سنة ثمان ومايتين وألف

فيها أوفى النيل أذرعه في سادس عشر المحرم الموافق لثامن عشر مسرى القبطي وأول برج السنبلة، وفيها انحلت الأسعار وبورك في رمي الغلال حتى أن الفدان الواحد زكا بقدر خمسة أفدنة، وبلغ النيل إلى الزيادة المتوسطة وثبت إلى أول بابَه، وشمل الماء غالب الأرض بسبب التفات الناس لسد المجاري وحفر الترع وإصلاح الجسور.

(وفي أوايل شهر صفر) وصل قابجي من الديار الرومية بطلب مال المصالحة والحلوان، فأنزلوه في دار وهادوه ورتبوا له مصروفًا.

(ومن الحوادث) أن الناس انتظروا جاويش الحاج وتشوقوا لحضوره، ولم يذهب إليهم في هذه السنة ملاقاة بالوش ولا بالأزلم، وأرسل إبراهيم بك هجانًا يستخبر عن الحجاج فذهب ورجع ليلة الثالث والعشرين من شهر صفر، وأخبر أن العرب تجمعوا على الحج من ساير النواحي عند مغاير شعيب، ونهبوا الحجاج وكسروا المحمل وأحرقوه، وقتلوا غالب الحجاج والمغاربة معهم، وأخذوا أحمالهم ودوابهم ونهبوا أثقالهم وانجرح أمير الحج وأصابه ثلاث رصاصات، وغاب خبره ثلاثة أيام ثم أحضره العرب وهو عريان في أسوأ حال، وأخذوا النسا بإجمالهن، والذي تبقى منهم أدخلوه إلى قلعة العقبة وتركهم الهجان بها من غير ماء ولا زاد، فنزل بالناس من الغم والحزن تلك الليلة ما لا مزيد عليه، ثم إنهم عينوا محمد بك الألفي وعثمان بك الأشقر ليسافرا بسبب ذلك، فخرجا في يوم الخميس سابع عشرين صفر وخطف أتباعهم في ذلك اليوم ما صادفوه من الجمال والبغال والكعك والعيش من الباعة، وفي يوم خروجهم وصل جماعة من الحجاج ودخلوا في أسوأ حال من العري والجوع والتعب، فلما وصلوا إلى نخل تلاقوا مع باقي الحجاج على مثل ذلك، ووجدوا أمير الحاج وذهب إلى غزة وصحبته جماعة من الحجاج وأرسل يطلب الأمان، ولم يزوروا المدينة في هذه السنة وأرسل من صرة المدينة اثنين وثلاثين ألف ريال مع عرب حرب، وضاع في هذه الحادثة من الأموال والمحزوم شي كثير جدًّا، وأخبروا أن موسم هذا العام كان من أعظم المواسم لم يتفق مثله من مدة مديدة.

(وفي يوم الاثنين غرة ربيع الأول) دخل باقي الحجاج على مثل حالة من وصل منهم قبل ذلك.

(وفي صبحها يوم الثلاثا) عملوا الديوان بالقلعة واجتمع الأمرا والوجاقلية والمشايخ وقري المرسوم الذي حضر بصحبة الأغا، فكان مضمونه طلب الحلوان والخزينة، وقدر ذلك تسعة آلاف وأربعماية كيس وعشرة آلاف وخمسة وأربعون نصفًا فضة تسلم ليد الأغا المعين من غير تأخير.

وفيه عملوا على زوجات أمير الحاج ثلاثين ألف ريال، وأرسلوا إلى بيت حسن كاشف المعمار فأخذوا ما فيه من الغلال وغيرها؛ لأنه قتل في معركة العرب مع الحجاج، وألبسوا زوجته الخاتم قهرًا عنها ليزوجوها لمملوك من مماليك مراد بك، وهي بنت علي أغا المعمار، ووجدت على زوجها وجدًا عظيمًا، وأرسلت جماعة لإحضار رمته من قبره الذي دفن فيه في صندوق على هيئة تابوت.

