الفصل الخامس

خاتمة القول في الحياة الفكرية

رأينا لمحة عن تطور الحياة الفكرية في مصر الإسلامية حتى نهاية عصر الفاطميين، وكيف كانت الدراسات الإسلامية المختلفة والعلوم العربية تظفر باهتمام المسلمين في مصر أكثر من اهتمامهم بالعلوم العقلية فكثُر عدد العلماء النابهين الذين إليهم كانت الرحلة في طلب هذه العلوم. والذي نلاحظه أن هذه الدراسات وتلك العلوم وفدت على مصر من الأقطار الأخرى وخاصة من الحجاز والعراق، وجاءت الفلسفة الإسماعيلية مع الفاطميين، فقامت مصر بعملها التقليدي وهو دراسة هذه العلوم التي وفدت عليها، والمحافظة على ما يتفق مع مزاجها وطبيعتها، ثم التعليق على ما كتبه العلماء من غير مصر وشرح ما كتبوه، ثم نشر هذه العلوم مرة أخرى في الأقطار المختلفة حتى في تلك البلاد التي أخذت عنها مصر. فمصر تُرحِّب بكل الآراء والعلوم، ويُقبل المصريون عليها؛ رغبةً في المعرفة، ولكن لا يحتفظون إلا بما يتفق مع هواهم وعقليتهم؛ فالعلوم المعقدة التي تحتاج إلى عمق في التفكير، وإلى إطالة النظر تدخل مصر غريبة وتخرج منها غريبة أيضًا كما حدث في الفلسفة الإسماعيلية مثلًا.

ملاحظة أخرى نجدها في الحياة الفكرية المصرية في هذا العصر، أن علماء مصر أخذوا في شرح أو نقد ما خلفه علماء المسلمين في العلوم العربية، ولا نكاد نجد في مؤلفات المصريين آراء أصيلة يتميزون بها عن غيرهم. وهذا ليس بغريب؛ فالتاريخ يُحدِّثنا أن العلوم إذا تم تكوينها ووُضعت قواعدها تمر على العلماء فترة بعد ذلك، طويلة كانت أم قصيرة، لشرح هذه القواعد أو نقدها، ويُكثِرون من التأليف حول هذه القواعد دون أن يحاولوا وضع قواعد جديدة، بل يُفرِّعون على هذه الأصول القديمة دون مساس بالقديم. هذا ما كان في الحضارة الهللينية بعد عصر الفلاسفة، وهذا ما حدث أيضًا في الحضارة الإسلامية في جميع الأقطار الإسلامية بعد أن وُضعت قواعد اللغة ودُوِّنَ الأدب العربي بألوانه وفنونه، وبعد أن صيغت القواعد الفقهية على اختلاف المذاهب، أتت فترة ركود ذهن العلماء عن وضع أصول جديدة وقواعد تختلف عن القواعد القديمة. وربما أستطيع أن أقول: إننا لا نزال نعيش على هذه الأصول القديمة، ولم نستطع أن نتحرر منها إلى الآن، فقواعد اللغة التي دوَّنها سيبويه وأصول الصرف كما تركه ابن جني، وعَروض الخليل بن أحمد، وأصول الفقه كما دوَّنه الشافعي ومالك وأبو حنيفة وابن حنبل … هي التي تسيطر على حياتنا العلمية العربية إلى الآن.

وبالرغم من تشجيع الفاطميين للعلماء الذين كانوا في عصرهم، فألَّفوا هذه المجلدات الضخمة، فإن هذه المؤلفات الكثيرة — ولا سيما ما كان منها في العلوم العربية — لا تظهر فيها شخصية مصر ولا أثرها إلا في التعليقات والشروح، أما في العلوم الفقهية فيكفي أن نقول إن مصر اضطرت الإمام الشافعي إلى أن يُغيِّر كثيرًا من آرائه، وأن يكتب رسالته الجديدة مخالفًا فيها ما كتبه في رسالته القديمة. وفي كُتب التاريخ التي تحدثت عن مصر استطاع المؤرخون أن يتأثروا بما حولهم وأن يُظهروا شيئًا مصريًّا لا يستطيع غير المصريين أن يأتوا به. وكذلك نقول عن علوم الطب فقد كانت شخصية مصر واضحة ولا سيما فيما كتبه ابن رضوان وتلاميذه. وهناك سبب آخر لعدم ظهور شخصية مصر في كُتب العلماء المصريين في العلوم العربية، ذلك هو رحلات العلماء في الأقطار الإسلامية طلبًا للعلم، فمصر بموقعها الجغرافي الممتاز الذي جعل منها مركزًا وسطًا بين الشرق والغرب وطريق الغرب إلى الأراضي المقدسة. هذا الموقع جعل مصر مركزًا هامًّا لتبادل الآراء العلمية بين الأقطار الإسلامية؛ فعلماء الأندلس والمغرب وصقلية كانوا مضطرين إلى التعريج على مصر في رحيلهم؛ لتأدية فريضة الحج أو في رحيلهم لطلب العلم في العراق وفارس، وكانت تطول مدة إقامتهم في مصر أو تقصر، ولكنهم كانوا ينتهزون الفرصة للأخذ عن علماء مصر أو يُلقون على المصريين ما عندهم من علوم، فتتلاقح الآراء وتمتزج وتصبح متشابهة لا فرق بين أندلسي ومصري ومغربي أو عراقي، فمثل هذه العلوم لا تُظهر الشخصية الإقليمية. كذلك نقول عن علماء مصر الذين رحلوا في طلب العلم من الأقطار الأخرى، وعلماء الأقطار الشرقية الذين رحلوا في طلب العلم أو التعليم في مصر … هذه الرحلات الكثيرة كانت سببًا في ألا تتمايز العلوم العربية بتمايز الأقطار حتى أصبحنا لا نُفرِّق بين كُتب المشارقة وكُتب المغاربة إلا عن طريق تاريخ المؤلفين أنفسهم.

