الفصل الرابع

العلوم الفلسفية

إذا تحدَّثت في هذا الفصل عن العلوم الفلسفية فإنما أقصد بها جميع العلوم التي كانت تشتمل عليها الفلسفة في العصور الوسطى، والتي تضمها الموسوعة الفلسفية المعروفة برسائل «إخوان الصفا» من رياضيات وطب وفلك وطبيعيات وكيمياء وإلهيات ومنطق … إلى غير ذلك من هذه العلوم التي كان يحذقها فلاسفة هذه العصور، والتي لا يستحق طالب الفلسفة هذا اللقب إلا إذا أَلَمَّ بها جميعًا.

وقد ذكرنا في التمهيد لهذا الكتاب أن مصر كانت من أكبر مراكز الثقافة الهلينية، وأن مدرسة الإسكندرية ظلت إلى ما بعد الفتح العربي تؤدي رسالتها العلمية بالرغم مما أصابها من ضعف؛ لاهتمام الناس بالعلوم الدينية الإسلامية، ونظرة المسلمين في أول الأمر إلى ما كان يُدرَّس في مدرسة الإسكندرية أنها علوم غير المسلمين؛ ولذلك انصرف المسلمون بمصر في القرنين الأول والثاني من قرون الهجرة عن هذه العلوم، وظل أهل الذمة من النصارى واليهود على اختلاف مذاهبهم ونِحلهم ينهلون من هذه الدراسات وخاصةً دراسة الطب والفلك.

وكانت كُتب جالينوس في الطب وكتاب المجسطي لبطليموس — وهما من علماء مصر قبل الإسلام — من أشهر الكُتب التي تُرجمت إلى العربية على يد مدرسة حنين بن إسحق، وكانت من أُسس النهضة العلمية في العالم الإسلامي، كما أن ترجمة كُتب أرسططاليس كانت من دعائم هذه النهضة، غير أن المسلمين في مصر لم يأبهوا بكُتب أرسططاليس ولم تنتشر بينهم، كما أن آراء المعتزلة لم ترُق لهم فلم يعتنقها إلا أفراد قلائل، حتى إن سيبويه المصري، أحد المعتزلة، كان يصيح ذات يوم ويقول: «الدار دار كفر، حسبُكم أنه ما بقي في هذه البلدة العظيمة أحد يقول القرآن مخلوق إلا أنا وهذا الشيخ أبو عمران موسى بن رباح.» فقام أبو عمران يعدو حافيًا خوفًا على نفسه من بطش الناس؛ لأنهم كانوا لا يحبون كثرة اختلاف الآراء في أمور الدين.

لهذا لم ينتشر علم المنطق بين مسلمي مصر على نحو ما انتشر في الأقطار الإسلامية الأخرى التي كثرت فيها المجادلات والمناظرات، وتعددت فيها الفرق الإسلامية، فاستعانوا بعلم المنطق في جدلهم ومناظراتهم، بخلاف المصريين الذين يميلون إلى الراحة من عناء التفكير العميق فلم تظهر عندهم نظريات فلسفية، أو مسائل علمية معقدة إنما يتناولون في أبحاثهم كل هين سهل وذلك كله من تأثير البيئة المصرية.

(١) الفلك والتنجيم

نرى ذلك كله قبل العصر الفاطمي — أي قبل سنة ٣٥٨ﻫ — ولكن في العصر الفاطمي نرى تطورًا جارفًا في الحياة الفكرية ولا سيما في العلوم الفلسفية على اختلاف ألوانها وفنونها؛ إذ ازدهرت هذه العلوم ورعاها الخلفاء الفاطميون؛ لأنها كانت دعامة مذهبهم الديني، بل كان هؤلاء الخلفاء من العلماء المبرزين في بعض هذه العلوم وخاصةً في الإلهيات وفي الفلك؛ فالمؤرخون يذكرون أن المعز لدين الله والعزيز والحاكم والحافظ كانوا يرصدون النجوم؛ لاستقراء ما وراءها من أحداث. وكان الفاطميون في المغرب يدَّعون معرفة الغيب، ويذيعون أن عندهم كتاب «الجفر» الذي به يتنبئون بالمستقبل، فلما جاءوا مصر نشروا عن أنفسهم هذه الادعاءات، فتهكم المصريون بهم وأطلق المصريون نكاتهم على هذا الادعاء، من ذلك ما روي أن العزيز بالله صعد المنبر ذات يوم جمعة فرأى رقعة كُتِبَ فيها:

بالظلم والجور قد رضينا
وليس بالكفر والحماقة
إن كنت أُعطيت علم غيبٍ
فقُل لنا كاتب البطاقة

فأقلع العزيز بالله عن ادعائه الغيب بعد ذلك، واضطر أخوه الأمير تميم الشاعر إلى أن يقول في إحدى قصائده:

ولما اختلفنا في النجوم وعلمها
وفي أنها بالنفع والضر قد تَجري
فمن مؤمن منا بها ومكذب
ومن مكثر فيها الجدال ولا يدري
ومن قائل تَجري بسعد وأنحس
وتعلم ما يأتي من الخير والشرِّ
فعلمتنا تأويل ذلك كله
بما فيه من سِرٍ وما فيه من جهرِ
فأخبرتنا أن المنجم كاهن
بما قال، والكُهان من شيعة الكفرِ
فجمَعتنا بعد اختلاف ومرية
وألفتنا بعد التنافر والزجرِ

ومع ذلك كله فقد كان الشعب المصري من الشعوب التي تؤمن بالتنجيم، شأنهم في ذلك شأن الشعوب الأخرى في العصور الوسيطة. بل كانت علوم مدرسة الإسكندرية قبل الإسلام ممزوجة بالسِّحر والطلاسم والتنجيم. فلا غرابة في أن نجد هذا اللون من التفكير ينتشر في مصر، ولكنه قَوِيَ في عصر الفاطميين والعصور التي تلته؛ فالمعز لدين الله دخل مصر ومعه منجمه محمد بن عبد الله العتقي، ورفع العزيز بالله منزلة المنجم أبي عبد الله بن القلانسي، وكان لمنجمي الوزير الأفضل بن بدر الجمالي أمثال ابن الحلبي وابن الهيثمي الجاري في كل شهر والرسوم والكسوة.

(٢) الرياضيات

غير أن بعض المنجمين كانوا يرصدون النجوم لا لمعرفة الغيب وأخبار المستقبل، بل لمعرفة ما نسميه اليوم بالأرصاد الفلكية التي يُقصد منها عمل التقاويم، وهؤلاء لم يكونوا مشعوذين مثل المنجمين السابقين بل كانوا علماء في الرياضيات، وقد اهتم الفاطميون بهؤلاء العلماء اهتمامًا خاصًّا؛ لمعرفة غُرة السنة وغُرة رمضان. ويرجع سِرُّ اهتمام الفاطميين لمعرفة التقاويم إلى رأيهم الديني في أن شهر شعبان يجب أن يكون تسعة وعشرين يومًا، وأن يكون رمضان ثلاثين يومًا دائمًا، فاضطر الفاطميون إلى إقامة المراصد واستدعاء العلماء الفلكيين. ولعل أشهر هؤلاء العلماء في هذا العصر هو أبو الحسن علي بن يونس صاحب الزيج الحاكمي، وكان في أربعة مجلدات، ولم يُرَ في الأزياج على كثرتها أطول من الزيج الحاكمي؛ مما يدل على أن صاحبه كان أعلم الناس بالحساب في عصره، وهذا الزيج هو الذي سار عليه منجمو مصر بعده.

وفي سنة ٥١٣ﻫ جمع الوزير الأفضل المنجمين والحُسَّاب وأهل العلم وسألهم عن السبب في الاختلاف بين التقاويم التي قدموها له؛ فأشاروا عليه بإقامة مرصد جديد وولى عليه أبا سعيد بن قرفة الطبيب، وساعده جميع المهندسين وعلماء الحساب والتنجيم إلى أن قُتِلَ الأفضل سنة ٥١٥ﻫ. وولي المأمون البطائحي الوزارة فأحب أن يُتم هذا المرصد على أن يُعرف بالمرصد المأموني المصحح، ولكن المأمون قُتِلَ بعد ثلاث سنوات فوقف العمل به. وكان من المهندسين الذين اشتركوا في إقامة هذا المرصد أبو جعفر بن حسنداي، والقاضي ابن أبي العيش، وأبو الحسن علي بن سليمان، وأبو النجا بن سند الساعاتي الإسكندراني المهندس وغيرهم. فهذا كله إن دل على شيء فإنما يدل على اهتمام الفاطميين برصد حركات الأفلاك، بل بلغ من ولعهم بهذا الفن أنه كان في خزانة كُتبهم ستة آلاف وخمسمائة كتاب من كُتب النجوم والهندسة والرياضيات.

