الفصل الثاني

النثر الفني في عصر الطولونيين والإخشيديين

كان أحمد بن طولون أول أمير على مصر استطاع أن يؤسس بها دولة مستقلة وأن يجعل الحكم بها لأبنائه من بعده بالرغم من أنه استمر يدعو على منابر مصر باسم الخليفة العباسي، ووسع أملاكه خارج مصر حتى حدود الإمبراطورية البيزنطية، كانت هذه المطامع السياسية الواسعة التي حقق الطولونيون شطرًا كبيرًا منها سببًا في أن تتسع دائرة أعمالهم، فاصطنعوا عددًا من الكُتاب؛ لمساعدتهم في القيام بالأعباء الثقيلة التي واجهوها. فاهتم أحمد بن طولون بديوان الإنشاء اهتمامًا كبيرًا بحيث نافس به ديوان الإنشاء في بغداد، فكثُر الكُتاب بمصر منهم من وفد إليها أمثال أحمد بن محمد الواسطي الذي دخل مصر مع أحمد بن طولون وكان كاتبه وموضع سِره، والحسين بن مهاجر وأصله من الرقة، وانتقل إلى مصر في عصر الولاة واستقر بها ثم استكتبه أحمد بن طولون، وأكثر من إغداق النِّعم عليه حتى قيل إن مجموع ما أخذه ابن مهاجر من ابن طولون يقرب من مائة ألف دينار.

ووصفه ابن عبدكان الكاتب بقوله: «وأما الحسين بن مهاجر فموقر النفس بعيد الغور، مستصغر لصُحبة من صَحِبَه، لا يؤثر على تدبير أمره عنده شيئًا من أعراض الدنيا.» ومما حُفِظَ لنا من كتابة الحسين بن مهاجر قوله على لسان الأمير ينصح بعض العمال: «قد صحَّت عندي نصيحتك، وأنت غير محتاج أن تتحامل على أحد تحوز به الحجة عندي والعذر لي، فميز الناس تمييز عادل، وتلقَّ شرارهم بغلظة وخيارهم برأفة، واعلم أن حقدك عليهم في نصيحتي تجني به من الآثام والاستيحاش أكثر مما تحوز لي من الطاعة، وتزرع لي في القلوب بغضة لا تأتي عليها الأيام وتتوارثها الأعقاب. واطلب الشكر من مستحقيه، فليس يكرهه إلا ناقص المعرفة بالسياسة غير خبير بما في باطن النصيحة.»

هذا النص يرينا كيف كان الحسين بن مهاجر يميل إلى البساطة في التعبير، ووضوح الغرض الذي يرمي إليه دون أن يعمد إلى التلاعب في الألفاظ ولا إلى الفقرات المسجوعة.

كما وفد على مصر إسحق بن نصير الكاتب البغدادي؛ طمعًا في العمل بديوان الرسائل، فاتصل بابن عبدكان رئيس ديوان إنشاء مصر والتمس التصرف، فسأله ابن عبدكان: فبماذا تتصرف؟ فقال إسحق: في المكاتبات والأجوبة والترسل. وكان بين يدي ابن عبدكان كُتب قد وردت، فقال لإسحق: خُذ هذه وأجب عليها، فأخذها ومضى إلى ناحية من الدار فأجاب عنها ثم وضع خُفه تحت رأسه ونام، وقام أبو جعفر بن عبدكان إلى الحجرة التي له فاجتاز بأبي إسحق والكُتب بين يديه فأخذها وقرأها، فلما تأملها جعل يروح إسحق بن نصير حتى انتبه وسأله عمن أخذ الكتبة، وعيَّنه في الديوان، فلم يزل يعمل مع ابن عبدكان حتى توفي هذا، وآل أمر ديوان الإنشاء إلى عليِّ بن أحمد المادرائي فقال لإسحق: الزم منزلك. فوردت كُتب أجاب عنها المادرائي ودخل بها على أبي الجيش خمارويه، فعرض الأجوبة عليه فقال له خمارويه: ما هذه الألفاظ التي تخرج عني؟! فمضى المادرائي وعاد إليه مرة أخرى فلم يقبل خمارويه الأجوبة، فاضطر المادرائي إلى استدعاء إسحق بن نصير وطلب منه أن يُجيب عن الرسائل ففعل ودخل بها المادرائي على خمارويه فقرأ الأجوبة التي كتبها ابن نصير فقال: نعم، هذا الذي أعرف، إيش الخبر؟ فقال له: كاتب كان مع أبي جعفر فاعتل وأحضرته الساعة، فقال: هاتِه، فأحضروه، فجعل له خمارويه مرتبًا شهريًّا أربعمائة دينار وأمره بأن يلازمه. فمكث إسحق بن نصير في عمله ورُفِعَ رزقه إلى ألف دينار في الشهر، فكان إسحق يجود بذلك ويَفضُل به على الناس، وأرسل مرة إلى بغداد إلى المبرد وثعلب وإلى ورَاق كان يجلس عنده ثلاثة آلاف دينار لكل واحد منهم ألف دينار، وتوفي هذا الكاتب سنة ٢٩٧ﻫ.

