الفصل الرابع

أفواه كثيرة: ثوماس مالثوس١

مقال عن: مبدأ السكان

مما أثار المتعة المحبوبة في أواخر القرن الثامن عشر، خيالات الحالمين وقتذاك. فقد أوحت المثالية المقترنة بالحركات الثورية في أمريكا وفرنسا، إلى الخياليين بأن يستنتجوا أن كمال الإنسان قد لاح فوق الأفق، واقترب خلق جنة أرضية.

ومن بين أولئك الحالمين اثنان، أحدهما وليم جودوين William Godwin في إنجلترا، والماركيز دي كوندورسيه Marquis de Condorcet بفرنسا. وكان لهذين أتباع بالغو الإخلاص، نادوا بعددٍ كبيرٍ من الأماني والخيالات لانبثاق يومٍ جديد. وقد ذكر جودوين في كتابه «العدل السياسي» آراء نموذجية بالمتفائلين الراسخين في التفاؤل، مؤدَّاها أنه «سيأتي يوم نكون فيه ممتلئين بالحيوية فلا نحتاج إلى أن ننام، ومفعمين بالحياة فلا نحتاج إلى أن نموت، ويتغلَّب تأكيد تنمية القوى الذهنية على الحاجة إلى الزواج. وبالاختصار، يغدو الناس كالملائكة.» تغنى بأنه يتوقَّع أن «تتمشى تحسينات أخرى مع تحسن الصحة وطول العمر. لن تكون هناك حروبٌ ولا جرائم ولا إقامة عدل، كما يسمُّونها، ولا حكومة. وعلاوة على هذا، لن تكون هناك أمراضٌ ولا آلامٌ ولا أحزانٌ ولا غيظ. سيسعى كل إنسانٍ بحماسٍ شديدٍ إلى خير الجميع.»

كتب جودوين لإزالة الخوف من مواجهة عددٍ كبير جدًّا من السكان مع وجود كمياتٍ قليلةٍ جدًّا من الطعام، كتب يقول: «قد تمرُّ بلايين القرون ذوات عدد السكان المتزايد باطِّراد، والأرض دائبةٌ على إعطاء الطعام الكافي لحياة سكانها.» وأخيرًا فكَّر في أن النزوة الجنسية قد تضمحل، كما اقترح كوندورسيه أنها قد تتمُّ بغير نسبةٍ عاليةٍ من التكاثر.

أغرت هذه الفقاقيع الجميلة بوخزها، فأعد الإبرة شاب إكليريكي سليط اللسان اسمه ثوماس روبرت مالثوس، يبلغ من العمر اثنتين وثلاثين سنة، كان زميل كلية يسوع بكامبريدج. كان رده على أنصار الكمال الاجتماعي أن أصدر «مقالًا عن مبدأ السكان» في سنة ١٧٩٨م، صار أحد الكتب الكلاسيكية العظمى في الاقتصاد السياسي.

عاصر مالثوس آدم سميث وثوماس بين ولو أنه يصغرهما كثيرًا. وهو ثاني أبناء دانيل مالثوس، الرجل الريفي الميسور الحال وصديق روسو Rousseau ومدير مزرعته، وكان من أشد المعجبين بجودوين. وكان الأب والابن مولعين بالجدال. فكان ثوماس يهاجم الآراء الخيالية، بينما يدافع عنها دانيل. وأخيرًا، قرر ثوماس، تلبيةً لرغبة والده الملحة، أن يُبين آراءه كتابة، فكانت النتيجة ذلك المقال، وهو كتاب أحدث أثرًا عميقًا خلال اﻟ ١٥٦ سنة الماضية على الفكر البشري والحياة البشرية، وربما لم يكن هذا الأثر واضحًا في أي عصرٍ أكثر مما هو في العصر الحاضر. وما عمله آدم سميث قبل ذلك باثنتين وعشرين سنةً في استفساره عن طبيعة وأسباب الثروة، أكمله مالثوس بتحليلٍ فاحصٍ عن طبيعة وأسباب الفقر.