ابن الهيثم

ولعل أشهر عالِم رياضي شهدته مصر الفاطمية هو الفيلسوف أبو علي محمد بن الحسن بن الهيثم، اتفق المؤرخون على أنه بصري المولد والنشأة ثم هاجر إلى الشام واستقر بها في كنف أمير من أمرائها إلى أن سمع به الحاكم بأمر الله، ونُقِلَ إليه أن ابن الهيثم قال: «لو كنت بمصر لعملت في نيلها عملًا يحصل به النفع في كل حالة من حالاته من زيادة ونقص.» فأرسل الحاكم إليه يستدعيه ويُرغِّبه في الوفود على مصر، فأجاب ابن الهيثم، وخرج الحاكم بأمر الله للقائه والترحيب به، ثم طلب إليه الحاكم أن ينظر في أصول النيل عساه يُنفِذ ما خطر له وهو بالشام، فرحل ابن الهيثم في النيل حتى بلغ الشلال الأول، ورأى في طريقه آثار قدماء المصريين فعلم أنه لا يستطيع أن يأتي من الأعمال الهندسية ما لم يبلغ القدماء معرفته، وأظهر ابن الهيثم عجزه، وعاد إلى القاهرة معتذرًا إلى الحاكم. واشتغل بعد ذلك بالتأليف ثم بنسخ كُتب إقليدس والمتوسطات والمجسطي وبيعها للناس إلى أن توفي حوالي سنة ٤٣٠ﻫ.

اتفق المؤرخون على أن ابن الهيثم كان عالِمًا متقنًا لعلوم كثيرة في الرياضيات والطبيعيات حتى لُقِّبَ ببطليموس الثاني، وقد ثبت أن ابن الهيثم هو أول من أنشأ علم الضوء بالمعنى الحديث والحدود والأصول التي نراها الآن، كما أن ابن الهيثم في حل شكوك إقليدس يُظهر من دقة التفكير والتعمق في البحث والاستقلال في الحكم بما يدل على أنه من علماء الرياضة البحتة أيضًا.

وكان لابن الهيثم عدد من التلاميذ نذكر منهم؛ مبشر بن فاتك الذي نصَّب نفسه لتدريس كُتب الفلسفة الطبيعية والإلهية والمنطق، وأخذ عن مبشر عدد من المصريين مثل سلامة بن رحمون اليهودي، وأمية بن أبي الصلت الأندلسي وغيرهما. ونسمع في هذا العصر عن رزق الله النحَّاس المنجم الرياضي الذي كان شيخ المنجمين الرياضيين في عصره، وأخذ عنه عدد كبير من المصريين. وكذلك نقول عن أبي علي المهندس المصري الذي كان شيخ العلوم الهندسية في أوائل القرن السادس للهجرة.

من ذلك نستطيع أن نقول إن المصريين أسهموا في الدراسات الفلكية والرياضية بألوانها المختلفة، وكثُرت الكُتب التي وضعها المصريون في هذه العلوم؛ وذلك بفضل تشجيع الخلفاء الفاطميين لهذه الدراسات التي كان يعتمد عليها مذهبهم الديني.

(٣) الطب

رأينا كيف كان الطب من العلوم التي اشتغل بها رجال مدرسة الإسكندرية، وكيف نبغ عدد كبير من الأطباء المصريين بعد الفتح العربي، وكيف أن الخليفة هارون الرشيد اضطر إلى أن يستعين بالطبيب المصري بليطان ليطبب إحدى جواريه، واتخذ أحمد بن طولون طبيبًا مصريًّا له هو سعيد بن توفيل. وكان أشهر الأطباء من النصارى أو اليهود من أمثال موسى بن عيزار طبيب المعز لدين الله، ومنصور بن مقشر النصراني الذي كان طبيب العزيز بالله، وسلامة بن رحمون اليهودي المصري تلميذ أبي الوفاء مبشر بن فاتك، وأفرائيم بن الرقان اليهودي. ولكن سرعان ما كَثُرَ المسلمون الذين نبغوا في الطب مثل الطبيب محمد بن أحمد بن سعيد التميمي المتوفى حوالي سنة ٣٧٠ﻫ، وسليمان بن الفياض الإسكندراني، وابن حسداي وغيرهم.

