المقدمة
يقول وهمٌ شائع على نطاقٍ واسع إن الكتب جماداتٌ هادئة خاملة ليس لها تأثيرٌ، إنها خاصة بالأماكن الحبيسة والهدوء النظري للأديرة والجامعات وغيرها من أماكن الهروب من العالم المادي الشرير. وتبعًا لهذه الفكرة الغريبة الخطأ، تزخر الكتب بالنظريات غير العملية، وأهميتها تافهة لرجل الأعمال ذي الرأس الصلب.
حظي متوحش الغابة بفهمٍ أكثر واقعية وهو ينحني أمام الصفحة المطبوعة، لقوتها الخارقة على نقل الرسائل. وتتراكم الأدلة فوق الأدلة، طوال التاريخ، على أن الكتب بريئةٌ وعديمة الضرر وغير تافهة؛ فهي غالبًا ما تكون عظيمة الحركة وافرة الحيوية قادرة على تغيير مجرى الأحداث تغييرًا كليًّا — للخير أحيانًا وللشر أحيانًا أخرى.
الغرض من هذا المؤلَّف هو توضيح القوة العاتية للكتب، عن طريق مناقشة أمثلةٍ معينة. فأولًا يجب التركيز على أنه ليس في نيتنا تقديم قائمة «بأحسن الكتب» أو «أعظم الكتب»، فإن عمل مثل هذه القوائم هوايةٌ محبوبة لتمضية الوقت لنقاد الأدب والمؤلفين والناشرين ورجال التعليم وأمناء المكتبات، الذين تنحصر توصياتهم في العلوم الأدبية. أما الهدف منه فهو اكتشاف الكتب التي كان لها أعظم أثر عميق على التاريخ والاقتصاد والثقافة والمدنية والفكر العلمي منذ عصر النهضة، تقريبًا، إلى منتصف القرن العشرين.
المشكلة في مثل هذا الأمر، هي بالطبع في الاختيار؛ تأتي إلى الذاكرة تلقائيًّا حفنةٌ من العناوين، فيتنوع الاختيار منها تنوعًا كبيرًا، ويُحذف معظمها عند استعمال العدد الواقع في الصف الأول؛ إذ لا بد أن يكون هذا الكتاب ذا وقعٍ عظيم مستمر على الفكر والعمل البشريين، ليس لأمةٍ واحدةٍ فحسب، وإنما لأعظم جزءٍ من العالم. وعندما يتعرَّض المرء لهذا الاختبار القاسي، يأخذ في حذف عنوانٍ بعد آخر.
-
فرويد: «تفسير الأحلام».
-
آدمز: «تعليم هنري آدمز».
-
تيرنر: «الطليعة في التاريخ الأمريكي».
-
«سمنر Sumner»: «طرق الشعب Folkways».
-
فبلين Veblen: «مشروع العمل».
-
ديوي Dewey: «دراسة في النظرية المنطقية».
-
بواس Boas: «عقل الرجل البدائي».
-
بيرد: «التفسير الاقتصادي للدستور».
-
ريتشاردز: «مبادئ النقد الأدبي».
-
بارنجتون Parrington: «التيارات الرئيسية في الفكر الأمريكي».
-
لينين Lenin: «الدولة والثورة».
-
سبنجلر: «تدهور الغرب».
ومن هذه الاثني عشر كتابًا رأى ويكس وديوي وبيرد اختيار مؤلفات فرويد وآدم وتيرنر وسبنجلر.
-
التوراة.
-
أفلاطون Plato: «الجمهورية».
-
القديس أوجستين: «مدينة الله».
-
«القرآن».
-
دانتي: «الكوميديا الإلهية».
-
«مسرحيات شكسبير».
-
بنيان Bunyan: «تقدم الحج».
-
ميلتون: «عضوية محكمة جنايات أثينا».
-
داروين: «أصل الأجناس».
-
ماركس: «رأس المال».
وبالنسبة للتحديد المفروض في دراستنا هذه نحذف كل هذه الكتب ما عدا الثلاثة الأخيرة من هذه العشرة، وفعلًا، لم يضم مؤلفنا غير الكتابين الأخيرين.
يتضح مما سبق أنه من الصعب جدًّا الإجماع على كتاب بعينه. والاختيار أمرٌ شخصيٌّ إلى درجة كبيرة وموضوعي جدًّا. والاتفاق التام على معظم الكتب المختارة غير محتمل، ومع ذلك نأمل في أن نكون قد وفَّينا كل كتاب حقَّه من الدراسة والتمحيص الدقيقَيْن. وكذلك فعلنا في مؤلفيها. ويجدر بنا أن نذكر بعض المؤلفات التي درست بعناية ودقة، ثم حذفت لسبب ما أو غيره.