ومن كُتاب الطولونيين محبوب بن رجاء الذي وصفه ابن عبدكان بقوله: «أما محبوب فسريع الجواب، حسن الاستماع، حُلو الكتابة.» وأحمد بن أيمن وكان كاتبًا للعباس بن خالد البرمكي. ومع براعة هؤلاء الكُتاب الوافدين، نرى أن ابن طولون كان يفضل أن يستخدم الكاتب المصري. ويروي أحمد بن خاقان صديق ابن طولون: «أن ابن طولون استكتب جعفر بن عبد الغفار، فاضطرب الكاتب بما حمله، فقلت لابن طولون: يحتاج موضع هذا الكاتب من هو أوفى منه وزنًا، فقال ابن طولون: أنا أحتمله لأنه مصري، فقلت له: أراك أيها الأمير تفضل الكاتب المصري على الكاتب البغدادي، فقال: لا والله، ولكن أصلح الأشياء لمن ملك بلدًا أن يكون كاتبه منه، وأن يكون شمل الكاتب فيه، فإنه يجتمع له في ذلك البلد أمور صالحة منها أن تكون بطانة الكاتب وحاشيته في ذلك البلد فيعود مرفقه على فريق من أهله، ومنها رغبته في اعتقاد المستغلات به فيكون ضمانًا لجباياته، وهو مع هذا وشمله ظاهرون ومستقرون في خدمتي، والكاتب العراقي ليس كذلك؛ لأنه يعتقد المستغلات في بلده النائي عنه وعني، ويستبطن الرباع، وهو في كل وقت متطلع إلى بلده، فبهذا السبب زهدت في كُتاب سُرَّ مَنْ رأى مع علمي بتقدمهم في الكتابة والرجاحة.» وكان جعفر بن جدار من الكُتاب الذين كان لهم شأن يُذكر في عصر ابن طولون؛ إذ كان أحد الأشخاص الذين زينوا للعباس بن أحمد بن طولون أن يثور ضد أبيه ويعمل على طلب المُلك لنفسه، فانتهز العباس فرصة خروج أبيه مع الجيش إلى بلاد الشام فقام بثورته ولما علم بقرب عودة أبيه خرج مع أعوانه إلى برقة، وحاول ابن طولون أن يستميل ابنه فأرسل إليه وفدًا من كبار رجال مصر، وأمر الوفد بملاطفة العباس ووعده بالصفح والعفو عنه، وبعث إليه بكتاب أمان، وكاد هذا الوفد أن ينجح مع العباس لولا أن ابن جدار حذَّر العباس وخوَّفه من غدر أبيه وبطشه، وكتب ابن جدار جواب كتاب ابن طولون إلى ابنه، فمما ورد في هذا الجواب:

إلى الأمير أبي العباس أحمد بن طولون مولى أمير المؤمنين، من عبد الله مولى الله المتمسك بمناجي طاعة الله، المنحرف عن زيغ ظُلم المعصية إلى وضوح سِر البصيرة، القابل من الله موعظته والعامل بما أمر به، إذ يقول جل ثناؤه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا الله وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ، وقوله عز وجل: وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ.

سلامٌ على الأمير، وعلى من استرجع وادكر، وفكَّر وازدجر، فأنا أحمد إلى الأمير الله لا إله إلا هو، العاطف بي إلى أرفع سُنن الهداية، والعادل بي عن ظُلم سُنن الجهالة، وأسأله صلاة تامة يخص بها وليه وخِيرته من صفوته ورسوله .