أما من الناحية الموضوعية للكُتب فمن الصعب العسير أن نصل إلى نتيجة ما، ولكن الأقطار العربية التي كانت تتنازع فيما بينها في السياسة والمذهب الديني وتنشب بينها الحروب المختلفة، كانت تربطها وتُوحِّدها هذه الحياة الفكرية التي جعلت البلاد العربية المتشاحنة كتلة واحدة تدرس علومًا واحدة لا فرق في ذلك بين قُطر وقُطر.

ولما كانت العلوم متشعبة وتعدد العلماء في كل علم، فقد كثُرت مراكز العلم في مصر؛ فكان جامع عمرو بالفسطاط المركز الأول للثقافة في مصر الإسلامية، وكان العلماء يحلقون به؛ لإلقاء علومهم، كما كانت المساجد التي في الخطط تقوم مقام الكتاتيب أو المدارس الأولية الآن في التدريس للغلمان، حتى إذا تهيأت لهم ثقافتهم إلى الاستماع إلى فحول العلماء انتقلوا إليهم في جامع الفسطاط. غير أن بعض كبار العلماء اختاروا بعض الزوايا (المساجد) مكانًا لتدريسهم؛ فالشافعي مثلًا اختار زاوية الخشابية في زقاق القناديل؛ لإلقاء دروسه على بعض خاصته. فكانت المساجد في الفسطاط والإسكندرية وغيرهما من البلاد هي أماكن العلم. وعرف الفاطميون هذه الحقيقة فلم يتوانوا في اتخاذ المساجد مجالًا لنشر العلوم وخاصة علوم الدعوة الإسماعيلية، فلما بُنيت القاهرة وبُني فيها الجامع الأزهر، أخذ الفاطميون في تشجيع العلماء والفقهاء للتحليق في هذا المسجد واتخذوا منه جامعة علمية، وكان الفاطميون يُخرجون إلى علماء الأزهر كفايتهم من الرزق.

فأخذ الأزهر ينافس مسجد الفسطاط في كثرة العلماء وكثرة المتعلمين، ولكن الأزهر كان يمتاز على مسجد الفسطاط في أن داعي دعاة الفاطميين كان يعقد فيه مجالس الحكمة التأويلية وخاصةً مجلس للنساء، كما كان في الأزهر حلقات لتدريس مذاهب أهل السُّنة والجماعة. كذلك أسس الفاطميون «دار العلم» وجعلوا فيها الكُتب العديدة في سائر العلوم والآداب ما لم يُرَ مثله مجتمعًا لأحد، وأباحوا ذلك كله لسائر الناس على طبقاتهم المختلفة ممن يُؤْثر قراءة الكُتب والنظر فيها، فوفد إليها القراء والمنجمون والنحويون وأصحاب اللغة والأطباء؛ فكان منهم من يحضر لقراءة الكُتب ومنهم من يحضر للنسخ ومنهم من يحضر للتعلم، وقد جعل الفاطميون فيها الحبر والأقلام والأوراق اللازمة. فكانت دار العلم بالقاهرة تجمع بين عمل المكتبة العامة وبين الجامعة العلمية، وكثيرًا ما كانت تقام المناظرات والمناقشات بين علمائها، وكثيرًا ما كان الخلفاء الفاطميون يطلبون حضور العلماء للمباحثة والمناظرة بين أيديهم في كل فن، وكانت دار العلم أيضًا مركزًا للدعوة الإسماعيلية وفيها كان يُلقي داعي الدعاة محاضراته.

وكان القصر الفاطمي من مراكز النشاط الثقافي في مصر؛ إذ جعل فيه الفاطميون مكانًا خاصًّا للدعوة الإسماعيلية، وكان هذا المكان يسمى المحول، وفيه كان يُلقي العلماء والدعاة علوم الشيعة الإسماعيلية على الخاصة، كما جعلوا في القصر مكتبة عُدت من مفاخر الفاطميين؛ لأنها كانت من عجائب الدنيا ولم يكن في جميع بلاد المسلمين دار كُتب أعظم من التي كانت بالقاهرة في القصر، ويقال إنها كانت تضم ألف ألف وستمائة ألف كتاب، تشتمل على كُتب في كل فن من الفنون فمن فقه على سائر المذاهب، إلى نحو ولغة وكُتب تاريخ وحديث ورياضة وفلسفة وكيمياء وغير ذلك من العلوم المختلفة. فعناية الخلفاء الفاطميين باقتناء ذخائر الكُتب على هذا النحو، وحرصهم على أن تجمع خزائنهم الطرائف والنفائس في كل علم، وتشجيعهم العلماء والمتعلمين، جعل في مصر نهضة علمية وفنية لم تشاهدها مصر إلا في عصرهم، وعلى تراث حياتهم الفكرية قامت الدراسات في مصر طوال العهد الوسيط، بل لا يزال العالم الإسلامي يعتمد كثيرًا على ما تركه علماء مصر في هذا العصر الذي ندرسه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