وفيه شرع الأمرا في عمل تفريدة على البلاد بسبب الأموال المطلوبة وقرروها: «عالٍ وهو أربعماية ريال ووسط ثلثماية والدون ماية وخمسون»، وكتبوا أوراقها على الملتزمين ليحصلوها منهم.

(وفي يوم الخميس) سافر حسن كتخدا أيوب بك بأمان لعثمان بك ليحضره من غزة، ووصل المتسفرون بجثة حسن كاشف المعمار.

(وفي عشرين جمادى الأولى) وصل عثمان بك طبل الإسماعيلي أمير الحاج إلى مصر مكسوف البال ودخل إلى بيته.

وفيه حضر الصدر الأعظم يوسف باشا إلى الاسكندرية؛ ليتوجه إلى الحجاز فاعتنى الأمرا بشأنه وأرسلوا له ملاقاة وتقادم وهدايا وفرشوا له قصر العيني، ووصل إلى مصر وطلع من المراكب إلى قصر العيني وأرسلوا له تقادم وضيافات ثم حضروا للسلام عليه في زحمة وكبكبة، فخلع على إبراهيم بك ومراد بك خلعًا ثمينة، وقدم لهما حصانين بسرجين مرختين، ثم نزل له الباشا المتولي محمد عزت باشا بعد يومين وسلم عليه ورجع القلعة، وأقاموا لخفارته عبد الرحمن بك الإبراهيمي، جلس بالقصر المواجه لقصر العيني وقد تخيلوا من حضوره وظنوا ظنونًا.

(وفي يوم الأحد ثالث جمادى الثانية) طلع يوسف باشا إلى القلعة باستدعاء من الباشا المتولي، فجلس عنده إلى بعد الظهر ونزل في موكب حافل إلى محله بقصر العيني، وأرسل له إبراهيم بك ومراد بك مع كتخدايهم هدية وهي: خمسماية إردب قمح وماية إردب أرز وتعبيات أقمشة هندي وغير ذلك، وأقام بالقصر أيامًا وقضوا أشغاله وهيئوا له اللوازم والمراكب بالسويس، وركب في أواسط جمادى الثانية وذهب إلى السويس ليسافر إلى جدة من القلزم، وانقضت هذه السنة وحوادثها واستهلت الأخرى.

وأما من مات فيها من الأعيان ومن سارت بذكرهم الركبان

فمات نادرة الدهر وغرة وجه العصر، إنسان عين الأقاليم فريد عقد المجد النظيم، جامع الفضايل والمحاسن، ومظهر اسم الظاهر والباطن، من لبس رداء النجابة في صباه، ولاح عنوان المكارم على صحايف علاه، ولم تقصر عليه أثواب مجده التي ورثها عن أبيه وجده، فعلى جبينه نور النسب يخبر أن خلف الدخان لهب، شعر:

مستيقظ الحزم واري العزم ثاقبه
همومه حين يتلوهن همات
صافي الطوية من غل يكدرها
وأول المجد أن تصفو الطوايات

الحسيب النسيب والنجيب الأريب السيد محمد أفندي البكري الصديقي، شيخ سجادة السادة البكرية ونقيب السادة الأشراف بمصر المحمية، تقلد بعد والده المنصبين وورث عنه السيادتين، فسار فيهما سيرة الملوك ونثر فرايد المكارم من أسلاك السلوك، فجوده حدث عن البحر ولا حرج، وبراعة منطقه تنتج سلب الألباب والمهج، مع حسن منظر تتزاحم عليه وفود الأبصار، وفيض نوال تضطرب لغيرتها منه البحار، وقد اجتمع فيه من الكمال ما تضرب به الأمثال، وأخباره غنية عن البيان مسطرة في صحف الإمكان، زمانه كأنه عروس الفلك، فكم قال له الدهر: أما الكمال فلك، ولم يزل كذلك إلى أن آذنت شمسه بالزوال وغربت بعدما طلعت من مشرق الإقبال، وقطفت زهرة شبابه وقد سقتها دموع أحبابه، ورثاه الألمعي الفاضل السيد عبد الله المرازيقي وأرخه بقوله:

لقد مات من كانت موارد فضله
تعم جميع الخلق في القرب والبعد
محمد البكري من فاز وارتقى
كما بشر التاريخ في جنة الخلد

