستمع شاردة تمامًا إلى إلقاء الاثنين لشكواهما بالتبادل، وقد نفِد صبرها من شكوى الرجل المخلصة والملحة في نفس الوقت، وهي تتذكر طزاجة الرجل البارد غير المخلص.

وهكذا بينما سقطت هي في تلك الحالة من الشرود التام، فقد فوجئت أن يوشيكو وإيدا كانا قد بدآ مشاجرة كلامية أمامها. كان المكان عبارة عن بار في أحد الفنادق؛ لذا فمن حسن الحظ أن كل الزبائن كانوا من الأجانب، ولكن الاثنين اللذين نسيا اللباقة، أخذا يتبادلان التجريح الذي وصل لدرجة تقييم العملية الجنسية، وأثناء ما كانت يوشيكو في حالة خفقانٍ قلبي، وقف إيدا الذي كان قد احمرَّ وجهه من الغضب وغادر المكان فجأة.

كانت يوشيكو التي تُركت لا زالت الحُمرة تعلو وجهها وتقاطعَت أنفاسها قليلًا، ولكن كانت ملامحها وكأنها مغلفة بغشاء من الجبس الرقيق. قامت ستسكو بمواساتها ببعض الكلمات، ثم اعتذرت لها عن عدم استطاعتها المساعدة، ولكن يوشيكو قالت: «لم يكن هناك حل آخر سوى إغضابه بهذه الطريقة لجعله يرحل، وإلا لظَل طوال اليوم دون أن يفارقني. شيء مقزز. إنني على وشك الموت يا صديقتي.»

لم يكن للحديث تكملة، فراحت ستسكو تدور بنظرها في زبائن البار. كانت هيئتهم عبارة عن سياح لديهم المال والغِنى ويفيض لديهم وقت الفراغ. كانوا قد ملُّوا كثيرًا من وضعهم المعلق أثناء الرحلة، يهزون أرجلهم الفارعة الطول الموضوعة إحداها على الأخرى، يفردونها حينًا ويثنونها آخر.

فجأة رأت ستسكو في ذلك وضعها السابق. في ذلك الوقت لم تكن ستسكو تعرفت على الغَيرة، وكان لديها فائض من وقت الفراغ. لكن الآن هل رحل عنها ذلك الفراغ؟ إذا سألت نفسها هل تَولَّد لديها عِوضًا عن وقت الفراغ شيءٌ له كثافة مؤكدة يملأ ذلك الفراغ، لكانت الإجابة بالنفي.

وجهت يوشيكو لها الحديث فجأة قائلة: «ألا توجد لديك رغبة في الانتقام من حادثة الملهى الليلي؟ من أجل ذلك يجب عليكِ الاستعداد جيدًا وانتظار الفرصة المناسبة بتأنٍّ. غدًا ستقابلين تسوتشيا للمرة الأولى بعد الجراحة أليس كذلك؟ عندما تقابلينه حذار أن تذكري على لسانك شيئًا عن موضوع الملهى الليلي. لو أظهرتِ غَيرة عليه سينتهي الأمر.»

ابتسمت ستسكو قائلة: «أنا أفهم ذلك.»

كانت ستسكو في ذلك الوقت قد وصلت تدريجيًّا إلى ذلك الشعور حتى دون إرشادها، ولكنها خجلت أن تقول إن ذلك حدث بفضل معايشتها للمشاجرة الفاضحة التي وقعت بين يوشيكو وإيدا.

ثم بعد ذلك علمتها يوشيكو خطة سرية، وعلى كل حال فبعد العملية لا بد لها من أسبوعين أو ثلاثة أسابيع لتريح جسدها وتعتني به؛ ولذلك في هذه الأثناء يجب عليها أن تقابل تسوتشيا دون مماطلة أو تأخير، ثم بعد ذلك تَعِده بكلام واضح وصريح أنه أخيرًا في اللقاء التالي يمكنهما النوم معًا، ولكن عندما يأتي ذلك اليوم وعندما يحين وقت الذهاب إلى الفندق، تتمنَّع ستسكو عن تسوتشيا دون إبداء الأسباب، ويجب عليها في ذلك اليوم الرفض بعناد مهما كان الأمر، وقالت لها إنه بفضل هذا الانتقام ستنعم ستسكو بفرحة استعادته أخيرًا.

