مقدمة

أنا الآن رجلٌ عجوز. وُلدتُ عام ١٩٣٥ في قريةٍ صغيرة شمال شرق التبت. ولأسبابٍ خارجة عن سيطرتي، عشتُ معظم حياتي في سن البلوغ لاجئًا عديمَ الجنسية في الهند، التي ظلَّت موطني الثاني لأكثر من خمسين عامًا. كثيرًا ما أقول مازحًا إنني أَطوَل ضيف مكثَ في الهند. ومثل الكثيرين ممَّن هم في مثل عمري، شهدتُ العديد من الأحداث المؤثِّرة التي شكَّلت العالم الذي نعيش فيه. ومنذ أواخر ستينيات القرن العشرين، سافرتُ كثيرًا أيضًا، وشرفتُ بلقاء أناسٍ ينتمون إلى العديد من الخلفيات المختلفة؛ فلم يقتصر مَن التقيتُ بهم على رؤساء الدول ورؤساء الوزراء، والملوك والملِكات، والقادة من جميع الأديان الكبرى في العالم، بل التقيتُ أيضًا عددًا كبيرًا من الأشخاص العاديين من جميع مناحي الحياة.

حين أتأمَّل العقود الماضية، أجد العديد من الأسباب التي تبعث على السرور. فقد أدَّى تقدُّم العلوم الطبية إلى القضاء على أمراضٍ فتَّاكة. وانتُشِل ملايين الأشخاص من الفقر، وتمكَّنوا من تلقي أنظمةٍ حديثة في التعليم والرعاية الصحية. لدينا أيضًا إعلانٌ عالمي لحقوق الإنسان، وقد نما الوعي بأهمية هذه الحقوق نموًّا هائلًا. ونتيجةً لذلك، انتشرت مبادئ الحرية والديمقراطية في جميع أنحاء العالم، مع زيادة الاعتراف بوحدة الإنسانية. ثمَّة وعيٌ متزايد أيضًا بأهمية البيئة الصحية. فمن نواحٍ كثيرة، كانت فترة نصف القرن الماضي تقريبًا، فترةً من التقدُّم والتغيُّر الإيجابي.

في الوقت نفسه، وعلى الرغم من التقدُّم الهائل في الكثير في المجالات، لا يزال مقدار المعاناة كبيرًا، ولا تزال الإنسانية تواجه صعوباتٍ ومشكلاتَ هائلة. فبينما يتمتع الناس في الأجزاء الأكثر ثراءً من العالم بأنماطِ حياة تتسم بارتفاع الاستهلاك، لا يزال هناك ملايين لا حصر لها لا تُلبَّى احتياجاتهم الأساسية. وبالرغم من انحسار خطر الدمار النووي العالمي مع نهاية الحرب الباردة، فإنَّ الكثيرين لم يزالوا يتكبَّدون معاناة الصراع المسلَّح ومآسيه. وفي العديد من المناطق أيضًا، يتعيَّن على الناس التعامل مع المشكلات البيئية، وتصحبها التهديدات التي تواجه معيشتهم وما هو أسوأ من ذلك. في الوقت نفسه، يكافح كثيرون آخرون من أجل البقاء في مواجهة انعدام المساواة، وتفشي الفساد والظلم.

لا تقتصر هذه المشكلات على بلاد العالم النامي. ففي البلدان الغنية أيضًا، يوجد العديد من الصعوبات، بما في ذلك انتشار المشكلات الاجتماعية من إدمان الكحول، وتعاطي المخدرات، والعنف المنزلي، والتفكك الأسري. الناس قلقون على أطفالهم، وقلقون بشأن تعليمهم وما يخبِّئه العالم لهم. الآن، علينا أيضًا أن نعترف باحتمالية أن يكون النشاط البشري مضرًّا بكوكبنا إلى حدٍّ لا يمكن التراجع بعده، وهو تهديد يخلق المزيد من الخوف. كما أن جميع ضغوط الحياة الحديثة تجلب معها أيضًا مشاعرَ التوتر والقلق والاكتئاب والشعور المتزايد بالوحدة. ونتيجة لهذا، ففي كل مكان أذهبُ إليه، أجد الناس يشكُون. أنا نفسي أشتكي من وقت لآخر!