وكانت وفاته ليلة الجمعة ثامن عشر ربيع الثاني، وخرجوا بجنازته من بيتهم بالأزبكية، وصُلي عليه بالأزهر في مشهد حافل، ودفن عند أجداده بجوار الإمام الشافعي رضي الله عنه، وبالجملة فهو كان مسك الختام، قلما تسمح بمثله الأيام، ولما مات تولى سجادة الخلافة البكرية ابن خاله سيدي الشيخ خليل أفندي، وتقلد النقابة السيد عمر أفندي الأسيوطي، شعر.

حلف الزمان ليأتين بمثله
حنثت يمينك يا زمان فكفِّرِ

ومات علامة العلوم والمعارف، وروضة الآداب الوريقة، وظلها الوارف جامع المزايا والمناقب شهاب الفضل الثاقب الإمام العلامة الشيخ أحمد بن موسى بن داود أبو الصلاح العروسي الشافعي الأزهري، ولد سنة ثلاث وثلاثين وماية وألف، وقدم الأزهر فسمع على الشيخ أحمد الملوي الصحيح بالمشهد الحسيني، وعلى الشيخ عبد الله الشبراوي الصحيح والبيضاوي والجلالين، وعلى السيد البليدي البيضاوي في الأشرفية، وعلى الشمس الحفني الصحيح مع شرحه للقسطلاني ومختصر ابن أبي جمرة والشمايل وابن حجر على الأربعين والجامع الصغير.

وتفقه على كل من الشبراوي والعزيزي والحفني والشيخ علي قايتباي الأطفيحي والشيخ حسن المدابغي والشيخ سابق والشيخ عيسى البراوي والشيخ عطية الأجهوري.

وتلقى بقية الفنون عن الشيخ علي الصعيدي لازمه السنين العديدة وكان معيدًا لدروسه، وسمع عليه الصحيح بجامع مرزه ببولاق، وسمع من الشيخ ابن الطيب الشمايل لما ورد مصر متوجهًا إلى الروم، وحضر دروس الشيخ يوسف الحفني والشيخ إبراهيم الحلبي وإبراهيم بن محمد الدلجي، ولازم الشيخ الوالد وأخذ عنه وقرا عليه في الرياضيات والجبر والمقابلة وكتاب الرقايق للسبط وقوللي زاده على المجيب وكفاية القنوع والهداية وقاضي زاده وغير ذلك، وتلقن الذكر والطريقة عن السيد مصطفى البكري ولازمه كثيرًا، واجتمع بعد ذلك على ولي عصره الشيخ أحمد العريان، فأحبه ولازمه واعتنى به الشيخ وزوجه إحدى بناته وبشره بأنه سيسود ويكون شيخ الجامع الأزهر، فظهر ذلك بعد وفاته بمدة لما توفي شيخنا الشيخ أحمد الدمنهوري، واختلفوا في تعيين الشيخ فوقعت الإشارة عليه واجتمعوا بمقام الإمام الشافعي — رضي الله عنه — كما تقدم واختاروه لهذه الخطة العظيمة، فكان كذلك، واستمر شيخ الجامع على الإطلاق وريسهم بالاتفاق يدرس ويعيد ويملي ويفيد، ولم يزل يراعي للحقير حق الصحبة القديمة والمحبة الأكيدة، وسمعت من فوايده كثيرًا ولازمت دروسه في المغني لابن هشام بتمامه، وشرح جمع الجوامع للجلال المحلى، والمطول وعصام على السمرقندية، وشرح رسالة الوضع وشرح الورقات وغير ذلك.