من بين الستة عشر كتابًا التي تضمها القائمة النهائية ستة مؤلَّفات تدخل في باب العلوم إبَّان المدة من ١٥٤٣ إلى ١٩١٥م، وعشرة كتب في المواد الاجتماعية في المدة من ١٥٢٣–١٩٢٧م. ولا شكَّ في أن هذا التصنيف عن غير قصدٍ إذ كان الوقع الاجتماعي للمؤلفات العلمية تامًّا وعميقًا كالمؤلفات المذكورة في كتب المواد الاجتماعية نفسها. وكتاب «كابينة العم توم» لمسز ستو، رغم صورته الخيالية، جدير في كل ناحية بأن يكون حجةً اجتماعية.
عندما يستعرض المرء هذه الستة عشر كتابًا، المحملة بالحركة، يطرأ على بالنا دائمًا هذا السؤال: هل عملت العصور الكتاب أم أن العكس صحيح؟ أي هل كان كتاب معين ذا نفوذ بسبب أن الزمن كان مستعدًّا له؟ هل يمكن أن تكون لهذا الكتاب نفس الأهمية في عصر آخر، أو هل يمكن أن يكتب في أي تاريخ آخر؟ وإنه ليتعذَّر الهروب من استنتاج أن الأزمنة أنتجت الكتاب، في كل ناحيةٍ تقريبًا إلا أنه ما كان بالإمكان أن يؤلف هذا الكتاب في أي عصرٍ تاريخي آخر أو أنه إذا ظهر فما كان ليحظى بمثل هذا الاهتمام.
ومن ناحية أخرى، وكما هي الحال في الكبسولات البطيئة المفعول، هناك كتب لم تحدث تأثيرها الكامل إلا بعد سنوات من نشرها. فمثلًا كان آدم سميث وكارل ماركس في عداد الأموات عندما أدرك العالم أهمية كتابيهما. ومضى نصف قرنٍ على موت ثورو عندما طبق المهاتما غاندي في الهند وجنوب أفريقيا، مذهبه الداعي إلى العصيان المدني. ولولا قيام المدرسة الألمانية لسياسة التوسع الجغرافي، ما لقيَت نظريات ماكندر التي صاغها قبل ذلك بعشرات السنين، ما لقيَت الاهتمام الذي تستحقه. وهذه أسماء بعض رُوَّاد المفكرين الذين عرفوا الفشل في أوائل مؤلَّفاتهم، وقيام تلك المؤلَّفات باستجداء القراء.
يتردد في القطاع الخلفي من الذهن سؤال عندما يتأمل المرء قائمة الكتب المختارة، ألا وهو: كيف يمكن قياس التأثير؟ وكما سبق أن قلنا، كان الهدف هو اختيار الكتب التي يمكن الحكم على آثارها بمصطلحات النتائج الثابتة أو الأفعال. أي إنها يجب أن تكون قد مارست علاقة مباشرة بتيارات أحداث معينة. وكثيرًا ما حاول كتابٌ ما إيجاد حل لبعض المشاكل في مجال محدد في فترة معينة. ولما كانت أمثال هذه الكتب تتناول أمورًا زمنية وموضوعية، فإنها تميل إلى أن يجري عليها القدم بسرعة أكثر مما يجري على الكتب الدينية أو كتب الفلسفة أو الأدب.
والمقياس القريب الصحيح لمدى التأثير هو قوة العاطفة المعاصرة الميَّالة إلى تلك الكتب أو المعارضة لها. فإذا أثار كتابٌ ما معارضة عنيفة وشعورًا مماثلًا من التأييد لوجهة نظره، فالاحتمالات أنه قد أثر تأثيرًا عميقًا على تفكير الناس. كما أن الرقابة الرسمية والجهود الأخرى المناوئة، إيجابية في مفعولها. والنظرة الداخلية إلى مثل هذه الانفعالات تمدنا بها بعض المصادر مثل الصحف المعاصرة ونشرات الأدب الجدلي ومذكرات المؤرخين والدراسات البيوجرافية. والاختبار القاسي هو ما إذا كانت النظريات أو البرامج أو الأفكار والمدافعون عنها، تحظى بالقبول نهائيًّا أو لا تحظى به، وهل تعبر الحدود الدولية وتترجم إلى اللغات الأخرى وتعمل على خلق التلاميذ والأنصار والمحاكين والمنافسين، وتندمج تدريجيًّا في حياة الناس والأمم وفي أفكارهم.