من الواضح أن شيئًا ما ينقصنا بشدة في طريقة تعاملنا — نحن البشر — مع الأمور. لكن ما هذا الذي ينقصنا؟ أعتقد أن المشكلة الأساسية هي أننا نولي الكثيرَ من الاهتمام للجوانب الخارجية والمادية في الحياة، بينما نُهمل الأخلاق والقيم الداخلية، ونحن نفعل ذلك على جميع المستويات.

ما أعنيه بالقيم الداخلية هي تلك الصفات التي يُقدِّرها جميعنا في الآخرين، وتحدونا نحوها غريزةٌ فطرية توارثناها من طبيعتنا البيولوجية بصفتنا كائناتٍ لا تعيش ولا تنمو إلا في بيئة من الاهتمام والمودة والحنوِّ؛ وهو ما يمكِننا التعبير عنه بكلمةٍ واحدة هي التعاطف. إن جوهر التعاطف هو الرغبة في تخفيف معاناة الآخرين وتعزيز سعادتهم. هذا هو المبدأ الروحاني الذي تنبثق منه جميع القيم الداخلية الإيجابية الأخرى. جميعنا يقدِّر ما يتسم به الآخرون من صفاتٍ داخلية تتمثل في الطيبة والصبر والتسامح والصفح والكرَم، ومن المنطلق نفسه نبغض جميعًا مظاهر الجشع والحقد والكراهية والتعصب الأعمى. ومن ثمَّ؛ فإن التشجيع الفعَّال على الصفات الداخلية الإيجابية لقلب الإنسان، التي تنشأ من نزعتنا الجوهرية للتعاطف، مع تعلُّم محاربة نزعاتنا الأكثر تدميرًا سيحظى بتقدير الجميع. وسنكون نحن أنفسنا أوَّل المستفيدين من هذا التعزيز لقيمنا الداخلية دون شك. إننا نتجاهل حياتنا الداخلية على نحوٍ يعرضنا للخطر، وكثير من المشكلات الكبرى التي نواجهها في عالمنا اليوم قد نتجت عن هذا التجاهل.

منذ وقتٍ ليس ببعيد زرتُ أوريسا، وهي منطقة في شرق الهند. ومؤخرًا أدَّى الفقر في هذا الجزء من البلاد، وخاصة بين مجموعات القبائل، إلى تصاعُد الصراع والتمرد. فالتقيتُ بعضوٍ برلماني من المنطقة وناقشنا هذه القضايا. فهمتُ منه أنه يوجد عددٌ من الآليات القانونية والمشروعات الحكومية الجيدة التمويل القائمة بالفعل، التي تهدف إلى حماية حقوق مجموعات القبائل وكذلك إلى منحهم المساعدةَ المادية. قال إنَّ سبب المشكلة هو الفساد الذي أدَّى إلى أنَّ هذه البرامج لم تَعُد بالنفع على الفئات المستهدفة بالمساعدة. عندما تُخرَّب مثل هذه المشروعات بسبب عدم الأمانة وعدم الكفاءة وانعدام المسئولية على يد أولئك المكلَّفين بتنفيذها، فإنها تصبح بلا قيمة.

يُظهِر هذا المثال بوضوحٍ شديد أنه حتى عندما يكون النظام سليمًا، فإن فعاليته تعتمد على طريقة استخدامه. وفي النهاية، لا يمكن لأي نظام، أو أي مجموعة من القوانين أو الإجراءات، أن يكون فعَّالًا إلا بقدرِ فاعلية الأفراد المسئولين عن تنفيذه. ذلك أنه إذا أُسيء استخدام أحد الأنظمة الجيدة بسبب انعدام النزاهة لدى بعض الأشخاص، فمن السهل أن يصبح هذا النظام مصدرًا للضرر لا مصدرًا للمنفعة. هذه حقيقةٌ عامة تنطبق على جميع مجالات النشاط البشري، وحتى على الدِّين. لا شك بأنَّ الدِّين لديه القدرة على مساعدة الأشخاص على الشعور بالسعادة في حياتهم وتحقيق المعنى منها، لكن حين يُساء استخدامه، فإنه يمكن أن يصبح هو أيضًا مصدرًا للنزاع والانقسام. ينطبق الأمر نفسه في المجالات التجارية والمالية؛ إذ ربما تكون الأنظمة في حد ذاتها سليمة، لكن إذا كان مَن يستخدمونها عديمي الضمير ويُغلِّبون خدمة مصالحهم الشخصية، فستتضاءل منافع تلك الأنظمة. ومن المؤسف أننا نشهد حدوث هذا في أنواعٍ كثيرة من الأنشطة البشرية؛ حتى في الرياضات الدولية؛ إذ يهدِّد الفساد مفهوم اللَّعب النزيه نفسه.