وكان رقيق الطباع مليح الأوضاع لطيفًا مهذبًا إذا تحدث نفث الدر، وإذا لقيته لقيت من لطفه ما ينعش ويسر، وقد مدحه شعرَا عصره بقصايد طنانة، ومن كلامه ما كتبه مقرظًا على رياض الصفا لشيخنا السيد العيدروس هذان البيتان:

أخي طالعنْ في رياض الصفا
وكن واردًا في مياه الوفا
وقل: يا إلهيَ سلِّم لنا
وجيهًا حباه كمال اصطفا

وكتب على تنميق السفر له مضمنًا ما نصه:

كتاب على السحر البيان قد انطوى
وحكمة شعر منه تبدو فضائله
وتنميق أسفار لحضرة سيد
هو البحر علمًا وافر العقل كامله
إذا رمت أسرار البلاغة فهي في
قصائده الحسنى التي لا تماثله
عرائس أفراح وعقد جمانها
بمختصر المدح المطول قائله
وإني وإن كنت الأخير زمانه
لآت بما لم تستطعه أوائله

وكتب على النفحة ما نصه:

نفحة المولى الوجيه العيدروس
نشرها يحيا به موت النفوس
عطر باهي وذاك عرفه
ذكر الأرواح عهدًا قد تُنُوسي
جمعت من غرر العرفان ما
فاق أبهى درر العقد النفيس

وله أيضًا وقد كتب على تنميق الأسفار له:

ألاح برق المنا عن ضوء إسفار
أم أشرق الكون من تنميق أسفار
أم اليواقيت قد جاءت منظمة
في عقد در بدا في بعض أسفار
إني لأقسم بالرحمن مدحي عبـ
ـده الذي سره بين الورى ساري
العيدروسي ذو الفضل الجليل وذو الـ
ـمجد العلي وسر الخالق الباري
إن الذي صاغه من نور تكرمة
من جوهر عزلًا من نظم أشعار

وله أيضًا عليه:

أسرٌّ لائح ساري
سرَى في نوره الساري
ونور باهر باه
به زند الهوى واري
وبدر سره زاه
بدا في حسن أسفار
وعقد الجوهر المكنو
ن أم تنميق أسفار
كتاب بل عباب فيـ
ـه فلكٌ للهوى جاري

ومن كلامه يمدح الأستاذ عبد الخالق بن وفا:

شموس لها أفق السعادة مطلع
أبت في سوى برج السعادة تطلع
معارج فضل ليس يرقى سنامها
سوى مفرد في عزه ليس يشفع
سما أفقها السامي أولو المجد والوفا
وصد سواهم عن سناها وصدعوا
كواكب هدي قد أضاء بنورهم
سبيل لمن يبغي الرشاد ومهيع
هم السادة الأمجاد والقادة الألى
بكل كمال جلببوا وتدرعوا
هم الشاربو راح التقرب والصفا
وكاسهم الأصفى مدى الدهر مترع

وهي طويلة:

ومما ينسب إليه هذا التوشيح:

ماس غصن البان زاهي الخد وتثنى معجبا
بين أفنان النقا والرند وأثيلات الربا
خلت بدرًا فوق غصن مائس
قد أمالته نسيمات الصبا

وهو مشهور غاية الاشتهار في الأغاني والأوتار فلا حاجة إلى ذكره بتمامه، وسمعته مرة يقول: ما زلت أنظم الشعر حتى ظهر الشيخ قاسم الأديب ببلاغته فعند ذلك تركته، ولم تزل كوس فضله على الطلبة مجلوة، حتى ورد موارد الموت فبدلت بالكدر صفوه وأي صفا لا يكدره الدهر؟

ودعاه الله تعالى بجوار الجنان وتلقاه جدثه بروح رحمة ورضوان، وذلك في حادي عشرين شعبان، وصُلي عليه بالأزهر في مشهد حافل، ودفن بمدفن صهره الشيخ العريان تغمدهما الله بالرحمة والرضوان ومن تآليفه شرح على نظم التنوير في إسقاط التدبير للشيخ الملوي، وهو نظم وحاشية على الملوي على السمرقندية وغير ذلك.

وخلف أولاده الأربعة كلهم فضلا أذكيا نبلا، أحدهم الذي تعين بالتدريس في محله بالأزهر العلامة اللوذعي والفهامة الألمعي شمس الدين السيد محمد، وأخوه النبيه الفاضل المتقن شهاب الدين السيد أحمد، وأخوه الذكي اللبيب والفهيم النجيب السيد عبد الرحمن، والنبيه الصالح والمفرد الناجح السيد مصطفى، بارك الله فيهم.