أما بعد، وفق الله الأمير لمحال رشده، وجنَّبه مقابح أمره، وسخَّر له الخلق عن غامض ذكره، فإن كتاب الأمير ورد عن الحائد منه عن سبيل العظة والتذكير إلى سبيل التهديد والتحذير، فبعَّد وقرَّب وآنس وهدَّد، وجمَّع وفرَّع، يبذل من نفسه باليسير فيها، ويدعو إلى الصلة ويُحدِّث غيرها، ويعرض من ماله الأنفس، ويُصيِّر من خطابه الأنزر، ويُعدِّد من واجب حقه ولازم مفترضه ما اعترف به مصدقًا لمن اعترف بالطاعة محققًا … إلخ.

فابن جدار في هذه الرسالة يعطينا صورة من فنه النثري ذي الفقرات القصيرة المسجوعة، والعبارات الموسيقية، وتضمين الآيات القرآنية، واستخدام اللفظ وضده، مع ميل إلى الإسهاب والتكرار إذا دعت الحاجة إليهما. وكان ابن جدار شاعرًا وشعره رقيق مثل كتاباته، فهو يقول في مغنية:

جاءت بوجهٍ كأنه قمر
على قوامٍ كأنه غُصن
ترنو بعينٍ إذا تعاينها
حسبت أن في جفونها وسن
حتى إذا ما استوت بمجلسها
وصار فيه من حُسنها وثن
غنَت فلم يبقَ فيَّ جارحةٌ
إلا تمنيت أنها أُذن

ومن شعره قصيدة أكثر فيها من التلاعب اللفظي والصنعة البديعية الغريبة التي لا نكاد نجد لها مثيلًا في الأدب المصري، فهو يقول فيها:

قد قُلتُ إذ أقبلتْ تَهادى
كطلعة البدر أو أتما
لو كنتُ ممن لكنتُ مما
لكنني قد كَبُرتُ مما
عاتبني الدهر في عِذاري
بأصرف فارعويت لما
قُوِّسَ ما كان مستقيمًا
وابيضَّ ما كان مُدلهما
وكيف تصبو الدُّمى إلى من
كان أخًا ثم صار عمَّا
لي عنكِ يا أخت أهل يم
شُغل بما قد دنا وحما
فلستُ من وجهك المُفدى
ولستُ من قدك المُحمى
أذهلني عنكِ خوف يوم
يحيا له كل ما أرما
تُحشر فيه الجنان زفًّا
وتُحشر النار فيه زما
تقول هذي لطالبيها
هَيت، وهذي لهم هَلُما
نفسي أولى بأن أذُما
من أمرها كل ما استُذما

ولما فشلت ثورة العباس وقبض ابن طولون على الثائرين، بنى دكة عظيمة رفيعة السُّمك وأحضر ابن جدار من خاصة العباس فضُرِبَ ثلاثمائة سوط وقُطعت يداه ورِجْلاه وأُلقي من الدكة سنة ٢٦٨ﻫ.

وكان أحمد بن أبي يعقوب يوسف بن إبراهيم المعروف بابن الداية من كُتاب الطولونيين، ووصفه ابن زولاق بقوله: «كان أبو جعفر رحمه الله في غاية الافتنان، أحد وجوه الكُتاب الفصحاء، والحُسَّاب، والمنجمين، مجسطي، إقليدس، حسن المجالسة، حسن الشعر.» وكان ابن الداية أحد الذين أسهموا في كتابة السيَر على نحو ما ذكرنا من قبل، وحُفِظَ لنا من كُتبه «كتاب المكافأة» الذي تدل فاتحته على أن ابن الداية كان متأثرًا بأسلوب الجاحظ. وفي كتاب المكافأة بعض تعبيرات مصرية خالصة أثناء سرده لبعض قصص حدثت له أو لأصدقائه في مصر.

وهكذا كَثُرَ عدد الكُتاب في ديوان ابن طولون، وكان من شدة رغبة بني طولون أن تصدر الرسائل على درجة كبيرة من الإتقان أنشئوا ديوان «التصفح» لمراجعة ما يكتبه كُتاب الإنشاء، وأول من تولى ديوان الإنشاء الذي رتبه ابن طولون هو أبو جعفر محمد بن أحمد بن مودود المعروف بابن عبدكان الذي أشاد بذكره المؤرخون والأدباء؛ فابن النديم يقول: «كان بليغًا مترسلًا فصيحًا.» ويقول القلقشندي: «كان ممن اشتهر من كُتابهم (أي كُتاب الطولونيين) بالبلاغة وحُسن الكتابة، وكان مبدأ الكُتاب المشهورين بمصر.» ويُروى أن أهل بغداد كانوا يحسدون أهل مصر على ابن عبدكان الكاتب وطبطب المحرر ويقولون: «بمصر كاتب ومحرر ليس لأمير المؤمنين بمدينة السلام مثلهما.»