كان «مقال عن مبدأ السكان» وأثره على تحسين المجتمع في المستقبل، مع ملاحظاته عن آمال المستر جودوين والماركيز دي كوندورسيه وغيرهما من الكتَّاب الذين نشروا آراءهم دون ذكر أسمائهم، كان أكثر قليلًا من كتيب (٥٠٠٠٠ كلمة) في طبعة ١٧٩٨م، ومن الجلي أنه طبع منه عددًا قليلًا من النسخ؛ لأن النسخ الموجودة الآن من تلك الطبعة نادرةٌ جدًّا. وقال المؤلِّف بعد ذلك: «وضعت هذا الكتيب بناءً على حافز ذلك الوقت، وبالمواد القليلة التي كانت في متناول يدي في مركزٍ ريفي.» لم تكن فكرة ذلك المقال جديدة؛ لأن كثيرين من كتاب القرن الثامن عشر، ومنهم بنيامين فرانكلين، قد ناقشوا مسألة زيادة السكان، ولكن ما من أحدٍ منهم قدَّمها بمثل تلك القوة ولا بمثل هذا الحماس ولا بمثل هذه البصيرة الواضحة، كما فعل مالثوس.

ذكر مالثوس فرضَيْن أساسيَّيْن في بداية ذلك المقال:

أولًا: الطعام ضروري لحياة الإنسان، وثانيًا: الغريزة الجنسية ضرورية بين الجنسين، وستظل في حالتها الراهنة تقريبًا.

لم يفكر الخياليون أنفسهم في أن الإنسان قد يستطيع، في النهاية، أن يعيش بغير طعام.

ولكن المستر جودوين أعلن تخمينه بأن الرغبة الجنسية بين الذكر والأنثى ستخمد في الوقت المناسب … وتكونت خير المجادلات عن كمال الإنسان، من التأمُّل في التقدم الذي أحرزه حتى الآن منذ حالته الوحشية … ولم يحدث أي تقدمٍ نحو خمود الغريزة الجنسية بين الذكر والأنثى، ويبدو أنها لا تزال الآن بنفس القوة التي كانت عليها منذ ألفي سنة أو أربعة آلاف سنة خلَت.

وإذ افترض مالثوس أن «رسالاته» لم تكن قابلة للنقض، أخذ يضع مبدأه الشهير:

«… إن قوة الإنسان أعظم كيدًا من القوة التي في الأرض لإنتاج المادة للإنسان. وإذا لم يوقف نمو عدد السكان، فإنهم سيزيدون بمتوالية هندسية، بينما تزيد خيرات الأرض بمتوالية حسابية ليس غير. وإن الإلمام البسيط بالأرقام ليُبين ضخامة القوة الأولى بالنسبة إلى الثانية.»

نمَّق مالثوس اقتراحه أفضل من ذلك، فأبرز قضيته بهذه الطريقة:

«بين المملكتين الحيوانية والنباتية، نثرت الطبيعة بذور الحياة إلى الخارج بيدٍ سخيَّة جدًّا، وفي حرية. كانت تقتصد في المكان والغذاء اللازم لتغذيتهما. فينكمش جنس النبات وجنس الحيوان تبعًا لهذا القانون المقيد العظيم، ولا يستطيع جنس الإنسان، مهما كانت قوة الأسباب، أن يفلت منه. كانت آثاره بين النباتات والحيوانات ضياع البذور والمرض والموت قبل الأوان. أما بين الجنس البشري فالبؤس والرذيلة.»

وفي تقدير مالثوس، وضعت هذه الحقائق الصعبة والواقعية، عقبات لا يمكن تخطِّيها في طريق كمال المجتمع … وما من إصلاحٍ ممكنٍ استطاع إزالة ضغط القوانين الطبيعية، تلك العقبات التي تمنع «وجود مجتمع، يعيش كل أعضائه في رخاءٍ وسعادة وراحة نسبية، ولا يشعرون بأي اهتمامٍ نحو تزويد أنفسهم وعائلاتهم بوسائل الحياة.»

اختار مالثوس لتوضيح عمل متواليته الهندسية زيادة عدد السكان في الولايات المتحدة «حيث وسائل الحياة أكثر ملاءمة، فإن أخلاق الناس أكثر نقاء.» وبالتالي، يقلُّ تقييد الزواج المبكر … وجد مالثوس أن عدد السكان، باستثناء الهجرة، قد تضاعَف في مدة ٢٥ سنة، فاستنتج من هذا البرهان أنه حيث لا توضع قيود على الطبيعة، وحيث لا يوجد تحديد للنسل ولا توازن، يتضاعف عدد سكان الدولة في كل جيل. غير أن النقاد لفتوا النظر إلى وجود عيوبٍ في قاعدة مالثوس لأن الظروف التي كانت سائدة في الولايات المتحدة إبَّان الحقبة التي ذكرها مالثوس، لم تكن نموذجيةً لأية حقبةٍ أخرى في التاريخ الأمريكي، ولا في تاريخ أية أمةٍ أخرى.

