مقدمة
لم يكن فردريك الأكبر يذهب في حملة عسكريَّة، إلا وهو يحمل في حقيبته نسخةً من «المختصَر».
في مدرسته الفلسفية في نيقوبوليس يقف هذا الشيخ النحيل بين تلامذته من صفوة الشبيبة الرومانية، مُكلَّلًا بتواضعه، مُدجَّجًا بصدقه، مُسيَّجًا بحيائه. وجودُهُ كله ينبضُ في كلماته، كلماته المتوهجة التي تضجُّ بالحياة وتكتنز بالمعنى وتَغْنَى بالجمال عن الزينة. فيتلقَّفها تلميذه النابِهُ فلافيوس أريانوس ويُنزِّلُها في الرَّقِّ كما هي حريصًا عليها ضنينًا بها. ثُمَّ لا يجد بُدًّا من الإشراف على نشرها بنفسه وقد عَلِمَ أن الشراكة في الحكمة لا تُنقصها، وأن تحريك الرياحين يَزيدُها طِيبًا.
ذلك هو إبكتيتوس الفيلسوف الرواقي الذي نَبُهَ شأنه في النصف الثاني من القرن الأول الميلادي والثُّلث الأول من القرن الثاني؛ وكانت حياته صورةً لفكره، ورفع نفسه من العبودية والبؤس إلى أعلى مدارج الحياة العقلية والروحية: «عبدٌ، أعرج، مُعوِز، ولكنْ عزيزٌ لدى الآلهة» كما نُقِش على شاهدِ قبره.
يسأل قارئ «المحادثات» و«المختصَر»: من أين لهذا الشيخ الواهن كلُّ هذه الإمرة، وهذا السلطان على طَلَبتِهِ من عِلْيَة الرومان؛ حُكَّام العالم في ذلك الزمان؟!
-
الزم الصمت فثَمة خطرٌ كبيرٌ بأن تَقِيء في الحال ما لم تهضمه.
-
مدرسة الفيلسوف مَشْفَى لا يُفترَض أن يروح منه الطلاب في لذةٍ بل في ألم.
-
يظن الكثيرون أنَّ الحُرَّ فقط هو من ينبغي أن يتعلم، بينما يرى الفلاسفة أن المتعلم فقط هو الحر.
-
لكل نوع من الكائنات جماله، وجمال الإنسان في الجانب الإنساني منه: العقل. وفي هذا فلتُعمِل التطريةَ والتهذيب. أمَّا شَعرك فدَعْه لِمَن جَبَلَه وفْقَ اختياره.
-
إننا نتحدث عن أنفسنا كأننا مُعداتٌ أو أمعاءٌ أو سَوْءات، فنخاف ونرغب ونتملَّق الذين يَقدِرون على مساعدتنا في هذه الأشياء ونخشاهم أيضًا.
-
لا أحد يرسم أمامه دَرِيئةً من أجل أن يُخطِئها!
-
أنت روحٌ ضئيلةٌ تضطرب هنا وهناك حاملةً جُثَّةً.
-
لقد فُزتَ بخيرٍ من الوليمة التي فاتتك؛ فزت بإعفائك من التزلُّف.
-
ليست الأشياء ما يُكرب الناس، بل فِكرتهم عن الأشياء.
-
مَن يَرْضَ بالعيش حيثما وضعه الله فإنه على استعدادٍ لمغادرة مسكن الروح إذا كان البيتُ مليئًا بالدخان.
-
هو إن كان حاذقًا فسيعرف جدارتك. أمَّا إن كان غير حاذق فلن يُقدِّرك وإن كتبتُ إليه مائة توصية.
-
لا تغضب إذا باح لك المعلِّم بحقيقة جهلك. وهل تغضب من الطبيب إذا أخبرك بحقيقة مرضك؟ أو من المرآة إذا عكست لك حقيقة منظرك كما هو؟!
-
صحبة الفلاسفة خيرٌ من صحبة الأغنياء. لن يلحق بك خزيٌ إذا أنت شوهدت على أبواب الفلاسفة، ولن تعود أدراجَك خاويَ الوِفاض.
-
الخائن منبوذٌ يفرُّ منه الجميع فرارَهم من الزنابير.
-
لا تقل «فقدتُهُ» … قل «رددتُه».
-
فهل يُهمُّك بوساطةِ مَن استردَّ منك الواهبُ ما أعطى؟!
-
مُحصَّنٌ بالفلسفة … لا حدَّ بعد الحَدِّ … التعفف امتلاكٌ مُضاعَف …
يَسري القول في مسمع الفتى من هؤلاء مَسْرى النُّسْغِ في النَّبتة، فيشيع فيه ويمسُّ ضميره، ويتحول إلى كيانٍ عضوي، إلى حياة.