لا نعرف شيئًا عن تاريخ حياة ابن عبدكان ولا ندري أين أخذ فن الكتابة، فمن رسائله التي كتبها عن أحمد بن طولون رسالة إلى العباس بن أحمد بن طولون وهي الرسالة التي أجاب عليها جعفر بن جدار التي سبق ذكر شيء منها، ويقول ابن عبدكان في هذه الرسالة:

من أحمد بن طولون مولى أمير المؤمنين إلى الظالم لنفسه، العاصي لربه، الملم بذنبه، المفسد لكسبه، العادي لطوره، الجاهل لقدره، الناكص على عقبه، المركوس في فتنته، المنجوس من حظ دنياه وآخرته، سلامٌ على كل منيب مستجيب، تائب من قريب، قبل الأخذ بالكظم وحلول الفوت والندم. وأحمد الله الذي لا إله إلا هو حمد معترف له بالبلاء الجميل والطول الجليل، وأسأله مسألة مخلص في رجائه، مجتهد في دعائه، أن يُصلِّي على محمد المصطفى، وأمينه المرتضى، ورسوله المجتبى .

(أما بعد) فإن مثلك مثل البقرة تثير المُدية بقرنيها، والنحلة يكون حتفها في جناحيها، وستعلم هبلتك الهوابل أيها الأحمق الجاهل، الذي ثنى على الغي عطفه، واغتر بضجاج المواكب خلفه، أي موردة هلكة بإذن الله توردت، إذ على الله عز وجل تمردت وشردت، فإنه تبارك وتعالى قد ضرب لك في كتابه مثلًا: قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ فَأَذَاقَهَا اللهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ.

وإنَّا كنا نُقرِّبك إلينا وننسبك إلى بيوتنا طمعًا في إنابتك وتأميلًا لفيئتك، فلما طال في الغي انهماكك، وفي غمرة الجهل ارتباكك، ولم نَرَ الموعظة تُليِن كيدك، ولا التذكير يُقيم أودك، لم تكن لهذه النسبة أهلًا ولا لإضافتك إلينا موضعًا ومحلًّا، بل لا نُكنِّي بأبي العباس إلا تكرهًا وطمعًا بأن يهب الله عنك خلفًا نقلده اسمك، ونُكنِّي به دونك، ونعدك نسيًا منسيًّا، ولم تَكُ شيئًا مقضيًّا، فانظر — ولا نظر بك — أي عار نسبته تقلدت، وسخط من قِبلنا تعرضت.

واعلم أن البلاء بإذن الله قد أظلك، والمكروه إن شاء الله قد أحاط بك، والعساكر بحمد الله قد أتتك كالسيل في الليل، تؤذنك بحربٍ وويل، فإننا نُقسم — ونرجو ألا نجور ونظلم — أن لا نَثني عنك عنانًا، ولا نُؤْثر على شأنك شانًا، فلا تتوقل ذروة جبل، ولا تلج بطن وادٍ إلا جعلناك بحول الله وقوته فيهما، وطلبناك حيث أممت منهما، منفقين فيك كل مالٍ خطير، ومستصغرين بسببك كل خطبٍ جليل، حتى تستمر من طعم العيش ما استحليت، وستدفع من البلايا ما استدعيت حين لا دافع بحول الله عنك، ولا مزحزح لنا عن ساحتك، وتعرف من قدر الرخاء ما جهلت، وتود أنك هبلت، ولم تكن بالمعصية عجلت، ولا رأي من أضلك من غُواتك قبلت، فحينئذٍ يتفرى لك الليل عن صبحه، ويُسفر لك الحق عن نُصحه، فتنظر بعين لا غشاوة عليها، وتسمع بأذنين لا وقر فيهما، وتعلم أنك كنت متمسكًا بحبائل غرور، متماديًا في مقابح أمور، من عقوق لا ينام طالبه، وبغي لا ينجو هاربه، وغدر لا ينتعش صريعه، وكفران لا يُودى قتيله، وتقف على سوء رويتك وعِظم جريرتك في تركك قبول الأمان، إذ هو لك مبذول وأنت عليه محمول، وإذ السيف عنك مغمود، وباب التوبة إليك مفتوح، وتتلهف والتلهف غير نافعك، إلا أن تكون أجبت إليه مسرعًا، وانقدت إليه منتصحًا … إلخ.

