الفصل الرابع

البوليمر الجديد لستيفاني كوليك: من المختبر إلى الثروة

يسهم العديد من الأشخاص والمؤسسات في الابتكار. فتظهر الاستطلاعات واسعة النطاق عن الشركات المبتكرة، مثل «استطلاع الابتكار المجتمعي للاتحاد الأوروبي»، على سبيل المثال، كمًّا كبيرًا من المساهمين. وتصنف هذه الاستطلاعات أيضًا أهمية المصادر المتنوعة، موضحةً أن أكثرها أهمية يوجد داخل المؤسسة. يُستمد الابتكار في المقام الأول من طاقة الموظفين وخيالهم ومعرفتهم المحلية في تحديد المشكلات وحلها. ويحفزه الأشخاص المبتكرون وأماكن العمل المبتكرة، وكذلك هياكل المؤسسة وممارساتها الرسمية، مثل أقسام البحث والتطوير وأدوات الإدارة لتطوير منتجات جديدة.

ويأتي في الترتيب الثاني من حيث الأهمية بالنسبة لمصادر الابتكار — وفقًا لهذه الاستطلاعات — العملاء والزبائن، ويليهما موردو البضائع والخدمات. أما الأسواق والمعارض، والمؤتمرات والاجتماعات المهنية، والمجلات الأكاديمية والتجارية، فأقلية من الشركات هي التي تراها مهمة. وتظهر هذه الاستطلاعات أن أقل المصادر أهمية هي الجامعات ومختبرات البحث الحكومية.

تخفي هذه التصنيفات صورة أكثر تعقيدًا؛ فمثلًا نجد أن الاعتماد على الابتكار المدفوع داخليًّا يجعل المؤسسات منكفئة على ذاتها وربما غير مهيأة للتعامل مع التغيرات التي تحدث خارجيًّا في الأسواق والتقنيات. ويحتمل أن يُنتج الاعتماد على العملاء في الأفكار المبتكرة مناهج متحفظة «تتجنب تغيير الأوضاع على نحو يسبب اضطرابات». وتسهم الجامعات في الاختراع بإسهامات شديدة الأهمية في القطاعات القائمة على العلم، وفي المنتجات والخدمات المبتكرة في مراحل التطور المبكرة، وهي تعلِّم وتدرب الموظفين على المهارات لتساعدهم في الابتكار.

وكما أظهر لنا جوسايا وِدجوود، فإن الابتكار يتطلب عادةً مزج أفكار مستمدة من العديد من نقاط الانطلاق المختلفة. قال العالم الكبير لينوس بولينج إن أفضل طريقة للحصول على فكرة جيدة هي امتلاك العديد من الأفكار، ويمكن تطبيق الرأي نفسه على السعي وراء الابتكار من العديد من المساهمين. فرأي شومبيتر أن الابتكار يتطلب «توليفات جديدة» بين الأسواق والتقنيات والمعرفة عادةً ما يستتبع دمج أفكار من العديد من الأجزاء المختلفة في المؤسسة ومع أطراف خارجية مختلفة. وربما لا ينتج الحافز للابتكار من مصادر معينة، مع مساهمات هرمية، بل من مصادر متعددة للأفكار التي تتقاطع وتختفي في ظل ظروف من الضرورة الفعلية والسعي المندفع للبقاء في الأوقات المتقلبة.

يتأثر الابتكار أيضًا بعوامل اجتماعية وثقافية وسياسية واقتصادية أوسع. وتضم هذه العوامل الإسهامات التي تقوم بها المدن والأقاليم، وسياسات الحكومة، و«نظم الابتكار» التي تنتمي إليها المؤسسات وتسهم فيها.

(١) سعي متواصل: حالة آي بي إم

يمكننا أن نرى السعي المتواصل واسع النطاق والصعب وراء الابتكار على مدار تاريخ شركة آي بي إم. هذه الشركة تُعرف على نطاق واسع بأنها واحدة من أكثر الشركات ابتكارًا في العالم، حيث لعبت دورًا محوريًّا في اختراع أجهزة الكمبيوتر العملاق وأشباه الموصلات والموصلية الفائقة — من بين أشياء أخرى — وتطويرها. استثمرت الشركة موارد هائلة في الابتكار، وهي تنفق مليارات الدولارات كل سنة على البحث والتطوير، وتنتج براءات اختراع أكثر من أي شركة أخرى، وتنتج بانتظام منتجات وخدمات بارزة، وحاز فريق العمل بها خمس جوائز نوبل. وتتمتع الشركة أيضًا بمزايا هائلة في الابتكار مقارنةً بأي شركة أخرى تقريبًا في العالم، ومع ذلك يحمل سعيها وراء الابتكار دروسًا للمؤسسات الأخرى.

تأسست شركة آي بي إم في عام ١٩٢٤، ولكن ربما يرجع تاريخها لتأسيس هيرمان هوليرث لشركة «ماكينة الجدولة» في عام ١٨٩٦. طوَّر هوليرث (١٨٦٠–١٩٢٩) ماكينة تستخدم الكهرباء، ووحدات معالجة البطاقات من أجل ميكنة معالجة البيانات في بيانات التعداد الأمريكي. وأطلق على الماكينة اسم «المعدات» وعلى البطاقات «البرمجيات». عمل هوليرث لبعض الوقت في مكتب التعداد الأمريكي، وكان يدرك بشدة حاجة المكتب لتحسين كفاءة معالجة البيانات. استغرق تجميع تعداد عام ١٨٨٠ سبع سنوات، وظهرت مخاوف من أن تستغرق نسخة عام ١٨٩٠ مدة أطول. ولكن لَبَّتْ ماكينة هوليرث للجدولة متطلبات مكتب التعداد لتجميع البيانات وإدارتها بسرعة وكفاءة. وباستخدام هذه الماكينة، جرى تحليل بيانات عام ١٨٩٠ في ستة أشهر، مما وفر ملايين الدولارات، وعليه استُخدمت في إجراء التعداد في كندا وأوروبا. وبحلول عام ١٩١٢، باع هوليرث شركته، ومع أنه ظل رئيس المهندسين الاستشاريين، فإن ارتباطه بالشركة قل أكثر وأكثر. ورفض لعدة سنوات الاستجابة لطلبات وأفكار مكتب التعداد لإجراء تحسينات على ماكينته. وعندما انتهت صلاحية براءات اختراع هوليرث الرئيسية في منتصف عام ١٩٠٦، أنتج المكتب ماكينة جدولة خاصة به، استخدمها في تعداد عام ١٩١٠. وتطلب الأمر قدوم توماس واطسون في عام ١٩١٤ لتحسين الأداء الفني لماكينات الجدولة وتحسين علاقات الشركة بعملائها.

كان لتوماس واطسون (١٨٧٤–١٩٥٦) — كرئيس لشركة آي بي إم — دورٌ مهم في تطوير استخدام الشركة للإلكترونيات. فصدَّق على بحث هوارد آيكن، العالِم بجامعة هارفارد، الذي أجراه في فترة الثلاثينيات من القرن العشرين لتطوير آلة حاسبة رقمية. وفي عام ١٩٤٥، افتتح — بالتعاون مع جامعة كولومبيا — مختبر واطسون الأول للحوسبة العلمية في نيويورك. ويظل مختبر توماس واطسون في آي بي إم حتى الآن أحد أكبر مختبرات الأبحاث الصناعية في العالم. وفي أثناء الحرب العالمية الثانية، أقامت الشركة علاقات وثيقة مع الحكومة الأمريكية، خاصةً في مجال المعدات العسكرية والتخطيط للإمداد والتموين في فترة الحرب. وقيدت الشركة هوامش ربحها على الأعمال العسكرية إسهامًا منها في المجهود الحربي.

خلال فترة عمل واطسون بشركة آي بي إم التي استمرت ٤٢ عامًا، بنى الشركة لتصبح شركة دولية كبرى. وخلفه ابنه توماس واطسون الابن كرئيس للشركة. ومنذ أواخر الخمسينيات وحتى الثمانينيات من القرن الماضي، وبعد استثمارات هائلة في البحث والتطوير، أصبحت آي بي إم رائدة العالم في مجال أجهزة الكمبيوتر المركزية، خاصةً بنظام تشغيل ٣٦٠ الذي أطلقته في عام ١٩٦٤. ويظل نظام تشغيل ٣٦٠ فعليًّا أحد أكبر الاستثمارات الخاصة التي حدثت على الإطلاق في البحث والتطوير. فخصصت الشركة التي قُدرت قيمتها بنحو مليار دولار في هذا الوقت، ٥ مليارات دولار لتطويره، و«رهن» توم واطسون الابن الشركة من أجل تطويره. وبحلول عام ١٩٨٥، كانت آي بي إم تمتلك ٧٠٪ من السوق العالمي لأجهزة الكمبيوتر المركزية. فكانت لها خبرة لا تضاهى في المعدات والبرمجيات، وجعلتها مهاراتها التجارية واحدة من أكثر الشركات إثارة للإعجاب في العالم.

fig4
شكل ٤-١: كمبيوتر بنظام تشغيل ٣٦٠ من شركة آي بي إم، الذي «رُهنت الشركة» من أجل إنتاجه.1

في منتصف السبعينيات، بدأت الشركة في السعي وراء أجهزة الكمبيوتر الأصغر حجمًا. فكان جهاز كمبيوتر آي بي إم الشخصي، الذي أُطلق في عام ١٩٨١ — بجانب نظام تشغيل ٣٦٠ — أحد أكثر المنتجات شهرةً في القرن الماضي؛ فبصفة أساسية، أنشأ السوق واسعة النطاق لأجهزة الكمبيوتر الشخصي. ولقد انبثق الكمبيوتر الشخصي من مجموعة تطوير تابعة لشركة آي بي إم في مدينة بوكا راتون في فلوريدا، بعد أن فشلت في ثلاث محاولات سابقة لاختراعه. وتطلب الإنتاج الناجح للكمبيوتر الشخصي رفض الاستراتيجية السابقة التي كانت تتبعها آي بي إم من الاعتماد على الذات وتطويرها لكل شيء بنفسها داخليًّا. فقررت شراء المكونات الرئيسة، مثل الدوائر المتكاملة وبرامج التشغيل الإلكترونية من موردين صغار. في البداية، حقق المنتج نجاحًا هائلًا، حيث استحوذ على ٤٠٪ من السوق.

مع ذلك، في أواخر الثمانينيات وأوائل التسعينيات من القرن الماضي، كانت آي بي إم في مأزق خطير وأوشكت على الإفلاس. فساعد جهاز الكمبيوتر الشخصي الذي أنتجته شركة آي بي إم في زرع بذور زواله. فلم تتحكم آي بي إم في حقوق الملكية الفكرية لمكوناته، وازداد نجاح الموردين الصغار — إنتل ومايكروسوفت — بسرعة ليصبحوا أكبر من آي بي إم وأكثر قوة، وزودوا منافسي آي بي إم بتقنياتهم. إضافةً إلى ذلك، ظلت الثقافة العامة لشركة آي بي إم تركز على أجهزة الكمبيوتر المركزية المربحة على مر التاريخ، في الوقت نفسه الذي أدت فيه المنافسة في الأسعار من المصنعين اليابانيين إلى تدهور هوامش الربح. ونتيجة لذلك، جاء في عدد ١٦ ديسمبر عام ١٩٩٢ من صحيفة نيويورك تايمز، في مقالة افتتاحية: «إن عصر شركة آي بي إم قد انتهى … فالشركة التي كانت يومًا ما واحدة من أكثر شركات التكنولوجيا العالية الممدوحة في العالم، تضاءل دورها فأصبحت تابعًا يستجيب عادةً ببطء وبأسلوب غير فعال للقوى التكنولوجية الرئيسية التي تشكل الصناعة.» وعاد يتردد صدى قصة صعود هيرمان هوليرث وهبوطه مرة أخرى.