استخدم مالثوس مقياسه عن زيادة عدد السكان في إنجلترا، أي إن عددهم يتضاعَف كل ٢٥ سنة، ثم عرج على مسألة الغذاء، فاستنتج أنه «باستخدام أحسن سياسية محكمة، أي بزيادة رقعة الأرض وبتشجيع الزراعة، يمكن مضاعفة إنتاج تلك الأرض في الخمس والعشرين سنة الأولى.»

بعد ذلك تبدأ المتاعب تتراكم في الجيل الثاني بينما يتضاعف عدد السكان مرةً أخرى، أي يصير أربعة أضعاف ما كان عليه أولًا بعد مضي خمسين سنة، «ومن المستحيل افتراض أن الإنتاج يمكن أن يصل إلى أربعة أضعاف ما كان عليه أولًا.» فخير ما يمكن أن نأمل فيه هو زيادة موارد الغذاء إلى ثلاثة أضعاف ما كان عليه من قبل. وبالتعبير بالأعداد، يكون قانون مالثوس لعدد السكان هو: ١، ٢، ٤، ٨، ١٦، ٣٢، … وللغذاء: ١، ٢، ٣، ٤، ٥، ٦، ٧، … إلخ.

والنتيجة المنطقية لبحث مالثوس هو وجوب إيجاد وسيلةٍ مستمرة لإيقاف ازدياد عدد السكان وأخطر الوسائل جميعًا هو قلة الغذاء. ومجموعة «الوسائل المباشرة» تقع في مجموعة «إيجابية»، وتشمل المساكن غير الصحيحة، والعمل الشاق، والفقر الشديد، والأمراض، وسوء تربية الأطفال، والمدن العظمى، والأوبئة والقحط. ومجموعة «مانعة» وهي: الكبت الأخلاقي والرذيلة.

تبعت ذلك بنتائج عمليةٍ حتمية معينة، في نظر مالثوس. فإذا كان للمخلوقات البشرية أن يتمتعوا بأعظم سعادة ممكنة، وجب عليهم عدم القيام بالالتزامات العائلية إلا إذا كان بوسعهم أن يعولوا عائلاتهم. أما من ليس لديهم موارد كافية ليعولوا أسرة، فيجب عليهم عدم الزواج إطلاقًا والتزام العزوبة. وعلاوة على هذه السياسة الشعبية كقوانين الفقراء التي يجب أن تمنع تشجيع طبقة العمال ومن إليهم على إنجاب أطفال لا يمكنهم أن يكفلوهم.

«فالرجل الذي جاء إلى العالم ولا يستطيع الحصول على القوت من والدَيْه، اللذَيْن له عليهما حق عادل، إذا لم يرغب المجتمع في عمله، فليس له حقٌّ في أقل جزءٍ من الطعام، وليس له، في الحقيقة، عملٌ حيث يكون.»

كتب هذا ردًّا على مقال بين بعنوان «حقوق الإنسان».

ليست الصدقة، سواء أكانت خاصة أم حكومية، مطلوبة؛ لأنها تعطي نقودًا للفقراء دون زيادة كمية الطعام الموجودة، وبذا ترفع الأسعار وتخلق النقص في المواد. كذلك خطة الإسكان الشعبي ممنوعة لأنها تحث على الزواج المبكر؛ وبالتالي زيادة عدد السكان. ولارتفاع الأجور نفس الأثر الضار. وعلى هذا تكون الوسيلة الوحيدة للفرار من هذه المعضلة المعقدة، هي الزواج المتأخر مع «الكبت الأخلاقي»، أي ضبط النفس عن الشهوات.

الواقع، في نظر مالثوس، أن أي مشروع لتحسين المجتمع وتخفيف انتشار الفقر؛ عرضة لأن ينتهي بزيادة المساوئ التي سعى إلى علاجها. وهذا المسلك المتعنت المعادي للمجتمع من جانب ذلك الشاب الإكليريكي، قد غيَّر وجهات نظر علماء الاجتماع في جيله والأجيال التالية. ومع ذلك، تقبل الأغنياء، في عصر مالثوس، والطبقات القابضة على زمام السلطة، مذاهبه في حماس. إذن يقع اللوم، فيما يختص بالفقر الواسع النطاق والمساوئ الاجتماعية الأخرى، على الزواج المبكر وكثرة النسل بدلًا من وقوعه على سوء توزيع الثروة.