لعلك تستطيع من هذه الرسالة أن تلحظ عناية الكاتب بعبارته وكيف اهتم بتنسيقها، وكيف كان يأتي السجع من غير تكلف ولا تعمد، ومدى كلف الكاتب بالازدواج مع استواء التقاسيم، وميله في المعاني إلى التشخيص والتصوير الماديين، والمادية — كما رأينا — من خصائص الفن المصري شعرًا ونثرًا. هذا كله يدل على مقدرة ابن عبدكان في فن الكتابة، ونجد هذه الخصائص نفسها في رسائله الإخوانية فهو يقول في إحداها:

أطال الله بقاءك ففي إطالته حياة الأنام، وأُنس الأيام والليالي، وأدام عِزَّك ففي إدامته دوام الشرف ونمو المعالي، وأتم نعمته عليك فإنها نعمة حلت محل الاستحقاق، ونزلت منزلة الاستيجاب، ووقفت على ما تكره الآلاء مكانه ولا تُنكر الفواضل محله … إلخ.

فالمصريون في هذا العصر كانوا يفتتحون رسائلهم بالدعاء غالبًا، فدعاء بصالح الدنيا وغبطة الآخرة، أو الدعاء بكبت العدو، أو بطِيب الحياة إلى غير ذلك من الأمور التي تتنوع بتنوع حال المرسل إليه، وقد لا نجد هذه المقدمات إذ يهجم الكاتب على موضوعه دفعة واحدة ويكتب رسائله مفتتحًا بقوله: «كتابي إليك» أو «كتبت إليك»، أما في جواب الرسائل فنراهم يبدءون بقولهم: «وصل كتابك».

كان ابن عبدكان أول رئيس لديوان الإنشاء في مصر، وعلى يده تخرَّج أكثر كُتاب مصر، فساروا على طريقته الفنية، واستمر فنهم إلى أن وُضعت أصوله وخصائصه عند كُتاب مصر الفاطمية على نحو ما سنذكره بعد. وتولى إسحق بن نصير ديوان الإنشاء بعد ابن عبدكان.

أما في العصر الإخشيدي فكان إبراهيم بن عبد الله بن محمد النجيرمي أظهر الكُتاب، ولكنه لم يكن من مدرسة ابن عبدكان، كان نحويًّا كلفًا بالعلوم العربية الخالصة وكان لذلك أثره في كتاباته، ومن إنشائه خطاب أرسله إلى ملك الروم جوابًا على خطاب أرسله هذا الملك إلى الإخشيد:

من محمد بن طغج مولى أمير المؤمنين إلى أرمانوس عظيم الروم ومن يليه، سلامٌ بقدر ما أنتم له مستحقون، فإنَّا نحمد الله الذي لا إله إلا هو، ونسأله أن يُصلِّي على محمد عبده ورسوله . (أما بعد) فقد تُرجم لنا كتابك الوارد مع نقولا وإسحق رسوليك، فوجدناه مفتتحًا بذكر فضيلة الرحمة، وما نمى عنا إليك، وصحَّ من شيمنا فيها لديك، وبما نحن عليه من المعدلة وحُسن السيرة في رعايانا، وما وصلت به هذا القول من ذكر الفداء والتوصل إلى تخليص الأسرى إلى غير ذلك مما اشتمل عليه وتفهمناه. فأما ما أطنبت فيه من فضيلة الرحمة، فمن سديد القول الذي يليق بذوي الفضل والنُّبل، ونحن — بحمد الله ونِعمه علينا — بذلك عارفون، وإليه راغبون، وعليه باعثون، وفيه — بتوفيق الله إيانا — مجتهدون، وبه متواصون وعاملون، وإياه نسأل التوفيق لمراشد الأمور، وجوامع المصالح بمنِّه وقدرته.