كانت إحدى الاستجابات لتجربة «الاقتراب من الموت» التي تعرضت لها شركة آي بي إم هي تعيين مدير تنفيذي جديد، وهو لو جيرستنر؛ أول مدير يُعين من خارج الشركة. فخضعت الشركة لإعادة هيكلة ضخمة وتحويل أساسي في استراتيجية العمل. وتغيرت من كونها موردًا للتكنولوجيا إلى تقديم حلول لمشكلات العميل. وكان هدفها تقديم أفضل خدمة ممكنة لعملائها، حتى وإن كان هذا يعني استخدام تقنيات المنافسين. وفي الوقت نفسه، مع صعوباتها المالية، اتُّخذ قرار بأنه بما أن قوة الشركة في الماضي كانت تُستمد من «عقليتها العلمية والصناعية»، فينبغي أن يستمر استثمارها البحثي في المستقبل. فاستمر البحث للعثور على ابتكارات متزايدة من داخل مجتمع الشركة التكنولوجي ومراكز البحث والتطوير. وأعادت هذه المصادر الداخلية جوهريًّا اختراع أجهزة الكمبيوتر المركزية باستخدام معالجات دقيقة وتصميمات متوازية. وأصبحت آي بي إم أيضًا أكثر انفتاحًا على الأفكار المجلوبة من الخارج، في محاولة منها للابتعاد عن انكفائها القديم على نفسها، ومتلازمة «لم يُخترع هنا». فبدأت تستخدم معايير فنية وبرامج إلكترونية مفتوحة بدلًا من التي تمتلكها مسجلةً، وبدأت تتعاون أكثر في تطوراتها التكنولوجية، حيث تشرع سنويًّا في العديد من صور التعاون مع مؤسسات أخرى. واشتملت ابتكاراتها الجديدة «المواجِهة لاحتياجات السوق» على الحوسبة الفائقة، والتجارة الإلكترونية، والشبكات الاجتماعية وتقنيات ويب ٢٫٠.

تستفيد الشركة حاليًّا على نطاق واسع من شبكتها الداخلية وتقنيات الشبكات الاجتماعية للوصول للأفكار الموجودة لدى موظفيها ومشاركتها معهم. وفي وجود نحو ٤٠٠٠٠٠ موظف — نصفهم من العلماء والمهندسين — و٧٥ مركز أبحاث عالميًّا، تَوافَر للشركة مهارات تكنولوجية هائلة للاستفادة منها. أما طرق استخدامها لهذه المهارات لدعم عملية ابتكارها الحالية والمستجدة، فسنناقشها في الفصل السادس.

توضح آي بي إم السعي واسع النطاق وراء الابتكار طوال تاريخها، الذي اشتمل على المخترعين من رواد المشاريع، والعملاء والموردين والجامعات، وأقسام البحث والتطوير، والعلاقات مع الحكومة، والشركاء المتعاونين، والمجتمع واسع النطاق من موظفيها واتصالاتها. والآن نتطرق لهؤلاء المساهمين المختلفين.

(٢) رواد المشاريع وأصحاب رأس مال المخاطرة

على عكس الأنشطة واسعة النطاق لشركات مثل آي بي إم، ينتج الابتكار أيضًا من رواد المشروعات الفرديين الذين يستخدمونه لبناء مشاريع جديدة. وقد بدأ استخدام مصطلح «رواد المشاريع» في أوائل القرن الثامن عشر، وهو ينطبق على الأفراد الذين يكتشفون الفرص أو يدركونها أو يخلقونها، ثم يديرون الموارد ويتحملون المخاطر للاستفادة منها. ويوضح وِدجوود الإسهام الكبير الذي يستطيع أن يقوم به رواد المشاريع في الابتكار والتنمية الاقتصادية.

بدايةً من ماثيو بولتون في القرن الثامن عشر، إلى توماس إديسون في القرن التاسع عشر، وبيل جيتس في القرن العشرين، وسيرجي برين ولاري بايج في القرن الحادي والعشرين، يرتبط أصحاب المشاريع عادةً بإنشاء شركات تعتمد على التكنولوجيا. تنمو هذه الشركات سريعًا على أساس تقنيات جديدة تخلق صناعات جديدة وتغيِّر الصناعات القديمة. ويغير بعض أصحاب المشاريع نظمًا اقتصادية ومجتمعات بالكامل. فطوَّر بولتون وشريكه جيمس واط المحرك البخاري وأول مصنع مميكن في العالم وساعدا في بداية الثورة الصناعية. وطور إديسون — من بين العديد من الإسهامات الأخرى — تكنولوجيا توليد الطاقة الكهربائية وأنشأ شركة جنرال إلكتريك. وأدت برمجيات شركة مايكروسوفت لجيتس إلى انتشار الكمبيوتر الشخصي، وغيَّر جوجل الذي أسسه برين وبايج استخدام الإنترنت، وغيرت كلتا الشركتين طبيعة العمل ووقت الفراغ.

هذه الأمثلة استثنائية للغاية، وسنويًّا يتأسس في الولايات المتحدة الأمريكية وحدها ما يقرب من نصف مليون شركة جديدة، ويحقق عدد قليل للغاية منها — إن وُجد — نجاحًا مماثلًا لمايكروسوفت وجوجل. إلا أن تأسيس شركات جديدة والتحديات التي تمثلها للشركات القائمة يعد عنصرًا أساسيًّا للرأسمالية ومن إسهاماتها الكبرى. وفي نموذج «مارك ١» لشومبيتر، إن ما يدفع التدمير الخلاق هو المهمة التي يقوم بها رواد المشاريع من «تفكيك التقليد القديم، وخلق آخر جديد».

شومبيتر عن رواد المشاريع: بعض الاقتباسات المختارة

في الوقت الحالي، تتردد بعض دوافع رواد المشاريع وسماتهم، كما عرَّفها شومبيتر.

الحوافز

«الحلم والإرادة لتأسيس مملكة خاصة، وعادةً، لكن ليس بالضرورة، امتداد لهم أيضًا.»

«الرغبة في الكسب والانتصار: الدافع للقتال، ولإثبات التفوق على الآخرين، والنجاح من أجل النجاح نفسه، لا لجني ثمار النجاح.»

«متعة الإبداع، وإنجاز الأمور، أو ممارسة قوة الفرد وبراعته فحسب.»

«الملكية الخاصة … المكسب المالي … (و) ترتيبات اجتماعية أخرى لا تشتمل على مكسب خاص.»

السمات

رائد المشاريع …

«يبحث عن الصعوبات، ويغير من أجل التغيير، ويسعد بالمجازفات.»

يحتاج: «طاقة بدنية وعصبية استثنائية.»

يمتلك: «رؤية من نوع خاص … التركيز على العمل مع استثناء المصالح الأخرى، والدهاء الهادئ والصارم، وكلها صفات تتناقض بلا شك مع العاطفة.»

يعرف كيفية: «الفوز بالدعم» من زملائه، و«التعامل مع الرجال أصحاب المهارات شديدة البراعة»، و«إعطاء الآخرين تقديرًا وفيرًا على إنجازات المؤسسة.»

أقر نموذج شومبيتر «مارك ٢» أن مهارة تنظيم المشاريع توجد في الشركات الكبرى، وتوجد في الشركات حديثة التأسيس، مما يعكس الحقائق الصناعية المتغيرة باعتبارها أنشطة بحث وتطوير منظمة وواسعة النطاق، ونما حجمها منذ عشرينيات القرن الماضي. ومن ثم، فإن مهارة تنظيم المشاريع هي العملية التنظيمية التي يتم بها السعي وراء الفرص وتطويرها واستغلالها في العديد من أنواع الشركات المختلفة.

في بعض الحالات، تتلقى الشركات المبتدئة في مجال تنظيم المشروعات استثماراتٍ من أصحاب رأس مال المخاطرة، قابلة لتحمل مخاطر أكبر من بنوك الخدمات المصرفية للأفراد والبنوك الاستثمارية. وقد تلقت العديد من قصص نجاح شركات تنظيم المشروعات في مجال تكنولوجيا المعلومات والتكنولوجيا الحيوية، مثل جوجل وجينينتيك، في الولايات المتحدة، رأس مال المخاطرة. وهناك نماذج دولية مختلفة لرأس مال المخاطرة، لكن الولايات المتحدة عادةً ما تُعتبر مثالًا يحتذى به. وربما يشمل رأس مال المخاطرة في الولايات المتحدة أموالًا من مستثمرين أفراد أو شركات خاصة، وربما يمتلك مديروها خبرة أو معرفة كبيرة بقطاعات تكنولوجية معينة ويشتركون في إدارة الشركات المبتدئة. ويكون هدف أصحاب رأس مال المخاطرة عادةً هو الحصول على أسهم في الشركات في سنواتها الأولى، تجني بعد ذلك عائدات استثنائية بعد خروجهم، عندما تكون الشركات قد وصلت لمرحلة من النضج تكفي لجذب مشترٍ أو طرح أسهمها في البورصة. ويقر أصحاب رأس مال المخاطرة، في حافظة استثماراتهم، بأن معظم العائدات ستأتي من عدد محدود من الحالات. وبوجهٍ عام، يميل أصحاب رأس مال المخاطرة إلى الاستثمار في المشروعات الأكثر استقرارًا، عن المشروعات الجديدة والمحفوفة بالمخاطر، حيث تكون الفرص التكنولوجية وفرص السوق محددة بوضوح.

(٣) البحث والتطوير

يُعد البحث والتطوير مصدرًا مهمًّا — ولكنه ليس ضروريًّا دائمًا — للابتكار. وتساعد استثمارات البحث والتطوير المؤسسات في البحث عن الأفكار الجديدة والعثور عليها، وتحسين قدراتها على استيعاب المعرفة من مصادر خارجية.

يتراوح البحث والتطوير من الأبحاث الأساسية المدفوعة بالفضول والاهتمام بعض الشيء بتطبيقها، إلى حل المشكلات بعملية شديدة (انظر التعريفات في دليل فراسكاتي أدناه). وتعكس نفقات البحث والتطوير التزامات شديدة التنوع، سواء قومية أو قطاعية أو مشتركة، باستخدامه للسعي وراء الابتكار. فيُنفق دوليًّا نحو ٨٠٠ مليار دولار سنويًّا على البحث والتطوير. ويتركز، على المستوى الإجمالي، في بضع صناعات رئيسية، منها تكنولوجيا المعلومات والاتصالات والمستحضرات الصيدلانية. وتُعد الولايات المتحدة الأمريكية أكبر منفق على عمليات البحث والتطوير. فعند تقييم النفقات ذات الصلة على البحث والتطوير — التي تُقاس عادةً كحصة من الناتج المحلي الإجمالي للدولة — فإن الدول الأوروبية الأصغر حجمًا، كفنلندا والسويد وسويسرا، تتصدر القائمة، حيث تخصص أكثر من ٣٪ من الناتج المحلي الإجمالي سنويًّا. ومن الاتجاهات الواضحة في السنوات الأخيرة، النمو السريع في نفقات البحث والتطوير في الدول الآسيوية، مثل كوريا وتايوان والصين. وينفق أكثر من ٩٥٪ عالميًّا على البحث والتطوير في الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا وآسيا (خاصةً شمال شرق آسيا)، لذا لا تستطيع العديد من الدول، خاصةً في نصف الكرة الجنوبي، المنافسة في هذا المصدر المهم للنمو وإنتاج الثروة.

هناك اختلافات واسعة فيما بين الدول في تقسيم نفقات البحث والتطوير بين التي تُنفق في الشركات وفي الحكومة. ففي بعض الدول، مثل كوريا واليابان، تسيطر نفقات الشركات التجارية. أما في دول أخرى، مثل بولندا والبرتغال، تكون الحكومة هي المصدر الأساسي لنفقات البحث والتطوير.

دليل فراسكاتي

في عام ١٩٦٣، قررت منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية أنه سيكون مفيدًا لصناعة السياسات الحصول على بيانات دولية متسقة عن إحصائيات البحث والتطوير. وعقب اجتماع عُقد في مدينة فراسكاتي في إيطاليا، صدرت الممارسة الموحدة المقترحة للدراسات الاستقصائية حول البحث والتطوير. وأصبح هذا معروفًا باسم «دليل فراسكاتي». وصدرت الطبعة السادسة من الدليل في عام ٢٠٠٤.

يُعرَّف البحث والتطوير على أنه يضم العمل الإبداعي القائم على نحو منظم من أجل زيادة الرصيد المعرفي — الذي يشمل معرفة البشر والثقافة والمجتمع — واستخدام هذا الرصيد المعرفي من أجل اختراع تطبيقات جديدة.

يُوصف البحث والتطوير على أنه يغطي ثلاثة أنشطة:
  • الأبحاث الأساسية: وهي العمل التجريبي أو النظري المضطَلع به أساسًا لاكتساب معرفة جديدة للأساس الكامن وراء الظواهر والحقائق الملاحظة، دون وجود أي تطبيق أو استخدام معين في الأفق.

  • الأبحاث التطبيقية: وهي أيضًا بحث أساسي يُضطَلع به من أجل اكتساب معرفة جديدة، إلا أنه يُوجه في الأساس نحو هدف أو غاية عملية محددة.

  • التطوير التجريبي: وهو عمل منظم يستقي من المعرفة القائمة بالفعل المكتسبة من الأبحاث و/أو الخبرة العملية، التي تُوجه لإنتاج مواد أو منتجات أو أجهزة جديدة، أو تثبيت عمليات أو نظم أو خدمات جديدة، أو تحسين المنتجات المنتجة أو النظم المثبتة بالفعل تحسينًا جوهريًّا.