ابن رضوان

ولعل أشهر أطباء هذا العصر هو أبو الحسن علي بن رضوان، وُلِدَ بالجيزة وكان أبوه فرانًا، وظهر ولعه بالعلوم وهو في السادسة من عمره، فانتقل إلى الفسطاط لطلب العلم، وبدأ في دراسة الطب وغيره من علوم الفلسفة وهو في الرابعة عشرة من عمره، ولفقره ولحاجته إلى ما يستعين به في الحياة اضطر إلى أن يتكسب بالطب مرة وبالتنجيم مرة أخرى وبالتعليم كذلك. وفي الوقت نفسه كان يواظب على طلب العلم حتى بلغ الثانية والثلاثين من سني حياته فبدأت شهرته بالطب، وأخذ يتفوق على الأطباء المعاصرين له. وسمع به الخليفة الفاطمي فاستخدمه وجعله رئيسًا على سائر المتطببين، وذاعت شهرته في البلاد الخارجية فكَاتَبَه أطباء العالم الإسلامي يطلبون رأيه في بعض الأمور الطبية أو لمناظرته في بعض المسائل. وانبرى لابن رضوان أحد أطباء بغداد وهو ابن بطلان لمناظرته والرد على ما جاء في كُتبه، وكذلك فعل ابن رضوان في كُتب ابن بطلان، حتى إن ابن بطلان رأى أن يَفِد على مصر للاجتماع بمنافسه ابن رضوان، فأقام بها ثلاث سنوات اشتدت فيها مناظراته العلمية مع منافسه على مشهد ومسمع من أطباء مصر؛ فكانت هذه المناظرات ثروة علمية أفادت دراسة الطب في هذا العصر، فقد تعرضت المناظرات لآراء الأطباء القدماء والمحدثين أمثال حنين بن إسحق وعلي بن الطيب أستاذ ابن بطلان وابن زكريا الرازي وغيرهم، بل وضع ابن رضوان كُتبًا في الرد على الأطباء القدماء كان لها أثرها في تنبيه الأطباء والفلاسفة إلى الآراء الجديدة التي نادى بها ابن رضوان ومقارنتها بآراء خصومه من القدماء أو من معاصريه.

وأخذ تلاميذه أمثال أفرائيم بن الزقان وابن الحسن بن إسحق في نشر آراء أستاذهم، فازدهرت الدراسات الطبية على أيديهم، بحيث استطاعت مصر أن تنافس غيرها من الأقطار الإسلامية في العلوم الطبية ووفد عليها الأطباء للأخذ عن هؤلاء العلماء.

(٤) الفلسفة الإسماعيلية

لم يحفل المسلمون في مصر بالمذاهب الفلسفية الإلهية التي كانت معروفة قبل الإسلام والتي كانت تُدرَّس في مدرسة الإسكندرية، ولكن المذهب الإسماعيلي الذي أتى به الفاطميون كان مذهبًا فلسفيًّا قبل كل شيء؛ لأنه مزيج من مجموع الديانات والفلسفات القديمة، واستطاع الشيعة الإسماعيلية أن يصبغوا هذه المذاهب بالصبغة الإسلامية. وكانت الفلسفة اليونانية أشد الفلسفات تأثيرًا في المذهب الإسماعيلي بحيث نرى كثيرًا من المصطلحات الفلسفية اليونانية في كُتب الحقيقة الإسماعيلية؛ فقد استغل الإسماعيلية آراء أرسططاليس في مثل حديثه عن الصورة والهيولي وأصناف النفوس من معدنية ونباتية وحيوانية وإنسانية، واستغلوا آراء أفلوطين في الفيض ومراتب الوجود والفيوضات، وأخذوا عن أفلاطون «نظرية المثل»، وعن الفيثاغوريين نظريتهم في الأعداد وما يدل عليه كل عدد، كما أخذوا عن الفيثاغوريين نظرية التوحيد، كذلك أخذ الإسماعيلية عن البابلية القديمة والعبرانيين عقيدة الأدوار السبعة، ويُصرِّح أحد كُتابهم أنهم رتبوا دعوتهم الإسماعيلية حسب ترتيب رجال الكهنوت في المسيحية الكاثوليكية، وقالوا كما يقول المسيحيون بأن المسيح صُلِبَ. واستفادوا من أقوال كريشنا «معبود الديانة الهندوكية» رأيه عن الجسد والروح وأزلية الروح وأبديتها وفناء الجسد، وأن الروح فوق الإرادة النافذة وفوق العقل، وأن روح المؤمن بعد مفارقتها الجسد ترتفع صعدًا وتتحد بالعالم الروحاني.