وأما ما نسبته إلى أخلاقنا من الرحمة والمعدلة، فإنَّا نرغب إلى الله جلَّ وعلا، الذي تفرَّد بكمال هذه الفضيلة، ووهبها لأوليائه ثم أثابهم عليها، أن يوفقنا لها ويجعلنا من أهلها وييسرنا للاجتهاد فيها والاعتصام من زيغ الهوى عنها وعرة القسوة بها، ويجعل ما أودع قلوبنا من ذلك موقوفًا على طاعته، وموجبات مرضاته، حتى نكون أهلًا لما وصفتنا به، وأحق حقًّا بما دعوتنا إليه، وممن يستحق الزُّلفى من الله تعالى. فإنَّا فقراء إلى رحمته، وحق لمن أنزله الله بحيث أنزلنا، وحمَّله من جسيم الأمر ما حمَّلنا، وجمع له من سعة الممالك ما جمع لنا، بمولانا أمير المؤمنين — أطال الله بقاءه — أن يبتهل إلى الله تعالى في معونته لذلك وتوفيقه وإرشاده، فإن ذلك إليه وبيده، وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ. وأما ما وصفته من ارتفاع محلك عن مرتبة من هو دون الخليفة في المكاتبة لما يقتضيه عِظم مُلككم، وأنه المُلك القديم الموهوب من الله الباقي على الدهر، وإنك إنما خصصتنا بالمكاتبة لما تحققته من حالنا عندك، فإن ذلك لو كان حقًّا كانت منزلتنا — كما ذكرته — تقصر عن منزلة من تكاتبه، وكان لك في ترك مكاتبتنا غَنْم ورَشَد، لكان من الأمر البيِّن أن أحظى وأرشد وأولى بمن حل محلك أن يعمل بما فيه صلاح رعيته، ولا يراه وصمة ولا نقيصة ولا عيبًا، ولا يقع في معاناة صغيرة من الأمور تعقبها كبيرة، فإن السائس الفاضل قد يركب الأخطار ويخوض الغمار ويُعرِّض مهجته فيما ينفع رعيته …

ويستمر الكاتب في هذه الرسالة الطويلة إلى أن قال في نهايتها:

قد ابتدأتنا بالمؤانسة والمباسطة، وأنت حقيق بعمارة ما بيننا واعتمادنا بحوائجك وعوارفك قبلنا، فأبشِر بتسيير ذلك إن شاء الله. والحق لله أحق ما أبتدِئ به وختم بذكره وصلَّى الله على سيدنا محمد نبي الهدى والرحمة وعلى آله وسلَّم تسليمًا.

فأسلوب الرسالة هنا يختلف تمام الاختلاف عن أسلوب كُتاب مدرسة ابن عبدكان، فقد كادت تخلو من الزخرفة اللفظية ومن السجع إلا ما جاء عفوًا، وكان اهتمام الكاتب بالمعاني أكثر من اهتمامه بالزينة البديعية فهو يشرح ويستشهد، وكان ماهرًا قديرًا في حرصه على أن يُظهر الإخشيد بمظهر الملك العظيم الذي إليه حُكم جزء هام من العالم العربي، وفي الوقت نفسه كان حريصًا على أن لا يُغضب ملك الروم؛ لأن عددًا من أسرى المسلمين عند الروم، فأظهر الكاتب هذه المهارة في الجمع بين ما أراده؛ ولا غرابة أن يُعجب الإخشيد بهذه الرسالة، ويُعجب الكاتب نفسه بها فكتب نُسخًا منها أرسلها إلى بعض أصدقائه في العراق.

ونسمع عن الكاتب عليِّ بن محمد بن كلا الذي كان كاتبًا للإخشيد أيضًا، وقام بالسفارة بينه وبين الخليفة العباس ببغداد، ثم سَفَرَ بين الإخشيد وبين ابن رائق، مما يدل على أنه كان ثقة الإخشيد ومع ذلك فقد نكبه الإخشيد سنة ٣٢٢ﻫ وصادره هو وأهله.

مما تقدم ترى أن الكتابة الفنية شقَّت طريقها بين المصريين، واستطاع الكاتب المصري أن يتصرف كيفما أحب دون أن يجد مشقة وجهدًا، فعبَّر الكاتب عما في نفسه وما جاشت به خواطره في أسلوب فني جميل فيه أثر الصنعة حينًا، وظهر تأثير ذلك كله في كُتاب العصر الفاطمي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