(١) عُدَّتُك في المِحَن
(٢) مهرجان الوجود
(٣) عصا هرمس … الإرادة الخيِّرة
عاتب أخاك بالإحسان إليه، واردُد شَرَّه بالإنعام عليه.
الإرادة الخيِّرة تُحوِّل كل الشرور الخارجية إلى خير صميم ومادة لممارسة الفضيلة. هل تكالبت عليك المتاعب وتعاورتك الخطوب؟ هذه مناسبةٌ لممارسة الصبر والجَلَد. هل أساء إليك جارُك؟ تلك فرصةٌ لتدريب وجدانك على العفو والصفح والإحسان. جرِّب هذا السلاح الجديد الذي يَلقَف كل الأسلحة المضادة، ويردُّ إليك عَدُوَّ الأمس صديقًا مخلِصًا ووليًّا حميمًا.
هذه هي «عصا هرمس» السحرية التي تحوِّل كل شيء تمسُّه إلى ذهب. «إذا ألمَّ بي أيُّ شيءٍ من هذه الأشياء فما زال بوسعي أن أفيد منه خيرًا» (المختصر، ١٨). هاتِ ما شئت ولسوف أُحيله إلى خير: المرض، الموت، الفقر، السب، السجن؛ كل أولئك يصير مادةً لعمل الإرادة، تَستخلص منه الخير وتُصنِّع منه السعادة!
لقد تعرَّضَ إبكتيتوس في مستهل حياته لأبلغ ضروب القسوة والغلظة، ورأى الفساد والطغيان رأيَ العين، فما استكان لما لاقى ولا جَزِع، بل استخلص منه حكمةً وورعًا بَسَطا ظِلَّهما على عصره وأصبحا مَضرِبَ الأمثال في كل العصور: «بمَ ينبغي على المرء أن يتسلح في مثل هذه الظروف؟ أيكون بشيءٍ آخر غير التمييز بين ما لي وما ليس لي؟ بين ما بوسعي وما ليس بوسعي؟ ينبغي أن أموت، ولكن هل يعني ذلك أنني ينبغي أن أموت نائحًا؟ ينبغي أن أُصفَّد بالأغلال، ولكن هل ينبغي أيضًا أن أئنَّ وأُعوِل؟ ينبغي أن أُنفى، ولكن مَن ذا الذي يمنعني من أن أذهب إلى المنفى مبتسمًا منشرحًا وادِعًا؟!» (المحادثات، ١-١). «المرضُ إعاقةٌ للبدن، ولكن ليس للإرادة، إلا إذا شاءت الإرادة ذلك. العرج إعاقةٌ للأرجل وليس للإرادة. وقل الشيءَ نفسه عن كل شيء يحدث، فلسوف تجده إعاقة لشيء آخر، ولكن ليس لك أنت» (المختصر، ٩). أرِني رجلًا برغم المرض فهو سعيد، وبرغم الخطر فهو سعيد، وبرغم السجن فهو سعيد، أكن قد رأيت رواقيًّا.
(٤) العلاج الفلسفي
نحن مسئولون عن انفعالاتنا.
الانفعالات أحكامٌ (أو تُضمِرُ أحكامًا) قبِلناها بإرادتنا وصدَّقنا عليها باختيارنا.
الانفعالات تقييماتٌ، تقديراتٌ، طرائقُ في إدراك العالم والحكم على الأشياء.
والتأمل العقلي يتيح لنا مراجعة الأحكام المُبتسَرة حول ما رأيناه إهانةً أو فقدانًا، من شأن هذه المراجعات «المعرفية» أن تُخلِّصنا من قبضة «الانفعالات» السلبية. «الموت ليس مريعًا … وإنما المريعُ هو الحكم بأن الموت مريع» (المختصر، ٥). «مَن شتمَك أو ضربك لم يُهنك، وإنما الذي أهانك هو حُكمك بأن هذه الأشياء إهانة» (المختصر، ٢٠). «لا تُحدِّث نفسَك بأن هذه الأشياء ضروريةٌ ولن تعود ضرورية» (المحادثات، ٤-١). «ليس لِزامًا أن نتخلَّص من الفقر، بل أن نتخلص من فكرتنا عن الفقر، ولسوف نكون بخير حال» (المحادثات، ٣-١٧).
صَحِّح الفكر يَصِحَّ الانفعالُ.
(٥) الاكتفاء بالفضيلة
كفى بالقناعة مُلكًا، وبحُسن الخُلق نعيمًا.
الاكتفاء بالذات، السيادة على الذات: هذا هو الدرس الرواقي الأول، وهذا هو الترياقُ الناجعُ ضد الروح المادية الاستهلاكية البائسة التي تسُود المشهدَ المعاصر. «أمَّا أن تفغر فمك وما تنفكُّ تلهث وراء الأشياء الخارجية فلا مناصَ لك من أن تهرول هنا وهناك وفقًا لإرادة سيِّدك، مَن هو سيدُك؟ هو مَن يملُك أن يمنح تلك الأشياء أو يمنعها» (المحادثات، ٢-٢).