كان «دليل فراسكاتي» مفيدًا في بناء مجموعات بيانات متسقة عن نفقات البحث والتطوير على الصعيد الدولي، ولذا فإنه تعرض للتطور والتحسين باستمرار. ومع ذلك، تبقى بعض المشكلات المهمة في قياس البحث والتطوير التعاوني والأنشطة المُضطلع بها في الخدمات.

طوَّرت منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية أيضًا «دليل أوسلو» لتوجيه الدراسات الاستقصائية للابتكار الوطني، و«دليل كانبرا» لقياس الموارد البشرية في العلم والتكنولوجيا، و«دليل براءات الاختراع» الخاص باستخدام إحصائيات براءات الاختراع.

(٤) البوليمر الجديد لستيفاني كوليك

أنقذت ستيفاني كوليك (التي وُلدت عام ١٩٢٣) آلافًا من ضباط الشرطة ورجال العسكرية من الموت أو الإعاقة. فنتيجة لعملية بحث وتطوير تقليدية، اخترعت الكيفلر، وهو نوع من الألياف يُستخدم في الدروع الواقية للجسم. وكان للمنتج، الذي هو أحد أقوى أنواع الألياف المصنوعة على الإطلاق، أكثر من ٢٠٠ استخدام، منها تيل المكابح، والمركبات الفضائية، والسلع الرياضية، وكابلات الألياف البصرية، والأفرشة المضادة للحريق، والواقيات من العواصف، وتوربينات الرياح. ونتج عن هذا الاختراع حصول الشركة الكيميائية دوبونت سنويًّا على مئات ملايين الدولارات. ومع ذلك، فإنه يشتهر باستخدامه في السترات المضادة للرصاص؛ ففي عام ١٩٨٧، افتتحت الجمعية الدولية لقادة الشرطة وشركة دوبونت نادي كيفلر للناجين، لمن أنقذهم المنتج من الموت أو الإصابة الخطيرة، وانضم إليه العضو رقم ٣٠٠٠ في عام ٢٠٠٦. واستُخدمت خصائص الكيفلر الوقائية أيضًا على نطاق واسع في الجيش.

وُلدت كوليك في نيو كينسينجتون في ولاية بنسلفانيا، وتُوفي والدها — عامل الصلب — وهي لا تزال صغيرة، ولكنها ورثت فضوله، وكان من هواة المتحمسين للمذهب الطبيعي. فهي تتذكر قضاءها ساعاتٍ في تصميم الملابس لدُماها وتصنيعها واهتمامها الشديد بالأزياء. درست كوليك في كلية أصبحت جزءًا من جامعة كارنيجي ميلون، ولعدم قدرتها على تحمل مصاريف دراسة الطب، تخصصت في الكيمياء.

fig5
شكل ٤-٢: ستيفاني كوليك، مخترعة الكيفلر.2

قررت كوليك أنها تريد العمل في شركة دوبونت. فشركة دوبونت كانت ولا تزال واحدة من الشركات الرائدة والأكثر ابتكارًا في العالم. فكانت في العشرينيات من القرن الماضي واحدة من أولى الشركات التي استثمرت في الأبحاث الأساسية «بهدف ترسيخ أو اكتشاف حقائق علمية جديدة». فصنعت مطاط النيوبرين الصناعي في عام ١٩٣٣، والنيلون في عام ١٩٣٨. ومع نقص عدد الكيميائيين الرجال الناتج عن الحرب العالمية الثانية، بدأت السيدات تنجذب للعمل في الصناعة الكيميائية. وخلال مقابلة كوليك الشخصية، طالبت بشدة معرفة متى سيأتيها الرد بشأن الوظيفة، حيث إن لديها عرضًا آخر. وجاءها العرض بالعمل في مساء اليوم نفسه.

بدأت كوليك العمل لدى شركة دوبونت في عام ١٩٤٦. فعملت في معمل أبحاث دوبونت في ديلاوير لمدة ٣٦ عامًا، وقد عملت مع الفريق نفسه لمدة ٤ سنوات من قبل في بافالو في ولاية نيويورك. وكانت وظيفتها هي تطوير بوليمرات جديدة وطرق صناعتها. وبعد تعيينها بوقت قصير، أسندت إليها وظيفة البحث عن نوع مميز من الألياف يُستخدم في صناعة إطارات أخف وزنًا وأكثر صلابة. فكان هناك اهتمام في هذا الوقت بتحسين أداء المركبات لمعالجة نقص الوقود، فأسندت هذه المهمة لآخرين ولكنهم لم يهتموا. وشعرت كوليك أنه على الرغم من اعتراف زملائها الرجال بكفاءتها، فإنها عادةً ما تتعرض للتجاهل.

مع ذلك، كانت تحب مناخ العمل والتحديات التي تنشأ، ولوصفها واحدة من العلماء السيدات القلائل في هذا الوقت، عملت بجد شديد للحفاظ على وظيفتها بعد عودة الرجال من الحرب. فحظيت بدرجة عالية من الاستقلال والحرية للقيام بما تريد.

(كانت تشكو من السرعة الفائقة للأبحاث الحديثة وقصر مداها، إلى جانب عدم وجود الوقت الكافي للتفكير.)

كان تخصص كوليك في العمليات ذات درجة الحرارة المنخفضة لإعداد بوليمرات التكثيف. وفي عام ١٩٦٤، اكتشفت أن جزيئات البولي أميدات العطرية ممتدة السلسلة تُكوِّن تحت ظروف معينة محلولًا سائلًا بلوريًّا يمكن غزله لعمل ألياف قوية. أخذت البوليمر، الذي لم يبشر بالخير لكونه قاتمًا ورفيعًا، إلى ماكينة لغزله. وتقول إن البوليمر كانت له خصائص غريبة بحيث يمكن لأي شخص لا يفكر أو غير مدرك أن يرمي به بعيدًا. وكان فني ماكينة الغزل يساوره شك شديد، ففكر بأن هذه المادة الملوثة ستسد ماكينته، ولكنه في النهاية اقتنع بتجربة الأمر. فغُزِل البوليمر بنجاح وأنتج منتجًا شديد القوة حتى إن كوليك اضطرت إلى إعادة الاختبارات عدة مرات قبل أن تقتنع باكتشافها. لم تخبر أحدًا بأمر البوليمر حتى تأكدت من خصائصه. فالكيفلر مقاوم للحرارة، وأقوى من الصلب بخمس مرات، وفي نصف خفة وزن الألياف الزجاجية.

اقتنعت شركة دوبونت على الفور بأهمية بوليمرات كوليك البلورية الجديدة، وأُسندت لمختبر الأبحاث الرائدة وظيفة العثور على استخدامات تجارية. فقدمت كمية قليلة من الألياف لأحد زملائها ليجري تجارب على الدرع المقاوم للرصاص. وطُرح الكيفلر ليستخدم لهذا الغرض في عام ١٩٧١. ومن أسباب استخدامه على مثل هذا النطاق الواسع من التطبيقات مرونته؛ فيمكن تحويله إلى خيط رفيع أو مغزول، وخيط الألياف المستمرة، ولب متليف، ونسيج صفائح. وساعدت الكيمياء الجديدة التي طورتها كوليك شركة دوبونت في تطوير كم من الألياف الأخرى، مثل سبانديكس ليكرا ونومكس المقاوم للحرارة.

تعزو كوليك نجاحها إلى طريقة رؤيتها لأشياء لا يستطيع غيرها رؤيتها. تقول:

لكي أخترع، أستخدم معرفتي وحدسي وإبداعي وخبرتي وفطرتي السليمة ومثابرتي ومرونتي واجتهادي. أحاول تصور المنتج المطلوب وخصائصه وسبل ابتكاره … وتنتج بعض الاختراعات عن أحداث غير متوقعة والقدرة على إدراك مثل هذه الأحداث واستخدامها لمصلحتنا.

تمتلك كوليك ١٧ براءة اختراع، منها ٥ على نموذج الكيفلر الأولي. وفازت بالعديد من الجوائز المرموقة وتحدثت عن الحاجة الماسة لتقدير العلماء وغيرهم من الأشخاص الذين يفيدون البشرية. وأقرت بشعورها بالسرور الشديد عندما طلب ضابط شرطة منها التوقيع على سترته التي أنقذت حياته.

تعتبر حالة كوليك والكيفلر مثالًا على إسهام قسم البحث والتطوير في الشركة في الابتكار، وهي تشير أيضًا إلى بعض عيوبه. فقد استمر تطوير البوليمر ١٨ سنة، واستغرق طرحه تجاريًّا ٧ سنوات. وهناك عدد قليل من المؤسسات، إن وجد، لديها القدرة على انتهاج مثل هذا الأسلوب طويل المدى في الوقت الحاضر.

(٥) العملاء والموردون

لا تنجح الابتكارات إلا إذا استخدمها العملاء أو الزبائن، وإذا شارك مستخدمو المنتجات والخدمات الجديدة في تصميم ما يحتاجون إليه، تكون هناك فرصة أفضل للنجاح بوجه عام عما إذا صُمم شيء من أجلهم. فلا يمكن أبدًا التعبير تمامًا عن الطلبات والاحتياجات والإخبار بها بالكامل عبر الحدود التنظيمية بين منتجي الابتكار وعملائهم ومورديهم، إلا أن المشاركة الفعالة بينهم تتخطى هذه الحدود.

في بعض المجالات، مثل الأدوات الطبية، يكون المبتكر عادةً هو مستخدم الابتكار. فيسهم الجراحون والممارسون الطبيون بانتظام بأفكار لأدوات وأساليب جديدة تساعدهم في تأدية وظائفهم على نحو أفضل. فأكبر شركة منتجة لأجهزة السمع المزروعة في العالم، شركة كوكلير، هو الأستاذ جرامي كلارك، وهو باحث طبي كان والده يعاني صممًا شديدًا. وكان كلارك حساسًا للغاية تجاه معاناة الأفراد الذين لا تستطيع سماعات الأذن التغلب على صممهم، وعزم على تحسين حياتهم.

ووفقًا لأحد التقديرات، تعاني نسبة تصل إلى ربع الرجال فوق سن الثلاثين انقطاع النفس أثناء النوم، وهو مرض يتسبب في اضطرابات خطيرة محتملة في التنفس عند النوم. وتستطيع أجهزة التنفس الطبية معالجة المشكلة. أسس الأستاذ كولين سوليفان، وهو باحث طبي يعمل في عيادة اضطرابات النوم في أحد المستشفيات، أكبر شركة مصنعة لأجهزة التنفس في العالم، وهي شركة ريسميد. وقد تغلب على المشكلة من خلال النفخ المنتظم لدفعات من الهواء أعلى ممر الأنف. ولحسن حظ مَن يعانون هذا المرض وشركاء حياتهم، تمثل الأجهزة الحالية التي تتسم بالهدوء ولا تلفت الانتباه، والتي جاءت نتيجة تحسينات مستمرة في التصميم، تقدمًا كبيرًا عن النسخة الأصلية التي صُممت على هيئة قناع للغاز ومكنسة كهربائية.

وتذهب بعض الشركات إلى مدى بعيد من أجل إشراك عملائها في تصميم منتجات جديدة. فعندما طورت بوينج الطائرة ٧٧٧، أشركت عملاءها الكبار، مثل شركة يونايتد وبريتش إيروايز، وسنجابور إيرلاينز، وكانتاس، في محاولة لفهم طلبات السوق. فكانت بحاجة لمعرفة أقصى حمولة للركاب على الطرق المفضلة لشركات الطيران. إلا أنها عملت أيضًا على فهم متطلبات مستخدمي الطائرة، وهم الطيارون وطاقم الطائرة، ومهندسو الصيانة، وعمال النظافة. فكان هدفها التعاطف مع مضيفات الطيران اللاتي يعددن القهوة في الاضطرابات الجوية، ومهندسي الصيانة الذين يصلحون مكونات الطائرة الخارجية في منتصف الليل في ألاسكا حيث تصل درجة الحرارة إلى ٤٠ درجة مئوية تحت الصفر، أو في منتصف النهار في جدة حيث درجة الحرارة ٥٠ درجة مئوية. ومع تصنيع بوينج للطائرة ٧٨٧، أنشأت موقعًا إلكترونيًّا للحصول على مدخلات مباشرة على عملية التصميم من الأطراف المهتمة في جميع أنحاء العالم. وصوت نحو ٥٠٠٠٠٠ شخص على اختيار اسم الطائرة: دريملاينر.