يمكن توضيح مسلك مالثوس نحو برامج المعونة الحكومية، في هذه الفقرة المأخوذة عنه:

«تميل القوانين الإنجليزية الخاصة بالفقراء إلى زيادة سوء الحالة العامة للفقراء، بهاتين الطريقتين؛ الأولى تميل إلى زيادة عدد السكان دون زيادة كميات الطعام اللازم لهم. قد يتزوج الرجل الفقير دون أن يدرك أنه غير قادر على أن يعول أسرته معتمدًا على نفسه فحسب. وعندئذٍ يمكن القول بطريقةٍ ما أن الحكومة تخلق الفقراء الذين تعولهم. ولما كان يجب، في حالة زيادة عدد السكان، أن توزع موارد الدولة على كل فردٍ بنسب صغيرة، فمن الجلي أن عمل أولئك الذين لا تعولهم معونات الأبروشية، يشتري كميةً من الأغذية أقل مما سبق. وهذا يسوق الكثيرين منهم إلى طلب المعونة. والثانية، تنص على أن كمية الأغذية المستهلكة في الملاجئ على فئةٍ من المجتمع لا يمكن اعتبارها عمومًا الفئة القيمة، تنقص من أنصبة الأعضاء الأكثر قيمةً. وهكذا، بنفس هذه الطريقة يجبر عدد آخر على التواكل.»

يختم مالثوس مقاله بملخصٍ لآرائه:

«ينطبق نفس الشيء على ظروفٍ أخرى. يمكن التأكيد بأن كثرة عدد السكان في أمةٍ يتناسب مع كمية غذاء الإنسان التي تنتجها أو التي يمكنها الحصول عليها، وتكون سعيدةً تبعًا للحرية التي يوزع بها هذا الطعام، أو الكمية التي يمكن أن يشتريها عمل يوم واحد. والدول المنتجة للقمح أكثر سكانًا من الدول ذوات المراعي. بيد أن سعادتها لا تتوقَّف على كثرة أو قلة عدد سكانها، ولا على فقرها أو غناها، ولا على شبابها أو شيخوختها، وإنما على النسبة بين عدد السكان وكميات الطعام.»

أثار ظهور مقال مالثوس عاصفة من النقد والاحتجاج والطعن، ولا سيما من مصدرَيْن؛ هما: المحافظون اللاهوتيون والمتطرفون الاجتماعيون. ويقول أهم كاتب لتاريخ حياته، وهو بونار Bonar: «أمطر ذلك المقال الافتراءات لمدة ثلاثين عامًا.» كان مالثوس أكثر رجلٍ مذموم في عصره، ووُصف بأنه «رجل دافع عن الجدري والرق وقتل الأطفال، وهاجم المطاعم الشعبية والزواج المبكر ومعونات الأبروشيات، ذلك الذي بلغت به الوقاحة أن يتزوج بعد أن وعظ عن مساوئ الأسرة، الذي ظن أن حكم العالم سيئ، وأن خير الوسائل يأتي بأسوأ النتائج وأكثرها ضررًا، وبالاختصار، هو الذي سلب الحياة كل مباهجها.»
نبذ عدد قليل من النقاد جميع مبادئ مالثوس باستخفافٍ فهذا هازليت Hazlitt «لم يجد ما يكتشفه بعد أن قرأ قوائم سلالة نوح Noah وبعد أن عرف أن الدنيا مستديرة.»
أما ملاحظة كوليريدج Coleridge فتقول: «أنحن الآن بحاجةٍ إلى كتابٍ ليعلمنا أن البؤس العظيم والرذيلة العظمى ينتجان عن الفقر، وأنه يجب أن يكون هناك فقرٌ في أبشع صوره حيثما يكون هناك أفواه أكثر من الأرغفة، ورءوس أكثر من الأمخاخ؟»
أما المعلِّقون الآخرون فكانوا أكثر إقذاعًا فقد كتب وليم ثومبسون William Thompson رائد الاشتراكية الإنجليزية في أول عهدها، يقول:

«لا توجه إهانة إلى الفقراء أولئك الغالبية العظمى من البشر، بالافتراءات البراقة، إنه بواسطة عدد السكان المحدد، أو بعدم تناول البطاطس تكون سعادتهم في أيديهم، بينما الأسباب باقية، تلك التي تجعل من المستحيل عليهم، أخلاقيًّا وبدنيًّا، أن يعيشوا بغير البطاطس والنسل الذي لا طعام له.»