وهكذا نستطيع أن نتتبع فلسفة الطائفة الإسماعيلية وأن نردها إلى أصولها من الفلسفات القديمة، بالرغم من محاولة الإسماعيلية صبغ هذه الفلسفات القديمة بالصبغة الإسلامية بما يتفق مع العقائد التي دانوا بها، وأعطوا لأنفسهم من حرية التفكير والأخذ عن القديم والاجتهاد في الدراسة ما لا نراه عند غيرهم من الفِرق الإسلامية الأخرى. ولكن هذا الاجتهاد وهذه الحرية الفكرية الواسعة كانا مقيدين بموضوع الإمامة؛ فكأن الفاطميين في مصر قد أعادوا إليها شيئًا من الحياة الفكرية التي كانت بالإسكندرية منذ عهد بطليموس، فأدخل الفاطميون في عقيدتهم ما وصلت إليه الفلسفات القديمة، مع حرصهم على إظهارها بالمظهر الإسلامي. فالله عندهم موجود ولكنهم جرَّدوه من كل صفة حتى صفة الخلق؛ إذ جعلوا الخالق هو العقل الأول، والعقل الأول هو صاحب أسماء الله الحسنى، أما الإله سبحانه وتعالى فهم ينفون عنه الليسية والأيسية وجميع الصفات التي تُطلق على المخلوقات، ولذلك ذهب كثير من علماء المسلمين إلى أن الإسماعيلية من المعطلة.

والذي نلحظه أن هذه الآراء الفلسفية الإسماعيلية دخلت مصر وظلت بها زهاء قرنين من الزمان، ومع ذلك لم يظهر بين المصريين من ألَّف فيها كتابًا أو شبه كتاب، بل كل فلاسفتهم الذين كانوا في مصر في هذا العصر إنما كانوا من الأغراب الذين وفدوا على مصر وأقاموا بها للتبشير بهذه الآراء ومحاولة تعليمها للمصريين، ولكن المصريين لم يُقبلوا عليها؛ لأنها لا تتفق مع مزاجهم وعقليتهم.

ولعل أشهر من شاهدتهم مصر من هؤلاء الفلاسفة هو أحمد حميد الدين بن عبد الله الكرماني الذي يُعرف في الدعوة الإسماعيلية بحجة العراقيين، الذي وفد على مصر حوالي سنة ٤٠٨ﻫ حين ظهرت حركة تأليه الحاكم بأمر الله، وثار المصريون لذلك، فاستدعاه الحاكم لتهدئة الخواطر الثائرة، وظل بمصر عدة سنوات وضع فيها عدة كُتب ورسائل فلسفية، منها الرسالة الواعظة في الرد على أحد دعاة تأليه الحاكم وأنكر في رسالته هذه ألوهية الحاكم وكفَّر القائلين بها، ورسائل الكرماني وكُتبه تتحدث في الفلسفة الإلهية والطبيعية كما في كتابه «راحة العقل»، و«الرسالة الدُّرِّية»، و«رسالة النظم في مقابلة العوالم»، و«الرسالة الرضية» في الرد على من يقول بقِدم الجوهر وحدوث الصورة، فالكرماني تحدَّث في كل أقسام الفلسفة ولا سيما في كتابه «راحة العقل» الذي يُعد من أقوم كُتب الفلسفة الإسماعيلية ومنه استقى كل فلاسفة المذهب بعده.

مما سبق نستطيع أن نكرر ما قلناه من أن العلوم الفلسفية ازدهرت في مصر في العصر الفاطمي ازدهارًا لا نجد له مثيلًا في الأقطار الإسلامية الأخرى، بل نجد غير الفاطميين كانوا يجنحون إلى اعتبار الدراسات الفلسفية دراسة إلحادية وأن العلماء القائمين بها من الزنادقة، ولكن المذهب الإسماعيلي كان يدعو إلى هذا اللون من الدرس، فلا غرو أن تزدهر هذه الدراسات.