تصدر أحيانًا شركات البرمجيات منتجاتها في شكل بيتا؛ أيْ في شكل نموذج أولي، للسماح للمستخدمين باستخدام البرنامج واقتراح تحسينات. ويجري العملاء بصفة أساسية معظم التحسينات النهائية للمنتج. وتُتبع هذه الاستراتيجية مع المنتجات ذات الملكية المسجلة، عندما تهدف الشركة لتحقيق ربح منها. ويختلف هذا عن البرمجيات مفتوحة المصدر، مثل متصفح الويب موزيلا فايرفوكس، ونظام التشغيل لينكس، التي صنعتها شبكات من مبرمجين متطوعين وتعمل على صيانتها وتُحسنها باستمرار.

يمكن أن يكون استبعاد العملاء من عملية تحسين المنتج من الأمور التي تنم عن ضيق أفق شديد. فعندما طورت سوني الكلب الروبوت، أيبو، احتفظت بكود برنامجه الإلكتروني سرًّا. وازداد عدد أفراد مجموعة من قراصنة الكمبيوتر، وتوصلوا إلى حركات أكثر بكثير من حركة الروبوت المعتادة، منها عدد من الرقصات الممتعة التي جعلته منتجًا أكثر جاذبية للعملاء. فقاضت شركة سوني القراصنة وأغلقت مجموعتهم، ولكنها سرعان ما اعترفت بخطئها وأدركت أن الشركة يمكنها التعلم من البرنامج المطور خارجيًّا. ولم تعد سوني تنتج أيبو، لكن منتجاتها اللاحقة استفادت من التكنولوجيا التي تطورت من أجل الكلب الروبوت في مجالات مثل التصور.

يستطيع العملاء أيضًا منع الابتكار؛ فيحتمل أن يكونوا متحفظين وراضين وأسرى لطرق القيام بالأشياء على نحو يحول دون التجديد والمخاطرة. وقف كلايتون كريستينسن على «معضلة المبتكر»؛ فهي مشكلة الاستماع عن كثب للعملاء. فإذا استجاب المبتكرون فقط للطلبات المباشرة للعملاء، فعادةً ما تفوتهم تغيرات كبيرة تحدث في التقنيات والأسواق، مما قد يدفعهم في النهاية إلى التوقف عن العمل. وفي هذه الحالة، توجد ميزة في العمل مع «كبار العملاء»، أي الحكومات أو الشركات أو الأفراد المستعدون لتحمل المخاطر لتشجيع الابتكار إيمانًا بتحقيق فوائد أكبر من فوائد السعي وراء اختيار عدم الابتكار الآمن قصير المدى. ووصف روي روثويل، في الثمانينيات من القرن الماضي، العلاقة بين بوينج ورولزرويس بقوله: «عملاء صارمون وتصميمات جيدة»، مشيرًا إلى أن المتطلبات الصعبة للغاية لشركة بوينج من موردي المحركات الجوية جعلت رولزرويس تصمم وتنتج منتجات أفضل.

يمثل الموردون المبتكرون أيضًا محفزًا رئيسًا للأفكار الجديدة. ففي مجال صناعة السيارات، تأتي نسبة عالية من قيمة السيارة من موردي مكوناتها، وتصل هذه النسبة في حالة تويوتا إلى ٧٠٪ من إجمالي قيمة السيارة. وتتمتع تويوتا بعلاقات وثيقة للغاية مع نيبوندينسو، وهو مورد ضخم للمكونات ومنتجاته مبتكرة، مثل أنظمة الإضاءة والمكابح. ويلعب مورد السيارات روبرت بوش دورًا مماثلًا في صناعة السيارات الأوروبية. وتستخدم شركات السيارات الكبرى طرقًا متعددة — منها المواقع الإلكترونية والمؤتمرات والمعارض التقنية — لتشجيع مورديها على تقديم حلول مبتكرة للمشكلات التي يواجهونها. وتعتمد السيارات المبتكرة على موردي المكونات المبتكرة لشركات السيارات. وتتمثل مهمة مُصنِّع السيارة — أو المؤسسة المسئولة عن دمج أي نظام من عناصر مختلفة — في تشجيع الابتكار لدى موردي الوحدات أو المكونات، مع التأكد من توافق المكونات مع هندسة أو نظم التصميم العامة.

يُعد تشجيع الموردين المبتكرين هدفًا رئيسًا أيضًا للعديد من الحكومات. ففي الولايات المتحدة الأمريكية، يستخدم مخطط أبحاث الابتكار في المشروعات الصغيرة ميزانية الشراء الهائلة للحكومة من أجل دعم الشركات الصغيرة من خلال شراء المنتجات والخدمات المبتكرة. ويستثمر المخطط الحكومي هذا في الابتكار في الشركات المبتدئة أكثر من صناعة رأس مال المخاطرة في الولايات المتحدة، ويقوم بذلك في مراحل مبكرة للغاية من تطور هذه الشركات.

(٦) المتعاونون

نادرًا ما ينتج الابتكار عن أنشطة المؤسسات الفردية، فالأكثر شيوعًا أنه يحدث عندما تتعاون مؤسستان أو أكثر. وتجد الكثير من المؤسسات أن فوائد استخدام التعاون للمساهمة في الابتكار تفوق تكاليف مشاركة العائدات على هذا الابتكار. يأخذ التعاون شكل مشروعات مشتركة وأنواع شراكات مختلفة، وتحالفات، وعقود تنطوي على التزام مشترك بأهداف متفق عليها. ويمكن أن يكون التعاون مع العملاء والموردين، والمؤسسات من صناعات أخرى، وحتى مع المنافسين. إنها إحدى سمات اقتصاديات العالم الصناعية، فهي تعمل ببعض التعاون لعقود عديدة.

تتعاون المؤسسات من أجل تقليل تكاليف تطوير الابتكار، وللوصول لمجموعات من المعارف والمهارات تختلف عما تمتلكه، وتستخدم هذا كفرصة للتعلم من شركائها عن التقنيات والممارسات التنظيمية والاستراتيجيات الجديدة. وفي ظل الظروف المتقلبة والمتطورة، يقدم التعاون في الابتكار فرصة أكبر للنجاح من القيام به بصورة منفردة. وجعلت المعلومات ووسائل الاتصال والتقنيات الأخرى عملية التعاون أرخص وأسهل، إضافةً إلى أن الحكومات في العالم تشجع بشدة التعاون كمصدر للابتكار. وأصبحت المؤسسات أقل اعتمادًا على نفسها وأكثر انفتاحًا للتعاون في استراتيجياتها للابتكار.

تناسب أنواع التعاون المختلفة المواقف المختلفة؛ فعندما تكون أهداف التعاون واضحة، أو ينصب التركيز على تقليل التكاليف بسرعة، من الأفضل أن تكون المؤسسات متشابهة، فتكون فرص حدوث سوء الفهم أو عدم التواصل أقل. أما عندما تكون الأهداف مستجدة، ويكون الهدف هو الاستكشاف والتعلم، يستفيد التعاون من عمل المؤسسات غير المتشابهة معًا، إذ يُكتسب قدر أكبر من التعلم من التنوع عن التماثل. وتزيد أعداد الشركاء الأكبر من حجم المجهود المبذول، في حين تتحسن السرعة بسبب أعداد الشركاء الأقل.

ربما تكون إدارة التعاون صعبة؛ فربما يكون لدى الشركاء أولويات وثقافات تنظيمية مختلفة. فتظهر فرص متعددة لسوء الفهم، كما توضح لنا القصة التالية، التي ربما يُشَكُّ في صحتها. فمنذ بضع سنوات، اقتُرح وجود تعاون بين مجموعة من فريق عمل شركتي آي بي إم وأبل. وقبل الاجتماع المشترك الأول، ناقش فريق عمل آي بي إم منهجهم. وقرر فريق العمل، إدراكًا منهم باشتهارهم بارتداء ملابس رسمية — وكانت الحلل الزرقاء هي الملابس الرسمية في هذا الوقت — تسهيل الوضع على فريق عمل أبل، الذي كان عادةً ما يرتدي ملابس غير رسمية، من خلال ارتدائهم لملابس غير رسمية في الاجتماع. فوصلوا إلى الاجتماع مرتدين الجينز والكنزات غير الرسمية ليجدوا أن فريق أبل مقيدون بارتدائهم حللًا زرقاء اشتروها حديثًا. إن احتمال حدوث مثل هذا الأمر بين المؤسسات داخل الصناعة والدولة نفسها يلقي الضوء على المشكلات المحتملة التي ربما تحدث في حالات التعاون بين القطاعات والدول المختلفة.

(٧) الجامعات

كانت لدى كلارك كير، عالم الاجتماع الشهير ورئيس جامعة كاليفورنيا، بصيرة نافذة عند تحديده لأهمية الجامعات في التنمية الاقتصادية عندما كتب في عام ١٩٦٣ يقول:

… إن منتج الجامعة غير المرئي — وهو المعرفة — ربما يكون أقوى عنصر منفرد في ثقافتنا … فقد طُلب من الجامعة إنتاج المعرفة على نحو غير مسبوق … وطُلب منها أيضًا نقل المعرفة لنسبة غير مسبوقة من السكان.

وزعم كير أن المعرفة الجديدة هي أهم عامل في النمو الاقتصادي، وألقى الضوء على دور الجامعة في تطوير صناعات جديدة وإحداث النمو الإقليمي، وأكد على إسهام أساتذة تنظيم المشاريع الجامعيين في تقديم المشورات، والعمل على نحو وثيق في الشركات. وفي العقود اللاحقة، تزايد تشجيع الحكومات والشركات للجامعات على تكريس طاقاتها لترجمة معرفتها بفعالية إلى نشاط اقتصادي، وهي سياسة عادةً ما تصدق عليها بحماس. وارتقى هذا النشاط كثيرًا في وقتنا الحالي، حتى إنه بدا، بالنسبة للبعض، على أنه من وظائف الجامعة المساوية في أهميتها للأبحاث والتدريس. ومع ذلك، فإن طرق نقل المعرفة للصناعة ومساهمة الجامعات في الابتكار، عادة ما تُصور ببساطة شديدة، بينما تكون الطرق للسوق معقدة ومتعددة الأوجه وخفية عادةً. واستُبدلت أيضًا الصورة الذهنية عن أن الأفكار والمعرفة تنتجها الجامعات و«تنقلها» للصناعة، وحل محلها تصور أنها تُنتج بالتعاون ويتم تبادلها.

(٧-١) التدريس

من خلال تعليم الماهرين من الطلبة الجامعيين والخريجين والحاصلين على الدكتوراه، تُعِد الجامعات قوى عاملة قادرة على إبداع أفكار جديدة وتطبيقها. وهناك جزء كبير من تاريخ التطور الناجح لصناعات جديدة، في الكهرباء والكيمياء والطيران وتكنولوجيا المعلومات، يفسره توفير الجامعات لأعداد كافية من الخريجين بالمهارات الجديدة الضرورية، خاصةً في مجالي الهندسة والإدارة. فيقال إن أفضل شكل لتبادل المعرفة بين الجامعة والصناعة يعتمد على الطرفين، ويحدث عند تحرك من يحلون المشكلات من الجامعة إلى الصناعة.

لا يسهم خريجو العلوم والهندسة فحسب في الابتكار؛ ففي أوقات مختلفة، كان هناك طلب في منطقة سيليكون فالي على فلاسفة وعلماء أنثروبولوجيا. وتوفر الصناعات الإبداعية ملجأ للعديد من طلاب العلوم الإنسانية. وتقدم كليات التجارة على نحو متزايد دورات في إدارة الابتكار وتنظيم المشروعات لطلاب كل الفروع المعرفية. وتناقش أيضًا الكتابات في مجال الإدارة كيف يقال إن الشركات الناجحة تحتاج إلى مزيج من أصحاب المعرفة المتعمقة في مجال معين، وأصحاب المعرفة الواسعة في تخصص معين. إن القدرة على رؤية علاقات «عبر أصحاب المعرفة الواسعة في تخصص معين» بين الفروع المعرفية المتنوعة يمثل حافزًا رئيسًا للابتكار، لكنه يفرض تحديات واضحة على المعلمين (انظر قسم «معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا وتحدي تعليم المهندسين»).

تلعب الكليات الفنية كذلك دورًا مهمًّا في الابتكار، على سبيل المثال في تدريب الفنيين على إنتاج معدات يسوقونها أحيانًا بأنفسهم.

معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا وتحدي تعليم المهندسين المستمر

إن الهندسة هي أسلوب لحل المشكلات، ولتشجيع هذه القدرة يحاول معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا عادةً تشجيع تعدد التخصصات في أسلوبه التعليمي. وفي نشرة المعهد لعامي ١٩٥٤-١٩٥٥، قيل إن هدف كلية العلوم الإنسانية والدراسات الاجتماعية التابعة له هو تنمية «القيم الإنسانية والاجتماعية من الدرجة الأولى، التي يجب أن تصاحب الكفاءة التقنية، إذا قُدِّر للفرد القيام بأقصى إسهاماته كمواطن». وكانت المناهج الدراسية تهدف إلى أن تعكس هذه القيم. وبدأ كل الطلاب في أول عامين من دراساتهم التي تستمر لمدة أربع سنوات بدراسة المقررات الأساسية التي تشمل التاريخ والفلسفة والأدب. فانصب تركيزهم على المشكلات بدلًا من الحلول، وتنمية موقف لديهم بأن التعليم شيء عليهم استخدامه باستمرار وتطويره، بدلًا من كونه شيئًا يمتلكونه.

تصف روزاليند ويليامز، عميد الطلاب السابق في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، التحديات المعاصرة في تعليم مهندسين «مكتملين»، فتقول إن المهندسين في العصر الحالي يحتاجون إلى فهم كيفية تصميم الأشياء وإدخالها إلى السوق، وكيفية عمل المؤسسات ونجاح الابتكارات. وفي الواقع، اقتبست من أحد زملائها قوله كيف أن المعهد قد تخلى منذ زمن طويل عن تدريب المهندسين المحترفين وأصبح فعليًّا يدرب مبتكرين تكنولوجيين. فهي تزعم أنهم بحاجة إلى فهم العلم، من ناحية، والعلوم الإنسانية والفنون والعلوم الاجتماعية والإدارة من ناحية أخرى. ونتيجة لذلك، يتضاعف كم المعلومات التي يجب إدخالها إلى عقل الطالب كل ١٨ شهرًا. فتشير إلى أنه من أجل ملاءمة هذه السعة، يوجد اتجاه لفصل المهندسين ذوي السمات النفسية والاجتماعية المختلفة وتقسيمهم إلى «مكملي أنظمة» و«مصممين»، بحيث تركز الفئة الأولى تركيزًا أكبر على إدارة أنظمة تكنولوجية ضخمة في شركات مرموقة، وتهتم الفئة الثانية اهتمامًا أشد بابتكار منتجات وخدمات جديدة في مجال تنظيم المشروعات.

(٧-٢) العلم والأبحاث

كان العلم الذي اشتُقت تسميته بالإنجليزية science من الكلمة اللاتينية scientia، التي تعني المعرفة، سمةً لتطور الإنسان منذ الحضارات الأولى. إلا أن تطبيق العلم في الابتكار الصناعي لم يبدأ جديًّا إلا خلال الثورة الصناعية، وكان سمة بصفة خاصة في السنوات المائة وخمسين الماضية أو قرابة هذا.

هناك أحد الفروق التقليدية في الأبحاث، التي تُرى في «دليل فراسكاتي»، بين الأبحاث «الأساسية» و«التطبيقية». فيُعتقد أن الأولى يدفعها الفضول دون أي مراعاة لتطبيقها، وتختص الجامعات بالاهتمام بها. أما الثانية، فيُعتقد أنها تكون موجهة نحو استخدام محدد، عادةً في الصناعة. ومع ذلك، تستثمر بعض الشركات استثمارًا جوهريًّا في الأبحاث الأساسية، وتجري الجامعات أبحاثًا تطبيقية واسعة، خاصةً في الأقسام المهنية كالطب والهندسة.

إضافةً إلى ذلك، كما أشار دونالد ستوكس، فإن التمييز الكلاسيكي بين الأبحاث الأساسية أو «الخالصة»، المدفوعة برغبة في الفهم، والأبحاث التطبيقية، التي يكون الغرض هو استخدامها، يفشل في تصوير فئة ثالثة تهدف للقيام بالأمرين من خلال تحسين الفهم وتحقيق الاستفادة. ويُطلق على هذا «رباعية باستير» للأبحاث الأساسية المستوحاة من الاستخدام (انظر الشكل ٤-٣). كانت أبحاث باستير في المايكروبيولوجي مهتمة دائمًا بالتطبيقات المفيدة، ولكنها أنشأت مجالًا جديدًا للفهم العلمي. ويقارن ستوكس هذا بأبحاث نيلز بور في الفيزياء، حيث أمده فهمه لتركيب الذرة بأساس لتطوير ميكانيكا الكم، وأبحاث إديسون التي كانت مدفوعة باهتمام بالاستخدام والربح، مع أنه تأثر أيضًا بالنظرية. وهناك ارتباط مباشر وواضح بين الأبحاث والابتكار في أبحاث إديسون ورباعية باستير، وربما يوجد هذا الارتباط أو لا يوجد في أبحاث بور، وإذا تحقق، ربما يكون في مجالات غير متوقعة أو صعبة التخيل. فيتصور المرء أن اهتمام بور بكيفية استخدام نظرية الكم في شرح أجهزة الليزر، واحتمال تقديمها أساسًا لأجهزة كمبيوتر الكم المستقبلية، كان سيصبح ضئيلًا.
fig6
شكل ٤-٣: رباعية باستير: من رباعية باستير لدونالد ستوكس (واشنطن العاصمة: ١٩٩٧).3
fig7
شكل ٤-٤: خطاب إلى مجلة نيتشر يعلن اكتشاف الدي إن إيه.4

بالمثل أشار واطسون وكريك على استحياء في خطابهما القصير إلى مجلة نيتشر في ٢٥ أبريل ١٩٥٣ بالقول: «نحن نرغب في اقتراح تركيب لملح الحمض النووي الديوكسي الريبوزي (دي إن إيه). فهذا التركيب يتمتع بسمات جديدة لها أهمية بيولوجية كبيرة.» ولم يتصورا الأهمية التجارية الكبيرة التي ستظهر بعد ٢٠ عامًا، ولا الطريقة التي غير بها اكتشافهما المشروعات القديمة وأنشأ مشروعات جديدة مع تطور التكنولوجيا الحيوية.

في الواقع، تمثل الأبحاث الأساسية والتطبيقية عناصر في سلسلة متصلة، بينها الكثير من الروابط البينية. فربما تنتج الأبحاث التطبيقية من اكتشافات الأبحاث الأساسية، وربما تُستخدم الأبحاث الأساسية في شرح كيفية عمل تكنولوجيا حالية. إن أحد أكثر النتائج المفيدة للأبحاث الأساسية الخالصة هو الأجهزة المصنَّعة من أجل المساعدة في إجراء التجارب. فقد اختُرعت أجهزة الكمبيوتر والليزر وشبكة الويب العالمية من أجل هذا الهدف، مع اهتمام قليل باستخدامها الصناعي المحتمل كابتكارات شائعة في العصر الحالي.

عندما نفكر في أكثر الأسئلة العلمية والاجتماعية تعقيدًا في العالم، ومنها الاحتباس الحراري، والطاقة المستدامة والأمن الغذائي والهندسة الوراثية، فإن الإجابات ستعتمد على الفهم الأساسي الذي تتوصل إليه الجامعات، واستخدامه العملي في الصناعة.

(٧-٣) المشاركة

اشتُهر أن الدكتور يوناس سالك سُئل في إحدى المرات عمن يمتلك لقاح شلل الأطفال الذي توصل إليه، فكانت إجابته: «أقول إنهم الأفراد.» إن هذه الإجابة غير معتادة في عصرنا الحالي. فمنذ سن قانون «بايه-دول» في الولايات المتحدة الأمريكية في عام ١٩٨٠، الذي سمح لمؤسسات الأبحاث بامتلاك نتائج الأبحاث التي تمولها الدولة، أصبحت الجامعات في النظم الاقتصادية المتقدمة منشغلة بجني أموال من أبحاثها. ويأخذ هذا عادةً شكل الملكية الفكرية المحمية ببراءة الاختراع، التي تُرخص للشركات التجارية، أو من خلال الشركات المبتدئة التي تحافظ الجامعة على بقائها وتمتلك جزءًا منها. ومع ذلك، تشير الأدلة إلى أن عدد الأمثلة الناجحة لهذا النموذج في التسويق محدود. وهناك بعض قصص النجاح المبهرة، مثل شركة التكنولوجيا الحيوية جينينتيك التي تأسست في عام ١٩٧٦ لتساعد في تسويق اكتشاف الحمض النووي المُخلق في جامعة ستانفورد، وبيعت لشركات مستحضرات صيدلانية سويسرية في عام ٢٠٠٩ بأقل من ٥٠ مليار دولار. إلا أن هذه الشركات تمثل جزءًا صغيرًا من العدد الإجمالي لنشاط تنظيم المشروعات الذي تشجعه الجامعات.

انصب تركيز معظم الحكومات، وفي الواقع العديد من الجامعات نفسها، على موضوعات مثل براءات الاختراع والترخيص، والأبحاث التعاونية، ومراكز التحضين، ومراكز تنظيم المشروعات. وتُعد هذه الأنشطة مهمة للابتكار في الصناعات التي تعتمد على العلم والتكنولوجيا، لكن ليس لكل قطاعات الصناعة. فهي بوجه عام أقل صلة بالخدمات والموارد والصناعات التقليدية، مثل الملابس والمنسوجات. إضافةً إلى ذلك، فإنها تهمل أهمية الأنشطة الاجتماعية وتكوين العلاقات الأساسية في «الحوارات» بين الجامعات والشركات بشأن التطورات الجديدة وتطبيقاتها المحتملة. ومع أنه بالنسبة للعديد من الشركات، خاصةً الأصغر حجمًا، يكون الهدف من التعاون مع الجامعات هو حل المشكلات المباشر، فإن الشركات الأكبر تشترك في حوار أوسع مع الجامعات للتعرف على اتجاهات الأبحاث المستقبلية. وتزعم الشركات أن جاذبية العمل مع الجامعات تأتي من تمتعها بثقافات مختلفة عما لديها. فيوجد لدى العاملين بالجامعة وقت أكبر للتفكير في أفكار جديدة واختبارها.

تحتاج الجامعات ومعاهد الأبحاث، كأحد المساهمين في ابتكار الأفكار المبدعة والمعرفة ونشرها، إلى التعبير عن قدراتها باستمرار، وتقييم كيفية المشاركة على نحو أفضل مع الأطراف الخارجية. فلا يُتوقع من الحكومة والشركات أن تستثمر في الجامعات ومؤسسات الأبحاث كأحد مقدمي الابتكار دون أن توضح أدوارها الإسهامية واسعة النطاق توضيحًا كاملًا.

(٨) الأقاليم والمدن

يتكتل الابتكار عن طريق التمركز داخل مناطق جغرافية محددة، كما في منطقة بوتيريز في ستافوردشاير. ويحدث هذا لأسباب اقتصادية، حيث يقلل قرب المسافة من تكاليف الصفقات والنقل، والشركات التي تكون وثيقة الصلة تحفز إبداع الابتكار ونشره من خلال تحسين الوعي والمعرفة بعضها ببعض. ويتجمع الابتكار في مكان واحد لأسباب اجتماعية وثقافية، منها الفوائد المستمدة من الهوية المشتركة والثقة العالية في المجموعات المتصلة والمترابطة. ويساعد قرب المسافة التواصل؛ لأن المعرفة يصعب التعامل معها ولا تنتقل من مصدرها بفعالية، خاصةً عندما تكون معقدة أو ضمنية ولا يمكن تدوينها.

إن أشهر منطقة ابتكارية هي سيليكون فالي التي تقع بالقرب من سان فرانسيسكو، وهي منطقة تتركز فيها شركات التكنولوجيا المتطورة وشركات التوظيف. وقد حفزت هذه المنطقة محاولات لا تحصى، تفشل عادةً، لإعادة تكرارها في جميع أنحاء العالم. وساهم عدد من العوامل في تطور سيليكون فالي ونموها. فلعبت الحكومة دورًا محوريًّا، بداية من منح الأرض للجامعات المحلية لتحفيز التنمية الصناعية، وحتى تجسيدها لدور العميل واسع النطاق الراغب في سلع التكنولوجيا المتطورة في أسواق الدفاع. وأسهمت الجامعات بأبحاثها وتعليمها وتدريبها للعلماء والخبراء التكنولوجيين وأصحاب المشروعات. ووضعت مؤسسات مثل جامعة ستانفورد سياسات استباقيَّة لتشجيع المشاركة الأكاديمية في الأعمال التجارية في مجالات كالإلكترونيات وتكنولوجيا المعلومات. وتأسست العديد من شركات التكنولوجيا المتطورة، ونما بعضها سريعًا لتصبح مؤسسات كبرى، مثل هيوليت باكارد وأبل وإنتل، وساعدها في ذلك سوق عمالة متحرك وعالي المهارة يجذب الموظفين الموهوبين، إضافةً إلى الصلات بأبحاث الجامعة، والوصول السهل للخدمات المهنية، مثل أصحاب رأس مال المخاطرة ومحامي براءات الاختراع. وتسهم هذه العوامل في ثقافة محلية، أو «مختلطة»، تركز على التكنولوجيا وتتحمل المخاطر وتكون ذات قيمة تنافسية عالية، وتشكِّل دائرة محمودة العواقب من المبادرة والمكافأة. فأنتجت ثروة هائلة وخبرة واسعة في الابتكار وتنظيم المشروعات ليُعاد استثمارها في مبادرات جديدة.