«سأعمل كما تقولين لي تمامًا.»

قالت ستسكو ذلك الآن وهي تضحك ضحكة شخص متمكن.

«لا تضحكي هكذا. عاهديني أن تفعلي ما قلت لك بالتأكيد.»

عقدت الاثنتان أصبعي خنصريهما اللذين تلونَ أظافرهما بطلاء ذي لون مرجاني وطلاء ذي لون أحمر غامق.

فعلت ستسكو ذلك بالضبط. فعلته بسهولة ويُسر للدرجة التي يُعتقد فيها الآن غرابة المعاناة التي عانتها من الغيرة إلى تلك الدرجة. يا لها من طزاجة أن تكذب في عواطفها تجاه عشيقها لأول مرة!

بالإضافة إلى ذلك فقد أحسَّت أنها قد بدأت الآن العلاقة الروحانية التي كانت تريدها. لقد قام تسوتشيا بالفعل بمراعاة ستسكو عاطفيًّا والحدب معها، وعاملها كمَن يتعامل مع قطعة فنية من الزجاج المنمق سهلة الانكسار. أحست ستسكو التي كانت لديها ثقة في القوة غير المتوقعة المكمونة في جسدها، بسرور أكثر من المعتاد لهذه المعاملة، وكذلك أسعدها أن تسوتشيا لم ينسَ التلميح المؤدب والمحترم.

– «اليوم نزهة فقط. المرة التالية رقص، والمرة التي تليها سيكون الوضع أمانًا.»

– «أحقًّا أمان؟»

– «أمان مائة بالمائة، ومع ذلك سأكون قد أحطتُ للغاية وبشكل مبالغ فيه.»

سألها تسوتشيا عددًا من الأسئلة عن تفاصيل الجراحة، وأجابت ستسكو بشكل علمي ومختصر.

– «لقد تم تخديري في الساعة العاشرة صباحًا، وأفقت من التخدير في الظهيرة، وبعد العملية كان مفعول المخدر قد زال وهي المرحلة الأشد إيلامًا.»

– «يا مسكينة!»

بهذه الطريقة قال تسوتشيا كلمة المواساة الاجتماعية تلك، بصوت اجتماعي لطيف ودافئ مصطنع. ستسكو التي كانت تعرف أنه في نفس لحظات تألُّمها تلك كان هو يلهو مع الممثلة، أتعبها للغاية كتم غضبها الذي انفجر بسبب هذه الكلمة. ولكن ستسكو التي أصبحت أكثر نضجًا تغلبت على هذا الموقف، وعلى العكس كادت تُحسُّ داخل قلبها بالإشفاق على تسوتشيا.

«مثل هذا الشاب بالذات هو من يحقق النجاح الباهر فيما لو صار سياسيًّا.»

ومع ذلك يوم النزهة كان يومًا استمر فيه مطر الخريف الخفيف، وتجول الاثنان سيرًا على الأقدام بين المنازل الرطبة القديمة التي لم تتأثر من دمار الحرب. أوشكت الشمس على الغروب، ولا يوجد مارة في الطريق. يوجد منزل مائل قديم يُطل على النهر، مضاء بالأنوار، الطريق العتيقة تنحدر بشدة، وتصير مسدودة فجأة. أحيانًا ما يوجد في نهايات مثل هذه الحارات المسدودة، مدخل لمنزل به باب عليه مزلاج أفقي ربما لم يزُره أحد منذ أمد بعيد، وكان يوجد كذلك مكتب للمحاماة يبدو اسمه وكأنه على درجة من الانتشار.

قالت ستسكو: «أنا أمشي بقدر الإمكان لأعوِّد قدميَّ على السير بعد العملية.»