وجاء تعبيرٌ عنيف آخر من وليم كوبيت William Cobbett «كيف يستطيع مالثوس وأتباعه المعفنون الأغبياء، كيف يستطيع أولئك الذين يريدون نبذ الطبقات الفقيرة، ومنع الفقراء الزواج، كيف تستطيع تلك الفئة الغبية المغرورة أن تنظر في وجه الرجل الكادح وهم، في الوقت نفسه، يطلبون منه أن يحمل السلاح ويخاطر بحياته للدفاع عن الوطن؟»

تصادف أن كان كوبيت هو الذي ما بز مالثوس بلقب «قسيس». وقد تحدث كوبيت إلى أحد المزارعين، فقال:

«كم طفلًا تريد أن تُنجب؟»

أجاب المزارع: «لا يهمني العدد؛ فالله لا يُرسل أفواهًا دون أن يُرسل لحمًا.»

قال كوبيت: «ألم تسمع قط عن قسيسٍ اسمه مالثوس؟»

«لم أسمع عنه، يا سيدي.»

«لو سمع قولك هذا لثارَت ثائرته؛ لأنه يريد من البرلمان أن يُصدر قانونًا يحرِّم على الفقراء أن يتزوجوا في سنٍّ مبكرة، كما يحرم عليهم إنجاب عددٍ كبيرٍ من الأطفال.»

دهشت الزوجة قائلة: «يا له من وحش!» بينما ضحك زوجها وظنني أمزح.

عندما ظهر المذهب المالثوسي لأول مرة، قام ضده اعتراضٌ يقول إنه لا ينطبق وكون الخالق خيرًا. واتهم مالثوس بإصدار كتابٍ يتنافى مع تعاليم الدين. وهذا اتهام محطمٌ ضد كاهن كنيسة مُعترف بها. وبسبب هذا النقد أكد مالثوس في الطبعة الثانية لمقاله، على «الكبت الأخلاقي» بصفته وسيلة تحتفظ بعدد السكان داخل النطاق المحدد، بينما حذف البؤس والرذيلة، وبذا أزال «كل سوء ظن عن مراحم الرب.»

وفي برنامج تخليد الذكرى المئوية لموت مالثوس أي في سنة ١٩٣٥م، قام بونار يُدافع عنه ضد أولئك الذين اعتقد بونار أنهم أساءوا تمثيلَ مالثوس، كما أساءوا قراءته وأساءوا ذكر مقتطفات من أقواله وأساءوا فهمه. كان مالثوس، في نظره، إيجابيًّا وليس سلبيًّا في تقديم مذهبه. وقرَّر بونار أن «رغبة قلب مالثوس للجنس البشري» تتضمن:
  • (١)

    نسبة وفيات منخفضة للجميع.

  • (٢)

    مستوى معيشة مرتفعًا للفقراء.

  • (٣)

    نهاية هلاك الأرواح البشرية صغيرة السن.

رأى مالثوس بوضوح أن الأمم تمنع سرعة ارتفاع نسبة المواليد كلما صارت هذه الأمم متحضرةً وأكثر تعلمًا، واكتسبت مستوى معيشة أعلى. ونتيجة لذلك صارت آراؤه عن مستقبل المجتمع الإنساني متفائلةً تدريجيًّا. لاحظ مالثوس أنه في إنجلترا نفسها «يجب أن يقنعنا أسرع نظرة سطحية عن المجتمع بأن وسائل تحديد النسل بين جميع الطبقات، تسير بدرجة كبيرة.» والواقع أنه تناول مختلف الطبقات الاجتماعية — السادة (الجنتلمان) والحرفيين والمزارعين والعمال وخدم المنازل — كل طبقةٍ على انفرادٍ بسبب اختلاف ظروفهم الاقتصادية فاعتقد أن اللهفة على الاحتفاظ بمركزٍ اجتماعيٍّ معين، تمنع الزواج السريع. فمثلًا:

على الرجل ذي التعليم الحر والدخل الذي لا يكاد يكفي لتمكينه من مصاحبة طبقة السادة (الجنتلمان)؛ أن يتأكد تمامًا أنه إذا تزوج وأنجب أسرة، اضطر، عند اختلاطه بالمجتمع، إلى أن يخالط طبقة المزارعين المعتدلة وطبقة الحرفيين الأقل. أي يهبط درجتَيْن أو ثلاثَ درجاتٍ في سلم المجتمع، وخصوصًا عند هذا المستوى من السلم الذي ينتهي عنده التعليم ويبدأ الجهل، لن يعتبره عامة الشعب عالمًا وخياليًّا وحشيًّا، بل شرًّا حقيقيًّا وأساسيًّا.