عادةً ما توفر المدن وليس الأقاليم مكانًا للابتكار. فعلى مدار التاريخ، ارتبطت المدن في مراحل مختلفة بالإبداع والابتكار، بدايةً من أثينا في القرن الخامس قبل الميلاد، وفلورنسا في القرن الرابع عشر الميلادي، وحتى باريس في أواخر القرن التاسع عشر.

وتُعد المدن من المساهمين الرئيسيين في العرض والطلب على الابتكار. فتخرج معظم براءات الاختراع من المدن ويُجرى بها البحث والتطوير، وتضمن الدخول العالية المتوافرة بها استهلاكًا أكبر للابتكار. وتشتهر بعض المدن بأنها مراكز للتعلم، مثل أكسفورد أو هايدلبرج، وأخرى بإبداعها الهندسي، مثل شتوتجارت أو بيرمينجهام، وبالابتكارات المالية وفي الخدمات، مثل لندن ونيويورك، والإبداع والتصميم، مثل كوبنهاجن وميلان. وتُعرف بعض المدن بخبرتها التكنولوجية الخاصة، مثل بنجلور وحيدر آباد في الهند، أو دعمها لتنظيم المشروعات التكنولوجية، مثل منطقة هسينشو في تايوان، ومنطقة تشونج قوان تسون في بكين في الصين. وتوجهت مجهودات حكومات العديد من المدن نحو سياسات لتحديد واستخدام الابتكار الذي يقدم ميزة نسبية على المدن الأخرى دوليًّا. ومع أن العديد منها أعمته جاذبية نموذج سيليكون فالي المدفوع بالتكنولوجيا، فمن المهم أن يوجد لدى الآخرين أساليب أخرى عن طريق تناول الصحة أو التعاطي مع الأزياء أو الإعلام، مثلًا. وسنناقش موضوع الابتكار في المدن بتوسع في الفصل السادس.

(٩) الحكومة

عادةً ما يعكس الجدل حول دور الحكومة في دعم الابتكار أيديولوجيةً سياسيةً. فيعتبر تدخل الدولة في الابتكار ضروريًّا في العديد من الدول، منها معظم الدول الآسيوية، لكن في اقتصاديات «السوق الحر» الأكثر عددًا، مثل الولايات المتحدة الأمريكية، يعتبر تدخل الحكومة مشكوكًا فيه ولذا يُتجنب، مع الإشارة عادةً لعدم قدرة الحكومة على «انتقاء اختيارات صائبة». ومع ذلك، فإن التناقضات السابقة في الآراء، التي تشير، من ناحية، إلى أن سياسات الابتكار التدخلية تشوه الأسواق وتدعم عدم الكفاءة، أو تشير من ناحية أخرى إلى أنها من المكونات الضرورية للتخطيط الاقتصادي السليم وسياسات الصناعة الفعالة، تتجه حاليًّا نحو إيجاد حل وسط عملي. وفي هذا الكتاب، نقر بأن الحكومة تلعب دورًا مهمًّا في الابتكار، لكن السياسات يجب أن تكون انتقائية.

تسهم الحكومات في الابتكار بطرق متعددة بخلاف سياساتها للابتكار. فيعزز الاقتصاد المستقر والمتنامي استعداد الشركات والأفراد للاستثمار في الابتكار وتحمل المخاطر، ولذا تُعد السياسات النقدية والمالية الفعالة ضرورية لتوفير الثقة في المستقبل. فالدولة ذات الشركات والأفراد الأكثر ثراءً تتوافر لديها فرصة أفضل للابتكار. وتنتج السياسات التعليمية الجيدة موظفين وأصحاب مشروعات لديهم مهارات لإبداع فرص من أجل الابتكار وتقييمها واغتنامها. إذ يتمتع المواطنون ذوو التعليم الجيد بقدرة أكبر على المساهمة في المناقشات القومية حول الابتكار، وتحديد أيِّ العلوم والتقنيات المقبولة، والشكل الذي ينبغي أن تكون عليه المنتجات والخدمات الجديدة. وتقدم استثمارات الحكومات في الأبحاث — التي تصل في الدول المتقدمة في المتوسط إلى نحو ثلث إجمالي النفقات على البحث والتطوير — العديد من الفرص للابتكار. ويمكن أن يكون لهذه الاستثمارات عادةً منظور أطول في المدى من استثمارات القطاع الخاص. وتمنع سياسات المنافسة الاحتكارات التي تفرض عوائق أمام الابتكار؛ فتزيد السياسات التجارية من حجم الأسواق من أجل المنتجات والخدمات المبتكرة، ويمكن أن تقدم قوانين الملكية الفكرية دوافع للابتكار، وتحث التشريعات في مجالات مثل حماية البيئة على السعي وراء الابتكار. كذلك، يزيد الوصول الحر والمفتوح للمعلومات التي تخزنها الحكومة من فرص الابتكار. فيتوقف الابتكار في عالم مترابط جدًّا بصلات رقمية، إلا إذا تصرفت الحكومة لضمان الخصوصية الشخصية وتشجيع القواعد الأخلاقية في السلوك عندما يتعلق الأمر بجمع البيانات واستخدامها. وتسمح سياسات الهجرة المفتوحة بتدفق المواهب من الخارج، وهي تُعد مصدرًا للتنوع، الأمر الذي يُعتبر شديد الأهمية من أجل التفكير المبتكر. ويمكن أن تساعد قوانين العلاقات الصناعية في توفير أماكن عمل منصفة وآمنة وتشاركية، مما يشجع الابتكار.

تستطيع الحكومات تشجيع الابتكار من خلال قوتها الشرائية؛ فهي المشتري الرئيسي للابتكار في أي دولة. وتفوق النفقات العامة على تكنولوجيا المعلومات والبنية التحتية والصناعات الصيدلانية والعديد من المجالات الأخرى نفقات القطاع الخاص، لذا يُعد شراء الحكومة حافزًا رئيسًا للابتكار.

ويمكن أن تحدد قيادة الحكومات أسلوبًا أو تهيئ مناخًا يُجرى فيه تشجيع الابتكار. فعندما يكون الخطاب السياسي طموحًا ومتمركزًا حول المستقبل — تذكر خطة جون كينيدي لإرسال رجال إلى القمر، وثورة «الحرارة البيضاء» لهارولد ويلسون في العلم والتكنولوجيا — فإنه يكون أكثر دعمًا للابتكار عنه حينما يكون متراخيًا وقانعًا بالوضع الحالي. فيزيد احتمال دعم موظفي الحكومة للابتكار، عندما يكونون غير خائفين من اللوم على أبسط الأخطاء أو السلوك المجازف.

وبخلاف أشكال الدعم هذه، تضع الكثير من الحكومات سياسات خاصة بالابتكار. وقد اتجهت هذه السياسات في الماضي، خاصةً فيما يتعلق بحجم النفقات، إلى التركيز على البحث والتطوير، عادةً في شكل ائتمانات ضريبية؛ فتستطيع الشركات من خلال الإنفاق على البحث والتطوير تقليل فواتيرها الضريبية. وكانت هناك وفرة في أنواع أخرى من السياسات مصممة لتشجيع الابتكار، وهي تضم مخططات العرض التي تلقي الضوء على فوائد ابتكارات معينة، ومخططات الاستشارة التي تساعد المؤسسات في تحسين قدرتها على الابتكار، ومخططات الاستثمار التي تقدم دعمًا ماليًّا أو تزيد من كم رأس مال المخاطرة المتاح للابتكار، وإنشاء مؤسسات وسيطة جديدة تساعد في بناء صلات بين الأبحاث والتجارة.

ولقد جرى الدفاع عن العديد من مبررات سياسة الحكومة في الابتكار. وتشتمل هذه المبررات، الأكثر اتسامًا بالعملية، على الخوف من المنافسة الدولية. فعلى سبيل المثال، أدى رد فعل حكومة الولايات المتحدة على السيطرة المتزايدة للمنافسة اليابانية في أشباه الموصلات في الثمانينيات من القرن الماضي، إلى أن تنشئ اتحادًا جيد التمويل للمصنعين الأمريكيين، هو اتحاد سيماتيك، ووجهته لإنتاج تقنيات تنافسية. وصُممت العديد من مخططات عموم أوروبا في صناعة تكنولوجيا المعلومات خلال الفترة نفسها من أجل بناء القدرة على مقاومة المنافسة الأمريكية واليابانية في أوروبا. وبعض السياسات التي تزعم أنها تشجع الابتكار هي أشكال بسيطة من أشكال دعم الصناعة، أو رعاية الشركات، الهدف منها هو تقليل الرؤية الخيرية للأمور. وربما تمثل المخططات الموجودة في جميع أنحاء العالم — لدعم المجال المتعثر لتصنيع السيارات في الدوائر الانتخابية الهامشية باستمرار — مثالًا واضحًا على هذا.

إن قدرًا كبيرًا من مبررات تَدخُّل الحكومة يجري التعبير عنه في شكل جدل حول «فشل السوق». فيقال إن البحث والتطوير ينتج معرفة يمكن الوصول إليها بثمن بخس من جانب المنافسين الذين تحملوا مخاطر الاستثمار فيها. وبذلك، تفوق العائدات «العامة» على الاستثمارات العائدات «الخاصة»، ومن ثم هناك اتجاه نحو تقليل الاستثمار. وللتعامل مع فشل السوق هذا، تبرر الحكومة دعمها المالي للبحث والتطوير في الشركات.

إن هذا الشكل من الدعم، الذي يستولي على معظم استثمار الحكومة في سياسة الابتكار، ينطوي على الكثير من القصور؛ فهو أولًا: يهتم بالبحث والتطوير، الذي لا يعد إلا مدخلًا واحدًا في الابتكار، ولا يكون أهم المدخلات في العديد من الصناعات والظروف. فما يُفسر على أنه «بحث وتطوير» ربما يكون محدودًا أيضًا، ويستثني مدخلات مهمة للابتكار مثل تطوير البرمجيات وعمل النماذج الأصلية. ثانيًا: يسيء فهم الاستثمارات المطلوبة من أجل العائدات العامة، فقدرة الشركات على الوصول للبحث والتطوير الذي يجريه الآخرون لا تتحقق دون مقابل؛ فتتطلب أن تسمح الاستثمارات للمتلقين باستيعاب الأفكار الجديدة. ثالثًا: إذا كان فشل السوق يؤدي إلى استثمارات دون المستوى الأمثل في البحث والتطوير، إذن ينبغي أن يوجد مستوى أمثل، لكن الأدلة قليلة حول ماهية هذا المستوى. رابعًا: إن آليات توصيل دعم البحث والتطوير عامة للغاية، وتأخذ عادةً شكل ائتمانات ضريبية من أجل الإنفاق على البحث والتطوير، بدلًا من أدائه. ونادرًا ما يوجد احتياطي لتقديم البحث والتطوير الإضافي دعمًا لما سيتم الاستثمار فيه، بخلاف أموال الحكومة. وتتوافر مخصصات الضريبة على نطاق واسع عبر الصناعة، دون القدرة على اختيار أهداف استراتيجية. إضافةً إلى ذلك، تستخدم تكاليف التطبيق والتوافق عادةً موارد كثيرة، وتُفضل المتقدمين الأكبر والأكثر ثراءً عن نظرائهم الأصغر الأكثر استحقاقًا بوجه عام.

هناك مثال آخر على سياسة الحكومة في الابتكار ويمكن التعاطي معه من منظور فشل النظم. فعلى الرغم من التحفظات من مخاطر الأساليب الميكانيكية والمتوقعة التي تراها الحكومة في نظم الابتكار القومي التي نعرضها فيما يلي، في مقابل حقيقتها المتغيرة عادةً وغير المتوقعة، هناك قيمة لرؤيتها من منظور الحكومة. فالحكومة هي الممثل الوحيد القادر على تبني وجهة نظر عامة لنظم الابتكار القومي، والوحيدة القادرة على التأثير في كامل بنائها ووظيفتها. فتستطيع تقييم الأداء، وتحديد الفجوات ونقاط الضعف، ودعم المؤسسات والسياسات التي تبني العلاقات. ويتمثل التحدي في وضع السياسات المتعلقة بنظم الابتكار القومي في توجيه اهتمام كبير نحو وصف مكونات النظام، بدلًا مما يقوم به النظام، أو ربما الأكثر أهمية من ذلك، ما ينبغي عليه القيام به.