كان الاثنان يحملان مظلة واحدة فقط تقيهما من المطر، وكان تسوتشيا من شدة عطفه قد جعل المظلة فوق ستسكو فقط لدرجة أن الماء قد بلله تمامًا. ولقد تعلمت ستسكو أن تمرر هذه العاطفة وهذا الحنان دون أن تجعله يؤثر في قلبها؛ فلا يجب زيادة نطاق تأرجح قلبها بلا داعي بسبب انفعالها مع عطفه كل مرة. من الأفضل أن يبتل جسد تسوتشيا بماء المطر. من الأفضل أن ينتقل ماء المطر من المعطف الواقي إلى الجاكت، ومن الجاكت إلى القميص، ومن القميص إلى الفانلة الداخلية، ثم يتدفق بقسوة وعنف فوق بشرة هذا الرجل.

بعد اللف والدوران مرة بعد مرة في طرق ضيقة فترة لا يُعرف مداها، وجد الاثنان نفسيهما فجأة وقد أحاطت بهما ضوضاء الناس والسيارات المسرعة. لقد خرجا إلى حافة هذا المكان المزدحم.

بدا ازدحام هذه الطريق الصاخبة والمضيئة في المطر كأنه خيال. تلألأت أنوار النيون الضخمة المزدوجة والمعلقة فوق البنايات المبللة على مرمى البصر، ومثل الأذن الصماء التي لا تسمع وفجأة تصير قادرة على السمع، تفجرت أصوات أحاديث الناس الصاخبة، وصوت الأغاني المنسابة من المذياع، وأبواق السيارات.

قالت ستسكو: «لم أكن أعتقد أننا سنخرج إلى هذه الطريق بعد السير في تلك الأزقة.»

تظاهر الاثنان وكأنهما في بداية خروجهما إلى المدينة، فدخلا أحد المحلات المضيئة المزدحمة لتناول الشاي.

كانت المرة التالية رقص. والمرة التي تليها كانت …

لقد مر بالفعل ما يقرب من اثني عشر يومًا على الإجهاض. عندما تفكر ستسكو أن الغد هو اليوم الذي ستستعيد فيه العلاقة أخيرًا مع تسوتشيا، ورغم تحذير يوشيكو لها، تفور لديها مرة بعد مرة آثار الإحساس بالندم الباقي تجاه فترة الأسبوعين الأخيرين. فرغم المعاناة الكبيرة تلك ورغم مشاعرها الكاذبة؛ إلا أن روحها خلال فترة الأسبوعين تلك كانت في حالة هدنة. كل شيء توقَّف تقدُّمه، توقف النضج وتوقف التعفن، وفلتت لفترة من القانون الصارم الذي يسير للأمام بيأس وتهور ليُوقع الناس في حباله.

ولكن من الغد سيختلف الأمر. ستبدأ الحرب مرة أخرى. من أجل المحافظة على نصيحة يوشيكو تمامًا، من الفطنة الذهاب مرتدية ملابس داخلية متسخة لا يمكن خلعها أمام أي إنسان، ولكن ستسكو بحجة حُبها الغريزي للنظافة وتربيتها الراقية، أعدت مثل من يُعِد الترتيبات لرحلة مدرسية منذ الليلة السابقة، الملابس الداخلية الجديدة التي سترتديها صباح الغد، مع القميص الداخلي الذي اختارته ليناسب الملابس.

عاد زوجها كما هي عادته من عمله متأخرًا، وبمجرد عودته تصاعد غطيط نومه؛ فقد أصبح عن طيب خاطر زوجًا لا يطلب شيئًا، بعد رفض زوجته له مرة بعد مرة. كان هذا الرجل الذي لا يستطيع التعبير عن اللؤم على الإطلاق، لا يُظهر أمام زوجته إلا وجهًا نائمًا بجانبها، لا يمكن وصفه إلا بأنه يفيض إخلاصًا.

تصلبت عضلات ستسكو عندما اقترب موعد اللقاء في اليوم التالي، وذلك بسبب توترها تجاه مسئولية أنها لا بد أن تتمنَّع اليوم.

كانت تخطط أن تظهر بشكل عفوي بعد أن تتأخر قليلًا أمام تسوتشيا الذي ينتظرها، ولكن اندفاع ستسكو وتسرعها قادها بلا وعي إلى مكان المقابلة قبل الموعد المحدد، ولم يكن تسوتشيا قد جاء بعد.