(٥) التصوف في مصر

وُجِدَ التصوف في مصر منذ القرن الأول للهجرة، ولكن هذا اللون من التصوف لم يكن يداخله هذه التيارات الفلسفية التي سنراها عند الصوفية المتأخرين، بل كان تصوفهم لونًا من ألوان العبادة العملية والزهد في الحياة، والزهد — كما قيل — أول مراحل التصوف. نذكر من هؤلاء الزاهدين العابدين سليم بن عتر التجيبي، الذي قيل إنه كان يختم القرآن كل ليلة ثلاث مرات، وأنه دخل غارًا بالقرب من الإسكندرية تعبَّد فيه سبعًا. ويذكر المؤرخون أن من الزهاد أبا عقيل زهرة بن معبد الحضرمي، وأبا الأسود النضر بن عبد الجبار المرادي. ويتحدثون أيضًا عن وفود السيدة نفيسة بنت الحسن بن زيد على مصر، وعُرفت بالعبادة والزهد والإحسان إلى المرضى وسائر الناس، وقد توفيت بمصر فأراد زوجها إسحق بن جعفر الصادق أن ينقل جثمانها إلى المدينة المنورة، فطلب إليه المصريون أن تبقى بينهم للتبرك بقبرها. وأصبح قبرها وقبور بعض أهل البيت وبعض الزاهدين مزارات يؤمها المصريون للتبرك. ولا نريد أن نخوض في نقاش عن اختلاف وجهة نظر العلماء المسلمين حول زيارة قبور الصالحين والتبرك بهم، ولكن الذي أُذكِّر به أن عادة التبرك بالقبور وزيارتهم هي من العادات المصرية القديمة قبل كل شيء، فإذا كان المسلمون في مصر قد أَوْلَوا الصالحين منهم عناية خاصة بعد وفاتهم وأقاموا لهم الأضرحة، وطلبوا البركة عند مقابرهم، فإنما كانوا يُعبِّرون عن عادة ورثوها منذ أجيال بعيدة. وقد ذكرنا من قبل أن مصر مبدعة الرهبنة المسيحية، وأن الرهبان استمروا في رياضتهم الروحية بعد انتشار الإسلام في مصر، وكانت الأديرة المسيحية منتشرة في أماكن مختلفة في البلاد، وبالرغم من ذلك كله فإننا لا ندري مدى تأثير الزهاد المسلمين الذين ظهروا في مصر في القرنين الأول والثاني من قرون الهجرة بحركة الرهبنة في مصر؛ إذ لم يصلنا عن هؤلاء العابدين الصالحين أنهم تمايزوا بتعاليم خاصة أو نزعات تميزوا بها عن غيرهم من المسلمين إلا في هذه الناحية الخاصة من الزهد وكثرة العبادات.

وما كاد يستهل القرن الثالث للهجرة حتى وُجِدَ بمصر ولا سيما بالإسكندرية طائفة عُرفوا بالصوفية، كانوا يدعون إلى المعروف والنهي عن المنكر، وكان لهم مشاركة في الاضطرابات السياسية التي كانت بمصر إذ ذاك وهي الحركة التي عُرفت بثورة الجروي والسري بن الحكم، ففي هذه الثورة استطاع أبو عبد الرحمن الصوفي زعيم صوفية إسكندرية أن يغتصب ولايتها سنة ٢٠٠ﻫ بمساعدة طائفة من الأندلسيين وفدوا على الإسكندرية، كما ساعدتهم قبائل لخم الذين كانوا حول البلد، ولكن سرعان ما عزل الأندلسيون هذا الوالي الصوفي وتولى أمر الإسكندرية أحد الأندلسيين. ثم نسمع عن جماعة أخرى من الصوفية ظهروا في ولاية عيسى بن المنكدر على قضاء مصر (من سنة ٢١٢–٢١٤ﻫ)، وعنهم يقول الكندي المؤرخ المصري: «إن عيسى بن المنكدر كانت له طائفة قد أحاطت به يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، فلما ولي القضاء كانت تأتيه وهو في مجلس حكمه فتقول: أيها القاضي ذهب الإسلام! فُعِلَ كيت وكيت، فيترك مجلس الحكم ويمضي معهم. ثم أتت تلك الطائفة فقالت: إن أمير المؤمنين المأمون قد ولى أبا إسحق بن الرشيد مصر وإنَّا نخافه، ونخشى أن يشد على يد أهل العدوان، فاكتب لنا كتابًا إلى المأمون بأنك لا ترضى ولايته، ففعل ذلك ابن المنكدر.»

من ذلك كله نقول إنه وُجِدَ بمصر جماعة من المسلمين عُرفوا بالصوفية كانوا ينادون أمام الناس بالقول بالمعروف والنهي عن المنكر، ولكنهم بدءوا يخرجون على هذه المبادئ السامية وأقحموا أنفسهم في سياسة الدولة، وحاولوا التأثير على مجرى الحوادث، بل اشتطوا في تدخلهم في ذلك بأن عاونوا الأندلسيين على الاستيلاء على الإسكندرية. والذين كانوا على شاكلتهم في الفسطاط طلبوا من القاضي أن يُظهر عدم رضائه على تعيين الوالي الجديد على البلد حتى لو كان هذا الوالي أخا الخليفة العباسي وولي عهده! ونحن لا ندري كيف نُوفِّق بين مظهرهم في دعوتهم إلى القول بالمعروف والنهي عن المنكر، وبين تدخلهم السافر في شئون الحكم وسياسة البلاد ومساعدة الأجانب على أبناء البلد؟!