مما لا شك فيه أنَّ الكثيرين من الأشخاص الذين يتَّسمون بالحكمة يدركون تلك المشكلات ويعملون بإخلاصٍ على إصلاحها من داخل مجالات خبراتهم. ثمَّة أشخاص يشاركون بالفعل في هذا الجهد من جميع الفئات؛ فمنهم السياسيون، وموظفو الخدمة المدنية، والمحامون، والمعلمون، ودعاة حماية البيئة، والنشطاء، وغيرهم. هذا جيد جدًّا إلى حدٍّ ما، لكنَّ الحقيقة أننا لن نحلَّ مشكلاتنا أبدًا إذا اكتفينا بوضع قوانين ولوائحَ جديدةٍ. ففي النهاية، يكمن مصدر مشكلاتنا في مستوى الفرد. إذا كان الأفراد يفتقرون إلى القيم الأخلاقية والنزاهة، فلن يكون أي نظام من القوانين واللوائح كافيًا. وما دام الناس يعطون الأولوية للقيم المادية، فسيستمر الظلم، والفساد، والإجحاف، والتعصب، والجشع؛ وجميع ذلك من مظاهر تجاهل القيم الداخلية.

فما الذي ينبغي لنا أن نفعله إذن؟ إلى أين نلجأ لطلب المساعدة؟ إنَّ العلم، بجميع الفوائد التي جلبها لعالمنا الخارجي، لم يقدِّم بعدُ الأساسَ العلمي لتنمية أسس النزاهة الفردية؛ أي القيم الإنسانية الداخلية الأساسية التي نُقدِّرها في الآخرين والتي ستنفعنا إذا نمَّيناها في أنفسنا. ربما ينبغي لنا إذن أن ننشد القيم الداخلية في الدِّين مثلما فعل الناس لآلاف السنين؟ فلا شك بأنَّ الدين قد ساعد ملايين الأشخاص في الماضي، ويساعد الملايين اليوم، وسيستمر في مساعدة الملايين في المستقبل. لكن بالرغم من جميع فوائده في تقديم الإرشاد الأخلاقي وإسباغ معنًى على الحياة؛ ففي العالم العلماني الذي نحيا فيه اليوم، لم يَعُد الدين وحده كافيًا لأن يكون أساسًا أخلاقيًّا. ومن أسباب ذلك أنَّ العديد من الأشخاص حول العالم لم يعودوا يتبعون دينًا بعينه. ومن الأسباب الأخرى أيضًا أنه في ظل تلك الدرجة الكبيرة من الترابط والتواصل بين شعوب العالم في عصر العولمة والمجتمعات المتعددة الثقافات، سنجد أنَّ الأخلاق القائمة على دينٍ واحد أيًّا كان، لن تروق إلا لبعضنا، ولن يدرك الجميع المعنى الذي تمثِّله. في الماضي، عندما كانت الشعوب تعيش كلٌّ منها في عزلةٍ نسبية عن الأخرى، مثلما عشنا — نحن أهل التبت — على مدار قرون في سعادةٍ خلفَ الجبال التي اتخذناها جدرانًا لنا، فإن حقيقة أنَّ الجماعات كانت تمارس مناهجها الأخلاقية المبنية على أساسٍ ديني لم تكن تشكِّل أيَّ صعوبات. أما اليوم، فإن أي حَلٍّ يستند إلى الدين فيما يتعلق بمشكلة تجاهلنا للقيم الداخلية لن يكون حَلًّا عالميًّا بأي شكل من الأشكال، ومن ثَمَّ فإنه لن يكون كافيًا. ما نحتاج إليه اليوم هو نهجٌ أخلاقي لا مَرجعيةَ فيه للأديان، ومن شأنه أن يكون مقبولًا بالقدْر نفسه لدى المؤمنين بالأديان وغير المؤمنين بها؛ ما يلزمنا هو أخلاقٌ عَلمانية.