لا يأتي تسوتشيا للآن. كلما انتظرت ستسكو، يهجم عليها إحساس مؤلم بأنها اليوم ليست ذاتها الخاصة التي صارت عليها بعد الجراحة، ولكنها مجرد استمرار لما كانت عليه نفسها من قبل، ولا يزيد لقاء اليوم أيضًا عن كونه استمرارًا لتلك اللقاءات المهينة. كلما فكرت في ذلك اعتقدت أكثر في أن نصيحة يوشيكو مناسبة تمامًا.

وفي نفس الوقت، أحست ستسكو أن الغيرة التي سيطرت عليها كما قالت لها يوشيكو، تعود بوضوح للحياة من جديد في هذا اليوم خاصة. لا يأتي تسوتشيا للآن. عندما تفكر في تأخره لهذه الدرجة، تفكر ألم يكن اشتياق تسوتشيا لهذا اليوم هو مجرد تظاهر، ولكنه في الواقع يحاول أن يتلافى جسد ستسكو؟

تدريجيًّا يساعد هذا القلق أكثر وأكثر في إشعال نار الغضب، يجعلها تعتقد أنها أكثر امرأة بائسة في هذا العالم؛ لأنها قد غفرت له بعطف وحنان عدم إخلاصه حتى الآن، حتى ولو كان على سبيل التظاهر. يبدو أن تسوتشيا قد اغتر بنفسه أكثر وأكثر، ربما يكون قاصدًا التأخر خلال مواعدة اليوم حتى يعطي لنفسه براحًا.

مرت عشرون دقيقة .. وعندما اقترب الوقت من الثلاثين دقيقة، وقفت ستسكو محاولة العودة بمفردها، وقدمت الفاتورة عند الماكينة، وعندما دفعت الباب للخروج، وقف تاكسي أمام عينها ونزل تسوتشيا منه.

نظرت ستسكو التي أصبحت بفعل الغضب طفلة تمامًا في تصرفاتها، إلى تسوتشيا سريعًا ثم انطلقت مسرعة وكأنها لا تعرفه. تبعها تسوتشيا، ولكن لم تحاول ستسكو النظر للخلف. قال تسوتشيا وهو يتفادى المارة وقد تحاذى كتفاهما بعد أن وفَّق خطواته مع خطواتها القصيرة التي تسرع بعناد: «مشيتك سريعة جدًّا.»

نظرت ستسكو التي غضبت أكثر وقد اعتقدت أن تسوتشيا قال ذلك للمزاح والتنكيت، سريعًا إلى وجهه من الجنب، ولكنها وجدت في وجهه الجانبي ما يبدو وجهًا جادًّا لشاب، وكان الوجه يتلألأ قليلًا. كان لهذا الرجل مهارة خاصة ينفرد بها عن غيره، وهي أنه عندما يصطدم بموقف يصعب عليه التعامل معه؛ فهو يستطيع التحول في التو والحال إلى فتًى صغير يضيق ذرعًا بكل شيء.

كان الجو في ذلك اليوم باردًا تكثر فيه الغيوم، كانت برودة منتصف شهر نوفمبر، ويتعاظم الشعور بأن هذا اليوم هو الحد الذي ينتهي به فصل الخريف.

«الجو بارد. هيا لنذهب إلى مكان دافئ.»

قال تسوتشيا ذلك ثم أردف: «لماذا أنت غاضبة؟ هيا نختلي بنفسنا بسرعة.»

تعبير نختلي بنفسنا هذا هو التعبير الذي يستخدمه تسوتشيا دائمًا عندما يعرض عليها الذهاب إلى فندق.

– «لدي حديث لك.»

– «حديث! مرة أخرى.»

فتحت ستسكو غير آبهة باب أحد المحلات في الطريق، ثم أمرت تسوتشيا بالدخول. كان محلًّا يذهب الاثنان إليه لأول مرة، محل هادئ لا صخب فيه، يقدم في الظلام قهوة، تبدو قذرة ورديئة الطعم.

قال تسوتشيا: «لقد مللت الشاي.»

– «لا بأس.»

قالت ستسكو ذلك بعد أن طلبت بدون اعتبار، ومن حسن الحظ أن عدد الزبائن كان قليلًا جدًّا.