الفضيلةُ هي الخير الوحيد. الفضيلة غاية في ذاتها، وليست وسيلةً إلى أي شيء آخر. الفضيلة ثوابُ ذاتِها، لست مضحِّيًا بشيءٍ حين تترك كل شيء من أجل الفضيلة.
لا تَدْعُهُ سعيدًا من اكتسب شيئًا بطريقةٍ ممقوتة ومُغثِية لك. وماذا ارتكبتِ العنايةُ إذ تعطي ما هو أفضلُ لمن هو أفضل؟ ألا تفضِّل أن تكون شريفًا على أن تكون غنيًّا؟ لماذا تغضب إذن ما دمت تحظى بالأفضل؟ للأعلى دائمًا ميزةٌ على سواه في الشيء الذي فيه عَلا، إنما العبرة في أن يصحَّ العزمُ على أمرٍ صائب (المحادثات، ٢-١٥):
الشخص الذي سرق مصباح إبكتيتوس كان أكثر منه يقظةً، ولكنه اشترى المصباح بثمن باهظ؛ بالصيرورة لصًّا!
فيمَ غضبُك على البعض؟ لأنَّهم يغشُّون وينهبون وينافقون؟ لقد ارتكبوا خطأً في فهم طبيعة الخير والشر. ذلك أدنى أن تَرثِيَ لهم وتُشفِق عليهم وتُظْهِرهم على خطئهم، لا أن تبغضهم وتلعنهم وتهجرهم. فإذا فشلت في ذلك فتحمَّل ضريبة فشلك: السماح والعفو!
كل إثمٍ تناقُضٌ؛ لأنَّ أولئك الذين يأثمون لا يرغبون في ذلك. إنَّهم يريدون تحقيق مصلحتهم (خيرهم)، ولكن هل هم يحققونها؟ كلا؛ فالخير الوحيد هو الفضيلة. لقد ارتكبوا تناقضًا، الملَكة العاقلة تبغض التناقض. اكشف لها تناقضًا ولَسوف تُقلِعُ عنه. فإذا فشلتَ فاعتِب على نفسك لا على من فشلتَ في إقناعه.
(٦) الواجب المدرسي الرواقي
(٧) المُواجدة ومواطَنة العالم
لا وطنَ إلا للكراهية والأنانية. الأخوَّة لا وطنَ لها.
ليس بلدٌ أحقَّ بك من بلد، خيرُ البلاد ما حَملَك.
ولسوف تُطرِفُك هذه المواطنة الرحبة بهداياها: أشقَّاء جدد، بيض وسود، رجال ونساء، أحرار وعبيد، إخوتك الذين لا تعرفهم، أحبائك الذين حَجبَتهم عنك غمامة القبيلة. عانِق، إن كان عطفُك قد جفَّ فلسوف يَدِرُّ مرةً ثانيةً ويغمرُكَ بالدفء والغِبطة، بل تعرَّفُ على نفسك فيهم فأنت لن تعرف ذاتك إلا عبْرَهم!
بالصفاء والانفتاح؛ صفاء الرؤية وانفتاح الروح، يتمدد نطاقي الخاص، ويضيف إليه أصقاعًا ويضم ممالك.
(٨) المختصر
(٩) الدرس الأخير: تملُّك الأفكار
بحسبِك من حديثٍ عمَّا يكونه الرجل الصالح؛ كُن رجلًا صالحًا.
آيةُ الهضم التام أن يتحول المهضوم إلى الهاضم. فأنت، كما يقول بياجيه، حين تهضم الملفوف فإنك تحوِّلُه إلى أنسجتك وبنائك العضوي ولا تتحول أنت إلى ملفوف!
ذلك أنه حتى الخِراف لا تقيء عشبها لكي تُريَ الرعاةَ كم أكلت، بل عندما تهضم الكلأ داخلها فإنها تُخرِجه صوفًا ولبنًا. أنت أيضًا لا تُظهر النظريات للجهال بل الأفعال الناتجة عن النظريات بعد أن يتم هضمُها» (المختصر، ٣٦).
«لا تُلقِ على الناس مواعظ فلسفية، بل أرِهم في نموذجك الخاص أيَّ صنف من البشر تصنع الفلسفة، وكُفَّ عن العبث» (المحادثات، ٣-١٣).
من شأن الفكر الذي تتملكه حقًّا أن يتحول من جَلَبةٍ مسموعةٍ إلى مشهد مرئي.
أن يتجلى في أفعالك.
ويذوب في كيانك.
ويغيب فيك.