وكما يمكن أن نستنتج من أقوال المعاصرين، لم يهمل مالثوس أثناء حياته. فالأثر الذي أحدثته الطبعة الأولى من «المقال»، جعل الحكومة الإنجليزية تجري تعدادًا للسكان في سنة ١٨٠١م، وهو أول تعداد حقَّق نتائج منذ مجيء الأرمادا Armada هذا، وقد عورضت مقترحات التعداد السابقة على أنها منافية لتعاليم الكتب المقدسة ومنافية للتقاليد الإنجليزية وهناك نتيجة ثانية للمقال، هي تعديل قانون الفقراء الحكومي اجتنابًا لبعض أخطاء حددها مالثوس.
كانت وطأة الأفكار المالثوسية على العلوم الطبيعية بالغة الشدة كما كانت على العلوم الاجتماعية. وقد أعلن كلٌّ من تشارلز داروين Charles Darwin وألفريد رسل والاس Alfred Russell Wallace في حرية، أنهما مدينان لمالثوس في تكوين نظرية النشوء بالاختيار الطبيعي. فكتب داروين يقول:

في أكتوبر سنة ١٨٣٨م، أي بعد مضي خمسة عشر شهرًا على أبحاثي المنظمة، تصادف أن قرأت لغرض التسلية مقال عدد السكان لمالثوس. وإذ كنت على أتمِّ استعداد لتقدير «تنازع البقاء» (عبارة استعملها مالثوس) الذي يحدث في كل مكان، وقد شاهدته أثناء ملاحظاتي الطويلة للحيوانات والنباتات، طرأ على بالي في الحال، أنه تحت هذه الظروف، تميل بعض الأنواع الصالحة إلى أن تبقى بينما تتلف غير الصالحة. وينتج عن هذا جنس جديد. وأخيرًا، أستوعب نظرية يمكن أن أعمل بمقتضاها.»

وفي اتجاه مشابه، كتب والاس:

كان «المقال» أول مؤلف قرأته، حتى ذلك الوقت، ويتناول أي مشكلة في علم الأحياء الفلسفي، وبقيت مبادئه الرئيسية في ذهني كمعلوماتٍ مستديمة وبعد ذلك بعشرين سنة، أمدَّتني بالحل الذي طال بحثي عنه فيما يختص بعامل فعال في نشوء الأجناس العضوية.

عندما خرجت طبعة سنة ١٧٩٨م لذلك «المقال»، قوبلت بالاحتجاجات الغاضبة من رجال الدين والمتمردين الاجتماعيين، ولكن مالثوس لم يهتم بكل ذلك، بل أعجب بموضوعه وعقد العزم على أن يستمر فيه إلى أبعد من ذلك. ولتقوية أدلَّته طاف بأوروبا في سنة ١٧٩٩م بحثًا عن مادة لمؤلفه. «طاف خلال السويد والنرويج وفنلندة وجزء من روسيا، وكانت هذه هي كل الدول المفتوحة أمام السياح الإنجليز في ذلك الوقت.» ثم قام بجولة أخرى في فرنسا وسويسرا إبَّان فترة السلم القصيرة لسنة ١٨٠٢م. ونشر في خلال هذه المدة كتيبًا عنوانه «بحث أسباب ارتفاع أسعار المواد الغذائية في الوقت الحاضر»، متخذًا وجهة نظره أن الأسعار والأرباح تقدر مبدئيًّا تبعًا لما أسماه «الطلب الفعال».