وبالنظر إلى الصعوبة القصوى في إمكان قراءة معظم عناوين قائمة الاختيار يمكن السؤال عن هذا الأمر بطريقة معقولة منطقية: كيف يمكن لهذه المؤلَّفات أن تُحدث تأثيرًا على أي فردٍ عدا عددًا محدودًا من الأخصائيين؟ وبالطبع، يستطيع نفرٌ قليل من العوام أن يفهم ويتابع بسهولةٍ أصول النصوص اللاتينية لمؤلف كوبرنيكوس أو هارفي أو نيوتن، أو نظريات أينشتين بأية لغة. بينما لا أحد غير العالم الاجتماعي المدرب، يستطيع أن يستوعب تمامًا البراهين الملتوية، في أغلب الأحوال، لمؤلفات آدم سميث أو مالثوس أو ماركس. أما علم الأحياء فيقوى فهم مؤلف لهافي أو داروين أو فرويد. ونجيب على ذلك السؤال بقولنا إن سواد الناس يحصلون على أفكارٍ سبق هضمها بواسطة عملية تمحيص عن طريق وسيلة ما مثل الثقافة الشعبية في صورة كتبٍ أو مجلات أو صحف أو دروس مدرسية أو محاضرات عامة، وحديثًا عن طريق الراديو والتليفزيون والسينما. ولولا الإدراك العام ما لقيَ أي كتاب من الستة عشر كتابًا المختارة إقبالًا في عصره أكثر من «كابينة العم توم» و«نضالي». وبناءً على ذلك نتج تأثيرها من تفسير الخبراء. وكثيرًا ما يحدث التطبيق العملي في الحياة اليومية دون معرفةٍ واعيةٍ من الناس عمومًا، مثال ذلك، اكتشافات نيوتن الميكانيكية، أو نظريات أينشتين، فيما يختصُّ بتفتيت الذرة والطاقة الذرية.
وعلى الرغم من أن ماكندر، ومن بعده ساسة التوسع الجغرافي، لم يوافقوا على استنتاجات ماهان، فإنهم وجدوا أفكاره مثيرةً ومؤثرة. وقد اقتبس هتلر في كتابه «نضالي» كثيرًا من ماكيافيلي وداروين وماركس وماهان وماكندر وفرويد، سواءٌ كان هذا الاقتباس بوعي منه أو عن غير قصدٍ.
يمكن إضافة بعض تعليقات معينة على الكتب المختارة وعلى مؤلفيها. هل تحاشى هؤلاء الميول الطبيعية القاضية بأن يؤثر كلٌّ منهم وطنه أو لغته، مثلًا؟ من المحتمل أن يكون الجواب بالنفي. تضمُّ القائمة أربعة أمريكيين هم: بين وثورو وستو وماهان، وستة بريطانيين هم: هارفي ونيوتن وسميث ومالثوس وداروين وماكندر. كما أن هناك ثلاثةً من الألمانيين هم: ماركس وأينشتين وهتلر، وواحدًا إيطاليًّا هو ماكيافيلي وآخر بولنديًّا هو كوبرنيكوس وثالثًا نمساويًّا هو فرويد. ومن بين المؤلِّفين الستة الأوروبيين (من القارة نفسها غير البريطانيين) ثلاثة يهود. وإذا كان واضع هذه القائمة أحد الصينيين أو الفرنسيين أو الروس، فلا شك في حدوث تحيز ما في اتجاهاتٍ أخرى.
يمكننا أن نعزو الاختلاف السابق بين مدد التأليف إلى عدة عوامل؛ فاختلاف شخصية كل مؤلف عن شخصية الآخر مسئولة عن بعض هذه الاختلافات. وقد رفض بعض علماء الطبيعة أمثال كوبرنيكوس ونيوتن وهارفي وداروين الإسراع في طباعة مؤلَّفاتهم حتى يتحققوا تمامًا من صحة اكتشافاتهم واختبارها اختبارًا قاسيًا. وحتى بعد أدق الاختبارات القاسية ترددوا في نشرها خوفًا من المجادلات والرقابة القوية لزملائهم العلماء، ومقتهم عرضها على الجماهير، أو ما شابه ذلك من الأسباب. وقد تضمنت مقالات سميث وماركس الاقتصادية ضياع الوقت وتجميع كميات كبيرة من المعلومات، والمراجعة الضخمة، ومن جهة أخرى كان لدى المؤلفين المتهوِّرين، أمثال ماكيافيلي ومالثوس الشاب وبين ولمورو رسالات عاجلة يجب إصدارها دون تأخير.