إن المعيار الأساسي لسياسة الابتكار هو مدى تشجيعها وتسهيلها لتدفق الأفكار عبر الاقتصاد وداخل نظم الابتكار القومي، وتعزيزها لفرصة نجاح الخلط بينهما وتطبيقهما. وتحدث تدفقات الأفكار هذه في اتجاهات عديدة وغير متوقعة في كثير من الأحيان؛ بين مجالات التصنيع والخدمات والموارد، والقطاعين العام والخاص، والعلم والأبحاث والتجارة، ودوليًّا داخل شبكات الأبحاث أو سلاسل توريد الإنتاج. وعليه يجب أن تهتم سياسة الابتكار بتشجيع تدفق الأفكار، وقدرة المؤسسات على تلقيها واستخدامها، والمعوقات التي تحول دون إقامة الصلات الفعالة بين مختلف المساهمين في الابتكار.

يأتي تشجيع تدفق الأفكار من الوصول المفتوح للمعلومات ونتائج الأبحاث الممولة من القطاع العام، والمؤسسات التي «تتوسط» العلاقات بين مستخدمي المعرفة ومورديها، والقوانين التي تحفز أو على الأقل لا تعيق الاستثمارات المبتكرة، وقوانين الملكية الفكرية الحكيمة التي تتعامل مع التحدي الهائل المتمثل في توفير الثقة في ملكيتها لتشجيع التجارة، دون تقديم العقبات التي تنشأ من مكافأة مواقف الاحتكار. ويعتمد تقبل المؤسسات للابتكار على المهارات والتنظيم ونوعية إدارة المتلقين. وتُعد مبادرات سياسة بلنت، مثل التيسيرات الضريبية في البحث والتطوير، قيِّمة فقط بقدر زيادتها لنوعية وحجم قدرة المؤسسة على اختيار أفكار جديدة واستخدامها.

(١٠) النظم

أدى النجاح الهائل للصناعة اليابانية في فترة السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي إلى بحث عن تفسير له. وأشار أحد التحليلات إلى أنه نتج عن قدرة اليابان على تنظيم العناصر المختلفة لاقتصادها في نظام ابتكار قومي. لعبت الحكومة اليابانية، من وجهة النظر هذه، دورًا محوريًّا في تنسيق استثمارات الشركات الكبرى في مجالات مهمة ومستجدة في التكنولوجيا الصناعية. فيُعتقد أن قوة اليابان في الإلكترونيات الاستهلاكية، على سبيل المثال، نتجت من جمع وزارة التجارة الدولية والصناعة الفعالة للغاية في الدولة لمعلومات من جميع أنحاء العالم عن التقنيات الجديدة وتنظيمها لمجهودات شركات الإلكترونيات الكبرى، مثل توشيبا وماتسوشيتا، من أجل الاستفادة من الفرص الجديدة. وهناك مبالغة في قدرة الحكومة اليابانية على القيام بهذا، لكنها لعبت بالفعل دورًا مؤثرًا وبدأ الباحثون يفكرون في الإسهامات التي تقوم بها المؤسسات الوطنية في الابتكار، وخصائص وطرق دمجها في نظام. وكان البحث يعمل على اختبار وفهم دور المشاركين الرئيسيين وأهم تفاعلاتهم، وتوفير بعض القدرة على تشجيع الابتكار على مستوى وطني.

اتخذت الأبحاث المبكرة في نظم الابتكار القومي شكلين؛ فاتخذ الشكل الأول — مع التركيز أساسًا على الولايات المتحدة — منظورًا اقتصاديًّا وقانونيًّا، وركز على مؤسسات الدولة المهمة، ومنها مؤسسات الأبحاث والتعليم والتمويل والقانون. فاعتُبرت خصائص نظم الابتكار القومي الفعالة أبحاثًا عالية الجودة تقدم اختيارات جديدة للعمل التجاري، ونظمًا تعليمية تنتج خريجين وفنيين مؤهلين جيدًا، وهذه الخصائص توفر رأس المال من أجل الاستثمار في المشروعات المحفوفة بالمخاطر والمشروعات التجارية الجديدة والنامية، وتمثل حماية قانونية قوية للملكية الفكرية. أما المنظور الثاني، الذي يركز أساسًا على الدول الاسكندنافية، فكان أكثر اهتمامًا بنوعية العلاقات التجارية في المجتمع. فاعتُبرت خصائص نظم الابتكار القومي الفعالة روابط وثيقة تصل بين عملاء الابتكار ومورديه، وتتأثر بقدر الثقة بين الأفراد والمؤسسات في المجتمع والتعلم الذي ينشأ من ذلك.

إن مَن توصل إلى هذين المنظورين مبدئيًّا كانوا هم الأكاديميون المهتمون بتحليل أسباب حدوث الابتكار وفهمها، ولماذا يأخذ أشكالًا معينة دون غيرها. فظهر، على سبيل المثال، سؤال عن سبب قوة بعض الدول، مثل الولايات المتحدة الأمريكية، على نحو خاص في الابتكار الجذري — الأمر الذي يُفسر بقوتها في الأبحاث الأساسية — ولماذا تكون دول أخرى، كاليابان، قوية للغاية في الابتكار التزايدي، الأمر الذي يفسره التنسيق الفعال لتبادل المعلومات بين العملاء والموردين. ومع ذلك، سيطرت سريعًا فكرة نظم الابتكار القومي في الحكومة ودوائر السياسة العامة، كأسلوب لوصف وتخطيط كيفية تشكيل المؤسسات وعلاقاتها. وأصدرت المؤسسات الدولية، مثل منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، تقارير متعددة عن مؤسسات الدول المختلفة، ولكنها تميل إلى أن تكون وصفية وإحصائية للغاية، وتفشل في شرح كيفية تطور النظم القومية بمرور الوقت. إلا أنها تشير إلى الملاحظة القيِّمة بأن ما يهم ليس المؤسسات الموجودة في الدولة فحسب، بل كيفية عملها معًا بفعالية.

وفي الوقت الذي كانت تزدهر فيه الأبحاث عن نظم الابتكار القومي، بدأ البعض يتساءل عما إذا كانت الدولة هي المستوى الأكثر فائدة في التحليل. فطُرح سؤال عن سبب ابتكار الدول دائمًا بنجاح في بعض الصناعات والأقاليم دون غيرها. فيوجد في الولايات المتحدة الأمريكية منطقة سيليكون فالي في كاليفورنيا، ويوجد بها أيضًا منطقة رست بيلت لصناعات الصلب والصناعات الهندسية الثقيلة المتدهورة في الشمال الشرقي. وأشار الباحثون إلى أهمية نظم الابتكار الإقليمية والقطاعية والتكنولوجية. فهم يفحصون خصائص الأقاليم الناجحة، مثل الطريق ١٢٨ الذي يدور حول بوسطن وكامبريدج في ماساتشوستس، وكامبريدج في المملكة المتحدة، وجرينوبل في فرنسا، ودايجون في كوريا، فضلًا عن أنهم يختبرون الفروق في أنماط الابتكار في صناعات المعدات الآلية والمنسوجات. ويبحثون أيضًا في سبب حدوث الابتكار في التكنولوجيا الحيوية على نحو مختلف عنه في تكنولوجيا النانو. ونظرًا للمستويات العالية من الاستثمار في الابتكار الذي تقوم به الشركات متعددة الجنسيات الكبرى، التي تعمل عبر الحدود، أشار الباحثون أيضًا إلى دور نظم الابتكار العالمية.

تمثل فكرة نظم الابتكار إطارًا مفيدًا، لكن النظم الاجتماعية تختلف عن النظم الهندسية التي تكون مكوناتها والتفاعلات بينها معروفة ومخططًا لها وراسخة. ففي النظم الاجتماعية، تقع أحداث لا يمكن التنبؤ بها، وتتطور النظم وتتغير بطرق غير متوقعة. فعلى سبيل المثال، لم يكن لجامعة هارفارد الصدارة المبكرة في أبحاث التكنولوجيا الحيوية، وحصلت عليها بدلًا منها جامعة ستانفورد؛ بسبب انتخاب عمدة ينتمي إلى عامة الناس في بوسطن، اعتمد على خوف الناس من العواقب المجهولة لأبحاث علم الوراثة. فالمهم هو التفكير في الطرق التي ترتبط بها المؤسسات الداعمة للابتكار وتتطور بمرور الوقت جنبًا إلى جنب مع الممارسات والعلاقات التجارية. ومهما كان مستوى التحليل، عالميًّا أو وطنيًّا أو إقليميًّا أو قطاعيًّا أو تكنولوجيًّا، فإن المهم هو فهم كيفية ارتباطها بعضها ببعض وتطورها معًا. ويظهر التفاعل بين المساهمين المتعددين في نظم الابتكار في الأمثلة التالية للعوامل الاجتماعية والثقافية والسياسية والاقتصادية التي تؤثر في قطاع الإسكان في اليابان ومعاهد الأبحاث في الصين.

(١٠-١) الإسكان الياباني

يرجع أصل التنمية الصناعية في اليابان إلى تاريخ طويل من تقاليد حرفية متأصلة. وتواصل هذه التقاليد انتشارها في المجتمع الياباني، بدايةً من حفل الشاي الياباني التقليدي وطريقة إعداد الطعام، إلى تصميم الخزف. وتوضح دراسة العلاقة بين المهارات الحرفية والابتكار في اليابان تأثير العوامل الاجتماعية والثقافية في نظم الابتكار.

فعلى مدار قرون، كانت كل المساكن اليابانية من صنع حرفيين يستخدمون الخشب المحلي. واستمر هذا حتى فترة حكم الإمبراطور ميجي (١٨٦٨–١٩١٢)، عندما أُدخلت التأثيرات المعمارية وأساليب البناء من الدول الأخرى إلى اليابان. وأثَّر أيضًا تصميم المساكن اليابانية، بتخطيطها البسيط وحواجزها المنزلقة، في المهندسين المعماريين الغربيين، مثل جوربيوس وكوربوزييه.

اعتمد إنتاج المساكن تاريخيًّا على عشرات الآلاف من شركات النجارة والبناء الصغيرة، وكان كل منها ينتج بضع منازل يدوية الصنع كل سنة في مبانٍ تقليدية من أعمدة وعوارض. وحتى وقتنا هذا، لا زالت التقاليد المستخدمة في تصميم المساكن قوية للغاية، وتظهر في تفضيل ياباني مستمر للوصلات الخشبية الأنيقة والمعقدة التي كانت لوقت طويل سمة مميزة للفن الحرفي. فإضافةً لشكل هذه الوصلات الجمالي، فإنها تعطي صلابة في الزلازل. إلا أن أكثر صناعة إسكان متقدمة في العالم قائمة على عمل المصانع انبثقت من هذه الخلفية شديدة التحفظ. فنتج الابتكار في المساكن من تغير الطلب ومصادر التوريد الجديدة، وبينما تتسم الصناعة الجديدة بأنها آلية للغاية، ظلت المهارات الحرفية على الساحة.

حفزت مجموعة من العوامل الابتكار في الإسكان الياباني في أعقاب الحرب العالمية الثانية؛ فكان يوجد نقص شديد في المواد والمهارات، وكان هناك زيادة كبيرة في الطلب عقب موجة التمدن الجماعي في الخمسينيات من القرن الماضي. فانتقل مئات الآلاف كل عام من المجتمعات الزراعية إلى التجمعات السكنية سريعة النمو في طوكيو وناجويا وأوساكا، وحثهم في ذلك العمل في شركات التصنيع الجديدة ومفاتن نمط الحياة المدنية. واستمر التمدن الجماعي طوال فترة الستينيات والسبعينيات، وأصبحت أنماط الحياة الغربية أكثر شعبية، وأصبح بعض المستهلكين مستعدين لوضع ثقتهم في المنتجات واسعة النطاق المصنعة بمعرفة الشركات سريعة النمو التي يعمل العديد منهم فيها.

جاء الحافز لتصنيع المساكن مدفوعًا من شركات تصنيع المواد والمكونات، خاصةً الصلب والمواد الكيميائية واللدائن والخشب الرقائقي. فحولت الشركات انتباهها نحو تطوير أسواق جديدة، وبدأ العديد منها في إنتاج المساكن صناعيًّا من أجل قوتها العاملة. ففتحت تويوتا قسمًا للإسكان يرأسه ابن مؤسس الشركة، وكان هدف تويوتا الرئيسي هو إنشاء مساكن عالية الجودة وبإنتاج ضخم لقوتها العاملة، وعمل خط إنتاجها الأول للمساكن بجوار خط إنتاجها للسيارات. وفي عام ٢٠٠٩، كان لديها ٦ مصانع مخصصة لتصنيع المساكن، وأخذت مؤخرًا ٥٠٪ من حصة الأسهم في ثاني أكبر شركة مساكن مصنعة في الدولة، وهي شركة حصلت على جائزة التصميم الجيد اليابانية على مدار السنوات التسع عشرة السابقة على التوالي.