وفي أوائل هذا القرن الثالث للهجرة ظهر صوفي مصري له آراء خاصة لم تُعهد عند صوفية مصر من قبل، وهو ذو النون المصري أبو الفيض ثوبان بن إبراهيم الأخميمي، وهو من أسرة نوبية الأصل، ولا تزال شخصية ذي النون غامضة أشد الغموض؛ فنحن لا ندري من أين استقى هذه الآراء الجديدة التي أتى بها، وكيف اعتنقها؟ فقد اختلف المؤرخون في ذلك، فمِن قائل إنه أخذ هذه الآراء عن أستاذه شقران العابد، وقيل عن الزاهدة العابدة فاطمة النيسابورية، وقيل عن رهبان الأديرة في مصر الذين لقنوه شيئًا من تعاليم الأفلاطونية الحديثة. ومهما يكن من أمر هذه الاختلافات حول أصول فلسفته الصوفية، فإننا نراه يتجه إلى صوفية جديدة على المجتمع المصري؛ أي إلى ما اصطُلح عليه في التصوف بالحب الإلهي، وصرَّح بآرائه في بلدة أخميم في صعيد مصر، ودعا إليها فتبعه بعض المصريين، ولكن أكثر المسلمين لم يقبلوا بدعته فرموه بالزندقة؛ لأنه كان ينادي بآراء لم تكن معروفة في مصر من قبل، ورفع علماء أخميم أمره إلى والي مصر الذي حاكَمه أمام عبد الله بن عبد الحكم رئيس مذهب المالكية في مصر.

ومن الطبيعي أن تختلف نزعة الصوفية عن نزعة الفقهاء، والعداء شديد بين الصوفية والفقهاء؛ لاختلاف النزعتين؛ فكان ذلك سببًا في اضطهاد ذي النون في مصر، واضطراره إلى النزوح منها، فرحل إلى الحجاز واليمن وبلاد المغرب، ولما هدأت الحالة في مصر عاد إليها. ولكن فقهاء مصر ثاروا من جديد؛ بسبب خَلْق القرآن؛ إذ كان القاضي محمد بن أبي الليث شديد الوطأة على الفقهاء المصريين؛ بسبب امتناعهم عن الإقرار بخلق القرآن، فأخذهم في القيود وضربهم ضربًا مبرحًا ورمى بقلنسواتهم في الطرقات، فأراد ذو النون أن يهرب ولكنه عاد وأقر بالمحنة، إلا أن القاضي أمر بحمله إلى الخليفة ببغداد فقُيِّدَ وسيق إلى المطبق، وكان يقول وهو في سجنه: «هذا من مواهب الله تعالى ومن عطاياه وكل فِعاله عَذْب حسن طيب.» وكان يُنشد:

لك من قلبي المكان المصون
كل يومٍ عليَّ فيك يهون
لك عزم بأن أكون قتيلًا
فيك والصبر عنك ما لا يكون

ولكن أُطلق سراحه.

كان ذو النون من أوائل الصوفية الذين استعملوا كلمة الحب الإلهي وتوسع في معناها، وفسرها تفسيرًا لا يزال أساسًا من أُسس الصوفية إلى اليوم، كما قيل إنه أول من تكلم في الأحوال والمقامات، وينسبون إليه أنه أول من وسع الكلام عن الولاية وبحث من أيهم أفضل النبي أم الولي، وينسبون إليه كذلك أنه أول من استخدم اصطلاح الأبدال، وأنه أول من فصل مسألة المعرفة إلى غير ذلك من الآراء الصوفية التي لها أثرها القوي في فلسفة الصوفية في العصور الوسطى حتى يومنا هذا.

ومع ذلك كله، فإن أكثر الذين حملوا آراء ذي النون الصوفية ودعوا إليها لم يكونوا من أهل مصر؛ فنحن لا نجد في عصره ولا في العصر الذي يليه مباشرةً من قال في مصر بمقالته أو اتخذ طريقته، بل عاد صوفية مصر إلى الدعوة إلى المعروف والنهي عن المنكر وإلى الزهد وكثرة العبادة، واستمر صوفية مصر على مقالتهم هذه حتى القرن الرابع للهجرة، فكثُر عدد شيوخ الصوفية أمثال أبي الحسن بن دينار المتوفى سنة ٣١٦ﻫ، وهو من الوافدين على مصر وأصله من مدينة واسط بالعراق، ولكنه استوطن مصر وكان من المعروفين بالزهد حتى وُصِفَ بأنه شيخ مصر في عصره، وأقواله التي بقيت لا تخرج عن الحد الذي سار عليه الصوفية في مصر مثل قوله: «اجتنبوا رياء الأخلاق كما تجنبوا الحرام.»