الغالبية العظمى من الستة عشر مؤلفًا المختارين معروف عنهم أن كلًّا منهم وضع كتابًا واحدًا فحسب. وباستثناء قلة قليلة، ترتكز شهرة الباقين على عنوانٍ واحد مع إهمال ما عداه. كتب هارفي ونيوتن وسميث مالثوس وماركس وستو وماهان وأينشتين كتبًا أخرى — وفي بعض الأحوال، كان بعضهم كثير التصانيف، ولكن من يمكنه أن يذكر أسماءها سوى قلة من الأخصائيين؟ أما بين وثورو وداروين وفرويد فيستثنون من هذه القاعدة لأن أقلامهم الخصبة أنتجت كتبًا أخرى اشتهرت بطريقةٍ ما كما اشتهرت هنا في قائمتنا.
قد تستطيع بعض المذكرات البيوجرافية إبداء مظاهر أخرى لأخلاق المؤلفين وشخصياتهم. فهل للمركز الزواجي مثلًا أثرٌ هامٌّ في خلق مؤلف رائع يَبُذُّ كل ما عداه؟
كان كوبرنيكوس راهبًا، كما لم يتزوج كلٌّ من نيوتن وسميث وثورو وهتلر. وتزوج كلٌّ من هارفي وماهان وماكندر وبين ولكنهم لم ينجبوا أطفالًا. وباء زواج بين مرتين بكارثة في كل مرة. وكان لمالثوس ثلاثة أولاد، كما كان لأينشتين طفلان. تزوج مالثوس مرة واحدة وأينشتين مرتين. ولم يكن كلٌّ من ماكيافيلي وداروين وستو وماركس وفرويد أزواجًا مخلصين فحسب، بل وأنجبوا أسرات كبيرة. بيد أن المرء يتردد أخيرًا في استخلاص أية حقائق من هذه الأمور.
قد يظن البعض أن السن وبلوغ الرشد ضروريان لمؤلف كتاب عظيم. وما صلة هذين الأمرين، حقًّا، بالستة عشر مؤلفًا المختارين؟ عندما خرجت الطبعة الأولى لكلٍّ من هؤلاء، من المطبعة، كان أكبرهم سنًّا هو كوبرنيكوس؛ إذ كان في السبعين، وأصغرهم أينشتين الذي كان في حوالي السادسة والعشرين. وكان مالثوس وثورو في أوليات الثلاثينيات. أما بين وهتلر فكانا في أواخر الثلاثينيات. كانت فترة السنوات العشر ما بين ٤٤–٥٤ هي أخصب فترات العمر إنتاجًا؛ إذ كان في هذه المرحلة كلٌّ من المؤلفين، ماكيافيلي وفرويد ونيوتن وماركس وماهان وداروين وهارفي وسميث (في ترتيب تصاعدي أي من الأصغر إلى الأكبر). وكان كلٌّ من ستو وماكندر في أوائل الأربعينيات.
وخلاصة هذا، هناك خصائص معينة يشترك فيها معظم المؤلفين، تبدو واضحةً. وباستثناء علماء الطبيعة الذين تضمهم القائمة. والذين يكون التعليق أقل مناسبة لهم. فالكتب التي تضمها القائمة، كتبها أشخاص غير تابعين للكنيسة، وأشخاص متطرفون ومتعصبون لدينهم، وثوريون ومثيرون للاضطرابات. وغالبًا ما تكون كتب هؤلاء رديئة التأليف تعوزها المسحة الأدبية. ونعود فنكرر قولنا بأن سرَّ نجاحهم هو أن الزمن كان ملائمًا وعلى استعدادٍ لهم. حملت كتبهم رسالات، كانت في أغلب الأحوال كثيرة العاطفية، يتوسَّلون فيها إلى ملايين البشر. وفي بعض الأحيان كان النفوذ للخير، كما كان أحيانًا أخرى للشر. ومن الجلي أن الكتب يمكن أن تكون قوى لكل من الخير والشر. وعلى أية حال، ليس الغرض هنا قياس القيم الأخلاقية؛ بل لتوضيح أن الكتب أدوات أو أسلحة حركية وقوية.