سوَّقت الشركات الصناعية الكبرى المنازل للطبقة المتوسطة اليابانية الجديدة، معتمدةً على تقاليد الحرفة في التصميم وفوائد مراقبة الجودة ومصداقية الإنتاج الصناعي. وشكلت هذه الشركات مراكز للبحث والتطوير لدراسة تقنيات الإسكان، ولتقييم متطلبات نمط الحياة، وأنماط الاستخدام. وجعل نقص المساحة في المدن اليابانية الاهتمام ينصب على التصميم والعملية في الاستخدام بقدر الاهتمام بتطوير مواد وعمليات إنتاج جديدة. ومع ذلك، تستمر هذه الشركات في تقديم غرف تقليدية مصنوعة يدويًّا من التاتامي، حتى في أكثر التصميمات العصرية للمنازل، مما يعكس أنماط حياة وتفضيلات سكنية تجمع بين راحة الحداثة وتقاليد الحرفة.

أدت الحاجة لإنتاج مساكن استقبالًا لدورة الألعاب الأوليمبية في طوكيو في عام ١٩٦٤ على وجه السرعة إلى حدوث ابتكار في تصميم وحدات الحمامات وتصنيعها. وأنشأ هذا صناعةً تنتج فيها العديد من المصانع كل على حدة أكثر من ١٠٠٠٠ وحدة حمام عالية الجودة وملائمة بالكامل لمواصفات كل عميل شهريًّا.

تستثمر صناعة الإسكان استثمارًا شاملًا في البحث والتطوير، بدايةً من تصنيع مواد جديدة، منها طلاء واجهات المباني باستخدام تكنولوجيا النانو، إلى تخطيط التصميمات من أجل أجيال متعددة من الساكنين. وتسمح تصميمات الوحدات بإعادة تشكيل سمات بعينها خاصة للشباب؛ حيث وجود مساحة للاحتفال، وغرف نوم للأطفال الصغار قريبة من غرف والديهم الشباب، وغرف نوم أبعد لمن لديهم مراهقون، ومساحة للضيوف لمن ترك أولادهم المنزل، وحرية التحرك والتعامل لكبار السن.

انتقل الاستثمار في البحث والتطوير من تقنيات العملية ذاتها إلى تحسينات المنتج، مع التركيز على الإدارة البيئية وإدارة الطاقة. فتركز الأبحاث على منازل خالية من الكربون، والأمان، وأداء الإسكان، والمنازل «الذكية» ذات أجهزة الاستشعار والتحكم الإلكترونية. واستثمرت شركات مثل تويوتا في تطوير خلايا وقود ومصادر متجددة للطاقة من أجل الإسكان. فإضافةً إلى إمداد المنزل لسيارة تويوتا بالطاقة الكهربائية، صُممت النظم بحيث تستطيع السيارة، عند الحاجة، إمداد المنزل بالطاقة. ويجري كل كبار المنتجين أبحاثًا على تقليل النفايات وإعادة استخدام المكونات وإعادة تدويرها. وبمجرد وضع أساسات المنازل المصنوعة حسب الطلب، يمكن تسليمها وتركيبها وتجهيزها في غضون بضعة أسابيع.

فرضت الصناعة الجديدة تحديات أمام البناء الريفي المعتمد على الحرفة من خلال كشف أوجه القصور فيه وتكاليفه المرتفعة وافتقاره للابتكار. وظل الطلب على الحرفة مرتفعًا، مع أن معظم الأفراد لم يستطيعوا تحمل تكلفة منزل تقليدي الصُّنع. لم يملك النجارون وصغار البناءين الموارد التي تمكنهم من الاستثمار في أساليب الإنتاج الحديثة، ولم يعر كبار مصنعي المساكن الصناعية اهتمامًا بالسوق الريفية المجزأة. فكانت صناعة المساكن المعتمدة على الحرفة تحتضر، وبدأت معايير المساكن تنخفض.

حُلت المشكلة عندما حصلت على الصدارة صناعة الغابات التي توفر الخشب من أجل بناء المنازل التقليدية حرفية الصنع، والتي تقودها شركة سوميتومو فوريستري. فركزت الجهود على أتمتة عملية قطع الوصلات الخشبية التقليدية المكلفة التي تستهلك وقتًا طويلًا. فصنعت ماكينات تقطيع الخشب التي يتحكم فيها الكمبيوتر عدديًّا، ورُكِّبَت فيما يقرب من ٦٠٠ مصنع صغير في أنحاء الريف الياباني. ولذا، تمكن النجارون المحليون من أخذ تصميماتهم إلى هذه المصانع وإنتاج إطاراتهم الخشبية في جزء بسيط من الوقت الذي كان يستغرقه تقطيعها يدويًّا. ونتج عن هذا تحسينات هائلة في الإنتاجية، وبقاء ما تبقى من الصناعة الحرفية التقليدية، جنبًا إلى جنب مع التجارة الصناعية الحديثة.

(١٠-٢) معاهد العلم والتكنولوجيا في الصين

أدى التصنيع في آسيا في العقود الأخيرة إلى تطور اجتماعي واقتصادي استثنائي في المنطقة. فتحولت كوريا — على سبيل المثال — من ثاني أفقر دولة على الأرض في الخمسينيات من القرن الماضي إلى عضو في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، وهي مجموعة للدول الثلاثين الأكثر ثراءً في العالم. وتطلب التصنيع الآسيوي حدوث تطورات سريعة في الأبحاث والتعليم والتمويل والقانون من أجل تشجيع التغيرات الديناميكية المشتركة والتكنولوجية المطلوبة من أجل الحصول على القدرة التنافسية المعاصرة. فدولٌ مثل كوريا وتايوان وسنغافورة تنتج نظم ابتكار قومي مترابطة، وها هي تصبح من الدول المساهمة المهمة في الابتكار على المستوى الدولي. وتنوعت نماذج التطور، فاعتمدت كوريا — على سبيل المثال — على الشركات الكبرى متعددة الأنشطة، واعتمدت تايوان على شبكات من الشركات الصغيرة، واعتمدت سنغافورة على الاستثمار الأجنبي المباشر من شركات كبرى متعددة الجنسيات، أما الصين فاستخدمت عمليًّا كل هذه المناهج. وعليه، تكون الصين مثالًا مهمًّا ذا أهمية خاصة يجسد نظم الابتكار المتطورة ودور المؤسسات فيها. وفي شرق آسيا، توجه الدولة عملية التطور دون هوادة، وبالطبع يحدث هذا في الصين على وجه الخصوص.

شهدت الصين أسرع وأبرز تنمية اقتصادية في التاريخ. فخرجت من التدهور الذي لحق بها من جراء الحرب العالمية الثانية والحرب الأهلية والثورة الثقافية كمصدر طاقة للتصنيع العالمي، فاستثمرت على نحو ضخم في العلم والتكنولوجيا والتعليم، ويُحتمل أنها تتحدى السيطرة الغربية في الابتكار. ويمكن رؤية تطور نظام الابتكار القومي الصيني، وسماته ونجاحاته السابقة، وتحدياته المستقبلية، في التغيرات التي تؤثر في معاهدها العلمية والتكنولوجية. فهي تظهر تأثير العوامل السياسية والاقتصادية على نظم الابتكار والتحديات المستمرة للتغيير.

شهدت هذه المعاهد — التي توظف ما يقرب من مليون شخص — على مدار ٢٠ عامًا إصلاحًا تنظيميًّا كبيرًا، ووسعت نطاق الاستثمارات توسعًا كبيرًا على مدار السنوات الأخيرة. وزاد الإنفاق الوطني على البحث والتطوير بما يقرب من ٢٠٪ سنويًّا منذ عام ١٩٩٩. ومنذ الإصلاحات الاقتصادية الصينية التي جرت في منتصف الثمانينيات من القرن الماضي، غيرت هذه المعاهد بالكامل أسلوبها السابق في الخمسينيات الذي كان يقوم على النمط السوفييتي المتمثل في إجراء أبحاث منفصلة عن الصناعة. فنالت تشجيعًا في الثمانينيات بفعل بعض التخفيضات الشديدة التي طبقتها الحكومة على ميزانيتها، مع تركيز اهتمامها على العمل وفقًا للصناعة. إضافةً إلى ذلك، في التسعينيات من القرن الماضي، أدت عملية إصلاح الإدارات الصناعية الحكومية إلى خصخصة ما يقرب من ٢٠٠٠ معهد أبحاث صناعية.

ونجحت الإصلاحات، لكن التحديات لا تزال موجودة. فأدى الارتباط المتزايد بين معاهد الأبحاث والتجارة إلى إنشاء بعض من أنجح الشركات الصينية المبتدئة، مثل لينوفو. فأعاد هذا الارتباط توجيه تركيز القدرة البحثية الصينية نحو السوق، إلا أن معاهد الأبحاث تناضل من أجل الحفاظ على الاستثمارات العلمية الأساسية، وتجري أبحاثًا تروق للصناعة. فهناك شكاوى من أن تسويق أبحاثهم قد شغلهم عن مهمتهم الأساسية. ويظل القلق موجودًا إزاء فعالية العلاقات مع الصناعة؛ فبينما حدث تغير ثقافي حين أدرك الباحثون فوائد مواجهة متطلبات السوق، ظل ترسيخ أشكال جديدة من المشاركة تروق للصناعة أمرًا محيرًا.

يرجع هذا جزئيًّا إلى مشكلة عدم الاستجابة في الشركات الصينية. فهناك نقص في مهارات الابتكار في مجالات مثل تقييم المخاطر، مما يُحد من الاستثمارات في البحث والتطوير والمشروعات المبتدئة. ويميل استثمار رأس مال المخاطرة إلى التركز في الشركات المشهورة، والاستثمارات التي تدعم الابتكار من جانب البنوك تتم بوجه عام في المشروعات الكبرى المملوكة للدولة، أكثر منها في المشروعات المبتدئة. وتمركز قدر كبير من التأكيد على الابتكار حول التصنيع أكثر من الخدمات، وحول قطاعات التكنولوجيا المتطورة.

هناك إدراكٌ متزايد لدى الحكومة بأن سياسة الابتكار تشمل أكثر من مجرد توجيه قطاع الأبحاث، فقد أولت اهتمامًا بتحسين أداء الابتكار في الشركات التجارية. ومن الثابت أن توجيه الدولة للأمر الأول أسهل بكثير من توجيهها للأمر الثاني. وشكك الباحثون في نظم الابتكار أيضًا، مثل شولين جو وبنجت-آك لوندفال، في وجود حجم رأس المال الاجتماعي والثقة اللازمين للمشاركات العميقة التي يطالب بها الباحثون ورجال الأعمال من أجل العمل معًا وحتى يكونوا مبتكرين بنجاح.

في الصين، نتج تغير الابتكار الذي شهدته على مدار العقد الماضي عن قيادة سياسية قوية. فحدث إدراك لدى المستويات العليا من الحكومة بأن نموذج التنمية الاقتصادية، الذي تقوده الصادرات ويعتمد على التصنيع، والذي كان وراء نموها الاقتصادي المذهل منذ الثمانينيات في القرن الماضي، لم يكن ليحافظ على مستوى النمو الضروري لتمويل التوقعات الاجتماعية في الصين. ودعا الرئيس هو جينتاو إلى إقامة دولة موجهة نحو الابتكار، تتبع مسارًا للابتكار بخصائص صينية. ويشير الخطاب السياسي في الصين إلى حدوث «نمو متجانس»، وتمثل حتمية وجود تنمية شاملة أهم تحدٍّ يواجه الابتكار في الصين. ويشمل هذا الحاجة لاستخدام الابتكار كوسيلة لتقليل الفروق في الدخل بين الفقراء والأغنياء، والفروق الاقتصادية بين المناطق الساحلية وداخل الصين. إن تطور نظام الابتكار القومي في الصين إلى واحد يسمح لها بمنافسة الغرب في الابتكار مستمر وغير مكتمل.

هوامش

(1) © Courtesy of IBM Corporate Archives.
(2) © Michael Branscom.
(3) © From D. Stokes, Pasteur’s Quadrant (1997). By permission of Brookings Institution Press.
(4) © Reprinted by permission from Macmillan Publishers Ltd. Nature 171, Molecular Structure of Nucleic Acids: A Structure for Deoxyribose Nucleic Acid, by J. D. Watson and F. H. Crick, 25 April 1953 © 1953.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