بدأ تسوتشيا في قول السبب الذي تأخر بسببه. كانت ستسكو قد فقدت صبرها. لم تَعُد تستمع لما يقوله، فقاطعت حديثه في منتصفه، وكان يجب عليها، طبقًا لإرشادات يوشيكو، أن تتمنع قبل الفعل مباشرة، ولكن ستسكو كانت قد فقدت رفاهية الانتظار حتى ذلك.

– «اليوم .. اليوم لا أرغب في الذهاب كما تواعدنا.»

– «لماذا؟ ألم تعِدي بذلك؟»

– «لا أرغب على أي حال. معذرة أنا لا أستطيع الذهاب.»

– «لماذا؟ آه … أكيد غاضبة لأنني تأخرت.»

– «ليس الأمر كذلك.»

ردت ستسكو بصوت عالٍ: «فقط .. لا أرغب.»

صارت ملامح وجه تسوتشيا الذي قُوبل بالرفض بريئة في الواقع، تعبيرات وجهه وقتها اختلفت تمامًا مع ما تخيلته ستسكو عندما فكرت فيها قبل ذلك. كانت فقط عبارة عن ملامح صريحة لوجه مندهش. ملامح وجه تشبه ملامح طفولية لوجه كلب ينتظر عقابه وهو لا يعرف إطلاقًا ما هو الجرم الذي ارتكبه، ملامح بدت وكأنه لا يعلم حقًّا سببًا للتمنع. أحبت ستسكو في تلك اللحظة، هذا الوجه الطاهر الذي أصبح مشدودًا بسبب عدم الرضا، ولكنها رأت أنه من الأفضل أن تخبئ هذا الحب كما هو بهدوء داخل قلبها.

هل يا ترى ملامح تسوتشيا هذه تمثيل؟ بدأت تتسرب إلى ستسكو الشكوك أن من المحتمل أن تكون ما أخبرتها به يوشيكو عن تسوتشيا هي مجرد افتراءات. لو كان الأمر كذلك، ستبدو طريقة ستسكو وكأنها ترغب في إحداث المشاكل بلا معنى، وهنا طرحت عليه سؤالًا: «أين كنت أنت في ليلة اليوم الفلاني من الشهر الفلاني؟»

«يوم كذا شهر كيت؟ إنه يوم أجريتِ الجراحة. أجل .. أجل. أين كنت أنا يا تُرى؟ في تلك الفترة من المؤكد أنني كنت طوال الأيام في قلق دائم، ولم أكن قادرًا على العودة إلى المنزل مبكرًا.»

أخبرته ستسكو باسم الملهى الليلي، وكذلك ذكرت له اسم الممثلة التي كانت تصاحبه. أصبحت ملامح وجه تسوتشيا وكأنه يبحث بيديه في ذاكرته بإمعان.

وفي تلك الأثناء كانت ستسكو هي التي غفرت له بالفعل، وإذا قال إن ذلك لا أساس له من الصحة، كانت على استعداد تام أن تنسى كل شيء. عين تسوتشيا القاتمة التي تشبه عيون فتى صغير، كانت تتلصص داخل ذاكرته بصدق حقيقي. يحمل وجه فتًى صغير غرق في التفكير وحيدًا، يقضم أظافره … فجأة أصيبت ستسكو بالقلق.

لقد خيبت إجابة تسوتشيا توقعاتها تمامًا.

«آه … لقد تذكرت. لقد ذهبت تلك الليلة بالفعل .. وكانت تلك المرأة معي. من الذي شاهدنا يا تُرى؟»

بعد أن سمعت ستسكو هذا أحست بانقباض صدرها، وسقطت الدموع تلقائيًّا بشكل طبيعي. لقد أحست أنها وصلت إلى حالة ميئوس منها.