ولما توفي المترجم — رحمه الله — رثاه صاحبنا العلامة والعمدة الفهامة السيد إسماعيل الوهبي الشهير بالخشاب بقوله:

وصدع أركان العلا وتقوضت
لذاك عروش الغير ثم جوانبه
وغادر ضوء الصبح أسود حالكًا
كأن الدجى ليست تزول غياهبه
ألم تر أن الأرض مادت بأهلها
وأن الفرات العذب قد غص شاربه
سطت نوب الأيام بالعلم الذي
تزال به عن كل شخص نوائبه
عجبت لهم أني أقلوا سريره
وقد ضم طودا أي طود يقاربه
وكيف ثوى البحر الخضم بحفرة
وضاق بجدواه الفضا وسبابه
خليلي قومًا فابكيا لمصابه
بمنهل دمع ليس ترقا سواكبه
لقد آد إذ أودى وأعقب مذ مضى
أسى يجعل الأحشا جذاذًا تعاقبه
وأي شهاب ليس يخبو ضياؤه
وأي حسام لا تفل مضاربه
وأي فتى أيدي المنية أفلتت
وأي فتى وافته يومًا مآربه
وماذا عسى تبغى من الدهر بعدما
أصمَّت وأصمَت كل قلب مصائبه
يعز علينا أن نراه ببرزخ
تمازج ترب الأرض فيه ترايبه
سقى قبره الغيث الملث وأمطرت
عليه من الرضوان سحًا سحايبه
تغير وجه الدهر وازور جانبه
وجاءت بأشراط المعاد عجايبه
وكدر صفو العيش وقع خطوبه
وقد كان وردًا صافيات مشاربه
فما لي لا أذري المدامع حسرة
وأفق سماء المجد تهوى كواكبه
وما لي لا أبكي على فقد ذاهب
موصلة لله كانت مذاهبه
إمام هدى للهدي كان انتدابه
فلا كان يوم فيه قامت نوادبه
أغرسني شمس الضحى دون وجهه
وفوق مناط الفرقدين مراتبه
حليف ندى كالسيل سيب يمينه
وكالبحر تجري للعفاة مواهبه
أخو ثقة بالله في كل موطن
على أنه ما انفك خوفًا يراقبه
له عفو ذي حلم ورأي أخي نهًى
يضيء لدى محلولك الخطب ثاقبه
على نهج أهل الرشد عاش وقد مضى
مطهرة أردانه وجلاببه
فمن ذا الذي ندعو لكل ملمة
ونرجو إذا ما الأمر خيفت عواقبه
ومن ذا الإيضاح المسائل بعده
وحل عرا ما قبل أعيت مطالبه
لقد هد ركن الدين حادث فقده
وشابت له من كل طفل ذوايبه
وحل بفردوس الجنان منعمًا
ولاقته فيه حوره وكواعبه

ومات الخواجة المعظم والملاذ المفخم جايز رتب الكمال وجامع مزايا الإفضال سيدي الحاج محمود بن محرم، أصل والده من الفيوم واستوطن مصر وتعاطى التجارة وسافر إلى الحجاز مرارًا، واتسعت دنياه وولد له المترجم فتربى في العز والرفاهية، ولما ترعرع وبلغ رشده وخالط الناس وشارك وباع واشترى وأخذ وأعطى وظهرت فيه نجابة وسعادة، حتى كان إذا مسك التراب صار ذهبًا، فانجمع والده وسلم له قياد الأمور، فاشتهر ذكره ونما أمره وشاع خبره بالديار المصرية والحجازية والشامية والرومية، وعرف بالصدق والأمانة والنصح، فأذعنت له الشركا والوكلا ووثقوا بقوله ورأيه، وأحبه الأمرا المصرية وتداخل فيهم بعقل وحشمة وحسن سير وفطانة ومداراة وتؤدة وسياسة ولطف وأدب وحسن تخلص في الأمور الجسيمة، وعمر داره ووسعها وأتحفها وزخرفها وأنشأ بها قاعة عظيمة وأمامها فسحة مليحة الشكل، وحول القاعة بستان بديع المثال، وهي مطلة عليه من الجهتين.