وفي هذا القرن وفد على مصر أبو الحسن علي بن محمد الدينوري الصائغ وأتى بآراء جديدة في التصوف فيها شيء من أقوال الصوفية المتأخرين في الفناء، ونجد هذا الرأي أيضًا عند أحمد بن محمد الروزباري المتوفى سنة ٣٢٢ﻫ الذي صحب الجنيد، وعند أبي عبد الله بن الجلاء الذي صحب ذا النون المصري، وكلاهما من الوافدين. ومهما يكن من أمر هؤلاء الصوفية، فإننا لا نكاد نستخرج منهم رأيًا فلسفيًّا أو مذهبًا صوفيًّا مثل هذه المذاهب والآراء التي نادى بها الجنيد والحلاج وغيرهما في غير مصر، أو التي انتشرت في مصر في العصر الأيوبي، فصوفية المصريين في هذه القرون الأربعة الأولى لون من ألوان الورع والزهد والحض على التقرب إلى الله تعالى بكثرة العبادة، أما فكرة التصوف الفلسفي فلم تكن معروفة قبل العصر الفاطمي. ومن الغريب أن نجد المؤرخين ينسبون إلى هؤلاء الزهاد شيئًا مما يسمى بالكرامات، فيقال مثلًا إن ابن بنان الصوفي أنكر على ابن طولون شيئًا ما وأمره بالمعروف، فأمر به ابن طولون فأُلقي بين يدي الأسد، فكان الأسد يشمه ويحجم عنه، فرُفِعَ من بين يديه وزاد تعظيم الناس له، وسأله بعض الناس: كيف كان حالك وأنت بين يدي الأسد؟ فقال: لم يكن عليَّ بأس، ولكن كنت أفكر في سؤر السباع أهو طاهر أم نجس! ويُروى عن الدينوري أنه كان يصلي بالصحراء في شدة الحر ونسرٌ كبير قد نشر جناحيه يُظلِّله من الحر. وهكذا نقرأ عن عدد من كرامات تُنسب لهؤلاء المتعبدين الذين كانوا في القرن الرابع للهجرة، ويُخيل إليَّ أن الصوفية في القرنين السابع والثامن للهجرة هم الذين ألَّفوا هذه الكرامات ونسبوها إلى المتقدمين؛ تأييدًا لأقوالهم عن كرامات الصوفية، ومهما يكن من شيء فإن كثيرًا من المؤرخين يرفضون قبول كرامات الصوفية.

استمر تيار الصوفية في مصر طوال العصر الفاطمي، ولأول مرة في تاريخ مصر نسمع أن الصوفية بها في هذا العصر اتخذوا لهم ملابس رثة مرقعة زعمًا أنهم فقراء، كما نسمع لأول مرة اهتمام حكومة مصر الفاطمية بأمر هؤلاء الفقراء الصوفية إذ عُمِلَ لهم مصطبة في قصر الخليفة الفاطمي بالقرافة، وكان الخليفة يذهب إلى قصره لرؤية رقص الصوفية، وهذا يدل على أن الفاطميين أنشئوا لهم ما يشبه التكايا أو الخوانق، وأن الصوفية بها كانوا يقومون بهذه الحركات الراقصة التي أطلق عليها الصوفية «التصوف العملي»، والذي نسميه الآن بحلقات الذكر، ولا ندري كيف دخلت هذه الحركات الصوفية الراقصة إلى مصر. وفي العصر الفاطمي تفرقت الصوفية إلى طرق مختلفة، ولكل طريقة شيخ يرجع الصوفية إليه، وللمشايخ أن ينعقد رأيهم على اختيار أحدهم ليكون حَكَمًا فيما يختلفون فيه ويرجع الجميع لرأيه. وإذن فقد تطورت الصوفية بمصر إلى أن صارت إلى ما صارت إليه في العصر الفاطمي، ومع ذلك كله فإننا عاجزون عن التحدث عن اتجاهات الصوفية؛ لقلة النصوص التي تُحدِّثنا عن فلسفتهم وآرائهم؛ وذلك لأن المصريين شُغلوا طوال العصر الفاطمي بالدعوة الشيعية الإسماعيلية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