بعد رؤية دموع ستسكو تنهمر بدأ على الفور منطق تسوتشيا في الحُجج. أخذ يلصق الشروح والتفسيرات النفسية بنفسه، وقال لماذا تصبح الذكريات التي عانى لهذه الدرجة في تذكرها، ذكريات هامة لهذه الدرجة؟ وأخيرًا، وفي موقف هجومها على أمر خليع باصطحاب امرأة للهو في ملهًى ليلي في يوم إجرائها للجراحة تحجج بالقول إنه لم يكن يعتقد أبدًا أن ذلك اليوم هو يوم الجراحة، وقال كذلك إن اصطحاب الممثلة كان مجرد صدفة بحتة. وقال لو كان الأمر أكبر من مجرد أنها صديقة عادية، لم يكن ليعترف لها بالأمر بهذه السهولة ولأكد أنه بريء تمامًا، ولكن يوجد سبب يجعل ستسكو تشكُّ أن هذا الاعتراف ذاته بتلك السهولة لا بد أن يكون محسوبًا مقدمًا.

احتضن ذراع تسوتشيا الكتف المتواضع الذي يبكي. أبعدت ستسكو ذلك الذراع، وولت بوجهها نحو الاتجاه الآخر وبكت. رغبت ستسكو أن يبدو كتفها عنيدًا بقدر الإمكان.

إلى أي مدًى ظل الاثنان على هذا النحو! لقد توقف بهما الزمن. أسلمت ستسكو التي غطت وجهها، أذنيها للأصوات المتنوعة الصادرة عن فتح باب المحل، أو صوت أقدام الزبائن، أو صوت الأطباق التي تصدر فجأة عالية مع وقفات صوت الموسيقى الخشنة التي تصدر من المسجل، وبعد فترة من السماع أصبحت تلك الأصوات فقط هي التي تستهويها لدرجة أن ستسكو أخذت تحصي عدد مرات انفتاح وانغلاق باب المحل.

وفجأة أبعدت ستسكو عن وجهها المنديل الذي كانت قد أخرجته من حقيبتها منذ قليل وهي تتحسس موضع يدها، ثم بعد ذلك لمحت تسوتشيا بنظرة سريعة. هذا الفتى بملامحه المحبطة والغاضبة على العالم، ينظر بعينه إلى الناحية الأخرى من الجدار.

على الأرجح لم يسبق لتسوتشيا أن أظهر تلك التعبيرات الوقحة والمكشوفة للعيان. هذا الوجه كان على الأغلب بعيدًا، وإذا تُرك وشأنه على هذا الحال يعتقد أنه على وشك أن يذهب بعيدًا إلى الأبد. فقدت ستسكو التي رأت ذلك تمامًا، ثقتها في قدرتها على الرفض. تلك الثقة التي كانت منذ قليل قد بلغت قمتها.

وكأن تسوتشيا قد فهم أن الأمر قد استقر، خرج بها من المحل، وأثناء السير في المدينة أزاحت ستسكو دموعها بكبريائها التي عادت لها من جديد. أوقف تسوتشيا سيارة وهو صامت، ولأول مرة تحدثَت ستسكو لتسأله إلى أين؟ أجاب تسوتشيا إلى مكان ما دافئ. داخل السيارة عاودت ستسكو البكاء. هذه المرة تبكي بسبب جبنها هي، وربما لاحظ تسوتشيا ذلك، ودون أن يواسيها قام بعقد ذراعيهما، وجلس على المقعد مسندًا ظهره بعمق؛ أي إنه تصرَّف بعزيمة ثابتة.

وعندما وصلا غرفة الفندق، فقَد جسد ستسكو قوته بسبب البكاء المرير، وأصبحت مثل دجاجة نافقة، أما تسوتشيا فكان واقفًا يعمل بهمة وسرعة. خلع عنها الجوارب، وخلع عنها ملابسها، خلع عنها القميص الداخلي، ثم خلع عنها مشد الخصر. كان كل ذلك يحدث تحت مصباح شديد الإضاءة. أثناء ذلك أحسَّت ستسكو التي استرخت قواها ووصل جسدها لقمة الضعف، استسلمت تمامًا لما يُفعل بها، أحست بلذة عنيفة لم تعرفها من قبل تجمعت في أنامل تسوتشيا الفظة. لم تكن أصابع عاشق تملؤه الثقة بالنفس وتتميز برباطة جأش.