قد يبدو غريبًا أن يصدر هذا الرأي من شخصٍ عاشَ منذ سنٍّ مبكرة في زي الرهبنة. غير أنني لا أرى تناقضًا في ذلك. إنَّ إيماني يُوجِب عليَّ السعي وراء تحقيق الخير والمنفعة لجميع الكائنات الواعية، كما أنه يُلزمني أيضًا بتجاوز تعاليمي الخاصة كي أصل إلى أولئك الذين ينتمون لدياناتٍ أخرى وأولئك الذين لا ينتمون لأي دين؛ وهو ما يتماشى تمامًا مع رأيي هذا.

إنني على ثقة من أنَّ محاولة الوصول إلى نهجٍ علمانيٍّ جديد لأخلاق عالمية، أمرٌ ممكن وجديرٌ بالسعي إليه. وثقتي إنما تنبع من اقتناعي بأننا جميعًا — جميع البشر — ننزع في الأساس نحو ما نتصوَّر أنه الخير، أو ربما نحن مفطورون على هذا. وأيًّا كان ما نفعله، فإننا نفعله لأننا نعتقد أنه سيعود بمنفعةٍ ما. وجميعنا أيضًا يُقدِّر طيبة الآخرين. إننا نتَّجه جميعًا بطبيعتنا نحو القيم الإنسانية الأساسية المتمثلة في الحب والرأفة. كلنا يُفضِّل حب الآخرين على كراهيتهم. جميعنا يُفضِّل كرَم الآخرين على شُحِّهم. ومَن منا لا يفضِّل التسامح والاحترام والعفو عن عيوبنا على التعصب وعدم الاحترام والضغينة؟

في ضوء ذلك، فإنني على يقينٍ راسخ بأن لدينا في متناول أيدينا وسيلةً لترسيخ القيم الداخلية دون التعارض مع أي دين، والأهم من ذلك أننا نستطيع تحقيق ذلك دون الاستناد إلى الدين. إن تطوير هذه الرؤية الجديدة للأخلاق وممارستها هو ما أعتزم توضيحه على مدار هذا الكتاب. وآملُ أن يساعد ذلك في تعزيز الفهم بشأن حاجتنا إلى الوعي الأخلاقي والقيم الداخلية في هذا العصر المُفرِط في المادية.

في البداية، يجب أن أوضح أن نيتي ليست أن أُملي على الناس القيم الأخلاقية. فالقيام بذلك لن يجدي نفعًا. ذلك أنَّ محاولة فرض المبادئ الأخلاقية من الخارج، أو فرضها بالأوامر إن جاز التعبير، لا يمكن أن يكون فعَّالًا أبدًا. وبدلًا من ذلك، فإنني أدعو كلًّا منا إلى تكوين فهمه الخاص لأهمية القيم الداخلية. لأن هذه القيم الداخلية هي المصدر لبناء عالمٍ متناغم أخلاقيًّا، وهي أيضًا مصدر السكينة الفردية والثقة والسعادة التي نسعى جميعًا إليها. لا شك بأنَّ جميع الأديان الكبرى في العالم، بتأكيدها على الحب والرأفة والصبر والتسامح والعفو، يمكنها تعزيز القيم الداخلية، وهي تفعل ذلك حقًّا. لكن واقع العالم اليوم هو أن تأسيس الأخلاق على الدين لم يَعُد كافيًا. ولهذا السبب أعتقد أن الوقت قد حان لإيجاد طريقة تتجاوز الأديان، للتفكير في الروحانية والأخلاق.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