بعد مضي خمس سنوات من ظهور الطبعة الأولى ﻟ «المقال»، خرجت من المطبعة طبعة ثانية كبيرة جدًّا عبارة عن مجلد بحجم الكوارتو (ربع فرخ) يتكون من ٦١٠ صفحات. وكان ينقصها حماس الطبعة الأولى وأسلوبها الطلي وتأكيدها الفتي، وصارت على هيئة رسالة اقتصادية دراسية مثقلة بالمستندات والحواشي، ولو أنها باستثناء تطور فكرة «الكبت الأخلاقي» فإن المبادئ الأساسية لم تتغير. ظهرت أربع طبعات أخرى أثناء حياة ذلك المؤلف. وفي الطبعة الخامسة كان «المقال» عبارة عن خمسة أجزاء تبلغ في مجموعها ١٠٠ صفحة. والمؤلف الكبير الوحيد الذي وضعه مالثوس بالإضافة إلى «المقال»، لانشغاله بتنقيح هذا الأخير، كان عنوانه هو:

«مبادئ الاقتصاد السياسي من وجهة نظر تطبيقها»، الذي نُشر في سنة ١٨٢٠م.

كانت حياة مالثوس الشخصية هادئة وآمنة نسبيًّا، كان حرًّا في مزاولة دراساته الاقتصادية وكتاباته، مع قليلٍ من المسئوليات الأخرى حتى سنه عندما تزوج وهو في الثامنة والثلاثين من عمره. وفي السنة التالية عُيِّن أستاذًا للتاريخ الحديث والاقتصاد السياسي في الكلية الجديدة لشركة الهند الشرقية بمدينة هيليبوري Hailybury ليقوم بتعليم موظفي تلك الشركة المدنيين، المعلومات العامة. كان هذا أقدم كرسي للاقتصاد السياسي أسس في كلية أو جامعة إنجليزية. فبقي مالثوس في هيليبوري لمدة ثلاثين عامًا حتى مات في سنة ١٨٣٤م وقد أنجب ثلاثة أولاد، بلغ اثنان منهم، ولد وفتاة، سن الرشد.

لم تخمد جذوة النار التي أشعلها مالثوس؛ إذ ظلت المجادلات المناصرة والمعارضة على أشدها. فبرزت عناوين حديثة تؤيد نظرية مالثوس، منها: «النضال عن مستقبل الإنسان» و«الطريق إلى البقاء» و«حدود الأرض» و«كوكبنا المغتصب» ضمن مقالات عناوينها: «خيال المقات المالثوسي» و«كل بشهية» و«الشر المالثوسي» و«لن تجوع البشرية». وما هي وجهة النظر الحديثة المبنية على نظريات مالثوس اليوم؟

ظهر عامل في مشكلة الانفجار السكاني، منذ منتصف القرن التاسع عشر، وهو الإقبال المتزايد على طرق منع الحمل، التي نشأ عنها تحديد منظم لعدد أعضاء الأسرات، باستثناء الذين ينقصهم الوعي ومن تمنعهم الوساوس الدينية. وظهرت حركة عرفت بأسماء مختلفة، منها: «المالثوسية الجديدة» و«تحديد النسل» و«الأمومة المخططة» فأطلق عليها عمومًا اسم «أعظم حركة لإحصاء الشعوب في العالم الحديث». غير أن مالثوس نفسه اشمأز من فكرة منع الحمل، نوعيًّا، واستقبحها، واعتبرت في عصره شيئًا «سيئًا وغريبًا وغير طبيعي.» ومع ذلك، فقد صارت إحدى الطرق الرئيسية لوقف التضخم السكاني في المجتمع الحديث، وبذا أضاف مالثوس عاملًا رابعًا إلى الثلاثي الخاص به: «الرذيلة والبؤس والكبت الأخلاقي.»

وفي سنة ١٨٠٠م عندما كان مالثوس يكتب مؤلفه، قدَّر تعداد العالم ببليون نسمة. وفي المائة والخمسين عامًا الماضية وصل تعداده إلى بليونين ونصف البليون. وهذه نسبة عالية في النمو السكاني نتجت عن زيادة طول العمر أكثر منها عن أية ظاهرة في ارتفاع نسبة المواليد، ففي الأمم المتقدمة من العالم، أنقذت حياة الكثيرين بسبب التغيرات الطبية والصحية والاجتماعية وجاء الانقلاب الصناعي في إنجلترا بزيادة كبيرة في إنتاج السلع المصنوعة، فبودل على هذه بالأطعمة والمواد الخام من الدول غير الصناعية، وتحسنت جميع وسائل النقل لتزيد في سرعة التحرك. فانتقل فائض السكان بالهجرة إلى القارات الناشئة حديثًا. وتأخر، على الأقل، تكهنات مالثوس البغيضة، وربما أُجِّلت إلى ما لا نهاية، فيما يختص بالعالم الغربي.