أحسَّت ستسكو بشفاه الرجل على ساقها. لو كانت في الوضع العادي لجذبت ساقها على الفور بعيدًا، ولكنها وقد كانت تتقمص حالة ما قبل الموت بخطوة واحدة، لم يكن من الممكن لها فعل ذلك، ولذا استطاعت ستسكو على غير انتظار التمتع بشفاه الرجل تزحف بلا انقطاع فوق ساقها التي تشهد بنفسها لنفسها بجمالها، وهي في حالة عدم الحياء وكأنها قد ماتت مثلما حلمت بذلك من فترة طويلة مضت؛ أي الحالة التي تشبه عندما تكون وحيدة وعارية تمامًا بمفردها.

لم تستطع ستسكو أن تستمر في التظاهر بالموت طويلًا. أخيرًا وصلت حرارة اللحم حتى أطراف الأصابع التي كانت باردة، وعادت الحياة لستسكو فأصدرت صوتًا رفيعًا. لم تصدر ستسكو التي من عمق حيائها المولودة به (ولم يحدث في الأصل موقف يتسبب في خيانة ذلك الحياء العميق) صوتًا مثله ولو مرة واحدة أمام زوجها.

لقد قررت ألا تفكر في أي شيء. استمرت تلك الحالة حتى عودتها إلى منزلها. كما هي لا تفكر في أي شيء، ابتسمت لتسوتشيا بحكم العادة، لدرجة أنها في النهاية ضربت له موعد اللقاء التالي.

انتبهت ستسكو إلى خدعتها بعد أن عادت إلى البيت وصارت بمفردها. لقد كان تحذير يوشيكو المخلص صحيحًا. أيقظت ستسكو مرة أخرى ما كانت تعتقد أنه لم يتبقَّ منه في داخل جسدها إلا جذوة بسيطة وربطت الذاكرة مباشرة بعادات الماضي، وأثناء ذلك جعلت ما يفترض أنها تغلبت عليه وقهرته، هباء منبثًّا.

إن خوفنا من المستقبل كقاعدة عامة هو خوف ناتج من النظر إليه على ضوء تراكمات الماضي. تعلمت ستسكو أن الحب يصبح طليقًا حرًّا بالفعل عند الخروج من دائرة الذكريات حتى ولو للحظة واحدة. نحن نطلق باستخفاف على شعور الخوف من التكرار أنه مجرد الخوف من السقوط. لم يَعُد خوف ستسكو خوفًا من السقوط.

فجأة، برز ثانية إلى ذاكرتها وجه ذلك المعاق الشنيع الذي رأته في شوارع المدينة، الآن وقد أجهضت الطفل بالفعل، فليس من المفترض أن يكون ذلك الوجه الوحشي، الذي لا أنف له ولا حواجب المختبئ تحت الكمامة وقبعة اللباد، بذرةً لأي خوف على المدى البعيد، ولكن يوجد معنًى آخر لرعب ذلك الوجه.

تولَّد رعب ستسكو التي التقت فجأة بذلك الوجه في وضح النهار، من رسمها لأفكار ارتبطت بشكل ما بمستقبلها، حتى لو حول طفل يجب أن يولد، أو حول شيء آخر، والذي أمامها الآن شيء يختلف عن الرعب في النوع، بل هو نوع من الإعجاب العاطفي من المؤكد أنه سيتحول في النهاية إلى رعب يشبه كثيرًا اندفاع طفل يرى حشرة في الطريق، فرغم أنه يعلم أنه سينفجر بالبكاء في نهاية الأمر، ولكنه يحرص قبل ذلك أولًا على النظر بتمعن في تفاصيلها الدقيقة.

ويُعتقد أن ستسكو وقعت في أسر الرعب، وهي تحاول أن تحدد إلى أي درجة يمكن أن يصل تشوُّه وجه الإنسان بعد تحوله.

«إذا كان ذلك الوجه الشنيع، يمكن القول عنه يومًا ما في الماضي إنه وجه جميل مثل كل الناس وصار حطامًا بهذا الشكل. إذا كان هذا الوجه له نموذج أوَّلي جميل بشكل مؤكد مثل بقية الناس .. آه، ألا يمكن أن يكون وجهي الآن بشكله الحالي، مجرد نموذج أوَّلي؟»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