وزوج ولده سيدي أحمد الموجود الآن وعمل له مهمًا عظيمًا دعا إليه الأكابر والأعيان والتجار، وتفاخر فيه إلى الغاية، وعمر مسجدًا بجوار بيته بالقرب من حبس الرحبة، فجاء في غاية الإتقان والحسن والبهجة، ووقف عليه بعض جهات ورتب فيه وظايف وتدريسًا، وبالجملة كان إنسانًا حسنًا وقورًا محتشمًا جميل الطباع مليح الأوضاع، ظاهر العفاف كامل الأوصاف، حج في هذه السنة من القلزم ورجع في البر مع الحجاج في إمارة عثمان بك الشرقاوي على الحج في أحمال مجملة وهيئة زايدة مكملة، فصادفتهم شوبة حر شديد فقضي عليه فيها، ودفن بالخيوف، ولم يخلف في بابه مثله، رحمه الله.

وللعلامة الشيخ مصطفى الصاوي مدايح في المترجم فمن ذلك قوله في التهنئة بالفرح:

بشرى بأفراح المنى والمنن
لاحت علينا بالسرور الحسن
ومعاهد الأكوان فاحت بالشذا
مسكًا وطيبًا في العلا والسكن
وذكا نسيم الأنس من نفحاته
فسرى إلى أرواحنا والبدن
وغصون أزهار التهاني أزهرت
فتزينت روضاتها بالفتن
وشموس صفو الحظ فيها أشرقت
في طالع السعد العلي المقترن
وثغور وجه المكرمات تبسمت
حتى أمالت مائسات الغصن
وطيور أرواح الهنا قد غردت
غنت بلحن ما به من لحن
يا صاح ذا داعي المسرة والهنا
قد صاح يشدو في العلا بالعلن
هي ساحة الجود الجواد المرتقي
للجود والكرم البهي والقمن
في ساحة قد سح غيث هباتها
بيضًا وصفرًا غاليات الثمن
حسن الفعال صفاته ممدوحة
بالفيض والإحسان فالوصف سني
وجزيل إعطاء بجود مكارم
وجميل ذات مثلها لم يكن
أخلاقه في الخلق أهدت عطفه
لطفًا لرقة لطفه المستكن
ساحاته للاجتماع مواسم
ورحاب رحب بل أمان أمن
راحاته للطالبين مريحة
فله اليد العليا بفرض السنن
أفراحه للوافدين مقاصد
فيها عطا يكفي فقيرًا وغني
قد عطرت كل الحمى بعبيرها
طيبًا وشكرًا باللسان اللسن
فرَحٌ به فرح القلوب وغوثها
والغيث بالقطر الغزير الهتن
عرس به غرس الثناء بدوحة
فيها المواهب ضمن أعلى سنن
فلك الهنا في مصرنا بمكارم
سارت بها الركبان فوق البدن
تفديك من ريب الزمان حواسد
من كل ذي جسد قبيح ودنى
وإليك أهدي مصطفى من فكره
تحفًا تزف على طويل الزمن
من حسنها لاح الهناء مورخا
فرح السرور مع الندى من حسن

وله فيها أيضًا تهنئة بعيد النحر وهو قوله:

زمان التهاني في حمى الحي مشهود
وأنس الهنا من واثق العهد معهود
وطيب الشذا في الكون فاح نسيمه
عبير ربيع عطره المسك والعود
وشمس الأماني أشرقت في بروجها
فوفق المنى في طالع السعد مسعود
وثغر وجوه الأنس أصبح ضاحكًا
وغيث الأماني للبشائر مورود
فيا صاح داعي الصفو قد صاح في العلا
تبسمت الأيام والبشر معمود
بساحة محمود الفعال فوصفه
حميد عليه باللوا المدح معقود
جليل جميل الذات في الحسن كامل
فمن نوره حسنًا ضيا البدر مخمود
جزيل العطايا في علا الجود مفرد
وحيد وللإحسان والخير مقصود
كريم المزايا والمكارم والبها
مليح السجايا للمحامد موفود
عظيم مهاب شرف الله قدره
فأوصافه الإحسان والمجد والجود
جواد إذا قسناه بالبحر في الندى
فإن الندى يرتاح والبحر مجهود
لقد ساد أقرانا وأبدى مآثرًا
وأسدى هبات فيضها منه ممدود
وحاز اليد العليا فإن بسطت له
يد من فقير فهو بالرفد مرفود
ينادي كمال المكرمات ببابه
لباغي الندى أقبل ففقرك مردود
بساحته الأيام عيد مواسم
فناظره في ليلة القدر موعود
فإني وإن بالغت في الحمد والثنا
لأعجزني في المدح حد ومحدود
فيا سيدًا دامت عليه سيادة
وخير مليك بالسعادة موعود
ويا بهجة الأعياد يا تحفة الورى
ويا نخبة الآباء والد ومولود
فما العيد إلا أن تراك عيوننا
بعز وإكرام وعيشك مرغود
وهذي سيوف العزِّ قمْ وانحر العدا
فهن الفدا فاعلم فشانيك مفقود
فتفديك من ريب الزمان حواسد
ولكن خير الناس من هو محسود
وفي قابل نرجو تكون ملبيًا
تحج ببيت الله ثم تعود
فدم وابق واسلم كل عام مع الهنا
وعش مطمئنًّا أنت للفضل مقصود
ووافاك داعي السعد لاح مؤرخًا
فيا سعدنا عيد المسرة محمود

وله فيه غير ذلك.

ومات الأمير حسن كاشف المعمار، وأصله مملوك محمود بك وأعطاه لعلي أغا المعمار، أخذه صغيرًا ورباه ودربه في الأمور وزوجه ابنته، وعمل لزواجهما مهمًا وولايم، ولما مات سيده قام مقامه وفتح بيته ووضع يده على تعلقاته وبلاده ونما أمره وانتظم في سلك الأمرا المحمدية لكونه في الأصل مملوك محمد بك وخشداشهم، وكان ريسًا عاقلًا ساكن الجأش جميل الصورة واسع العينين أحورهما، ولما حج في هذه السنة وخرجت عليهم العرب ركب وقاتلهم حتى مات شهيدًا، ودفن بمغاير شعيب ونهب متاعه وأحماله وحزنت عليه زوجته الست حفيظة ابنة علي أغا حزنًا شديدًا، وأرسلت مع العرب ونقلته إلى مصر ودفنته عند أبيها بالقرافة، وزوجته المذكورة هي الآن زوجة لسليمان بك المرادي.

ومات الأمير شاهين بك الحسني، وقد تقدم أنه كان حضر إلى مصر رهينة، وسكن ببيت بالقرب من الموسكي، وهو مملوك حسن بك الجداوي أمَّره أيام حسن باشا، وسكن ببيت مصطفى بك الكبير الذي على بركة الفيل المعروف سابقًا بشكريره، وصار من جملة الأمرا المعدودين، ولما مات إسماعيل بك وحصل ما تقدم من قدوم المحمديين وخروجهم، فحضر المترجم صحبه عثمان بك الشرقاوي رهينة عن سيده وأقام بمصر، وكان سبب موته أن إنسانًا كلمه عن أصول الصبغة التي تنبت بالغيطان ولها ثمر يشبه عنب الذيب في عناقيد يصنع منه الفراشون مياه القناديل في المواسم والأفراح، وإن مَن أكل من أصولها شيًّا أسهله إسهالًا مفرطًا ولم يذكر له المسكن لذلك، ولعله كان يجهله فأرسل من أتى له بشي منها من البستان وأكل منه فحصل له إسهال مفرط حتى غاب عن حسه ومات، وتسكين فعلها إذا بلغت غايتها أن يمتص شيًّا من الليمون المالح، فإنها تسكن في الحال ويفيق الشخص كأن لم يكن به شي.

ومات الأمير أحمد بك الوالي بقبلي وهو أيضًا مملوك حسن بك الجداوي، وقد تقدم ذكره ووقايعه مع أهل الحسينية وغيرهم في أيام زعامته.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