ومع ذلك فهناك مساحات شاسعة من الكرة الأرضية تمثل تمامًا نظريات مالثوس … يتميز الشرق الأدنى ومعظم قارة آسيا وغالبية دول أمريكا الوسطى وأمريكا الجنوبية بدرجةٍ عاليةٍ من الخصب الجنسي تناظرها نسبة وفيات عالية. فالأرواح التي ينقذها الطب والوسائل الصحية في تلك المساحات، عرضة لأن يهلكها الفقر والمجاعات.

وعلى عكس نظرية هذا الموقف، دخلت بعض أمم الأرض البالغة التحضر والثقافة، عصرًا من الاستقرار أو تناقص عدد السكان، وأهمها فرنسا والسويد وأيسلندة وأستراليا وإنجلترا وويلز وأيرلندة. جاء هذا الاستقرار نتيجة انخفاض درجة الخصب الجنسي ونقص عدد الشباب وزيادة طول العمر.

زاد إنتاج الأطعمة زيادة كبيرة منذ عصر مالثوس، وتتفق الدول على أنه سيصير بالإمكان زيادتها أكثر من ذلك بطرق إنتاج أكثر فاعلية، كالري وإصلاح الأراضي البور والاستعاضة بالأطعمة النباتية بدل الأطعمة الحيوانية، وبمقاومةٍ أفضل للآفات الزراعية الحشرية. ويمكن أن يكون فائض المحاصيل في الولايات المتحدة وكندا دليلًا على خطأ في المبدأ المالثوسي، ولكن على الرغم من إنتاجنا الضخم من الغذاء، هناك مئات الملايين من البشر، في الشرق وفي أماكن أخرى، تقف على حافة الموت جوعًا، أو في مستوى القوت الضروري، ولكن كون ثلثي سكان العالم يُقاسون سوء التغذية والقحط واعتلال الصحة والمرض، يجعل النظرية التي أثارها مالثوس منذ قرنٍ ونصف قرن حقيقيةً وحيويةً اليوم، كما كانت وقتذاك.

وحتى أولئك النقَّاد، الذين يقولون إن نظرية مالثوس أضعفَت في نواحٍ معينة بالتطوُّرات التي لم تحدث في عصر مالثوس، والتي لم يستطع مالثوس أن يتكهَّن بها، حتى هؤلاء النقاد يوافقون على أن نتائج عظمى نشأَت عن أفكاره. وكما لاحظ هوبهاوس Hobhouse بشدةٍ: «كانت نظرية مالثوس أحدَ الأسباب في هزيمة ما تنبَّأت به هي نفسها. كان الاعتقاد بأن عدد السكان يزداد بسرعةٍ كبيرة هو الذي عمل بطريقةٍ غير مباشرة لإيقاف ذلك.»
لم يعط أحدٌ من المعلقين الكثيرين عن مقال مالثوس (مقال عن مبدأ السكان) ثناءً أكثر عدلًا ولا أقوى بصيرة، من جون ماينارد كينيس John Maynard Keynes، الذي اعتقد أنه:
«يحقُّ لهذا الكتاب أن يتبوأ مكانًا بين تلك الكتب التي كان لها تأثير عظيم على تقدم الفكر. لقد تغلغل عميقًا في التقاليد الإنجليزية للعلوم البشرية — في تقاليد الفكر الاسكتلندي والإنجليزي الذي كان فيه على ما أظن استمرارٌ خارق للشعور إذا صحَّ لي أن أعبِّر عنه هكذا، منذ القرن الثامن عشر إلى الوقت الحاضر — تلك التقاليد التي اقترحتها الأسماء: لوك Locke وهيوم Hume وآدم سميث وبالي Paley وبنثام Bentham وداروين وميل Mill، تقاليد تتميز بحب الحقيقة والوضوح الأعظم نبلًا، وبسلامةٍ عادية خالية من كل عاطفةٍ أو ميتافيزيقيا، وبعدم المتعة العظيمة والروح الشعبية. هناك استمرار في تلك العبارات، ليس عن الشعور فحسب، بل وعن المادة الواقعية. إلى هذه الصحبة ينتمي مالثوس.»
١  Thomas Malthus.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